الرسائل الأحمديّة - ج ٣

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

مَرِيداً ) (١) ، لعنه الله ، وقال تعالى ( رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ) (٢) ، مع أنّه لم يرد في شي‌ء من أسمائه وصفاته : العارف ، والخاذل ، والمقاتل ، والمعرّف ، واللاعن ، والمدخل ، والمخرج.

ومن تدبّر في الكتاب العزيز والأدعية والأخبار رأى من هذا القبيل ما لا يأتي عليه انحصار ، وما ذاك إلّا للفصل بين الإطلاقين لاختلاف الطريقين.

ثانياً : إنّا لو تنزّلنا وسلمنا عدم صلوح هذه المعاني لعدم ورود إطلاقها عليه تعالى فلا نسلّمه مطلقاً ، بل لنا أنْ نجعلها بمعنى ( احسب ) اليقينيّة بمعنى : ( اعلم ) ؛ لورود الحسيب بمعنى العليم في أسمائه الحسنى وأمثاله العليا ، كما هو أحد معانيه.

وممّا يدل على إتيان ( حسب ) بمعنى ( علم ) قولُ الشاعر :

حسبتُ التقى والجود خيرَ تجارة

رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلا (٣)

ويجوز جعلها بمعنى ( اجعل ) إنْ ثبت تصرّف ماضيه. وأمّا ( اعتقد ) و ( ظُنّ ) فلأنّهما وإنْ أُطلقا على العلم اليقيني إطلاقاً شائعاً وكان أحد معانيهما صادقاً عليه سبحانه ، إلّا إنّ إطلاق لفظهما استعمالاً لهما بالنسبة إليه تعالى تسميةً ووجوداً موقوف على الورود ، ولمْ فَلمْ.

كما أنّه لم يجز وصفه بالجوهر الفرد وإنْ كان معناه إي : القائم بذاته المستغني عن غيره صادقاً عليه سبحانه على ما هو المذهب المشهور (٤) المؤيّد المنصور.

وحينئذٍ ، فحاصل المعنى : فإنْ علمتني صابراً ، أو فإنْ وقع في علمك إنّي أصبر على عذابك فكيف أصبر على فراقك. وإنْ علمتني صابراً ، أو وإنْ وقع في علمك إنّي أصبرُ على حرّ نارك فكيف أصبرُ عن النظر إلى كرامتك.

وإنّما جعل عليه‌السلام الصبر على العذاب وحرِّ النار أهون من الصبر على الفراق والنظر

__________________

(١) النساء : ١١٧.

(٢) الإسراء : ٨٠.

(٣) أوضح المسالك ١ : ٣٠٦ ، شرح ابن عقيل ٢ : ٣٤.

(٤) انظر : البلد الأمين : ٥٨٩.

٣٤١

إلى كرامة الخلّاق ؛ لأنّ المحبّ المقبل بشَراشرِهِ (١) على المحبوب ، والمستغرق بكلّيّته في يمّ الشوق الكلّيّ من أرباب القلوب يجعل أعظم العذاب البُعْد عن المحبوب ، ولا يحسّ بما يعرض عليه من الآلام والحوادث النفسانيّة والأعراض والأمراض الجسمانيّة ؛ لاشتغالِهِ بما يكابدُه من بُعْدِهِ عن المحبوب الذي يجعله أعظم الكروب ، حتّى إنّه يختارُ الموت في حياته ويُفْني ذاته في ذاته ، كما هو دأب الصادقين في المحبّة والمودّة ، ومَنْ جعل ذكر المحبوب زادَهُ وَورده وشهدَهُ ووردَه ، والشواهد عليه كثيرة وأدلّته غير عسيرة ، قال صفيّ الدين الحلّي :

تَبَّت يدي إنْ ثنتني عن زيارتكم

بيض الصفاح ولو سدّت بها طرقي (٢)

وقال قيس بن الملوّح المشتهر بمجنون بني عامر ، المعدود من الفصحاء والمنظوم في سلك البلغاء ، في قصيدة أنشدها لمّا سمع منادياً ينادي : يا ليلى. فأفاق مصفر اللون ، وقال :

دعا باسم ليلى غيرها فكأنّما

أطار ببثّي طائراً كان في صدري

عرضتُ على قلبي العزاء فقال لي

من الآن فاجزع لا تملّ من الصبر

إذا بان من تهوى وشطّ به النّوى

ففرقةُ من تهوى أحرّ من الجمر (٣)

وقال أيضاً :

أناخ هوى ليلى بقلبي فجاءةً

ومَنْ ذا يطيقُ الصّبر عن مَحْمَدِ الحب

وقال أيضاً :

بنفسي ليلى من عدوّ وماليا

وقال أيضاً :

__________________

(١) الشَّراشِرُ : الأثقال ، الواحدة شُرشُرة ، يقال : ألقى عليه شراشره ، أي : نفسه حرصاً ومحبة. لسان العرب ٧ : ٧٩ شرر.

(٢) ديوان صفيّ الدين الحلّي : ١٠٧.

(٣) ديوان مجنون ليلى : ١٠٨.

٣٤٢

إذا ذكرتها النّفس ماتت صبابةً

لها زفرةٌ قتّالةٌ وشهيقٌ

إلى غير ذلك من الشواهد التي يقف عليها من تتبّع ديوانه.

وقالت ليلى لمّا قيل لها : لئن لم تنتهي عن ذكره لنقتلنَّكما معاً ، شعراً :

توعّدني قومي بقتلي وقتلهِ

فقلت اقتلوني واتركوه من الذنب

ولا تتبعوه بعد قتلي ذلّةً

كفاهُ الذي يلقاه من سورة الحُبِّ

وقال عنترة العبسي شعراً :

ولقد ذكرتُك والرّماح كأنّها

أشطان بئر في لبان الأدهم

ولقد ذكرتُك والرّماح نواهلٌ

مِنّي وبيض الهند تقطر من دمي

وقال الطُّغرائي :

لا أكره الطعنةَ النّجلاء قد شفعَتْ

برشقةٍ من نبال الأعين النّجل

ولا إهاب الصّفاح البيض تسعدني

باللّمح من خُلَلِ الأستارِ والكِلَل

ولا أخلّ بغزلان تغازلني

ولو دهتني أسودُ الغيل بالغِيَل (١)

وممّا يناسب إيراده في هذا المقام ما حكاه الصفدي في شرح هذا الكلام ، وهو : أنّ أخ السلطان لما عزم على قتل الطُّغرائي أمر به أنْ يشدّ إلى شجرة ، وأمر جماعةً أنْ يرموه بالسهام ، فلما وقفوا تجاهه والسهام في أيديهم مفوّقة لرميه ، أنشد في تلك الحالة شعراً :

ولقد أقول لمن يسدّد سهمه

نحوي وأطراف [ المنية شُرع (٢)

بالله فتّش عن فؤادي هل يُرى

فيه لغير هوى الأحبّة موضعُ (٣)

__________________

(١) الغيث المسجم في شرح لاميّة العجم ٢ : ١٤ ، ٢٢ ، ٣٥.

(٢) في المخطوط : ( الأسنة تشرع ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٣) الغيث المسجم في شرح لاميّة العجم ١ : ١٩ ، باختلاف.

٣٤٣

ولعمري لقد زاد في ذكر محبوبه على عنترة وغيره ؛ لأنّ فعله صدّق دعواه.

وحكى الشيخ البهائي رحمه‌الله في حاشيته على تفسير البيضاوي عن بعض العارفين : أنّه كان في جواره رجل يهوى جارية له فمرضت ، [ فبينما (١) ] هو ذات يوم يصنع لها طعاماً إذ سقطت المغرفة من يده في القدر ، وهو في أقوى غليانه ، فأخذ يحرّك الطعام بيده حتى تساقط لحم أصابعه ولكنه لا يشعر بذلك.

ويكفي في ذلك ما حكاه الله في القائلين في محكم الذكر المبين عن النساء اللّواتي أدهشهنّ جمال يوسف الصديق ، حيث قال ( فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) (٢) ، الآية ، فإنَّ فيه بيان الحقّ الحقيق ، ألا ترى أنّهنّ لمّا غلب على قلوبهنّ جمال بشر مثلهنّ أفضى بهنّ الحال إلى فقد شعورهنّ حتى قطّعن بالسكاكين أيديهنّ.

فإذا كان هذا حال العاشقين لأمثالهم من المخلوقين فما ظنّك بالسالكين إلى الله والراغبين عمّن سواه والتامّين في محبّة الله تعالى ، خصوصاً الواصلين لرتبة الفناء ، والذائقين من ثمار المحبّة أفضل الجَنى ، القاطنين في رياض القدس ، والقاطفين من حدائق الانس ، والخالعين للنّفس.

ولا شكّ أنّه عليه‌السلام فاز من تلك المراتب بأعلاها ، وحاز من تلك الرغائب أغلاها ، ولَبِسَ منْ تلك الحلل أحلاها وأضفاها ، ونهل من تلك الموارد أهناها وأصفاها ، بل لعمري أنّه العنوان لتلكَ الرقوم والأصل لتلك الرسوم ، والطود لذلك الطور والكتاب المسطور والرقّ المنشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور.

ولهذا ورد (٣) أنّه إذا أُريد نزع السهام منه عليه أفضل السلام انْتُظِر به الشروع في عبادة الملك العلّام ؛ لعدم إحساسه حينئذٍ بتلك الآلام. فحقّ له في أنْ يجعل تلك المشاق أهون من البعد عن حضرة الخلّاق والنهل من كأس قربه العذب المذاق ،

__________________

(١) سقط في أصل المخطوط ، وما أثبتناه للسياق.

(٢) يوسف : ٣١.

(٣) إرشاد القلوب : ٢١٧ ، كشف اليقين : ١٤١.

٣٤٤

وإلى الله المرجعُ والمَساقُ.

فإن قيل : قد قلتم : إنّ لفظ الحسيب والعليم مشتقّان من الأفعال القلبيّة ، والله سبحانه منزّه عن الجارحة الظاهريّة والباطنيّة ، كما قامت عليه الأدلّة العقليّة والنقليّة ، فكيف يجوز إطلاقها على رَبّ البريّة؟

قلتُ : الجواب عن ذلك من وجهين :

أمّا الأوّل : فهو ما صرّح به غيرُ واحدٍ من المحقّقين من : ( أنّ أسماء الله جَلّ شأنه وعظُم برهانه أنّما تطلق عليه باعتبار الغايات التي هي الأفعال دون المبادئ التي تكون انفعالات ) (١).

فوصفُهُ بالرحمن والرحيم واللطيف والعليم والقادر والحكيم أنّما هو بالنظر إلى غاياتها ، أعني : إفاضة الخير على المرحومين ، والعلم على العالمين ، وهبته القدرة للقادرين ، وعلمه بالشي‌ء اللطيف وخلقه للشي‌ء اللطيف ، كما يستفاد ذلك من الخبر الشريف (٢) ، وقس على ذلك سائر الصفات العُليا ، والأسماء الحسنى ، ولهذا قيل : ( خذوا الغايات واحذفوا المبادئ ).

وأمّا الثاني : فهو ما قاله المحقّقُ العارف الملّا صدر الدين الشيرازي ، حيث قال بعد تحقيق الرحمة على متعارف الجمهور ما لفظه :

( وإذا أُطلق بعض هذه الصفات على الله فلا بدّ أنْ يكون هناك على وجه أعلى وأشرف ؛ لأنّ صفات كلِّ موجود على حَسَب وجوده ، فصفات الجسم كوجوده جسمانيّة ، وصفات النفس نفسانيّة ، وصفات العقل عقلانيّة ، وصفات الله إلهيّةٌ إلى أنْ قال وبالجملة ، العوالم متطابقة ، فما وجد من الصفات الكماليّة في الأدنى يكون في الأعلى على وجه أرفع وأشرف وأبسط. فافهم هذا التحقيق واغتنم ، فإنّه عزيزٌ جدّاً ) (٣) انتهى كلامُه ، زيد إكرامُه.

__________________

(١) القواعد والفوائد ( الشهيد الأوّل ) ٢ : ١٦٧.

(٢) الكافي ١ : ١١٨ ١١٩.

(٣) شرح أصول الكافي / كتاب التوحيد : ٢٦٠ ٢٦١.

٣٤٥

أقول : لا يخفى على ذوي الأذهان والعقول أرجحيّة القول الأوّل ، الذي عليه عند الجلّ ، بل الكلّ المعوّل :

أمّا أوّلاً ؛ فلوروده في النصّ الصحيح الصريح ، وهو خبر الفتح بن يزيد الجرجاني المرويّ في ( الكافي ) المشار إليه آنفاً (١) المستغني بالشهرة عن النقل ، ومثله (٢) غيره من الأخبار.

وأمّا ثانياً ؛ فلأنّا إذا قطعنا النظر عن الغاية ونظرنا إلى المبدأ كما يقتضيه الوجهُ الثاني لزم إثبات الجارحة وإنْ كانت على وجه أرفع وأبسط وأشرف ، وقد قامت الأدلّة العقليّة والنقليّة على عموم تنزيهه عن لوازم الجسميّة ، ألا ترى أنّ بعض القائلين (٣) بالتجسيم والتصوير لا يجعلونه كسائر الأجسام والصور ، بل على وجه أرفع وأشرف ، ولا يخفى بطلانُهُ على الناقد البصير ، ولا ينبّئُك مثلُ خبير.

المسألة الثانية : في الإعراب

وأمّا الجوابُ عن المسألةِ الثانية ، فهو أنّ ( الفاء ) رابطةٌ لجوابِ الشرط الذي قبلها من قوله عليه‌السلام : « فلئن صيّرتني في العقوبات مع أعدائك ، وجمعتَ بيني وبين أهل بلائِك ، وفرّقتَ بيني وبين أحبّائك وأوليائك ، فهبني » .. إلى آخره ، كما سيأتي الكلام عليه مفصّلاً.

و ( هب ) : فعل أمر من أفعال القلوب المتعدّية بنفسِها إلى مفعولين ، من القسم الذي يفيد رجحان الوقوع.

وقد أجمع النحاةُ واللّغويّون على عدم تصرّفها وملازمتها صيغة الأمر ، فلا تستعمل في غيره ، كما نصّ عليه ابن مالك (٤) وغيره (٥) من شرّاح ألفيّته وغيرها (٦) ،

__________________

(١) انظر : ص ٣٤٥ ، هامش ٢.

(٢) الكافي ١ : ١٢٠ / ٢.

(٣) مقالات الاسلاميين ( للأشعري ) : ٢١٧.

(٤) شرح ألفية ابن مالك ( لابن الناظم ) : ٢٠٢ ، شرح ابن عقيل ٢ : ٤٣ ، حاشية الصبّان على شرح الأشموني ٢ : ٢٧.

(٥) أوضح المسالك ١ : ٣١٨ ، شرح ابن عقيل ٢ : ٤٤ ، حاشية الصبّان على شرح الأشموني ٢ : ٢٧.

(٦) خزانة الأدب ٢ : ٣٧٩.

٣٤٦

والفيروزآبادي في القاموس (١).

وتستعمل في المفرد كما هنا وفي الجمع ، كقول الشاعر :

وهبكم منعتم أنْ المّ بربعها

فهل تمنعوني أنْ أقول القوافيا

والغالبُ فيها أنْ لا تلي ( أنّ ) المفتوحة الهمزة المشدّدة النّون كما في الفقرة الشّريفة ، وقول الشاعر :

فقلتُ أجرني أبا خالد

وإلّا فهبني امرءاً هالكا (٢)

 ............................. (٣)

وقول الجمحي :

هبوني إمرءاً منكم أضلّ بغبرة

له ذمّةٌ أنْ لا ذمام لبشر

وقد تقع بعدها كما في قول الشاعر :

هَبْ أنّ وجدي لا يزول

لفرط شجوي والعناء

وقول الآخر في وصف بوّاب يلقّب بالبحر :

وهَبْ أنّ هذا البحر للرزق قبلةٌ

فها أنا قد ولّيتُهُ دونكم ظهري

وهب أنّه البحر الذي يخرج الغنى

فكلّ .. في الشّط في .. البحر

 ......................... (٤)

وفيه نظر لا يخفى على ذي نظر.

و ( النون ) فيها نون الوقاية ، وسُميت بذلك لأنّها تقي الفعلَ وما أشبهه من نظير ما لا

__________________

(١) القاموس المحيط ١ : ٣٠٥ باب الباء / فصل الواو.

(٢) شرح ألفية ابن مالك ( ابن الناظم ) : ١٩٩ ، مغني اللبيب ٢ : ٧٧٥ ، شرح ابن عقيل ٢ : ٣٩.

(٣) سقط في أصل المخطوط.

(٤) سقط في أصل المخطوط.

٣٤٧

يدخله ، وهو الكسر الشبيه بالجرّ المختصّ بالاسم ؛ وذلك لأنّهم لمّا منعوا الجرّ في الفعل وكانت الكسرة أصل علامات الجرّ كرهُوا أنْ يوجد فيه ما يكون في بعض الأحوال علامةً له ، مبالغةً في الفرار والبعد عن الجرّ. وقد تكون أيضاً وقايةً لما بني على الأصل وهو السكون عن الخروج عن ذلك الأصل ، كما في المثال المبحوث عنه وغيره من أفعال الأمر. وما يقع من كسر آخر المضارع والأمر في بعض الأوقات كما في قوله تعالى ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (١) ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ) (٢) ، فعارض لالتقاء الساكنين ، ولا اعتداد بالعارض.

وأما الكثرة في ( تضربين ) فلتنزيلها منزلة الوسط حكماً لشدة امتزاج ( ياء ) الضّمير به ؛ لأنّها فاعل ، والفعل مع الفاعل كالكلمة الواحدة ، ولكون علامة الإعراب بعد ( الياء ) المتأخّرة عنه بخلاف ( ياء ) المتكلّم ؛ لأنّها مفعول ، وهو في قوّة الانفصال.

فإنْ قيل : إنّما يحتاج إلى النون للفرار عن الكسرة لاستدعاء ( الياء ) انكسار ما قبلها ، وفي مثل ( دعا ) و ( رمى ) مما كان على فعل مفتوح العين معتلّ اللّام لا يلزم ذلك ؛ لإمكان أنْ يقال : دَعاىَ ورَماىَ ، فلِمَ لزمت النّون فيهما؟.

قلنا : ذلك إمّا نظراً للأصل لعروض الألف ، لكونها منقلبة عن الواو في الأوّل والياء في الثاني لتحركهما وانفتاح ما قبلهما ، كما هي القاعدة الكليّة الصرفيّة ، فالكسرة إنْ لم تلزم لفظاً فهي لازمة تقديراً ، أو أنّ ذلك كان طرداً للباب كما استعملوه في كثيرٍ من الأبواب.

فإنْ قيل : إنّ نون الوقاية حرف ، فلِمَ لا صينت عن شبه الجرّ المختصّ بالاسم ، كما صين الفعل عنه ؛ لأنّ خاصّة الشي‌ء لا توجد في غيره.

قلنا : إنّ كسرة النون ليست أُخت الجرّ ؛ لعدم كونها في الآخر ، والآخر إنّما يكون لما له أوّل ، فافترق الحال وزال الإشكال.

__________________

(١) البينة : ١.

(٢) الكهف : ٢٩.

٣٤٨

ثمّ إنّ هذه النون قد تسمّى أيضاً بنون العماد ، كما صُرِّح به في ( المغني ) (١) وغيره ، وذلك من باب الاستعارة ؛ لأنّ العماد كما يحفظ السقف عن الوقوع والسقوط فكذا هذه النون تحفظ آخر الكلمة عن الكسرة الشبيهة بالانخفاض والهبوط.

و ( الياء ) : في محلّ نصب على أنّها مفعول أوّل ل ( هبْ ) ، وفاعله ضمير الخطاب المستتر وجوباً ، وهذه الجملة الطلبية في موضع جزم على أنّها جواب الشرط السابق ، ولا يصحّ جعلها جواباً للقسم المحذوف المدلول عليه باللّام ؛ لأنّ جواب القسم لا يكون جملةً مقرونة بالفاء طلبيّةً أو غيرها ، فتكون اللّام في قوله عليه‌السلام : « فلئن صيّرتني » زائدة مؤكّدة لا موطّئة للقسم ، كما حملت على الزيادة في قول الشاعر :

لئن كان ما حُدِّثته اليوم صادقاً

أصُمْ في نهار القيظ للشمس باديا (٢)

وقول الآخر :

لئن كانت الدُّنيا عليّ كما أرى

تباريحَ من ليلى فلَلمَوْتُ أَرْوَحُ (٣)

وقول الآخر :

ألمِم بزينب إنّ البين قد أفدَا

قلَّ الثّواءُ لئن كان الرَّحيلُ غدا (٤)

وما قلناه من أنّ اللّام هنا زائدة مؤكّدة لا موطئة للقسم أنّما هو على قول جمهور النحاة (٥) من أنّه إذا اجتمع القسم والشرط حُذِف جوابُ المتأخّر منهما ؛ لشدّة الاعتناء بالمتقدّم ، إلّا إذا تقدّم عليهما ما يقتضي خبراً كالمبتدإ وكان وأخواتها ، فيجوز جعل الجواب للشرط عند الجمهور (٦) ، ويجب عند ابن مالك في غير الألفيّة (٧).

__________________

(١) مغني اللبيب ١ : ٤٥٠.

(٢) مغني اللبيب ١ : ٣١٢ ، أوضح المسالك ٣ : ١٩٨ ، همع الهوامع في شرح جمع الجوامع ٢ : ٤٣ ، خزانة الأدب ١١ : ٣٢٨.

(٣) مغني اللبيب ١ : ٣١١ ، خزانة الأدب ١١ : ٣٢٨.

(٤) ديوان عُمر بن أبي ربيعة : ١٧٧ ، مغني اللبيب ١ : ٣١٢ ، خزانة الأدب ١١ : ٣٢٨.

(٥) حاشية الصبّان على شرح الأشموني ٤ : ٣٠.

(٦) أوضح المسالك ٣ : ١٩٨ ، حاشية الصبان على شرح الأشموني ٤ : ٢٩.

(٧) أوضح المسالك ٣ : ١٩٨ ، حاشية الصبان على شرح الأشموني ٤ : ٢٩ ، خزانة الأدب ١١ : ٣٣٩.

٣٤٩

ففي الفقرة المبحوث عنها جعل عليه‌السلام الجواب للشرط لكونه جملة طلبيّة مقرونة بالفاء ، فدلّ ذلك على أنّ اللام زائدة مؤكّدة لا موطّئة ، إذ لو كانت موطّئة لجعل الجواب للقسم وحذف جواب الشرط ؛ لأنّه تقدّم القسم ولم يتقدّمه ما يطلبُ الخبر ، فينبغي ذكر جوابهِ والاستغناء به عن جواب الشرط ، كما في قوله عزوجل ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (١) فإنّ جملة ( لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ) جواب القسم المحذوف المدلول عليه باللّام الموطّئة ، وحذف جواب الشرط استغناءً عنه بجواب القسم.

ومثله قوله عليه‌السلام بعد هذه الفقرة : « فبعزّتك يا سيّدي ومولاي أُقْسم صادقاً لئن تركتني ناطقاً لأضجنّ إليك بين أهلِها ضجيج الآملين » (٢) .. إلى آخره.

فإنّ قوله عليه‌السلام : « لأضجنّ » جواب القسم السابق ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، ومثلُهُ كثير كما لا يخفى على الناقد البصير.

وأمّا على قول ابن مالك والفرّاء (٣) من جواز جعل الجواب للشرط المتأخّر عن القسم وإنْ لم يتقدّمهما ما يقتضي الخبر ، فيجوز جعل اللّام في قوله عليه‌السلام : « لئن صيّرتني » موطّئة للقسم ، فيكون جوابُهُ محذوفاً لدلالة جواب الشرط عليه ، وتقديرهُ والله العالم بمراد أوليائه وحججه وخلفائه فلئن صيّرتني في العقوبات مع أعدائك ، وجمعتَ بيني وبين أهل بلائك ، وفرقت بيني وبين أحبائك وأوليائك ، لا أقدر على ذلك. بدليل قوله عليه‌السلام بعده « فهبني يا إلهي وسيّدي ومولاي وربّي صبرتُ على عذابِك فكيف أصبرُ على فراقك » (٤) .. الى آخره ، وقوله عليه‌السلام بعده : « فبعزّتك يا سيّدي ومولاي اقسم صادقاً لئن تركتني ناطقاً لأضجنّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين ولأصرخنّ إليك صُراخَ المستصرخين » (٥) .. إلى آخر كلامه ، عليه أفضل صلاة الله وسلامه.

__________________

(١) الإسراء : ٨٨.

(٢) مصباح المتهجد : ٧٧٨.

(٣) أوضح المسالك ٣ : ١٩٨ ، همع الهوامع في شرح جمع الجوامع ٢ : ٤٣.

(٤) مصباح المتهجّد : ٧٧٨.

(٥) مصباح المتهجّد : ٧٧٨.

٣٥٠

ولا يخفى أنّ كلامه عليه‌السلام في هذه الفقرة الغرّاء ممّا يؤيّد قول ابن مالك والفرّاء (١) ، مضافاً إلى ما مرّ من ذينك البيتين الأوّلين (٢) ، وحملُهما على الضرورة وزيادة اللّام لا حاجة إليه ، كما لا يخفى على ذي عين ؛ لأنّ الأصل عدم الزّيادة أوّلاً ، ولأنّ التّأسيسَ خير من التأكيد ثانياً.

وأمّا البيت الثالث فلا إشكال في زيادة اللّام ، وإلّا لزم الإجحاف بحذف جوابين في الكلام ، كما لا يخفى على اولي الأفهام.

وقوله عليه‌السلام : « يا إلهي وسيّدي ومولاي وربّي » (٣) مناديات مضافات لضمير المتكلّم منصوبات بفتحات مقدّرة منع من ظهورها اشتغال أواخرها بحركة مناسبة لياء المتكلّم ، إلّا ثالثها فالمانع من ظهور الفتحة فيه التعذّر ؛ لأنّ الألف ملسى لا تقبل الحركة لذاتها.

وآثر عليه‌السلام النداء بـ ( يا ) الموضوعة لنداء البعيد في المشهور تنبيهاً على بُعْده تعالى عن ساحة أفهام العبيد وإنْ كان أقربَ إليهم من حبلِ الوريد ، فهو جلّ شأنه البعيدُ في دنوّة والمتداني في بعده وعلوّه.

و ( الإله ) في الأصل من أسماء الأجناس كالرجل والفرس والغلام ، فهو يقع على كلّ معبود سواء كان معبوداً بحقّ أو باطل ، ثمّ غلب على المعبود بالحقّ فلا يستعمل حقيقة في غيره ، كما أنّ النجم اسم لكل كوكب ، والبيت لكلّ مسكن ، والكتاب لكل مكتوب ، ثم غلب الأوّل على الثريا ، والثاني على المسجد الحرام ، والثالث على القرآن المجيد.

وعن ( الكشّاف ) : أنّ إلهاً بالتنكير لمطلق المعبود ، وبالتعريف للمعبود بالحقّ (٤).

وهو ظاهر المحقّق الصالح المازندراني (٥) والفيروزآبادي (٦) وغيرهما (٧) ، وقد

__________________

(١) أوضح المسالك ٣ : ١٩٨ ، همع الهوامع شرح جمع الجوامع ٢ : ٤٣.

(٢) انظر : ص ٣٤٩ هامش ٢ ، ٣.

(٣) مصباح المتهجّد : ٧٧٨.

(٤) الكشّاف ١ : ٦.

(٥) شرح أُصول الكافي ( المازندراني ) ٣ : ١٣١.

(٦) القاموس المحيط ٤ : ٣٩٩ باب الهاء / فصل الهمزة.

(٧) تفسير البيضاوي ١ : ٦.

٣٥١

تحذف همزته فيقال : لاه كقراءة بعضهم (١) ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ) (٢) ، وقول الشاعر :

كحلفةٍ مِنْ أبي رياحٍ

يسمعُها لاهُهُ الكُبَارُ (٣)

وكيف كان فهو مشتقّ إمّا من ( ألَه وألِهَ ) ، كضَرَب وتعِب ، إلاهةً وأُلوهيّةً وألوهة ، بمعنى : عبد ، ومنه قراءة ابن عباس (٤) ( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) (٥) أي : عبادتك.

فهو تعالى مألوه ، أي : معبودٌ مستحقّ للعبادة ، بل لا تحقّ العبادة إلّا له ؛ لأنّه لا يكون إلهاً حتّى يكون معبوداً ، وحتّى يكون لعابده خالقاً ورازقاً ومدبّراً وعليه مقتدراً ، فمَنْ لم يكن كذلك فليس بإله وإنْ عُبِد ، ولا تصدق حقيقة هذه الصفات إلّا على ربّ البريّات.

وأمّا من ( ألِهَ ) بمعنى : سكن ؛ إذ الأرواح تسكن إليه والقلوب تطمئن بذكره ( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (٦).

وأمّا مِن ( أَلَهَ ) إذا أُولِع ؛ إذ العباد مولعون بالتضرّع إليه في الشدائد حتى الكافر الجاحد ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ ) (٧) ( وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلّا إِيّاهُ ) (٨).

وأمّا من ( أَلِهَ إليه ) كَفَرِح ، بمعنى : فزع ولاذ ، قال الشاعر :

ألهت إليكم في بلايا تنوبني

فألفيتكم فيها كريماً ممجّدا

ومنه : ( ألهه غيره ) إذا أزال فزعه وآمنه وأجاره ، إذ العباد يفزعون عند الشدائد إليه ، كما مرّ الاستشهاد عليه ، إذ به تحلّ عقد المكاره والمكائد ، ويفثأ حدّ الشدائد.

__________________

(١) حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي ١ : ٥٧.

(٢) الزخرف : ٨٤.

(٣) ديوان الأعشى : ١١١.

(٤) التبيان ١ : ٢٨ ، جامع البيان ١ : ٨٣ / ١١٨ ، الجامع لأحكام القرآن ٧ : ٢٦٢ ، البحر المحيط ٥ : ١٤٤.

(٥) الأعراف : ١٢٧.

(٦) الرعد : ٢٨.

(٧) الأنعام : ٤٠ ٤١.

(٨) الإسراء : ٦٧.

٣٥٢

وأمّا من ( أَلِهَ ) كفَرِحَ ، بمعنى : تحيّر ؛ لأنّه تعالى حارت فيه طامحات العقول ، فقصاراها الإقرار بالحسور والقصور ، إذْ لم تصل إلى محصول.

قال ابن أبي الحديد منبّهاً على العجز عن الوصول إلى ذلك المقام الحميد :

فيك يا اغلوطةَ الدّهر (١) (٢)

غدا الفكر كَلِيلا

أنت حيّرت ذوي اللّب

وبلبلت العُقُولا

كلّما [ أقدم (٣) ] فكري

فيك شبراً فرّ ميلا

ناكصاً يخبط في

عمياء لا يُهدى سبيلا (٤) (٥)

وقال أيضاً :

والله لا موسى ولا

عيسى المسيحُ ولا محمّد

علموا ولا جبريل وهو

إلى محلّ القدس يصعد

كلّا ولا النفسُ البسيطة

لا ولا العقلُ المجرّد

من كنه ذاتك غير أنّك

واحديُّ الذّات سرمد

وجدوا إضافات وسلباً

والحقيقة ليس توجد

ورأوا وجوداً واجباً

يَفنى [ الزمان (٦) ] وليس ينفد

فلتخسأ الحكماء عن

[ جِرم له الأفلاك تسجُد (٧) (٨)

] وقال أيضاً :

فيك يا أغلوطة الفكر

تاه عقلي وانقضى عمري

سافرتْ فيك العقول فما

ربحت إلّا أذى السّفرِ

__________________

(١) في نسخة : الفكر. ( هامش المخطوط ).

(٢) في المصدر : ( أعجوبة الكون ).

(٣) في المخطوط : ( حاول ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٤) في نسخة : السبيلا. ( هامش المخطوط ).

(٥) شرح نهج البلاغة ( ابن أبي الحديد ) ١٣ : ٥١.

(٦) في المخطوط : ( الوجود ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٧) في المخطوط : ( ذات لها الأفلاك سجَّد ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٨) شرح نهج البلاغة ( ابن أبي الحديد ) ١٣ : ٥٠.

٣٥٣

رجعتْ حسرى وما وقفتْ

لا على عينٍ ولا أثرِ

فلحى الله الأُولى زعموا

أنّك المعلوم بالنّظرِ

كذبوا إنّ الذي طلبوا

خارج عن قوّة البشر (١)

وبالجملة ، فإثبات هذا العنوان غنيٌّ عن البيان ، كما يحكم به شهود عدل من الوجدان ، وناهيك بقول سيّد أهل التوحيد وسند أهل التنزيه والتفريد خطبته الجامعة لجوامع التوحيد : « كَلَّ دون صفاته تحبيرُ (٢) اللّغات ، وضلّ هناك تصاريف الصفات ، وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير ، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير ، وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب ، [ و (٣) ] تاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول » (٤) .. إلى آخر كلامه ، عليه أفضل صلاة الله وسلامه.

وأمّا مِن ( لاهَ لَوْهاً لوهاناً وتلوّه تلوُّهاً ) ، بمعنى : اضطرب وبرق ، والأوّل راجعٌ إلى معنى تحيّر ، وقد مرّ الاستشهاد عليه. والثاني إمّا من باب ( فرح ونصر ) بمعنى تحيّر لا يطرف أو دهش ولم يبصر فيرجع أيضاً إلى الأوّل ، والكلام الكلام. وإمّا من باب ( كتب ) بمعنى ظهر وبدا فراجع إلى التميّز والظهور ، وهو تعالى الظاهر بذاته لمخلوقاته على حسب إدراكاتهم ومعارفهم ، تجلّى لها بها ، وبها امتنع عنها ، وإليها حاكمها.

وأما من ( لاه لوهاً ) بمعنى : خلق ؛ لأنّه تعالى خالق لجميع المخلوقين ، ( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (٥).

وأما من ( لاه يليه ليهاً ) إذا احتجب وعلا وارتفع ، ولهذا سمّيت الشمس آلهةً ، لعلوّها وارتفاعها ، قال الشاعر :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ( ابن أبي الحديد ) ١٣ : ٥١.

(٢) في المصدر : ( تعبير ) ، وفي هامش المصدر : ( نسخة : تحبير ).

(٣) من المصدر.

(٤) التوحيد : ٤٢ / ٣.

(٥) المؤمنون : ١٤.

٣٥٤

لاه ربّي عن الخلائق طُرّاً

[ خالق الخلق لا يُرى ويرانا ] (١) (٢)

لأنّه تعالى احتجب بشعاع نوره عن إدراك الأبصار والبصائر ، وعلا وارتفع عن كلّ شي‌ء توهّمته الخواطر ، كلّما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مثلكم ، مردودٌ إليكم ، ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (٣) ، ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (٤).

وأمّا من ( تألّه ) ، بمعنى : تضرّع ، كقول الشاعر :

لله درُّ الغانيات المُدَّةِ

سَبّحنَ واسترجعن من [تألُّهي] (٥) (٦)

أي : تضرّعٍ ؛ لأنّ كلَّ المخلوقات مفتقرةٌ إليه ومعوّلةٌ في كشف ضرّها وجلب نفعها عليه.

وأمّا من ( لاه يليه ) ، بمعنى : خفي واستتر.

قال الشاعر :

لاهَتْ فما عرفت يوماً ببارزة

يا ليتها برزت حتّى عرفناها (٧)

لأنّه تعالى خَفِي لفرط ظهوره ، واستتر لِعِظَم نوره.

خفيّ لإفراط الظّهور تعرّضت

لإدراكه أبصار قومٍ أخافش (٨)

وأمّا من ( وَلهَ ) إذا تحيّر وتخبّط عقله ، وقد مرّ الكلام عليه ؛ ولهذا خرّ موسى صعقاً حين تجلّى إليه.

__________________

(١) في المخطوط : ( فهو الله لا يُرى ويرى هو ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) التبيان ١ : ٢٨ ، حاشية المصباح ( للكفعمي ) : ٤٢١.

(٣) الأنعام : ١٠٣.

(٤) الشورى : ١١.

(٥) في المخطوط : ( تألّه ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٦) الصحاح ٦ : ٢٢٢٤ ، التبيان ١ : ٢٨ ، مجمع البيان ١ : ٢٠ ، لسان العرب ١٣ : ٥٦ مدة.

(٧) حاشية المصباح ( الكفعمي ) : ٤٢١ ، حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي ١ : ٥٧ ، باختلاف فيهما.

(٨) جامع الأسرار ومنبع الأنوار : ٢٥٨.

٣٥٥

وأمّا من ( وَلِهَ ) إذا حزن وخاف ووجل ، قال الكميت :

ولهَتْ نفسي الطّروبُ [إليهم (١)

] ولهاً حالَ دون [طعم (٢)] الطّعام (٣)

لأنّ العُبّاد المخلصين له في العبادة يَلْهونَ ، أي : يخافون ويحزنون ويوجلون عند ذكره.

قال إمامُ العابدين وسيّد الساجدين في وصف حملة العرش والملائكة المقرّبين : « الذين لا يفتُرُون من تسبيحك ، ولا يستَحسِرُون من عبادتك ، ولا يؤثِرون التقصير على الجدّ في أمرك ، ولا يغفُلُون عن الوَلَهِ إليك » (٤).

ولهذا كان عليه‌السلام إذا حضر للوضوء اصفرّ لونه ، فيقال له : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول : « ما تدرون بين يدي من أقوم » (٥) ، و « إذا قام إلى الصلاة تغيّر لونه ، فإذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفضّ (٦) عرقاً » (٧).

وكان جدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتزلزل » (٨). إلى غير ذلك من الشواهد الصريحة والأدلّة الصحيحة.

فعلى هذا يكون أصلُه ( ولاه ) فقلبت واوه همزة ، كما قلبَتْ في أدد ، وأناة ، وأشاح ، وأزار ، إلّا إنّه يبعده جمعه على آلهة دون أولهة ، ولو كان أصله الواو لردّت في الجمع ؛ لعدم المقتضي لقلبها همزة ، ولهذا ردّت في جمع جميع نظائره كأوعية وأوزرة.

ويمكن الجواب بأنّهم لمّا أبدلوا الواو همزة في جميع تصاريفه عاملوها معاملة الأصليّة ، كما صرّح به في الصحاح ، حيث قال : ( إلهَ يألَهُ إلَهاً ، وأصله وَلِهَ يَوْلَهُ ولَهاً ) (٩)

__________________

(١) في المخطوط : ( إليكم ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) من المصدر.

(٣) لسان العرب ١٥ : ٤٠٠ وله ، تاج العروس ٩ : ٤٢٢ باب الهاء / فصل الواو.

(٤) الصحيفة السجادية الكاملة ( دعاؤه عليه‌السلام في الصلاة على حملة العرش ) : ٤٠.

(٥) غوالي اللئالئ ١ : ٣٢٤ / ٦٣.

(٦) ارفَضَّ عرقاً وأقرَّ ، أي : جرى عَرقُه وسال. لسان العرب ٥ : ٢٦٧ رفض.

(٧) الكافي ٣ : ٣٠٠ / ٥ ، التهذيب ٢ : ٢٨٦ / ١١٤٥ ، البحار ٤٦ : ٧٩ / ٧٥.

(٨) غوالي اللئالئ ١ : ٣٢٤ / ٦٢.

(٩) الصحاح ٦ : ٢٢٢٤ إله.

٣٥٦

انتهى.

وأمّا من ( إله ) بالمكان ، إذا أقام فيه ومكث ، قال الشاعر :

إلهنا بدار لا تبين رسومها

كأنّ بُقَيّاها وشامٌ على اليد (١)

لأنّه تعالى الحيُّ القيوم الديّوم ، الذي لا يزول ولا يزال ولا تجري عليه اللوازم البشريّةُ والأحوال والتغيّر والانتقال ؛ وذلك لأنّ الحركة والانتقال والتحوّل من حال إلى حال من سمات الحدوث والإمكان القابلين للعدم والاضمحلال.

وأمّا قوله جلّ شأنه ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (٢) فإنّما يدلُّ على بقائه على تقديره ودوامه في مملكته وتدبيره ، ردّاً على اليهود القائلين بأنّ الله لا يقضى يوم السبت شيئاً ، أو أنّه فرغ من الأمر. ولهذا فسّر أمير المؤمنين عليه‌السلام في بعض خطبه المرويّة في ( الكافي ) الشأن بـ : « الإحداث البديع الذي لم يكن » (٣).

والقمّي في تفسيره بأنّه : « يحيي ويميت ويرزق ويزيد وينقص » (٤).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من شأنه أنْ يغفر ذنباً ، ويفرِّجَ كَرْباً ، ويرفع قوماً ، ويضع آخرين » (٥).

ولا يخفى على ذي حِجْرٍ وحِجَى وفطنة وذكى صدق هذه الاشتقاقات عليه سبحانه بأسرها وإنْ تفاوتت في الوضوح قوّة وضعفاً وظهوراً وخفاءً.

وقد تقرّر في الصرف أنّه متى رجعت الكلمة إلى اشتقاقات واضحة محقّقة ، أي : قرينة ظاهرة ، جاز الحمل على كلّ منها وإنْ ترجّح الأوضح ، لكن على اشتقاقه من ( إله ) بمعنى : عبد وسكن وأولِع وفزع وتحيّر ، ومن ( وله ) بمعنى : تحيّر وحزن وخاف ووجل ، ومن ( تألّه ) بمعنى : تضرّع ، يكون وزنه ( فِعَالاً ) بمعنى : مفعول ، أي : معبود ومسكون إليه ومولَع به بفتح اللّام ومفزوع إليه ، ومتحيّر فيه ، ومخوف ومحزون ، وموجول من سطوته وقدرته ، ومتضرّع إليه. فالهمزة فيه والواو المبدلة همزة

__________________

(١) تاج العروس ٩ : ٣٧٥ باب الهاء / فصل الهمزة ، باختلاف.

(٢) الرحمن : ٢٩.

(٣) الكافي ١ : ١٤١ / ٧.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٥٥.

(٥) الأمالي ( الطوسي ) : ٥٢٢ / ١١٥١.

٣٥٧

أصليتان.

وأمّا على اشتقاقه من ( إله ) بمعنى : أقام ، فوزنه أيضاً ـ ( فِعَال ) ، لكن من غير نقل إلى معنى مفعول.

وأمّا على اشتقاقه من ( لاه يليه ) أو ( لاه يلوه ) ، فهمزته زائدة ، ووزنه ( إفعالاً ) بكسر الهمزة وفتح الفاء ، .. (١).

وفي حديث هشام عن الصادق عليه‌السلام : « يا هشام ، الله مشتق من إله ، والإله يقتضي مألوها » (٢).

والمعنى والله العالم ـ : إنّ إطلاق هذا الاسم واستعماله بين الأنام يقتضي وجود ذات معبود واجبِ الوجود ليطلق عليه هذا الاسم لمغايرة الاسم للمسمّى ، إذ الأوّل عبارة عن اللّفظ أو مفهومه ، والثاني عبارة عن المعنى المقصود من اللّفظ الذي هو مصداقه.

وفي خبر آخر : « كان إلهاً إذْ لا مألوه » (٣) ، أي : سمّى نفسه بالإله ، أي : المعبود ، قبل أنْ يخرج وصف المعبوديّة من القوّة إلى الفعل وملكة الوجود. والله العالم.

والمراد بـ ( السيّد ) هنا المالك أو الربّ ، ويقال أيضاً على البعل ، ومنه قوله تعالى ( وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ ) (٤) ، وعلى الرئيس الكبير في قومه المطاع في عشيرته ، ومنه قول الشاعر :

سوّار سيّدنا وسيّدُ غيرنا

صدقُ الحديث فليس فيه تماري (٥)

وعلى الشريف ، والفاضل ، والكريم ، والحليم ، والمتحمّل أذى قومه ، والعابد ، والذي لا يغلبه غضبه.

واصلة سَيْوِد على وزن فيعِل ، فاجتمعت الواو والياء ، وسُبقت إحداهما بالسّكون

__________________

(١) سقط في أصل المخطوط.

(٢) الكافي ١ : ١١٤ / ٢ ، وفيه : ( إله ) بدل ( الإله ).

(٣) التوحيد : ٣٠٩ / ٢.

(٤) يوسف : ٢٥.

(٥) لسان العرب ٦ : ٤٢٤ سود.

٣٥٨

فقلبت الواو ياءً وأُدغمت الياءُ في الياء ، كما هو القاعدة الكلّيّة الصرفيّة ، وقد استقصينا الكلام عليها في ( اللّمعة الدرية في تحقيق الذرّيّة ).

والمراد بـ ( المولى ) هنا ؛ إمّا المالك ، أو الربّ ، أو الناصر ، أو المنعِم ، أو المعتِق ، أو الولي ، أو الأوْلى بالتصرّف في الأمر ، أو العاقبة بمعنى المرجع ، ويحتملها قوله تعالى خطاباً للكفار ( مَأْواكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ) (١) ، أي : أوْلى بكم ، أو مرجعكم إليها.

ويقال أيضاً على الحليف [ و (٢) ] العَقِيد ، والمعتَق المنعَم عليه بالعتق ، والتابع ، والمُحِبّ ، والصاحب القريب ؛ كابن العمّ ونحوه ، والجار ، والابن ، والعمّ ، والنزيل ، والشريك ، والصهر ، وابن الأُخت (٣) ، لكنها غير مناسبة هنا.

وهو مشتق أمّا من الوَلي بفتح الواو بمعنى : القرب والدّنوّ ، فيكون وزنه مفعلاً.

وأمّا من وَأَلَ إليه يئل وألاً ووءولاً ، بمعنى : لجأ وخلص ؛ لأنّ العباد يلجئون إليه وخالصون في الرّقّ له ، أو مخلصون في عبادته.

وأمّا مِنْ وَألَ ، بمعنى : طلب النجاة ؛ لأنّ الخلق كلّهم يطلبون منه النجاة في جميع الأوقات والحالات والآنات واللّحظات ، وهو ينجيهم من مهاوي العثرات ومن عقوبات السيّئات ، فيصيرُ أصلُه موئلاً ، فنُقلت العين إلى موضع اللّام واللّام إلى موضع العين ، فصار مولأً ، فقلبت الهمزةُ ألِفاً تخفيفاً ، أو لأنّهم لمّا تصرّفوا فيها بالنقل هان عندهم الخطب فتصرّفوا فيها بالقلب ، كما فعلوا ذلك في أمثلةٍ كثيرة فيصيرُ وزنُهُ حينئذٍ مفلعاً.

وأمّا من آل إليه أوْلاً ومآلاً ، بمعنى : رجع ؛ لأنّ مرجع الخلق إليه ومعوّلهم عليه ، فيصير أصله مأولاً ، فنقلت الفاء إلى موضع اللّام فصار مولأً ، ففُعل به ما مرّ فصار مولى ، فيصير وزنه حينئذٍ معلفاً.

والنقل في كلام العربِ شائعٌ ذائع ، كما نقلوا ( فاء ) واحد إلى موضع لامه ، ثم

__________________

(١) الحديد : ١٥.

(٢) من المصدر.

(٣) لسان العرب ١٥ : ٤٠٠ ٤٠٣ ولي.

٣٥٩

قلبوها ( ياءً ) ، فجعلوه حادي على وزن عالف ، وكما فعلوا في الوجه ، حيث نقلوا فاءه إلى موضع عينه ، ثم قلبوها ألفاً ، فجعلوه جاهاً على وزن عفل ، إلى غير ذلك من النظائر التي يقف عليها الناظر ، والسبر أعدل شاهدٍ لذوي البصائر ، والله العالم بالسرائر.

و ( الربّ ) بالتشديد على الأفصح ، وقد يخفّف ، وقد يبدل ثاني مثليهِ ياءً ، يقال : ( لا ورَبْيِك لا أفعل ) أي : لا وربك. صرّح به في ( القاموس ) (١).

وهو هنا إمّا بمعنى المالك ، أو السيّد ، ومنه قوله تعالى ( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) (٢) أي : سيّدك ، أو بمعنى المدبّر والمنعم ، أو بمعنى المصلح للشي‌ء والمربّي له ، ولهذا يسمّى العلماء ربّانيّين ؛ لأنّهم يربّون العلم ، أي : يقومون به ويصلحونه ويرعونه ويحفظونه ، أو لأنّهم يربّون المتعلّمين بصغار العلم قبل كباره ، ويدرّجونهم في التدريس والتفهيم على مقتضى قوابلهم واستعدادهم من حين ابتدائهم إلى انتهائهم واشتدادهم.

ويطلق أيضاً على الصاحب ، فإنْ أُريد به المالك صحّ قطعاً ، وإنْ أُريد به المعنى المشتق من المصاحبة فلا مانع من إرادته أيضاً هنا ؛ لإطلاق الصاحب عليه سبحانه في كثير من أدعية النبيّ والأئمّة الأطهار عليهم سلام الملك الجبّار ، بمعنى : أنّه المحيط بكلّ شي‌ء ومع كلّ شي‌ء ، كما في قولهم عليهم‌السلام : « يا صاحب كلِّ نجوى » (٣) ، أي : الحاضر عندها والمحيط بها ، والذي بأمره تقوّم النجوى وبه تقوم ..

فهو سبحانه الربُّ في مراتب الربوبيّة الثلاث ، أعني : الربوبيّة إذ لا مربوب لا ذكراً ولا كوناً ، والربوبيّة إذ مربوب ذكراً فقط ؛ وهي مرتبة الوحدانية والمشيئة الإمكانيّة ، والربوبيّة إذ مربوب ذِكْراً وكوناً وعيناً ، وهي مقام ظهور الاسم ، الرحمن بالرحمانيّة ، وتعلق الفعل بالمفعول ، وربط الأسباب بالمسببات ، واللوازم بالملزومات ، والعلل بالمعلولات ، والشروط بالمشروطات.

__________________

(١) القاموس المحيط ١ : ٢٠٦ باب الباء / فصل الراء.

(٢) يوسف : ٤٢.

(٣) الكافي ٢ : ٥٧٨ / ٤ ، عدة الداعي : ٣١٦ ، البحار ٩٢ : ١٩٨ / ٣٢.

٣٦٠