مَرِيداً ) (١) ، لعنه الله ، وقال تعالى ( رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ) (٢) ، مع أنّه لم يرد في شيء من أسمائه وصفاته : العارف ، والخاذل ، والمقاتل ، والمعرّف ، واللاعن ، والمدخل ، والمخرج.
ومن تدبّر في الكتاب العزيز والأدعية والأخبار رأى من هذا القبيل ما لا يأتي عليه انحصار ، وما ذاك إلّا للفصل بين الإطلاقين لاختلاف الطريقين.
ثانياً : إنّا لو تنزّلنا وسلمنا عدم صلوح هذه المعاني لعدم ورود إطلاقها عليه تعالى فلا نسلّمه مطلقاً ، بل لنا أنْ نجعلها بمعنى ( احسب ) اليقينيّة بمعنى : ( اعلم ) ؛ لورود الحسيب بمعنى العليم في أسمائه الحسنى وأمثاله العليا ، كما هو أحد معانيه.
وممّا يدل على إتيان ( حسب ) بمعنى ( علم ) قولُ الشاعر :
حسبتُ التقى والجود خيرَ تجارة |
|
رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلا (٣) |
ويجوز جعلها بمعنى ( اجعل ) إنْ ثبت تصرّف ماضيه. وأمّا ( اعتقد ) و ( ظُنّ ) فلأنّهما وإنْ أُطلقا على العلم اليقيني إطلاقاً شائعاً وكان أحد معانيهما صادقاً عليه سبحانه ، إلّا إنّ إطلاق لفظهما استعمالاً لهما بالنسبة إليه تعالى تسميةً ووجوداً موقوف على الورود ، ولمْ فَلمْ.
كما أنّه لم يجز وصفه بالجوهر الفرد وإنْ كان معناه إي : القائم بذاته المستغني عن غيره صادقاً عليه سبحانه على ما هو المذهب المشهور (٤) المؤيّد المنصور.
وحينئذٍ ، فحاصل المعنى : فإنْ علمتني صابراً ، أو فإنْ وقع في علمك إنّي أصبر على عذابك فكيف أصبر على فراقك. وإنْ علمتني صابراً ، أو وإنْ وقع في علمك إنّي أصبرُ على حرّ نارك فكيف أصبرُ عن النظر إلى كرامتك.
وإنّما جعل عليهالسلام الصبر على العذاب وحرِّ النار أهون من الصبر على الفراق والنظر
__________________
(١) النساء : ١١٧.
(٢) الإسراء : ٨٠.
(٣) أوضح المسالك ١ : ٣٠٦ ، شرح ابن عقيل ٢ : ٣٤.
(٤) انظر : البلد الأمين : ٥٨٩.
إلى كرامة الخلّاق ؛ لأنّ المحبّ المقبل بشَراشرِهِ (١) على المحبوب ، والمستغرق بكلّيّته في يمّ الشوق الكلّيّ من أرباب القلوب يجعل أعظم العذاب البُعْد عن المحبوب ، ولا يحسّ بما يعرض عليه من الآلام والحوادث النفسانيّة والأعراض والأمراض الجسمانيّة ؛ لاشتغالِهِ بما يكابدُه من بُعْدِهِ عن المحبوب الذي يجعله أعظم الكروب ، حتّى إنّه يختارُ الموت في حياته ويُفْني ذاته في ذاته ، كما هو دأب الصادقين في المحبّة والمودّة ، ومَنْ جعل ذكر المحبوب زادَهُ وَورده وشهدَهُ ووردَه ، والشواهد عليه كثيرة وأدلّته غير عسيرة ، قال صفيّ الدين الحلّي :
تَبَّت يدي إنْ ثنتني عن زيارتكم |
|
بيض الصفاح ولو سدّت بها طرقي (٢) |
وقال قيس بن الملوّح المشتهر بمجنون بني عامر ، المعدود من الفصحاء والمنظوم في سلك البلغاء ، في قصيدة أنشدها لمّا سمع منادياً ينادي : يا ليلى. فأفاق مصفر اللون ، وقال :
دعا باسم ليلى غيرها فكأنّما |
|
أطار ببثّي طائراً كان في صدري |
عرضتُ على قلبي العزاء فقال لي |
|
من الآن فاجزع لا تملّ من الصبر |
إذا بان من تهوى وشطّ به النّوى |
|
ففرقةُ من تهوى أحرّ من الجمر (٣) |
وقال أيضاً :
أناخ هوى ليلى بقلبي فجاءةً |
|
ومَنْ ذا يطيقُ الصّبر عن مَحْمَدِ الحب |
وقال أيضاً :
بنفسي ليلى من عدوّ وماليا
وقال أيضاً :
__________________
(١) الشَّراشِرُ : الأثقال ، الواحدة شُرشُرة ، يقال : ألقى عليه شراشره ، أي : نفسه حرصاً ومحبة. لسان العرب ٧ : ٧٩ شرر.
(٢) ديوان صفيّ الدين الحلّي : ١٠٧.
(٣) ديوان مجنون ليلى : ١٠٨.
إلى غير ذلك من الشواهد التي يقف عليها من تتبّع ديوانه. وقالت ليلى لمّا قيل لها : لئن لم تنتهي عن ذكره لنقتلنَّكما معاً ، شعراً :
وقال عنترة العبسي شعراً :
وقال الطُّغرائي :
وممّا يناسب إيراده في هذا المقام ما حكاه الصفدي في شرح هذا الكلام ، وهو : أنّ أخ السلطان لما عزم على قتل الطُّغرائي أمر به أنْ يشدّ إلى شجرة ، وأمر جماعةً أنْ يرموه بالسهام ، فلما وقفوا تجاهه والسهام في أيديهم مفوّقة لرميه ، أنشد في تلك الحالة شعراً :
__________________ (١) الغيث المسجم في شرح لاميّة العجم ٢ : ١٤ ، ٢٢ ، ٣٥. (٢) في المخطوط : ( الأسنة تشرع ) ، وما أثبتناه من المصدر. (٣) الغيث المسجم في شرح لاميّة العجم ١ : ١٩ ، باختلاف. |
وهبكم منعتم أنْ المّ بربعها |
|
فهل تمنعوني أنْ أقول القوافيا |
والغالبُ فيها أنْ لا تلي ( أنّ ) المفتوحة الهمزة المشدّدة النّون كما في الفقرة الشّريفة ، وقول الشاعر :
فقلتُ أجرني أبا خالد |
|
وإلّا فهبني امرءاً هالكا (٢) |
............................. (٣) |
|
|
وقول الجمحي :
هبوني إمرءاً منكم أضلّ بغبرة |
|
له ذمّةٌ أنْ لا ذمام لبشر |
وقد تقع بعدها كما في قول الشاعر :
هَبْ أنّ وجدي لا يزول |
|
لفرط شجوي والعناء |
وقول الآخر في وصف بوّاب يلقّب بالبحر :
وهَبْ أنّ هذا البحر للرزق قبلةٌ |
|
فها أنا قد ولّيتُهُ دونكم ظهري |
وهب أنّه البحر الذي يخرج الغنى |
|
فكلّ .. في الشّط في .. البحر |
......................... (٤) |
|
|
وفيه نظر لا يخفى على ذي نظر.
و ( النون ) فيها نون الوقاية ، وسُميت بذلك لأنّها تقي الفعلَ وما أشبهه من نظير ما لا
__________________
(١) القاموس المحيط ١ : ٣٠٥ باب الباء / فصل الواو.
(٢) شرح ألفية ابن مالك ( ابن الناظم ) : ١٩٩ ، مغني اللبيب ٢ : ٧٧٥ ، شرح ابن عقيل ٢ : ٣٩.
(٣) سقط في أصل المخطوط.
(٤) سقط في أصل المخطوط.
لئن كان ما حُدِّثته اليوم صادقاً |
|
أصُمْ في نهار القيظ للشمس باديا (٢) |
وقول الآخر :
لئن كانت الدُّنيا عليّ كما أرى |
|
تباريحَ من ليلى فلَلمَوْتُ أَرْوَحُ (٣) |
وقول الآخر :
ألمِم بزينب إنّ البين قد أفدَا |
|
قلَّ الثّواءُ لئن كان الرَّحيلُ غدا (٤) |
وما قلناه من أنّ اللّام هنا زائدة مؤكّدة لا موطئة للقسم أنّما هو على قول جمهور النحاة (٥) من أنّه إذا اجتمع القسم والشرط حُذِف جوابُ المتأخّر منهما ؛ لشدّة الاعتناء بالمتقدّم ، إلّا إذا تقدّم عليهما ما يقتضي خبراً كالمبتدإ وكان وأخواتها ، فيجوز جعل الجواب للشرط عند الجمهور (٦) ، ويجب عند ابن مالك في غير الألفيّة (٧).
__________________
(١) مغني اللبيب ١ : ٤٥٠.
(٢) مغني اللبيب ١ : ٣١٢ ، أوضح المسالك ٣ : ١٩٨ ، همع الهوامع في شرح جمع الجوامع ٢ : ٤٣ ، خزانة الأدب ١١ : ٣٢٨.
(٣) مغني اللبيب ١ : ٣١١ ، خزانة الأدب ١١ : ٣٢٨.
(٤) ديوان عُمر بن أبي ربيعة : ١٧٧ ، مغني اللبيب ١ : ٣١٢ ، خزانة الأدب ١١ : ٣٢٨.
(٥) حاشية الصبّان على شرح الأشموني ٤ : ٣٠.
(٦) أوضح المسالك ٣ : ١٩٨ ، حاشية الصبان على شرح الأشموني ٤ : ٢٩.
(٧) أوضح المسالك ٣ : ١٩٨ ، حاشية الصبان على شرح الأشموني ٤ : ٢٩ ، خزانة الأدب ١١ : ٣٣٩.
كحلفةٍ مِنْ أبي رياحٍ |
|
يسمعُها لاهُهُ الكُبَارُ (٣) |
وكيف كان فهو مشتقّ إمّا من ( ألَه وألِهَ ) ، كضَرَب وتعِب ، إلاهةً وأُلوهيّةً وألوهة ، بمعنى : عبد ، ومنه قراءة ابن عباس (٤) ( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) (٥) أي : عبادتك.
فهو تعالى مألوه ، أي : معبودٌ مستحقّ للعبادة ، بل لا تحقّ العبادة إلّا له ؛ لأنّه لا يكون إلهاً حتّى يكون معبوداً ، وحتّى يكون لعابده خالقاً ورازقاً ومدبّراً وعليه مقتدراً ، فمَنْ لم يكن كذلك فليس بإله وإنْ عُبِد ، ولا تصدق حقيقة هذه الصفات إلّا على ربّ البريّات.
وأمّا من ( ألِهَ ) بمعنى : سكن ؛ إذ الأرواح تسكن إليه والقلوب تطمئن بذكره ( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (٦).
وأمّا مِن ( أَلَهَ ) إذا أُولِع ؛ إذ العباد مولعون بالتضرّع إليه في الشدائد حتى الكافر الجاحد ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ ) (٧) ( وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلّا إِيّاهُ ) (٨).
وأمّا من ( أَلِهَ إليه ) كَفَرِح ، بمعنى : فزع ولاذ ، قال الشاعر :
ألهت إليكم في بلايا تنوبني |
|
فألفيتكم فيها كريماً ممجّدا |
ومنه : ( ألهه غيره ) إذا أزال فزعه وآمنه وأجاره ، إذ العباد يفزعون عند الشدائد إليه ، كما مرّ الاستشهاد عليه ، إذ به تحلّ عقد المكاره والمكائد ، ويفثأ حدّ الشدائد.
__________________
(١) حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي ١ : ٥٧.
(٢) الزخرف : ٨٤.
(٣) ديوان الأعشى : ١١١.
(٤) التبيان ١ : ٢٨ ، جامع البيان ١ : ٨٣ / ١١٨ ، الجامع لأحكام القرآن ٧ : ٢٦٢ ، البحر المحيط ٥ : ١٤٤.
(٥) الأعراف : ١٢٧.
(٦) الرعد : ٢٨.
(٧) الأنعام : ٤٠ ٤١.
(٨) الإسراء : ٦٧.
فيك يا اغلوطةَ الدّهر (١) (٢) |
|
غدا الفكر كَلِيلا |
أنت حيّرت ذوي اللّب |
|
وبلبلت العُقُولا |
كلّما [ أقدم (٣) ] فكري |
|
فيك شبراً فرّ ميلا |
ناكصاً يخبط في |
|
عمياء لا يُهدى سبيلا (٤) (٥) |
وقال أيضاً :
والله لا موسى ولا |
|
عيسى المسيحُ ولا محمّد |
علموا ولا جبريل وهو |
|
إلى محلّ القدس يصعد |
كلّا ولا النفسُ البسيطة |
|
لا ولا العقلُ المجرّد |
من كنه ذاتك غير أنّك |
|
واحديُّ الذّات سرمد |
وجدوا إضافات وسلباً |
|
والحقيقة ليس توجد |
ورأوا وجوداً واجباً |
|
يَفنى [ الزمان (٦) ] وليس ينفد |
فلتخسأ الحكماء عن |
|
[ جِرم له الأفلاك تسجُد (٧) (٨) |
] وقال أيضاً :
فيك يا أغلوطة الفكر |
|
تاه عقلي وانقضى عمري |
سافرتْ فيك العقول فما |
|
ربحت إلّا أذى السّفرِ |
__________________
(١) في نسخة : الفكر. ( هامش المخطوط ).
(٢) في المصدر : ( أعجوبة الكون ).
(٣) في المخطوط : ( حاول ) ، وما أثبتناه من المصدر.
(٤) في نسخة : السبيلا. ( هامش المخطوط ).
(٥) شرح نهج البلاغة ( ابن أبي الحديد ) ١٣ : ٥١.
(٦) في المخطوط : ( الوجود ) ، وما أثبتناه من المصدر.
(٧) في المخطوط : ( ذات لها الأفلاك سجَّد ) ، وما أثبتناه من المصدر.
(٨) شرح نهج البلاغة ( ابن أبي الحديد ) ١٣ : ٥٠.
رجعتْ حسرى وما وقفتْ |
|
لا على عينٍ ولا أثرِ |
فلحى الله الأُولى زعموا |
|
أنّك المعلوم بالنّظرِ |
كذبوا إنّ الذي طلبوا |
|
خارج عن قوّة البشر (١) |
وبالجملة ، فإثبات هذا العنوان غنيٌّ عن البيان ، كما يحكم به شهود عدل من الوجدان ، وناهيك بقول سيّد أهل التوحيد وسند أهل التنزيه والتفريد خطبته الجامعة لجوامع التوحيد : « كَلَّ دون صفاته تحبيرُ (٢) اللّغات ، وضلّ هناك تصاريف الصفات ، وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير ، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير ، وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب ، [ و (٣) ] تاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول » (٤) .. إلى آخر كلامه ، عليه أفضل صلاة الله وسلامه.
وأمّا مِن ( لاهَ لَوْهاً لوهاناً وتلوّه تلوُّهاً ) ، بمعنى : اضطرب وبرق ، والأوّل راجعٌ إلى معنى تحيّر ، وقد مرّ الاستشهاد عليه. والثاني إمّا من باب ( فرح ونصر ) بمعنى تحيّر لا يطرف أو دهش ولم يبصر فيرجع أيضاً إلى الأوّل ، والكلام الكلام. وإمّا من باب ( كتب ) بمعنى ظهر وبدا فراجع إلى التميّز والظهور ، وهو تعالى الظاهر بذاته لمخلوقاته على حسب إدراكاتهم ومعارفهم ، تجلّى لها بها ، وبها امتنع عنها ، وإليها حاكمها.
وأما من ( لاه لوهاً ) بمعنى : خلق ؛ لأنّه تعالى خالق لجميع المخلوقين ، ( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (٥).
وأما من ( لاه يليه ليهاً ) إذا احتجب وعلا وارتفع ، ولهذا سمّيت الشمس آلهةً ، لعلوّها وارتفاعها ، قال الشاعر :
__________________
(١) شرح نهج البلاغة ( ابن أبي الحديد ) ١٣ : ٥١.
(٢) في المصدر : ( تعبير ) ، وفي هامش المصدر : ( نسخة : تحبير ).
(٣) من المصدر.
(٤) التوحيد : ٤٢ / ٣.
(٥) المؤمنون : ١٤.
لاه ربّي عن الخلائق طُرّاً |
|
[ خالق الخلق لا يُرى ويرانا ] (١) (٢) |
لأنّه تعالى احتجب بشعاع نوره عن إدراك الأبصار والبصائر ، وعلا وارتفع عن كلّ شيء توهّمته الخواطر ، كلّما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مثلكم ، مردودٌ إليكم ، ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (٣) ، ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (٤).
وأمّا من ( تألّه ) ، بمعنى : تضرّع ، كقول الشاعر :
لله درُّ الغانيات المُدَّةِ |
|
سَبّحنَ واسترجعن من [تألُّهي] (٥) (٦) |
أي : تضرّعٍ ؛ لأنّ كلَّ المخلوقات مفتقرةٌ إليه ومعوّلةٌ في كشف ضرّها وجلب نفعها عليه.
وأمّا من ( لاه يليه ) ، بمعنى : خفي واستتر.
قال الشاعر :
لاهَتْ فما عرفت يوماً ببارزة |
|
يا ليتها برزت حتّى عرفناها (٧) |
لأنّه تعالى خَفِي لفرط ظهوره ، واستتر لِعِظَم نوره.
خفيّ لإفراط الظّهور تعرّضت |
|
لإدراكه أبصار قومٍ أخافش (٨) |
وأمّا من ( وَلهَ ) إذا تحيّر وتخبّط عقله ، وقد مرّ الكلام عليه ؛ ولهذا خرّ موسى صعقاً حين تجلّى إليه.
__________________
(١) في المخطوط : ( فهو الله لا يُرى ويرى هو ) ، وما أثبتناه من المصدر.
(٢) التبيان ١ : ٢٨ ، حاشية المصباح ( للكفعمي ) : ٤٢١.
(٣) الأنعام : ١٠٣.
(٤) الشورى : ١١.
(٥) في المخطوط : ( تألّه ) ، وما أثبتناه من المصدر.
(٦) الصحاح ٦ : ٢٢٢٤ ، التبيان ١ : ٢٨ ، مجمع البيان ١ : ٢٠ ، لسان العرب ١٣ : ٥٦ مدة.
(٧) حاشية المصباح ( الكفعمي ) : ٤٢١ ، حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي ١ : ٥٧ ، باختلاف فيهما.
(٨) جامع الأسرار ومنبع الأنوار : ٢٥٨.
ولهَتْ نفسي الطّروبُ [إليهم (١) |
|
] ولهاً حالَ دون [طعم (٢)] الطّعام (٣) |
لأنّ العُبّاد المخلصين له في العبادة يَلْهونَ ، أي : يخافون ويحزنون ويوجلون عند ذكره.
قال إمامُ العابدين وسيّد الساجدين في وصف حملة العرش والملائكة المقرّبين : « الذين لا يفتُرُون من تسبيحك ، ولا يستَحسِرُون من عبادتك ، ولا يؤثِرون التقصير على الجدّ في أمرك ، ولا يغفُلُون عن الوَلَهِ إليك » (٤).
ولهذا كان عليهالسلام إذا حضر للوضوء اصفرّ لونه ، فيقال له : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول : « ما تدرون بين يدي من أقوم » (٥) ، و « إذا قام إلى الصلاة تغيّر لونه ، فإذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفضّ (٦) عرقاً » (٧).
وكان جدّه أمير المؤمنين عليهالسلام : « إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتزلزل » (٨). إلى غير ذلك من الشواهد الصريحة والأدلّة الصحيحة.
فعلى هذا يكون أصلُه ( ولاه ) فقلبت واوه همزة ، كما قلبَتْ في أدد ، وأناة ، وأشاح ، وأزار ، إلّا إنّه يبعده جمعه على آلهة دون أولهة ، ولو كان أصله الواو لردّت في الجمع ؛ لعدم المقتضي لقلبها همزة ، ولهذا ردّت في جمع جميع نظائره كأوعية وأوزرة.
ويمكن الجواب بأنّهم لمّا أبدلوا الواو همزة في جميع تصاريفه عاملوها معاملة الأصليّة ، كما صرّح به في الصحاح ، حيث قال : ( إلهَ يألَهُ إلَهاً ، وأصله وَلِهَ يَوْلَهُ ولَهاً ) (٩)
__________________
(١) في المخطوط : ( إليكم ) ، وما أثبتناه من المصدر.
(٢) من المصدر.
(٣) لسان العرب ١٥ : ٤٠٠ وله ، تاج العروس ٩ : ٤٢٢ باب الهاء / فصل الواو.
(٤) الصحيفة السجادية الكاملة ( دعاؤه عليهالسلام في الصلاة على حملة العرش ) : ٤٠.
(٥) غوالي اللئالئ ١ : ٣٢٤ / ٦٣.
(٦) ارفَضَّ عرقاً وأقرَّ ، أي : جرى عَرقُه وسال. لسان العرب ٥ : ٢٦٧ رفض.
(٧) الكافي ٣ : ٣٠٠ / ٥ ، التهذيب ٢ : ٢٨٦ / ١١٤٥ ، البحار ٤٦ : ٧٩ / ٧٥.
(٨) غوالي اللئالئ ١ : ٣٢٤ / ٦٢.
(٩) الصحاح ٦ : ٢٢٢٤ إله.
إلهنا بدار لا تبين رسومها |
|
كأنّ بُقَيّاها وشامٌ على اليد (١) |
لأنّه تعالى الحيُّ القيوم الديّوم ، الذي لا يزول ولا يزال ولا تجري عليه اللوازم البشريّةُ والأحوال والتغيّر والانتقال ؛ وذلك لأنّ الحركة والانتقال والتحوّل من حال إلى حال من سمات الحدوث والإمكان القابلين للعدم والاضمحلال.
وأمّا قوله جلّ شأنه ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (٢) فإنّما يدلُّ على بقائه على تقديره ودوامه في مملكته وتدبيره ، ردّاً على اليهود القائلين بأنّ الله لا يقضى يوم السبت شيئاً ، أو أنّه فرغ من الأمر. ولهذا فسّر أمير المؤمنين عليهالسلام في بعض خطبه المرويّة في ( الكافي ) الشأن بـ : « الإحداث البديع الذي لم يكن » (٣).
والقمّي في تفسيره بأنّه : « يحيي ويميت ويرزق ويزيد وينقص » (٤).
وعن النبيّ صلىاللهعليهوآله : « من شأنه أنْ يغفر ذنباً ، ويفرِّجَ كَرْباً ، ويرفع قوماً ، ويضع آخرين » (٥).
ولا يخفى على ذي حِجْرٍ وحِجَى وفطنة وذكى صدق هذه الاشتقاقات عليه سبحانه بأسرها وإنْ تفاوتت في الوضوح قوّة وضعفاً وظهوراً وخفاءً.
وقد تقرّر في الصرف أنّه متى رجعت الكلمة إلى اشتقاقات واضحة محقّقة ، أي : قرينة ظاهرة ، جاز الحمل على كلّ منها وإنْ ترجّح الأوضح ، لكن على اشتقاقه من ( إله ) بمعنى : عبد وسكن وأولِع وفزع وتحيّر ، ومن ( وله ) بمعنى : تحيّر وحزن وخاف ووجل ، ومن ( تألّه ) بمعنى : تضرّع ، يكون وزنه ( فِعَالاً ) بمعنى : مفعول ، أي : معبود ومسكون إليه ومولَع به بفتح اللّام ومفزوع إليه ، ومتحيّر فيه ، ومخوف ومحزون ، وموجول من سطوته وقدرته ، ومتضرّع إليه. فالهمزة فيه والواو المبدلة همزة
__________________
(١) تاج العروس ٩ : ٣٧٥ باب الهاء / فصل الهمزة ، باختلاف.
(٢) الرحمن : ٢٩.
(٣) الكافي ١ : ١٤١ / ٧.
(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٥٥.
(٥) الأمالي ( الطوسي ) : ٥٢٢ / ١١٥١.
سوّار سيّدنا وسيّدُ غيرنا |
|
صدقُ الحديث فليس فيه تماري (٥) |
وعلى الشريف ، والفاضل ، والكريم ، والحليم ، والمتحمّل أذى قومه ، والعابد ، والذي لا يغلبه غضبه.
واصلة سَيْوِد على وزن فيعِل ، فاجتمعت الواو والياء ، وسُبقت إحداهما بالسّكون
__________________
(١) سقط في أصل المخطوط.
(٢) الكافي ١ : ١١٤ / ٢ ، وفيه : ( إله ) بدل ( الإله ).
(٣) التوحيد : ٣٠٩ / ٢.
(٤) يوسف : ٢٥.
(٥) لسان العرب ٦ : ٤٢٤ سود.