الرسائل الأحمديّة - ج ٣

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

جهالاً يقيسون الأُمور برأيهم ) (١).

وروى عنه المحقّق ، أنّه قال : ( إذا قلتم في دين الله بالقياس أحللتم كثيراً ممّا حرم الله ، وحرّمتم كثيراً ممّا حلّل الله ) (٢). وممّن نهى عن العمل به ابن مسعود كما نقل عنه الشارح الجواد.

وروى عن ابن عمر ، أنّه قال : ( السنّة ما سنّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا تجعلوا آراءكم سنّة ) ، وذكر أنّ مثلها في نهيهم عن العمل به أخباراً بلغت في الشهرة حدّا لا يكاد يخفى.

وأمّا ثانياً ؛ فلأنّ العمل به منكر ولا يقرّر الإمام العامل بالمنكر على المنكر ، ولم يرد في تتمّة الخبر أنّه ردعهم عن العمل به بل سكت ، والتقرير كالفعل ولا يجوز نسبته لهذا الإمام عليه‌السلام لما عرفت في المقام.

والذي يظهر من قول الإمام عليه‌السلام : « أتوجبون عليه الحدّ والرجم » (٣) .. إلى آخره ، أنّ هذه الثلاثة وهي : الحدّ والرجم والغسل ، قد فرضها الله ورسوله على مَنْ فعل ما يوجبها ، وساوى في الحكم بينها ، فلا يعمل بواحد منها دون الآخر ، فكيف توجبون عليه حكماً وتتركون حكماً ، وهذا غير دالّ على القياس ؛ إذ مستند الحكم هو قول الله ورسوله ، لا قياس أحدها على الآخر.

وأمّا عن الثاني (٤) أوّلاً ؛ فلعموم بعض الأخبار لموضع النزاع وخصوص بعضها بورودها في مسائل الفروع كما تقدّم.

وأمّا ثانياً ؛ فلعمل علماء الطائفة واحتجاجهم به سلفاً عن خلف ، فروعاً وأُصولاً وعقلاً ونقلاً حتى هو نفسه ، كما هو غير خفيّ على مَنْ راجع فتاواه وفتاوى الأصحاب.

والتخصيص في القول والتعميم في الفعل يوجب عدم العمل بالعلم ، وهو موجب لعدم العلم ، وهو يوجب الجرأة العظمى والمصيبة الدهماء ، ويكفي في ذلك

__________________

(١) معارج الأُصول : ١٩٣.

(٢) معارج الأصول : ١٩٣.

(٣) التهذيب ١ : ١١٩ / ٣١٤ ، الوسائل ٢ : ١٨٤ ، أبواب الجنابة ، ب ٦ ، ح ٥.

(٤) تقدم الجواب عن الأوّل في ص ٨٧١.

١٨١

عمل قدماء الأصحاب كالكليني والصدوق والشيخ ، كما لا يخفى على مَنْ راجع الكتب الأربعة.

فإنّ الكليني في ( الكافي ) قال في توريث الجدّ والجدّة : ( قد رُويتْ أخبارٌ صحيحة ، إلّا أنّ إجماع العصابة على أنّ الجدّ بمنزلة الأخ ).

وقال فيه أيضاً بعد ذكر خبر آخر ـ : ( وليس هذا ممّا يوافق إجماع العصابة ) (١).

ونقِل عن علي بن الحسين بن فضّال بعد ذكر خبر رواه عن الكاظم عليه‌السلام ، أنه قال : ( وهذا الخبر ممّا أجمعت العصابة على خلافه ) (٢). وكتبُ الشيخ والصدوق مشحونة بذلك.

ولا يخفى ما في قوله رحمه‌الله : ( فالجواب بأنّه لا قائل بالفرق مردود ، إذ اللازم من ذلك الاستدلال بفرع من فروع حجّيّته ) (٣) من المصادرة المحضة ، إذ الملزوميّة فرع الفرق ، وهو لم يثبت.

وقوله : ( على أنّ المفهوم من رسالة الصادق عليه‌السلام التي كتبها لشيعته وأمرهم بتعاهدها والعمل بما فيها ، المرويّة في ( روضة الكافي ) (٤) بأسانيد ثلاثة ، أنّ أصل الإجماع من مخترعات العامّة وبدعهم ) (٥).

فيه : أنّ غاية ما تدلّ عليه أخذهم بالإجماع الخالي من المعصوم والناشئ من الآراء ، ونحن لا نعتمده ، وقد تقدّم الكلام فيه.

وقوله ، قدّس الله سرّه ، وفي الفردوس سَرَّه : ( وبالجملة ، فإنّه لا شبهة ولا ريب في أنّه لا مستند لهذا الإجماع من كتاب ولا سنّة ) (٦).

ففيه : أنّك قد عرفت أصله من السنّة ، وسيجي‌ء ما يدلّ عليه من الكتاب ، وهو ما

__________________

(١) الكافي ٧ : ١١٥.

(٢) التهذيب ٩ : ٣١٥ ، الإستبصار ٤ : ١٦٤ ، الوسائل ٢٦ : ١٤١ ١٤٢ ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب ٢٠.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٣٩.

(٤) الكافي ٨ : ٣٢٨.

(٥) الحدائق الناضرة ١ : ٣٩.

(٦) الحدائق الناضرة ١ : ٣٩.

١٨٢

استدلّ به العامّة من الآيات ، فإنّا نقول بكلامهم في الإجماع ، وإنّما الخلاف في الحيثية ، فهم من حيث الاجتماع ونحن من حيث دخول المعصوم. والنقض عليهم أنّما هو لإرجاع ما استدلّوا به إلى ما نقول به ، فلا وجه لقوله قدّس الله سرّه بأنْ لا أصل له منهما بالمرّة.

فسرِّح بريد الفكر الوقّاد سالكاً جادّة الإنصاف وعدم العناد يتبيّن لك لُجَيْنُ (١) الكلام من لَجينهِ وهِجَانُه من هَجينهِ ، والله العالم والهادي في الغايات والمبادئ.

فإنْ قيل : إنّ في بعض هذه الأخبار إجماع الأُمّة ، وهو شاملٌ لإجماع العامّة.

قلنا : لا ينافي ما قلناه ؛ لأنّ المطلوب منها حجّيّة الإجماع وهي حاصلة ، غاية ما في الباب أنّهم يعتمدون إجماع الأُمّة ، ونحن نعتمد الإجماع الكاشف عن دخول قول المعصوم عليه‌السلام ، ولهذا لو حصل اتّفاق كثيرين مع معلومي النسب ولم يكن فيهم مجهولٌ يجوز كونه الإمام ، لم يكن حجّةً.

فتبيّن أنّ الإجماع حجّةٌ ، وأنّ ما قاله غارس ( الحدائق ) من : ( أنّ الإجماع من مخترعات العامّة ) في غير محلّه. ولو لم يكن الإجماع حجّة لوقع النهي عن الأخذ به ، كما وقع عن الأخذ بالرأي والقياس والاستحسان ، ولم يحتجّوا به عليهم‌السلام ، ولم يجعلوه كالمعيار عند تعارض الأخبار. وأمّا ما في رسالة الصادق عليه‌السلام فقد عرفت الجواب عنه فراجع.

واحتجّ مَنْ خصّ الحجّيّة بزمن أصحاب الأئمّة بأنّهم لا يقولون إلّا بالنصّ وقربهم من أئمّتهم وعرفهم بعرف أئمّتهم ، وورود الروايات بمدحهم دون المتأخّرين ، فإنّهم كثيراً ما يفتون بغير النصّ.

وهو مردودٌ ؛ لأنّهم لا ينقلون الإجماع إلّا عن المتقدّمين ، فإذا حكمتم بأنّ المتقدّمين لا يقولون إلّا بالنصّ لزمكم كون إجماعات المتأخّرين مستندة إلى النصّ ؛ لأنّ المتأخّرين لا يجمعون في مقابلة اتّفاق المتقدّمين.

__________________

(١) اللُّجَيْنُ : الفضة ، اللَّجِين : الخَبَط ، الصحاح ٦ : ٢١٩٣ باب النون / فصل اللام.

١٨٣

وأمّا الاحتجاج بعرفهم عُرْف أئمّتهم ، فإنّ المتأخّرين كذلك بتعريفِ مَنْ تقدّمهم وبما وصل إليهم منهم من البيان ، فقد حازوا علم مَنْ تقدّمهم مع ما حصّلوه.

وكذا الاحتجاج بورود مدحهم ، فإنّ المتأخّرين لو كانوا في ذلك الزمن لأثنوا عليهم الثناء الجميل ، وليس مجرّد رواية الحديث موجباً للمدح ، بل هي مشروطة بالنظر والمعرفة ، وربَّ حامل فقه إلى مَنْ هو أفقه منه ، وقد قيل : « حديث تدريه خيرٌ من ألف حديث ترويه » (١). وقال عليه‌السلام : « [ قد (٢) ] روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا » (٣).

وقد روي عن الصادق عليه‌السلام : « اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من روايتهم عنّا ، فإنّا لا نعدّ الفقيه منهم فقيهاً حتى يكون محدّثاً » ، فقيل له : أوَيكون المؤمن محدّثاً؟ قال : « يكون مفهّماً والمفهّم : المحدّث » (٤).

وقد اختصّ المتأخّرون بزيادة التحقيق ، ودقّة النظر ، وجودة الفهم ، ووسع الإحاطة وشدّة النقادة.

والاحتجاج بأنّ القدماء تتيسّر عليهم الأُصول دون المتأخّرين لا ينهض حجّة ؛ لأنّ المتأخّرين وإنْ لم تصل إليهم الأُصول فقد وصلت إليهم كُتُبُ مَنْ وصلت إليهم الأُصول ، وهي معتبرة كالأُصول بل أحسن ؛ لأنّ الأُصول ليس كلّها معتبراً ، وكتب المتأخّرين كلّها معتبرة ؛ لانتخابها من الأُصول المعتبرة ، فما اعتبر المتأخّرون إلّا ما هو معتمدٌ.

فظهر بما ذكرناه وتقرّر بما حرّرناه عدم اختصاص الحجّيّة بإجماع أصحاب الأئمّة عليهم سلام ربّ البريّة ؛ لأنّا لمّا شرطنا فيه الكشف عن قوله عليه‌السلام فلا وجه لحصر حجّيّته في بعض الأعوام ، بل متى كشف تعيّن الأخذ به على الأنام من غير تخصيص ببعض السنين والأيام ، كما لا يخفى على اولي الأفهام.

__________________

(١) معاني الأخبار : ٢ / ٣.

(٢) في المخطوط : ( بعد ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٣) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ١. باختلاف.

(٤) رجال الكشي ١ : ٦ / ٢ ، الوسائل ٢٧ : ١٤٩ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ٣٨.

١٨٤

وإذ قد تقرّرت الحجّيّة بالأدلّة الواضحة الجليّة ، فحجّيّته عندنا معاشر الإماميّة الاثني عشريّة لكشفه عن دخول المعصوم عليه‌السلام في أقوال المجمعين.

ولم يرتضه بعض العلماء من متأخّري متأخّري المتأخّرين ، فقال : ( وحجّيّته لكونه مطابقاً لقول المعصوم عليه‌السلام لا لكشفه عن دخول قول المعصوم عليه‌السلام في جملة أقوال المجمعين ) (١).

ولا يخفى على اللبيب أنّ التعبير بالكشف أوْلى منه بالمطابقة ؛ لأنّ المطابقة لا تستلزم الدخول ، فيكون قوله عليه‌السلام ليس داخلاً في قولهم ، وأنّ قولهم ليس من قوله وإنما هو مطابق لقوله ، بخلاف الكشف فإنّ قولهم يكون نفس قوله ، ولنا في بيان الكشف وجوهٌ :

الأوّل : اجتماع علماء هذه الفرقة على قول ، فإذا حصل فهو قول الإمام المعصوم ؛ لأنّه سيّدها وعميدها ، ولا يجوز له إهمالهم فيجمعوا على الخطأ وتنتفي فائدة البقاء.

الثاني : ما تواتر من « أنّ زمان التكليف لا يخلو عن حجّة كيما إن زاد المؤمنون شيئاً ردّهُمْ ، وإنْ نقصوا أتمّه لهم ، ولو لا ذلك لاختلط على الناس أمرهم » (٢).

فلو وجد في الإماميّة قولٌ ولم يعرف له دليلٌ ولا مخالفٌ أيضاً ولم تعرف نسبته إلى الإمام ، علم أنّه قولُ الإمام ومختاره ؛ لأنّه لو لم يكن قوله لوجب عليه إظهار خلاف ما أجمعوا عليه لو لم يكن حقاً ، فلمّا لم يُظهر ظهر أنّه حقّ ، وإلّا لقبح التكليف الذي ذلك القول لطفٌ فيه ، ولزم ارتفاع الحقّ عن أهله والاجتماع على الخطأ ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تزال طائفةٌ من أُمّتي على الحقّ » (٣).

قال الشيخ في ( العدّة ) فيما لو اختلف الإماميّة على قولين لا يجري فيهما التخيير كالوجوب والحرمة ، وكان أحدهما قول الإمام ولم يشاركه أحدٌ من العلماء فيه ، واتّفق الجميع على الباطل ما محصّله : ومتى اتّفق وكان على المتفرّد به الإمام دليلٌ كتابي

__________________

(١) المدارك ١ : ٤٣ ، بالمعنى.

(٢) معارج الأصول ( المحقّق ) : ١٢٦.

(٣) بصائر الدرجات : ٤٨٦ / ١٠ ، بتفاوت.

١٨٥

أو سنّي لم يجب عليه الدلالة على ذلك ؛ لكفاية ما هو موجودٌ في الكتاب أو السنّة ، ومتى لم يكن عليه ذلك وجب عليه إظهار الحقّ بإعلام ثقاته حتى يؤدّي الحقّ إلى الأُمّة بشرط أن يكون معه معجزة تدلّ على صدقه ، وإلّا لم يحسن التكليف ) (١). انتهى.

وأُورد عليه أنّه يكفي في إلقاء الخلاف بينهم أنْ يظهر القول وإنْ لم يعرفه العلماء أنّه قول الإمام ، بل يكفي في ذلك قول الفقيه المعلوم النسب ، أو وجود رواية من روايات أصحابنا دالّة على خلاف ما أجمعوا عليه.

وردّه بعض العلماء بأنّ : ( مناط كلام الشيخ ليس أنّ [ الاجتماع (٢) ] على الخطأ لمّا كان باطلاً وجب على الإمام دفع ذلك ، وهذا يتمّ بنقض الاجتماع ولو كان بوجودِ مخالفٍ ، بل ظاهر كلامه أنّ اللّطف الداعي لنصب الإمام أوجب ردع الأُمّة عن الباطل ، ولا يتمّ إلّا بما يوجب ردعهم ، فلمّا لم يحصل عُلِمَ أنّه راضٍ بما اجتمعوا عليه. وقال : إنّ التحقيق في جوابه منع ذلك ، وإنّما الواجب على الله نصبه ، والواجب عليه عليه‌السلام الإبلاغ والردع عن الباطل إنْ لم يمنعه مانعٌ ).

ثمّ أيّد كلامه بكلام للسيّد المرتضى ، حيث قال : ( ولا يجب عليه الظهور ؛ لأنّه إذا كنّا نحن السبب في استتاره فكلّ ما يفوتنا من الانتفاع به وبتصرّفه وبما [ معه (٣) ] من الأحكام ، يكون قد أتينا به من قبل نفوسنا فيه ، ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به وادّى إلينا الحقّ الذي عنده ) (٤) ) (٥). انتهى.

وأنت خبيرٌ بأنّ شيعته ليسوا السبب في استتاره واحتجابه ، بل مصابون بفقده مستوحشون لفرقته ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (٦) فلا مانع لظهوره لخواصّ شيعته مع احتياجهم إليه ، وارتفاع التقيّة في بعض بلدان الشيعة الاثني عشرية.

__________________

(١) عدّة الأُصول : ٢٤٧.

(٢) في المخطوط : ( الإجماع ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٣) في المخطوط : ( صنعه ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٤) عنه في عدّة الأُصول ٢ : ٦٣١.

(٥) القوانين : ١٧٥ ١٧٦.

(٦) فاطر : ١٨.

١٨٦

الثالث : اجتماع جماعة من خواصّه عليه‌السلام من العدول الثقات ، فإنّه يمكن العلم بقول الإمام ومعتقده بفتوى جماعة منهم ، كما يعلم قول الشافعي بفتوى بعض الشافعيّة ، وإذا حصل العلم بمعتقد الإمام وقوله فلا ريب في حجّيّته وحصوله حتى في مثل زماننا هذا ، وهو عام السبعين بعد المائتين والألف ، بملاحظة أقوال علمائنا ، فإنّه لا شكّ في حصول العلم بقول الإمام إذا أفتى الفقيه العدل الإمامي بحكم ، لا سيّما إذا ضمّ إليه فتوى جماعةٍ أو نسبه بعضهم في كتابه إلى مذهب علمائنا ، أو نفى الخلاف فيه ، ولو وجد المخالف ؛ لما مرّ ، فلاحظ.

فإنْ قيل : إذا كان المعتبر في حجّيّة الإجماع قول المعصوم فلا فائدة في قولكم : الإجماع حجّة ، بل كان عليكم أنْ تقولوا : الحجّة قول الإمام من غير ذكر الإجماع.

قلنا : الأمر وإن كان كذلك إلّا إنّ في اعتبارنا له فائدة ، هي أنّه قد لا يتعيّن لنا قول الإمام عليه‌السلام في كثير من الأوقات ، فنحتاج حينئذ إلى اعتبار الإجماع ليعلم دخول قول المعصوم عليه‌السلام في جملتهم. ولو تعيّن لنا قول المعصوم الذي هو الحجّة جزمنا بأنّه فعل الحجّة ولم نعتبر سواه على حال من الأحوال.

وأيضاً قد يدخل في المجمعين من لا يعلم اسمه ولا نسبه فنحكم بحجّيّة الإجماع حينئذ لدخول قوله عليه‌السلام في أقوالهم.

وإذ تقرّر أنّ مناط حجّيّته أنّما هو الكشف عن قول المعصوم ، فهو عين الحديث حينئذ ، فلا وجه لعدّه قسماً برأسه ، بل هو داخل في السنّة بالمعنى الأعمّ ؛ لكونه حاكياً قول الإمام ضمناً ، كما أنّها حاكية له صريحاً.

وقد صرّح بعض الفضلاء العظام بأنّ رجوع الإجماع إلى السنّة قد اعترف به غير واحد من الأعلام ، وممّن صرّح به فقيه الحدائق ، فقال بعد نقل كلام ( المعتبر ) : ( وحينئذٍ فالحجّة هو قوله عليه‌السلام لا مجرّد الاتّفاق ، فيرجع الكلام على تقدير ثبوت الإجماع المذكور إلى خبر ينسب إلى المعصوم إجمالاً ) (١). انتهى.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٣٥.

١٨٧

بل تعمّق قومٌ فقالوا : ( إنّ انتساب القول إلى المعصوم في ضمن الإجماع قطعي ، ولا في ضمنه ظنّي ) (١). فرجّحوه بهذا على الخبر الدالّ على قول المعصوم صريحاً ، وقد تقدّم مع ما فيه.

وحينئذ ، فوجه حصر الدليل في الكتاب والسنّة أنْ يقال : دليل الحكم الشرعي ؛ أمّا وحي ، نوع لفظه معجز وهو الكتاب ، أو غير معجز وهو السنّة. أو كاشف عن وحي وهو الإجماع. فبطل عدّ دليل العقل دليلاً ؛ لأنّه ليس وحياً ولا كاشفاً عنه ، كما اعترف به الشيخ البهائي في حواشي ( الزبدة ) (٢) في وجه حصر الأدلّة في الأربعة ، والله العالم.

قول المخالفين في حجّية الإجماع

وأمّا مخالفونا فإذ خالفونا اختلفوا في وجه حجّيّته ؛ فبعضٌ قال : إنّها من جهة العقل ، وآخرون : إنّها من جهة النقل.

احتج مَنْ قال : إنّها من جهة العقل ، بأنّ المجمعين مع كثرتهم وانتشارهم في البلدان والأمصار وتشتّتهم في الأقطار واختلاف آرائهم تمنع العادة اجتماعهم على الخطأ.

ولو جوّز اجتماعهم عليه لجاز اتّفاقهم على أكل طعام واحد ولبس لباس واحد ، وأنْ يأتي الشعراء الكثيرون على اختلاف لغاتهم وقرائحهم بقصيدة واحدة على وزن واحد في معنى واحد ، وبطلانه ضروريٌّ ، وهو دليل على عدم اجتماعهم على الخطأ.

وردّ بأنّ ما ذكروه لا يشبه مسألة الإجماع ؛ لأنّ جميعه تابعٌ للدعاوي والآراء ، وتمنع العادةُ اتّفاقهم في الدعاوي والآراء في المسألة التي ذكروها ، وليس مسألة الإجماع من هذا الباب ، لجواز دخول الشبهة عليهم فيعتقدون ما ليس دليلاً دليلاً ويجمعون عليه كما دخلت في هذه الأُمّة ؛ لأنّ مَنْ خالف الإسلام كاليهود والنصارى

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٥.

(٢) الزبدة : ٤٨ ( الحاشية ).

١٨٨

اتّفقوا على بطلان الإسلام وتكذيب نبيّنا عليه وآله أفضل الصلاة والسلام ، وهم أكثر من أهل الإسلام أضعافاً مضاعفة لتمثيله عليه‌السلام لهم بالشعرة البيضاء في الكبش الأسود (١).

ومن المعلوم أنّ إجماعهم على ما اعتقدوه ليس دليلاً على بطلان الإسلام ؛ لأنّ إجماعهم ناشٍ من دخول الشبهة عليهم ، وعدم إمعان النظر في الطرق الموجبة للقول بصحّة الإسلام.

لا يقال : لو جاز عليهم الخطأ فيما أجمعوا عليه لجاز على المتواترين الخطأ في أخبارهم ، ولو جاز لأدّى لعدم الوثوق بشي‌ء من الأخبار ، وبطلانه بديهيّ.

لأنّا نقول : حجّيّة التواتر ليست لعدم جواز الخطأ عليهم ، بل لأنّهم نقلوا نقلاً يوجب العلم الضروريّ أو علماً لا يختلج فيه الشكّ ، فالحجّة في النقل حصول العلم بالنقل لا بمجرّد النقل.

واحتج مَنْ قال : إنّها من جهة النقل ، بقوله تعالى ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ ) (٢).

وجه الاستدلال : أنّ الوسط بمعنى العدل ، ولا تكون هذه حالهم إلّا وهم خيار ، قال الله تعالى ( قالَ أَوْسَطُهُمْ ) (٣) ، أي : خيرهم ، فمَنْ عدّه الله يكون معصوماً عن الخطأ ، فقوله حجّة.

وردّ بأنّ هذا يستلزم عدم صدور الخطأ عنهم مطلقاً لا في حال من الأحوال ولا زمن من الأزمان. وبطلانه ضروريّ.

فإنْ قيل : إنّ هذا مقيّد بحال اجتماعهم.

قيل : إنّه تقييدٌ من غير دليل ، على أنّ المراد ؛ إمّا الشهادة في الآخرة كما ورد في الأخبار (٤) ، وهو أنّما يستلزم العدالة عند الأداء لا التحمّل ، وإمّا في الدنيا وهو أنّما

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ : ٢٣٩٢ / ٦١٦٤.

(٢) البقرة : ١٤٣.

(٣) القلم : ٢٨.

(٤) الكافي ١ : ١٩٠ ، ١٩١ / ٢ ، ٤.

١٨٩

يدلّ على قبول شهادتهم ، وهو لا يستلزم حجّيّة فتواهم. فالآية متشابهة الدلالة ، فالوجه أنْ يراد بهم أئمّتنا عليهم‌السلام كما ورد في تفسيرها (١) ، فيرجع إلى ما قلنا (٢).

وقوله تعالى ( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً ) (٣).

وجه الاستدلال : أنّه تعالى قرن اتّباع غير سبيل المؤمنين بمشاقّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في الوعيد بدخول جهنّم ، واتّباع غير سبيلهم يتحقّق بمخالفتهم قولاً وفتوى ، فيجب اتّباعهم وهو معنى حجّيّة الإجماع.

وردّ بعدم دلالتها على شي‌ء من المدّعى لوجوه :

منها : أنّ لفظ ( سبيل ) مفرد ولا يحمل على العموم ، بأنْ يؤوّل بكلّ سبيلٍ.

لا يقال : حيث فُقِدَ دليل الخصوص يحمل على العموم ؛ لأنّه يقال : إذا فقدنا دلالة العموم نحملها على الخصوص ، ونخصّها بأهل بيت النبوّة أهل العصمة.

ومنها : أنّ ( ال ) لا تكون نصّاً في الشمول والاستغراق ، بل فيهما وغيرهما ، فالآية حينئذ مجملة ، فيحتمل أنْ يراد جميع المؤمنين ، وأنْ يراد بعضهم على السواء.

فإنْ قيل : نحملها على الجميع لفقد دلالة الخصوص.

قلنا : لنا أنْ نحملها على الأقلّ ؛ لفقد دلالة العموم ، فإذا حملت على الأقلّ فليس حملها على بعض المؤمنين بأوْلى من حملها على أئمّتنا عليهم‌السلام ؛ للإجماع على عصمتهم وطهارتهم والأمن من وقوع الخطأ من جانبهم.

ومنها : أنّه يجوز أنْ يكون الوجه في أمره تعالى باتّباع سبيل المؤمنين ، لما ثبت عقلاً ونقلاً من أنّ العصر لا يخلو من إمام معصوم لا يجوز عليه الخطأ (٤) ، وإذا جاز رجع إلى ما ذهبنا إليه معاشر الإماميّة.

ومنها : أنّه تعالى رتّب الوعيد على مخالفة مَنْ كان مؤمناً ، ومن أين صحّ لهم عدم

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٩١ ، تفسير العياشي ١ : ٨٢ / ١١٢ ، الكافي ١ : ١٩١ / ٢.

(٢) القوانين : ١٧٩ ١٨٠.

(٣) النساء : ١١٥.

(٤) الكافي ١ : ١٧٨ / ٦.

١٩٠

خروج كلّ منهم عن هذه الصفة؟ وإذا صحّ خروجهم عن هذه الصفة خرجوا عن الصفة التي ترتّب الوعيد على مخالفتهم مع كونهم عليها.

لا يقال : لا يصحّ توعّد الله وعيداً مطلقاً على العدول عن سبيل المؤمنين إلّا وهو ممكن في كلّ حال ، ولا يصحّ كونه في حيّز الإمكان إلّا بثبوت جماعة من المؤمنين في عصر ؛ لأنّه كما توعّد على العدول عن اتّباع سبيلهم توعّد على مشاقّة الرسول ، فإذا ثبت في كلّ حال وجود المشاقّة ليصحّ الوعيد كذلك ، ثبت وجود اتّباع سبيلهم والعدول عنها.

لأنّه يقال : لا يجب من حيث توعّده تعالى وعيداً مطلقاً على العدول عن اتّباع سبيل المؤمنين ثبوت مؤمنين بهذه الصفة في كلّ عصر ، والآية أنّما اقتضت التحذير والوعيد إذا وجدوا وتمكّن من اتّباع سبيلهم وتركه.

ومن أين صحّ أنّ الوعيد على الفعل يقتضي إمكانه في كلّ حال؟ على أنّا نعلم أنّ البشارة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تقدّمت على لسان من تقدّم من الأنبياء لأُممهم ، وقد أمر الله تعالى الأُمم بتصديقه ، وعلّمهم صفاته وعلاماته ، وتوعّدهم على مخالفته وتكذيبه ، ولم يكن ما توعّد عليه من مخالفته وأوجبه من تصديقه واتّباعه ممكناً في جميع الأوقات ، ومانعاً من إطلاق الوعيد ، ولا مانع من كون الوعيد قد عُلّق على شرط ، كأنّه قال : ومَنْ يتّبع غير سبيل المؤمنين إذا وجدوا وحصلوا. فبهذا علم بطلان ما قرّروه ؛ لبطلان الاستدلال بقيام الاحتمال بلا إشكال.

واحتجّوا من الأخبار بما زعموا تواتره معنىً من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تجتمع أُمّتي على الخطأ » (١) ، وفي حديث آخر : « لم يكن الله ليجمع أُمّتي على الخطأ » (٢).

وفي حديث آخر : « كونوا مع الجماعة ، ويد الله على الجماعة » (٣).

وأُجيب بمنع دلالتها على المدّعى :

__________________

(١) (٢) عدّة الأُصول : ٢٤٤.

(٣) عدّة الأُصول : ٢٤٤ ، نهج البلاغة : خطبة ١٢٧ ، باختلاف.

١٩١

أمّا أوّلاً ، فبعدم تسليم تواترها وصحّتها ، بل هي آحادٌ لا يتمسّك بها في إثبات مثل هذا الأصل الذي بنوا عليه دينهم.

وأمّا ثانياً ، فبمنع صحّتها ؛ لأنّ ( اللام ) للجنس ، فمقتضاه عدم جواز اجتماعهم على جنس الخطأ ، وهو باطل لاستلزامه العصمة ، ولا يقولون به.

فإنْ قالوا : المراد من عدم اجتماعهم على جنس الخطأ اختيارهم فرداً من أفراده كالزنا مثلاً.

قلنا : هو تقييدٌ بغير دليل.

وأمّا ثالثاً ، فلأنّ ( امّة ) لا تفيد الاستغراق ، ولو أفادته لزم تصويب جميع الأُمّة من لدن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قيام الساعة ، وهو باطل ، فثبت أنّه البعض ، وهم المعصومون من أهل البيت عليهم‌السلام لآية التطهير (١) ، فرجع إلى ما نقوله.

والحاصل ، أنّ ما استدلّوا به دالّ على ما ذهب إليه الإماميّة من لزوم معصوم في كلّ زمان ، ويؤيّده قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تزال طائفة من أُمّتي على الحقّ حتى تقوم الساعة » (٢) ، وهذه الطائفة هم آله المعصومون وشيعتهم المحدّثون ، فثبت أنّ حجّيّة الإجماع لما قلناه.

والعجب من أن نجد صاحب القوانين نَقَلَ عن الشيخ البهائي عن الفخري من القولَ بما قلناه ونسبه إلى أكثرهم (٣) ، والله العالم.

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

(٢) غوالي اللئلئ ٤ : ٦٢ / ١٣ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥ / ١٠.

(٣) القوانين : ١٨٠.

١٩٢

المقام الثاني : في أقسامه

وفيه أبحاث :

البحث الأوّل : في الإجماع الضروريّ من المسلمين ، وهو الذي يكون منشؤه النصوص المتواترة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

البحث الثاني : في إجماع الفرقة المحقّة ، وهو الذي يكون منشؤه النصوص المتواترة عن الأئمّة عليهم‌السلام.

وهذان القسمان هما المشار إليهما في خبر ( تحف العقول ) (١) ، و ( البصائر ) و ( الاختصاص ) (٢) المتقدّم نقله في المقام الأوّل عن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام ، إذ المراد بالضرورة فيه التواتر كما قاله بعض الفضلاء (٣) ، والمراد بها ضروريّ الدين وضروريّ المذهب ، وعطف الأخبار عليها تفسيريّ كما تقدّم ، ولا خلاف في ثبوتهما وإمكانهما ووقوعهما وحجّيّتهما وعدم جواز مخالفتهما لتحقّق دخول المعصوم في جملتهم.

نعم ، يحتاج الثاني إلى إثبات بالنسبة إلى الخصم ، والكلام مع بعضنا فلا يحتاج.

البحث الثالث : في الإجماع المشهوري.

وهو ما يكون منشؤه النصوص المشهورة التي تخالفها النصوص غير المشهورة ، ولم يعلم دخول قول المعصوم في أقوال المشهور ، كأن يتساوى الفتويان أو الروايتان في وجوه الترجيح ولا مرجّح لأحدهما إلّا مجرّد الشهرة بين الأصحاب والآخر بخلافه.

فحينئذٍ ، يتعيّن الأخذ بالمشهور لنصّ الإمام على الأخذ به حتى سمّاه إجماعاً كما في المقبولة والمرفوعة السابقتين (٤) ، وليس إلّا لدخول قوله في أقوال المشهور ، وإلّا لما ساغ له الأمر بالأخذ به مع انفراده عنهم ، ولا يمكن العلم بدخوله بمجرّد الشهرة ما لم يكن على ما مرّ من عدم المرجّح.

__________________

(١) تحف العقول : ٤٠٧.

(٢) الاختصاص ( سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) ١٢ : ٥٨.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٠٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٨.

(٤) انظر ص ١٦٨ هامش ٣ ، ٤.

١٩٣

ولكن قد نوقش أنّ المراد من المشهور في المرفوعة والمقبولة مشهور الرواية لا الفتوى والعمل ، ولا نمنع حجّيّته.

وردّ : أوّلاً : بأنّ الرواية قد يخالفها عمل الراوي ، فإذا كان كذلك ، فإنْ كان لعدم صحّتها عنده ، أو لوجود ما هو أصحّ منها عنده ، أو لعدم معرفة الحكم منها ، فلا عبرة بروايته لها ، ولا يكون ذلك مرجّحاً ، وإنْ كانت عنده صحيحة ولا معارض لها أقوى منها ، فلا عبرة بروايته ؛ لأنّه فاسق إذا ترك العمل بها.

وثانياً : بأنّه لا مانع من إرادة مشهور الفتوى أو العمل ، فإنّه إذا اشتهر ولم يحصل في مستند غيره ما يقابله من صحّة الاعتبار مع عدم مقابلة إجماع مشهور أو محصّل ولم يحتمل احتمالاً متساوياً ، فإنّ ذلك المشتهر حجّةٌ وليس لمجرّد الشهرة ، بل إذا حكمت الأمارات بعدم خروج مذهب الحجّة عنها بحكم قطعي محصّلٍ من قوله : « خُذْ بما اشتهر بين أصحابك » (١) ، وهذا صادق عليه أنّه اشتهر بين الأصحاب ، ومن إهمال الإمام الدليل الصارف عنه عند الحاجة إلى العمل الذي أمر به مع أمرنا بالأخذ بهذا المشتهر ، وليس إلّا لما مرّ من علمه بدخول قوله في جملة أقوال المشهور ، وإلّا لوضع الدليل الصارف ، ولَمَا أمر به ، وإلّا كان مغرياً بالباطل ، وهو باطل.

وثالثاً : أنّا لا نمنع احتمال إرادة ما قلتم ؛ لأنّ شهرة الخبر وتكرّره في الأُصول من المرجّحات التي يصار إليها إذا لم يعارضه مرجّحٌ أقوى منه.

والفرق بين المشهور الحجّة وبين المشهور غير الحجّة عدم عثور المستنبط بعد استفراغ الوسع على الصارف ، فإنْ حصل له الصارف فهو غير الحجّة ، وإلّا فهو الحجّة.

وإنّما قلنا : إذا كان أحدهما مشهوراً ؛ لأنّهما إذا كانا مشهورين لا بدّ من الترجيح بينهما كالإجماعين المنقولين ، فمستفرغ الوسع إنْ عثر على الدليل صحّ له دعوى الإجماع بقول مطلق كما قيل.

فإنْ كان بين مشهور ونادر ولا دليل على دخول قوله عليه‌السلام في النادر ، أو خروجه عن

__________________

(١) غوالي اللئلئ ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

١٩٤

المشهور كان المشهور هو المجمع عليه لكشفه عن دخول قول المعصوم عليه‌السلام ، لأنّه إنْ لم يدخل في المشهور الذي جرت العادة بالميل إليه مع عدم الصارف ولم يتعيّن دخوله في هذا المشهور ، وجب عليه نصب الصارف عن المشهور ، وإلّا لزم أنْ يكون آمراً بغير ما قال وهو « خذْ بما اشتهر » (١) ، وهو محال.

وإنْ كان بين مشهورين وإنْ لم يتساويا وحصل للمستنبطِ المُسْتفِرغ الوسع الدليل القاطع على دخول قول المعصوم في أحدهما صحّ له أنْ يدّعي الإجماع لكشفه عن دخول قول المعصوم. وهذا هو الإجماع المحصّل ، وهو حجّة قاطعة يتعيّن العمل عليه ، إلّا إنّه لا يكون حجّة على مَنْ لم يعثر على ذلك الدليل ، وهذا الإجماع كثير بين الأصحاب ، حتى إنّ منهم من يدّعي الإجماع على حكمه في كتاب ويدّعي الإجماع على خلافه في آخر ، بل فيه نفسه ؛ ولهذا طعن به في حجّيّة الإجماع ، وقد مرّ جوابه فليراجع.

وإنْ لم يعثر على الدليل توقّف حتى يحصل ؛ على للآيات والأخبار الدالّة على النهي عن القول بغير علم ، قال الله تعالى ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (٢) ، وقال الصادق عليه‌السلام في حديث حمزة بن الطيّار : « لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلّا الكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى ، حتى يحملوكم فيه على القصد ، ويجلوا عنكم فيه العمى ، ويعرّفوكم فيه الحقّ » (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات والأخبار كما يأتي في آخر الكتاب.

وقال بعض : إنّه والحال هذه يعمل على حسب ما يقوى في ظنونه إن تعدّدت ؛ لأنّ الظنّ المعتبر قد جعله الشارع عند عدم اليقين مناطاً لتكليفه وأمارة لحكمه ، كما في الشكّ ، والدعوى المظنونة ، واللوث ، وغير ذلك ، كما قيل : المرءُ متعبّدٌ بظنّه.

ونقل عن بعض المحدّثين أنّه متن حديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رواه ابن أبي جمهور في ( العوالي ) ، وإنْ لم يحصل له الظنّ توقّف مع عدم الحاجة إلى العمل هو أو مقلّده واحتاط كذلك معها.

__________________

(١) غوالي اللئلئ ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

(٢) الإسراء : ٣٦.

(٣) الكافي ١ : ٥٠ / ١٠ ، الوسائل ٢٧ : ٨٥ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٨ ، ح ٢٩.

١٩٥

أقول : إنْ أُريد بالظنّ الظنّ الحاصل من الكتاب أو السنّة ، وهو المعبر عنه بالعلم العادي فحسنٌ ، إذ لا مشاحّة في التسمية. وإنْ أُريد به الظنّ الاجتهادي ، وهو ما لم يستند إليهما فمردودٌ ؛ للأخبار والآيات الناهية عن تجاوز ذينك الثقلين ، وأنّ المتجاوز لهما هالك بلا مين (١).

وقد يناقش فيما استدلّوا به من أنّ الظنّ المعتبر قد جعله الشارع عند عدم اليقين مناطاً لتكليفه ، بأنّ ذلك أنّما هو في موضوع الحكم لا في نفس الحكم.

فما قيل من أنّ المرء متعبّد بظنّه ، بأنّه إنْ صحّ فمحمول على العلم ، إذ إطلاق العلم على الظنّ كثير الاستعمال ، ومنه قوله تعالى ( وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ ) (٢) ، وقوله تعالى ( فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ) (٣) إلى غير ذلك.

فإنْ قيل : كيف يكون المشهور حجّةً وإجماعاً ، ولا يكون ذلك إلّا مع تيقّن دخول قول المعصوم ، وهو لا يحصل إلّا مع عدم مرجِّح في الظاهر ، وهو لا يكون دليلاً وحجّةً وإجماعاً حتى ينصّ الإمام على الأخذ بها ، ولا ينصّ على الأخذ بكلِّ شهرة ، بل على شهرة معيّنة ، ولا نعرفها إلّا بنصب الإمام على ضدّها دليلاً صارفاً عنها. فإذا وجد المقتضي وهو أمره ، وعدم المانع وهو الصارف عنها ، وجب الأخذ بها وكانت إجماعاً لكشفها عن دخول قوله.

فكيف يتحقّق هذا ونحن نجد في كثير من أحوال الشهرة المقتضي وهو « خذ بما اشتهر » (٤) وهو صادق على أفراد الشهرة كلّها ، والمانع وهو أنّه قد تكون الشهرة التي يتناولها الأمر بالأخذ بها لم يجد زيدٌ في ضدّها المانع عنها ويجده عمروٌ.

فإنْ قلتم : هذا يتحقّق في حقّ زيد.

قلنا : هذا يكون من أفراد الإجماع المحصّل لا المشهوري ، وإلّا لم يتحقّق الإجماع المشهوري.

__________________

(١) المَينُ : الكذب. لسان العرب ١٣ : ٢٣٦ مين.

(٢) الأعراف : ١٧١.

(٣) الكهف : ٥٣.

(٤) غوالي اللئلئ ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

١٩٦

أُجيب : بأنّا أنّما نقول بالمشهوري إذا لم يمكنّا العثور على المانع ، وليس في وسعنا تحصيله ؛ لأنّا لا نكلَّف ما لا نقدر عليه ، وليس علينا التوقّف إذا لم نعثر مع استفراغ وسعنا على المانع ؛ لأنّا مأمورون بالأخذ بالمشهور ، فإنّه مجمعٌ عليه ولا ريب فيه ، وأمّا إذا وصل المانع إلينا إلّا إنّا لم نتحقّق كونه مانعاً ، فإنّ ذلك الإجماع الذي ندّعيه محصّل لا مشهوريّ.

ثمّ إنّ العلماء اختلفوا في حجّيّته ، فمن القائلين بحجّيّته الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي ، والشيخ محمّد ابن الشيخ عبد علي آل عبد الجبار ، والمحقّق القمّي في ( القوانين ) (١) ، وصاحب ( الفوائد الحائرية ) (٢).

وصرّح الشيخ محمّد المقابي في منتخبه بجواز مخالفته ؛ لأنّه عبارة عن اتّفاقهم على عدم ردّ الحكم المستفاد من أحد النصّين المتضادّين.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّه وإن كان عبارة عمّا ذكر ، إلّا إنّه إذا علم منه دخول قول المعصوم في أقوال المشهور لا سبيل إلى الخروج عنه مع نصّ الإمام على الأخذ به.

وقال الشيخ البهائي في ( الزبدة ) : ( وقد يتجوّز في تسمية المشهور إجماعاً ، وقرّبه الشهيد في ( الذكرى ) (٣) .. ) (٤). انتهى. ولم يتعرّض له بنفي ولا إثبات.

واختار الشارح الشيخ جواد عدم الحجّيّة فيما بعد الشيخ ، بناءً على ما قاله بعض العلماء من : ( أنّ الشهرة إنّما تحصل بها قوّة الظنّ إذا كانت قبل زمن الشيخ لحصول الظنّ بحصول الحكم من الأئمّة ، وأمّا إذا كانت بعد الشيخ فلا اعتبار بها ؛ لأنّ أكثر الفقهاء الذين نشئوا بعد الشيخ كانوا يتبعونه في الفتوى تقليداً له لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنّهم به ، فلمّا جاء المتأخّرون وجدوا أحكاماً مشهورة قد عمل بها الشيخ ومتابعوه ، فظنّوا أنّها مشتهرة بين العلماء ولم يدروا أنّ مرجعها إلى الشيخ ، وأنّها إنّما حصلت بمتابعته ) (٥).

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الغرابة والتعسّف ومزيد التكلّف.

__________________

(١) القوانين : ١٨٥.

(٢) الفوائد الحائرية : ٣١٢.

(٣) الذكرى : ٥.

(٤) زبدة الأُصول : ٧٢. ( مخطوط ).

(٥) معالم الأُصول : ٢٤٤.

١٩٧

أمّا أوّلاً ، فإنّه مستلزمٌ لتقليد الجماعة للشيخ مع تصريحهم بحرمة التقليد على المجتهد ، وهو خزية عظيمةٌ تفضي إلى التفسيق.

وثانياً : بأنّ مخالفة المتأخّرين للشيخ أكثر من مخالفة القدماء بعضهم بعضاً.

وثالثاً : أيّ شهرة تحصل مع تعدّد كتبه وفتاويه في كتاب واحد ، وتبعيّة أيّ فتوى من فتاويه ، مع أنّه يفتي بفتوى في كتاب ويفتي بخلافه في آخر ، وقد تقرّر أنّ المشهوريّ حجّةٌ وإجماعٌ.

وأمّا جعل بعض العلماء له غير إجماع حقيقي ، كما في كلام الشهيد : ( ألحق بعضهم المشهور بالمجمع عليه ، فإنْ أرادوا في الإجماع فممنوع ، وإنْ أرادوا في الحجّيّة فقريب لمثل ما قلناه ، يعني : لقوّة الظنّ في جانب الشهرة ، لأنّ عدالتهم تمنع من الاقتحام في الفتوى بغير دليل ) (١).

فهو مبنيٌّ على ملاحظة التسمية ومماشاةً مع المخالفين في تلك الدعوى ، وإلّا فالعالمون به لا يطلقونه إلّا على قول مَنْ كان المعصوم في جملتهم بلا فرق بين حصول ذلك في جميع المسلمين أو في خمسة رجال.

وأمّا احتجاج الشهيد على الحجّيّة بقوّة الظنّ في جانبها فمردود ؛ لأنّه إنْ أراد حجّيّة الشهرة بدون اعتبار قول المعصوم ، ففي حيّز المنع ، إذ ربّ مشهور لا أصل له ، وإنْ أراد الحجّيّة مع اعتبار قول المعصوم فلا يفيد الظنّ شيئاً ، بل لا بدّ من القطع على نحو ما مرّ مكرّراً ، وما يعتبر من الظنّ في الإجماع المنقول فإنّما هو في ثبوته في نفسه لا في حجّيّته. فتبيّن أنّ مناط الحجّيّة قول المعصوم عليه‌السلام لا قوّة الظنّ ، والله العالم.

البحث الرابع : في الإجماع المنقول.

وهو على أقسام ، كالخبر المنقول يجري فيه أحكامه ؛ من الردّ ، والقبول ، والتعارض ، والترجيح ، والمنقول بالتواتر ، والمنقول بالخبر المحفوف بالقرائن ، والمنقول بخبر الواحد ، والصحيح ، والضعيف ، والمسند ، والمرسل ، وغيرها. واعتبار

__________________

(١) الذكرى : ٥.

١٩٨

المرجّحات من علوّ الإسناد ، وكثرة الواسطة ، والأفقهيّة ، والأعدليّة ، وغير ذلك من المرجّحات.

وتحصل الصحّة والضعف بعدالة الناقل وعدمها ، والإسناد والإرسال باتّصال السند إلى ناقل وعدمه ، وحذف بعض السلسلة وعدمه ، مثل أنّ زيداً سمع من شيخه أنّ هذه المسألة إجماعيّة فقال هو : أجمع الأصحاب. بدون روايته عن شيخه ، كالشيخ إذا نقل عن المفيد ، أو روى زيد عن عمرو بحذف الواسطة وهو بكر ، كابن إدريس فإنّه يروي عن المفيد بواسطة الشيخ.

فالمنقول بالتواتر والمنقول بالخبر المحفوف بالقرائن لا ريب في حجّيّتهما ، وإنّما الخلاف في الثالث ، فنفاه جماعةٌ وأثبتهُ آخرون.

احتجّ المانعون بأنّ الإجماع أصلٌ برأسه ، والأصل إذا لم يكن يقينيّاً لم يجز بناءُ الأحكام عليه وإن كانت ظنّيّة ؛ لأنّ الأصل إذا لم يتعيّن الرجوع إليه لكونه يقينيّاً لم تُبنَ الأحكام عليه ولم يصادِم خبر الواحد إذا عارضه ، والإجماع إذا ثبت صادَمَ خبر الواحد إذا عارضه ، وخبر الواحد لا يفيد اليقين ليكون ما ثبت به يقينيّاً.

فلو فرض أنّ السنّة لا يتعيّن الرجوع إليها بقول مطلق لما جاز العمل بخبر لا يوجبُ اليقين ، وصحّة العمل به بناءً على تعيّن الرجوع إلى أصله.

وأُجيب بما تقدّم في ردّ ما أجاب به غارس ( الحدائق ) ؛ من أنّ الثابت بخبر الواحد ليس حجيّة الإجماع وثمرته الفقهيّة ، بل الثابت خصوصيّة هذه المسألة الفرعيّة (١) ، وقد تقدّم فلا نعيده ، فليراجع. مضافاً إلى جميع ما ثبتت به حجّيّة خبر الواحد من صحّة النقل وعدالة الناقل ، وعدم معارض أقوى أو مساوٍ ، فكلّ ما ثبت به حجّيّة خبر الواحد ثبت به الإجماع المنقول ، لا بالقياس على خبر الواحد.

ثمّ هذا المنقول يحتمل أنْ يكون المشهوريّ ، والمركّب ، والمحصّل ، والسكوتي. فإذا علم أنّ الإجماع المنقول كان سكوتياً ؛ لأنّه وقع عن كمال التفتيش ، كان حجّة ،

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٣٨.

١٩٩

ولكن يحتمل فيه عدم استقصاء التفتيش ، كما يوجد في كلام كثير من الأصحاب من دعوى الإجماع مع وجود المخالف ، وهو كما مرّ ؛ إمّا لعدم اعتداده بقول المخالف ، أو لعدم اطّلاعه عليه أو تأخّره عن الإجماع ، أو عدم اطّلاع المخالف على الإجماع ، أو لأنّه اقتصر على نقل مَنْ تقدّمه ، ولعلّ السابق لم يعتدّ بقول المخالف ؛ لمعلوميّتة عنده أو ضعف دليله.

فهذه الاحتمالات جارية في دعوى عدم الخلاف ، وعدم الاعتداد بقول المخالف لمعلوميّته لا يضرّ في الإجماع الصريح ، بخلاف السكوتيّ فإنّه لا بدّ فيه من كمال التفتيش ، ويقدح فيه وجود المخالف وإن كان معلوم النسب.

البحث الخامس : في الإجماع المحصَّل.

وهو الذي يحصل بالاطّلاع على كثير من أقوال الفرقة المحقّة وأعمالهم وفتاويهم بالتسامع شيئاً فشيئاً ، حتى يحصل للمستنبط المستوضح قطعٌ بأنّ الفتوى والعمل مطابقان لفتوى إمامهم وعمله ، بحيث لو ورد عن الإمام خبرٌ يخالف ما أجمعوا عليه حصل لذلك المتتبّع محمل صريحٌ يصرفه إليه ويحمله عليه ، ولا يقدح فيه عروض مخالف له ؛ لتراكم القرائن وتطابقها واتّحاد أقوالهم وأعمالهم أو اتّفاقها.

وهذه من الطرق التي يعرف بها قول الإمام عليه‌السلام كما مرّ ، فيحصل العلم بمذهب الإمام جعفر بن محمَّد عليهما‌السلام بفتوى جماعة من خواصّه كزرارة وأتباعه. كما نعلم أنّ الشافعيّة مذهبهم كاشفٌ عن مذهب محمّد بن إدريس الشافعي ، وأنّ قوله داخلٌ في أقوالهم ، كما نعلم أنّ أقوال الأئمّة الأربعة داخلة في أقوال متابعيهم.

فإنْ قيل : هذا لا يحصل إلّا مع الاتّفاق وعدم حصول مخالف بأخبار كلّ من القائلين عن اختياره ، ومع العلم بصدقه بأن لا يخالف ظاهره باطنه ، وهذا متعذّر.

قلنا : إنّا لا نعتبر إلّا اتّفاق مَنْ يعتبر قوله ، ولا يعتبر قوله إلّا إذا كان بهذه الصفات ، وهذا حاصل.

وقد تقدّم أنّ وجود المخالف لا يضرّ ؛ لما عرف سابقاً ، على أنّا نقطع في بعض

٢٠٠