الرسائل الأحمديّة - ج ٣

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

فقول السائل مدّ ظلّه ـ : ( وإنّي لم أقف على تصريح فيه من أحد منهم ).

فأقول : هو كذلك كما تقدّم من كلامهم.

وأمّا قوله : ( إلّا إنّه الظاهر من أكثر عباراتهم في التخطئة ) فغير مسلّم بعد ما عرف من كلام مَن استشهد به السائل ، كـ ( الحدائق ) وكلام صاحب ( المفاتيح ) في ( الحقائق ).

وأمّا كتاب ( هداية الأبرار ) فلم نقف عليه حتى نعرف مراده ، وأمّا مقدّمات ( شرح المفاتيح ) فلا ندري أيّ شروحها وجهاً أُريدَ ، لكن الموجود بين أيدينا شرحٌ لشيخنا الشيخ سليمان بن عبد الجبّار ولم نرَ فيه ما يخالف ما تقدّم ويوافق ما ذكرتم.

والظاهر أنّ المحلّ المحال عليه في ( المفاتيح ) هو قوله في أوّل ديباجته : ( فمَنْ كان منّا من أهل الخير والبرّ ، وهم الذين يأتون البيوت من أبوابها ، فلا يدخل باباً من أبواب الشرع إلّا بعد المعرفة بمفتاحه ، بأنْ يكون على بصيرة فيه ، كراوي حديثهم الناظر في الحلال والحرام ، العارف بالأحكام ، أو على استبصار كالمقلّد لذلك العالم ، فهو ممّن فاز بالدين.

ومَنْ لا يعرف الهِرّ من البِرّ (١) ، وهم الذين يأتون البيوت من ظهورها ، فيدخل فيه من غير معرفة ، بل يبني على التخمين ، أو الاقتفاء لآراء الماضين مع اختلافهم الشديد ، واعتراف أكثرهم بعدم جواز تقليد الميّت ، وأن لا قول للميّتين وإنْ لم يأتوا في هذا بشي‌ء مبين ، فهو في ريب من أمره وعوج ، وفي صدره من ذلك حرج ، أنْ لا تقبل منه صلاة ولا زكاة ولا حجّ ، إذ العامل على غير بصيرة كالسائر على غير المنهج ، بل لا يزيده كثرة السير إلّا بعداً ) (٢). انتهى كلامه ، زيد إكرامُهُ.

وهو غير كافٍ في إثباتِ مثل هذا المقام الذي هو مرحلة النقض والإبرام.

أمّا أوّلاً : فلاشتراك قوله : ( فمَنْ كان منّا إلى قوله فاز بالدين ) بين هذين الفريقين ؛ إذ المراد بإتيان البيوتِ من أبوابها أخذ أحكام شرائع الأنبياء من أوصيائهم الأعلام ،

__________________

(١) إشارة إلى المثل : ( فلان لا يعرف هِرّاً من بِرٍّ ) أي لا يعرف من يكرهه ممّن يبرُّه ، وهو كناية عن الجهل. الصحاح ٢ : ٨٥٣ باب الراء / فصل الهاء. بتصرف.

(٢) مفاتيح الشرائع ١ : ٣ ٤.

١٤١

ثمّ خلفائهم الكرام ، كما ورد في تفسير الآية الكريمة (١) عن الأئمّة حجج العلّام على الأنام ، إذ انتهاء الاثني عشريّة على التمام إليهم عليهم‌السلام ، ممّا لا يستره غمام الأوهام ، ولا يشوبُ نوره ظلام ، بل أغنى عن بيانه نور الصباح عن نور المصباح ، وفاح عليه عطر الحق النفّاح ولاح.

قال الشارحُ الشيخ سليمان في شرح هذا الكلام : ( والتحقيق في هذا المقام ما ذكره بعض فضلائنا الإعلام ، حيث قال : اعلم أنّه متى تحقّق الفقيه واتّصف بالأُمور المشروطة فيه ، واقتصر على محكم السنّة والكتاب ، وحبس نفسه على الأخبار في جميع الأبواب ، وجبَ على الرعيّة قبول ما يلقيه من الأحكام ؛ لأنّه في الحقيقة حاكٍ قول الإمام ، ولذلك ورد الأمر بقبول قول رواتهم والرجوع إليهم ، وأنّ الرادّ عليهم كالرادّ عليهم (٢).

وحينئذ ، لا فرق بين حياة مَنْ هذا شأنه ومماته ، لما عرفت من أنّه من جملة نقلة حكم المعصوم ورواته ، فهو كسائر الروايات المودعة في كتب الأخبار المنقولة بالمعنى عن الأئمّة الأطهار ، ولذلك كانت الأصحاب ترجع إلى فتاوى الفقيه علي بن بابويه عند إعواز نصوص السادة الأبرار.

ثمّ قال بعد إنهاء كلام هذا البعض من الأعلام : أقول : وهذا بعينه حال علمائنا المتقدّمين والمتأخّرين ، والمجتهدين والأخباريّين ، فإنّهم جميعاً أنّما يعتمدون على محكم السنّة والكتاب ، أو ما يرجع إليهما ويؤول بالآخرة إليهما ، ولا يتجاوزون ذلك إلى ما يخرج عنهما وإنْ اختلفت أنظار الفريقين في بعض المسائل ، وناقش بعضهم بعضاً في تطبيق الدلائل ، إلّا إنّ ذلك كلّه لا يوجب خروجاً عن مذهب أئمّتهم المعصومين عليهم‌السلام ، بل إنّما نشأ من اختلاف الأنظار والأفهام التي تتفاوت فيها سائر

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى ( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) البقرة : ١٨٩ ، انظر تفسير العيّاشي ١ : ١٠٥ / ٢١١ ، ٢١٣.

(٢) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ١.

١٤٢

المكلّفين ) (١). انتهى.

وقال في موضع آخر من شرح ذلك الكتاب عند قول المصنّف : ( ولا بناء على أُصول مبتدعة ليس إليها في الشرع سبيل ، ولا جمود على الألفاظ بيد قصيرة ، ولا عمل بقياسات عاميّة من غير بصيرة ) (٢) ـ : ( فهذه الصفاتُ الثلاث المذكورة في كلام المصنّف أعني : البناء على الأُصول المبتدعة ، وجمود القريحة ، والعمل بالقياسات العاميّة كلّها ممّا خلا عنها فقهاء أصحابنا ، فإنّهم إنّما يعوّلون في أحكام دين الملك العلّام على الكتاب والسنّة وما يؤول إليهما ، ويرجعُ بالآخرة إليهما ، مع تحقيق وتدقيق وردّ المتشابهات إلى المحكمات ، ومجانبة للقياس في جميع الحالات.

وعلى هذا جرى المتقدّمون منهم والمتأخّرون ، المجتهدون والأخباريّون وإنْ خالف بعضهم بعضاً في بعض المسائل ، وناقش بعضهم بعضاً في تطبيق تلك الدلائل ، إلّا إنّهم لا يخرجون عن طريقة الأئمّة الأعلام. وما صدر بينهم من الاختلاف فإنّما هو لتفاوت الأفهام أو لتعارض الروايات الواردة عن الأئمّة الأعلام ، فهم كافّة كما أخبر به المصنّف عن نفسه من مجانبته لطريقة العامّة التي أكثرت التلبيس على هذه الأُمّة ، وعدم اعتماده على أدلّتهم التي أوقعتهم في هذه الظلمة المدلهمّة ) (٣). انتهى ، وهو نصّ فيما قلناه.

وأمّا ثانياً ، فلجواز إرادته بقوله : ( ومن لا يعرف الهرّ من البرّ ) .. إلى آخره ، علماء السوء والشرّ ، لصدق ما قاله عليهم ، إذ غير خفيّ تعريض الأئمّة الأعلام وعلمائهم الكرام بأُولئك البغاة الطغاة الطغام ؛ ولمعارضته لو ابقي على ظاهره ما تقدّم نقله من كتابه ( الحقائق ) الذي قال فيه : إنّه آخر مصنّفاته (٤).

والجمع مهما أمكن أولى عندهم من الترجيح ، هذا ولا يبعد أنْ يكون كلامه في

__________________

(١) المصابيح اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع : ١٧. ( مخطوط ).

(٢) مفاتيح الشرائع ١ : ٤ ٥.

(٣) المصابيح اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع : ٢١. ( مخطوط ).

(٤) الحقائق : ٣٢٥.

١٤٣

( الحقائق ) عدولاً عمّا أثبتهُ هنا ، والله العالم بالحقائق.

وحينئذ ، فيتعيّن الأخذ به ؛ لأنّه الأحدث ، كما ورد في النصّ الصادق المتطابق.

هذا ، والتحقيق في هذا المقام : أنّ اختلافهم إنْ لم يُفضِ إلى الخروج عن حوزة العدالة كما هو من كلامهم المتقدّم طافح الدلالة ، فالأمر فيه ظاهر المقالة ، إذ هذان الفريقان مجموع الفرقة المحقّة والطائفة الحقّة ، كما لا يخفى على من أصلح الله باله.

وقد صرّح به مولانا السيّد محمّد الميرزا الهندي في رسالته المسمّاة بـ ( قبسة العجول ومنبّهة الفحول ) ، فقال بعد البسملة والحمدلة : ( أمّا بعد : فالباعث على تحرير هذه الأسولة هو أنّ الفقير إلى ربّه الغني محمّد بن عبد النبيّ لمّا علم الاختلاف الواقع في الأحكام الشرعيّة بين المجتهدين والمحدّثين ، مع توافقهما في أُصول الدين واعتقادهما عصمة الحجج الطاهرين ، وبذل جهدهم في إحياء مراسم شريعة سيّد المرسلين شكر الله مساعيهم أجمعين ) .. إلى آخر كلامه ، زيد في إكرامه.

وهو صريح الدلالة فيما قلناه ، بل صرّحتم به أيضاً في الردّ على بعض الفضلاء ، حيث عبّر بـ ( ذهب الأُصوليّون والمحدّثون الأخباريّون ) ، فقلتم : لا يخفى فسادُ تعبيره بـ ( ذهب ) هنا وغرابته ؛ إذ الفريقان المذكوران نفس مجموع الطائفة الناجية ، وهذا الملفوظ ومثله أنّما يقال على البعض إيذاناً بمخالفته كثرةً أو شهرةً ، كما لا يخفى على مَنْ له أدنى اتّصال بالسنة أُولئك الأبدال ، وإنْ أفضى والعياذ بالله إلى ذلك.

فإنْ كان المكلّف له قوّة الاستنباط وجب عليه طلب العلم و [ العمل (١) ] بما علّمه الله بواسطة الراسخين في العلم من أهل البيت ، من أخبارهم وآثارهم ومواضع تسديداتهم ؛ لقوله تعالى ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (٢) ، وقوله عليه‌السلام : « ما من مؤمن حبّنا » إلى آخر ما تقدّم ويأتي ، وإلّا طلبَ عالماً يوثقُ بدينه وأمانته ويظهر فيه أخلاق أئمّته ، مستجمعاً لما يأتي أخيراً ، فإنّ النائب لا بدّ له من المناسبة مع المنوب

__________________

(١) في المخطوط : ( عمل ) ، وما أثبتناه أنسب للسياق.

(٢) العنكبوت : ٦٩.

١٤٤

عنه في العلم والعمل ، فيأخذ عنه لوساطته عن إمامه ، لما رواه أبو عليّ بن راشد عن الباقر عليه‌السلام ، قال : قلتُ له : إنّ مواليك اختلفوا فأُصلّي خلفهم جميعاً؟ فقال : « لا تصلِّ إلّا خلف مَنْ تثق بدينه وأمانته » (١).

فإنْ اشتبه حال العلماء تتبّع آثارهم وتفحّص عن أخبارهم ، فإذا تفحّص وبذل مجهوده هداه الله إلى عالِمٍ مستقيم قد رضي‌الله‌عنه وجعله حاكماً من قبل حجّته وخلفائه لوعده بالهداية ، وأنّ الله لا يضيع عباده ويتركهم سدى ؛ وذلك لما تقرّر من أنّه لا يجوز خلوّ زمن الغيبة عن الحجّة ؛ للأحاديث الكثيرة الدالّة على أنّه لا بدّ في كلّ زمان من عالم يكون حجّة على الخلق ، بل نقل الشيخ سليمان الماحوزي رحمه‌الله عن بعض الفضلاء أنّه لا يبعد تواترها.

ومنها : ما رواه ثقة الإسلام في ( الكافي ) عن أَبي البختري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إنّ العلماء ورثة الأنبياء إلى أنْ قال فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين » (٢).

ومثله روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بإبدال : « يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدول » (٣).

فإنْ فُرضَ عدم الثقة العدل وجب الرجوع إلى الميّت ، وعدم جواز تقليده ممنوعٌ ، والكلام فيه مشهور ، ودليل المنع ضعيف.

ولو فُرضَ عدم وجود العدل في الأموات والعياذ بالله فالظاهر من الأخبار كما رواه الشيخ في ( التهذيب ) في الصحيح عن عبد الله بن سنان ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إنّ الله فرض من الصلاة الركوع والسجود ، ألا ترى لو أنّ رجلاً دخل في الإسلام لا يحسن أنْ يقرأ القرآن أجزأه أنْ يسبّح ويصلّي » (٤). كفاية الاقتصار على الضروري ، بل الضروري منه كما قيل ، ولا يسقط التكليف للعقل والنقل.

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٦٦ / ٧٥٥ ، الوسائل ٨ : ٣٠٩ ، أبواب صلاة الجماعة ، ب ١٠ ، ح ٢.

(٢) الكافي ١ : ٣٢ / ٢.

(٣) التفسير المنسوب للإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٧ / ٢١ ، البحار ٢٧ : ٢٢٢ / ١١.

(٤) التهذيب ٢ : ١٤٧ / ٥٧٥.

١٤٥

أمّا الأوّل ؛ فلقيام الدليل والبرهان على وجود حجّة الرحمن ، وهو مستلزم لوجود التكليف في هذه الأزمان ، ولما صحّ من أنّ « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (١) ، ولاستلزامه إهمال الأُمّة المخلّ بالحكمة.

وأمّا الثاني ؛ فلقوله تعالى ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ ) (٢) ، ولقوله في عدّة آيات ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (٣) ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (٤) إلى غير ذلك من الآيات. والخطاب عامّ للمكلّفين ممَّنْ مضى ومن هو آتٍ.

ويظهر من تقرير بعض العلماء سقوط التكليف مع عدم المجتهد ؛ لكونه مشروطاً بالعلم ، ويكون الناس مخاطبين حينئذ بتحصيل العلوم ؛ بناءً على جواز خلوّ زمن الغيبة عن مجتهد ، كما هو أحد القولين في المسألة ، وإذ انجرّ البحث إليها فلا بأس بالخوض فيها ، فنقول :

قد وقع بين الأُصوليّين الخلاف الذي هو في عدم الثمرة عند التحقيق كالخِلَاف (٥) في أنّه هل يجوز خلوّ زمن الغيبة عن مجتهد أو لا؟.

فقيل بعدم جوازه ، ونقل عن شهيد ( الذكرى ) (٦) ، وبه قال جماعة من الحنابلة (٧) ، وقيل بجوازه (٨) ، ونقل عن ظاهر العلّامة في ( نهاية الأُصول ) ، وبه قال جماعة من الشافعية (٩).

احتجّ المانعون بالخبرين المتقدّمين (١٠) وبلزوم ارتفاع التكليف ، أو تكليف ما لا يطاق ، وفسق جميع الأُمّة لإخلالهم بالواجب الكفائي وهو الاجتهاد.

واحتجّ المجوّزون بما روته العامّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ، ولكن يقبض العلماء ، حتى إذا لم يُبقِ [ عالماً (١١) ] اتّخذ الناس رؤساءً جهّالاً ، فسُئلوا فأفتوا الناس

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٨ / ١٩ ، وفيه زيادة : « أبداً ». (٢) الذاريات : ٥٦.

(٣) البقرة : ٤٣ ، ١١٠. (٤) آل عمران : ٩٧.

(٥) الخِلَاف : الصَّفصَاف. لسان العرب ٤ : ١٩٢ خلف. (٦) الذكرى : ٣.

(٧) الإحكام في أُصول الأحكام الآمدي ٤ : ٤٥٥. (٨) الإحكام في أُصول الأحكام ٤ : ٤٥٥.

(٩) المستصفى في علم الأُصول : ٣٧٣.

(١٠) انظر ص ١٤٥ ، هامش ٢ ، ٣.

(١١) في المخطوط : ( علم ) ، وما أثبتناه من المصدر.

١٤٦

بغير علم ، فضلّوا وأضلّوا » (١).

ومثله ما في ( الكافي ) عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « إنّ الله لا يقبض العلم بعد ما يهبطه ، ولكن يموت العالم فيذهب بما يعلم ، فتليهم الجفاة ، فيضلّون ويضلّون » (٢).

وأجابوا عن حجّة المانعين بأنّ أقصى دلالة الخبرين وجود مطلق العالم ، ولا دلالة له على وجود المجتهد بالمعنى المصطلح ، ولا دلالة للعامّ على الخاصّ ، بل ظاهرهما إرادة المعصوم ، وليس في محلّ النزاع. وبأنّ لزوم ارتفاع التكليف أو تكليف ما لا يطاق أنّما يتّجه على القول بعدم جواز تقليد الأموات ، وأمّا على القول بجوازه فلا ، على أنّا لا نسلّم بطلان ارتفاع التكليف مع عدم شرائطه مع وقوعه في كثير من الأحكام ، كإقامة الحدود والجهاد حال الغيبة. وبأنّ هذين الأمرين واردان عليهم أيضاً مع وجود المجتهد بعين ما ذكروا ، كما في حال المكلّفين النائين في وقت التكليف بالعبادة المؤقّتة ، بحيث لو سعى إليها وتعلّم أحكامها فاتت.

فإنْ أجابوهم بالتزام ارتفاع التكليف ؛ لكونه مشروطاً بالعلم ، فهو جوابنا ، فنقول : مع فقد المجتهد يرتفع التكليف ، ويكون الناس مخاطبين بتحصيل العلوم ، وبأنّ لزوم الفسق ممنوعٌ ؛ لأنّ الواجب عليهم حينئذ أنّما هو السعي والاشتغال بتحصيل شرائط الاجتهاد ، وبأنّ العلّامة صرّح بأنّ ترك الواجب الكفائي قد لا يتعقّبه إثم ، كما لو ظنّت طائفة قيام الأُخرى به (٣).

وللنظر في دليل كلا الفريقين مجالٌ ، والله العالم بحقيقة الحال.

__________________

(١) صحيح مسلم ٤ : ١٦٣٤ / ٢٦٧٣ ، كنز العمال ١٠ : ١٨٧ / ٢٨٩٨١. باختلاف.

(٢) الكافي ١ : ٣٨ / ٥.

(٣) مبادئ الوصول إلى علم الأُصول : ١٠٦.

١٤٧

الإجماع

قال مدّ الله عليه ظلاله ، وبلّغه آماله ـ : ( مسألة : قد اضطرب الأمر بين الفريقين في معنى الإجماع بجميع شقوقه ، احتجّ القائلون بحجّيّته بما تضمّنته رواية ابن حنظلة (١) ، وربّما ادّعي غيرها ، إلّا إنّه غير واضح في مقام التكافؤ.

واحتجّ المانعون بعدم دلالة الرواية ، ومصادرة بعضه بعضاً ، وكونه قد لا يفيد ظنّاً فضلاً عن العلم ؛ لأنّه إنْ لم يكن قطعيّاً لم يكن دليلاً. وللشيخ حسن في معالمه (٢) عبارة مفادها إبطاله رأساً ، إلّا إنّ في آخرها ما يدلّ على قبوله فيما إذا كان في زمن الشيخ ، وجرى على ذلك الشيخ يوسف في حدائقه (٣) ، مع اشتراطهما حصر الحديث في عدد معيّن ، بمعنى أنّه لا يظنّ سوى ذلك المحصور ، وفيما قالاه نظر ؛ للاحتمال الذي فرّا منه ، مع أنّه لا يفيد العلم كما لا يخفى لعدم الشرط ، وقد تقدّم ذكره ، فما القول فيه بجميع شقوقه؟ وما المقبول منها؟ وما المردود؟ ).

الجواب ـ ومن الله نيل الصواب ـ : الكلام هنا يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في تعريفه وبيان ما اشتق منه ، وإمكان وقوعه وإمكان العلم به ، وحجّيّته ، ووجه حجّيّته.

والمقام الثاني : في أقسامه السبعة المشهورة وهي : الضروري من المسلمين ،

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ١.

(٢) معالم الأُصول : ٢٤٢.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٣٩.

١٤٨

والضروري من الفرقة المحقّة ، والمشهوري ، والمنقول ، والمحصّل ، والمركّب ، والسكوتي.

المقام الأوّل :

تعريف الإجماع وحجيّته

اعلم أنّ الإجماع لغةً : الاتّفاق والعزم ، ومنه قوله تعالى ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ ) (١) ، واشتقاقه حينئذ ؛ إمّا من جمع أخلاف الناقة : إذا صرّها. أو من قولهم : أمرهم مجمعٌ : أي مستورٌ. أو من الجمع : وهو تأليف المتفرّق (٢). ومعناه حينئذ أنّهم ضمّوا آراءهم بعضها إلى بعض ، أو تستّروا في جمع آرائهم عمّا ينقضها ، أو ألّفوا آراءهم.

واشتقاق الأوّل ؛ إمّا من الجمع : وهو تأليف المتفرّق كالثاني ، أو من ( أُجمع ) إذا صار ذا جمع كألبن وأُتمر وأُلحم : إذا صار ذا لبن وتمر ولحم ، ثم نقل اصطلاحاً إلى اتّفاق خاصّ ، وهو الاتّفاق الكاشف عن قول المعصوم عليه‌السلام.

وللقوم في تعريفه عبارات كثيرة لا محصّل في إيرادها.

إمكان العلم بالإجماع

واختلف علماء الفريقين من الطريقين في إمكان العلم به وإمكان وقوعه وحجّيّته على أقوال :

فبعضٌ قال بالثلاثة معاً ، وأحال بعضٌ العلم به مع تجويز وقوعه ، وبعض نفى الحجّيّة مع إمكان وقوعه والعلم به ، كذا نقل الشيخ حسن في ( المعالم ) (٣) ولم يعزه إلى أحد. ولا يخفى عدم الفائدة في وقوعه والعلم به مع عدم حجّيّته ؛ إذ الفائدة منوطة بها.

__________________

(١) يونس : ٧١.

(٢) انظر : القاموس المحيط ٣ : ٢٢ باب العين / فصل الجيم.

(٣) معالم الأُصول : ٢٣٩ ٢٤٠.

١٤٩

ثمّ اختلف مَنْ قال بالحجّيّة من الفرقة الإماميّة الاثني عشرية ، فبعضٌ خصّه بالزمن السالف إلى زمن الشيخ الطوسي وبعضٌ أطلق.

احتج مَنْ قال بعدم إمكان العلم به بانتشار العلماء في أقطار البلاد وتفرّقهم شرقاً وغرباً ، والعلم بإجماع المجتهدين على أمر لا يمكن إلّا بعد معرفتهم ومعرفة أنّ إفتاءهم بذلك الحكم عن صميم القلب ، ومعرفة هذه الأُمور متعذّرة.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ كلًّا من علماء الشرق والغرب لا يعرف الآخر ولا فتواه ؛ لجواز خمول أحدهم بحيث لا يعرف ، وجواز كون أحد منهم في مطمورة لا علم لأحد به.

وأمّا الآخر ؛ فلجواز إفتائه بغير معتقده للتقيّة أو رجوعه عن ذلك الفتوى ، أو غيرهما. نعم ، يمكن ذلك في عصر الشارع لقلّتهم.

وردّ بحصول العلم بديهةً بأنّ مذهب علماء الإسلام وجوب الصلاة والزكاة والخمس على مَنْ وجبت عليه ، ووجوب صوم شهر رمضان ، وبأنّ مذهب علماء الإماميّة الإجماع على جواز المتعتين ، وعدم جواز غسل الرجلين ، فكيف لا يمكن حصول اليقين بالنظر مع حصول العلم بمذهبهم بديهة مع تأخّر البداهة عن النظر؟!.

وأُجيب بأنّ حصول العلم في بعضٍ كالضروري لا يستلزم حصول العلم في غيره كسائر المذاهب والفتاوى.

وردّ بأنّ الطالب إذا أعطى التأمّل حقّه وفتّش كمال التفتيش واستفرغ الوسع والطاقة لا بدّ أنْ يحصل له العلم إنْ لم يكن التفصيلي فالإجمالي ؛ لقوله تعالى ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (١).

واحتجّ مَنْ قال بإمكان العلم به بأنّ الاحتياج إلى معرفة كلّ أقوال مَنْ يُعتبر قولهم أنّما يتمشّى على مذهب أهل الخلاف ، وأمّا على مذهبنا من إناطة الحجّيّة بمذهب الحجّة عليه‌السلام ، فلا يحتاج فيه إلى الإحاطة بمذهب مَنْ يُعتبر قولهم كلّهم ومعرفةِ أنّ ما أفتوا به عن صميم قلوبهم ؛ لكون ديننا دين الله الذي لا يطفأ نوره ولا يرتفع عن أهله ؛

__________________

(١) العنكبوت : ٦٩.

١٥٠

لأنّ حافظ الشرع قد وضع بإزاء كلّ شي‌ء دليلاً يبيّنه من صحّة أو فساد ، وأمارة موصلة لما فيه الرشاد.

فمتى استفرغ مَنْ له أهليّة الاستنباط الوسع في تحصيل معرفة حكم الإمام وقع عليه وعرف قوله وحكمه ؛ لأنّ الطالب متى طلب الحكم من النحو الذي أُمر بطلبه منه وجَده.

فإنْ قيل : لا نسلّم أنّ الطالب متى طلب الحكم وجده ؛ لأنّه لو كان كذلك لما وقع الخطأ من أحد من أهل الاستنباط ، ولكنّكم لا تقولون به.

قيل : إنّا لا نقول : إنّ كلّ الأحكام يقينيّة حتى يتحقّق في كلّ منها الإجماع ، بل فيها الخلافيّة وعلامتها تكافؤ الأدلّة ، ولا يكون الرجحان فيها مانعاً من النقيض ، بل فيها ما يحصل به حكم لشخصٍ ونقيضه لآخر ، واليقينيّة لا بدّ من حصول شرط اليقين ، ولا علامة لأحدهما إلّا حصوله من دليل ظنّي أو يقيني ، والواقع لا يخلو منهما ، وكلّ منهما حيث ما طلب وجد ، ولا يجوز الخطأ فيما يحصل من الإجماع.

نعم ، ما يحصل من الإجماع المحصّل الخاصّ بمحصّله يجوز فيه ؛ لعدم عموم حجّيّته كما سيأتي في محلّه ، ولهذا جاز لمَنْ لم يحصّله مخالفته مع ظهور دليل من خارج.

والخلافيّة منها ما سبيله التوقّف وحكمه الاحتياط ، ومنها ما يبلغ تكافؤه حتى يحصل منه إجماع مركّب.

وممّا يحتجّ به لإمكان العمل به حصول القطع في بعض الأحكام مع مخالفة بعض الأخبار لها وإنْ كان فيها نصّ ، إلّا إنّه لا يحصل منه القطع لوجوده على نقيضه إلّا إذا عرف بدليل خارجي أنّ ما حكم به حكم الإمام عليه‌السلام.

فإذا حصل القطع مع وجود المخالف عن نصّ للأمارات الدالّة على أنّ ذلك مذهب الإمام عليه‌السلام ، حصل العلم بالإجماع ، على أنّا لا نعمل بمجرّد وجود حديث واحد ، بل لا بدّ من الترجيح بأمارة من خارج ، مَعَ أنّا لا نحيط بجميع ما ورد

١٥١

عنهم عليهم‌السلام ، ولا يجوز لنا العمل ببعض دون بعض ، فإنْ جوّزناه وكان عامّاً أو مطلقاً أو مجملاً أو متشابهاً ، ولم نحتج إلى الاطلاع على المخصّص أو المقيّد أو المفصّل أو المحكم وجدت أم لا ، كفانا أحد الكتب من غير نظر وترجيح واستنباط وتصحيح ، ولا نقول به. وإنْ قلنا بلابديّة تحصيل كلّ منها لصاحبه وجب علينا تحصيل كلّ ما خرج عنهم ، وإلّا امتنع وهو غير ممكن.

فحيث قلنا بكفاية ما قدرنا على تحصيله ولم يلزمنا الفحص عن جميع ما ورد عنهم عليهم‌السلام وعرفنا به مذهب الإمام عليه‌السلام كان علينا تجويز هذا المعنى ؛ لأنّا نعرف حكم الإمام عليه‌السلام مع وجود المخالف من الأخبار ، مع أنّا لا نشترط ضبط جميع الألسنة ، بل مَنْ يعتبر قولهم.

فتبيّن بهذا إمكان معرفة مذهب الإمام في جملة أقوال المجمعين المعتبرين وإنْ لم نُحِطْ بهم ؛ لما تقرّر من أنّ قول مَنْ يعتبر قوله إنْ لم يظهر حكم بفساده ؛ لبطلان القول بالانقراض. وهذا بحمد الله ظاهر لمَنْ كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيدٌ ، ولم يتّبع وساوس الشيطان المريد.

عدم إمكان وقوع الإجماع

واحتج مَنْ قال بعدم إمكان وقوعه بأنّ الاتّفاق ؛ إمّا عن قطعيّ أو ظنيّ ، وكلاهما باطل.

أمّا الأوّل ؛ فلاقتضاء العادة نقله إلينا ؛ لأنّه ممّا تتوفّر الدواعي على نقله ، ولو وجد لنقل ، وليس فليس ، ولو نقل لأغنى عن الإجماع.

وردّ بمنع حكم العادة بنقل القطع إذا أغنى عنه ما هو أقوى منه ، وهو الإجماع ، وقولهم : ( ولو نقل لأغنى عن الإجماع ) غير مسلّم ؛ لتعدّد الفائدة في تعدّد الأدلّة ، سيّما إذا تفاوتت القطعيّات في مراتب القطع.

وأمّا الثاني ؛ فلقضاء العادة بامتناع الاتّفاق عليه ، لاختلاف الدواعي والطبائع والطباع ؛ وذلك كاتّفاقهم على أكل الزبيب ولبس الكتان في زمن واحد ، والجماع أوّل

١٥٢

ليلة من شهر رمضان ، وهو معلوم الانتفاء مع صلوحه لهم في كلّ حال ، فاتّفاقهم على قول واحد بطريق أوْلى.

وردّ بمنع استحالة الاتّفاق على الظنّ ، سيّما إذا كان جليّا واضح الدلالة معلوم الحجّيّة ، ولا نسلّم صلاحيّة الطعام الواحد لهم في كلّ حال ؛ لاختلاف الأبدان والفصول والبلدان ، ولأنّ أكل الشي‌ء الواحد في وقت واحد لا مصلحة فيه ، ولاختلاف الشهوات والدواعي ، وعروض بعض الموانع في ذلك الوقت لبعض دون آخر. بخلاف الاتّفاق على حكم واحد ، فإنّه ليس فيه شي‌ء من موانع الأكل ؛ لأنّه حكم طبيعة واضطرار ، ومسألة الإجماع حكم شريعة واختيار ، فيجوز صلاحيّته لهم وإرادتهم له في كلّ حال ، على أنّ حكمهم ليس دائراً مدار الشهوات ، وإنّما هو دائر مدار أمر الشارع.

إمكان وقوع الإجماع

واحتجّ مَنْ قال بإمكان وقوعه بأنّ دواعي مَنْ يُعتبر قولهم لا تختلف ؛ لأنّهم طالبون للحقّ وهو واحدٌ لا يختلف ، وأمّا ما ذكروه من اختلاف الطبائع والأمزجة والأهوية فهو وإنْ أثّر إلّا إنّه ضعيفٌ بالنسبة إلى الردّ إلى مؤسّس الشرع ؛ لأنّهم إنّما ينظرون في كلام الحكيم الذي لا يختلف في نفس الأمر وإنْ اختلف ظاهراً ؛ لأنّ الحكيم كما أظهر الاختلاف أسّس طريق الائتلاف.

وقد تقرّر أنّ مَنْ يُعتبر قوله لا يقول على الله إلّا الحقّ ، ولا يقول على الله ما لا يعلم ، ولا يؤوِّل الأخبار بمقتضى رأيه ومراده ، فإذا كان كذلك كان هذا الاختلاف غير مؤثِّر مع ضعفه في تفريق الحقّ مع قوته وإحكامِ طريقته.

ولا شكّ أنّ مَنْ بنى وقوع الإجماع على طريقة المخالفين لم يتحقّق ؛ لأنّه على زعمهم لا يحصل إلّا باتّفاق آراء جميع مجتهدي العصر ، وأمّا على طريقتنا فهو سهل المأخذ ؛ لما تقرّر من أنّه لا بدّ من إمام معصوم حافظ للشريعة لئلّا يرتفع الحقّ عن أهله ، فإنْ زاد المؤمنون ردَّهم ، وإنْ نقصوا أتمّه لهم ، فيقرّ مصيبهم ويردّ

١٥٣

المخطئ منهم ، وإلّا لانتفت فائدة البقاء ، مع أنّ الاتّفاق قد يحصل مع تفرّق الأبدان ، وقد يمتنع مع اجتماعها.

حجيّة الإجماع

وممّا يدلّ على إمكان الثلاثة إجمالاً أنّه إذا تقرّرت حجّيّته لزم دوامها لإناطة الاستدلال به بهذه الثلاثة ، فإذا لم يمكن حصولها فأيّ فائدة في حجّيّته ، وأيّ مزية لذكرهم له في حجج الفقه وأدلّته ، فما هو حينئذٍ إلّا كالمحال والمعدوم اللذين لا يرجوهما ذوو الحلوم ، كما لا يخفى على مَنْ نفث في روعه فانبث فيه أنهار العلوم. فيلزم منه نسبة الأئمّة والعلماء الأبدال إلى ارتكاب العبث لعدّهم من جملة الأدلّة المحال ، وهو من البطلان بمكان لا يجهله إلّا مَنْ لم يصلح الله له البال ، ولم يرتضع من ثدي العلم المثقال.

واحتجّ القائلون بعدم الحجّيّة من المخالفين (١) كإبراهيم النظام وجعفر بن حرب وجعفر ابن مبشّر بآيات :

منها : قوله تعالى ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) (٢) ، وقد استدلّ بعضهم أيضاً بها على الحجّيّة من جهة العقل.

ووجه استدلالهم على الحجّيّة : أنّه يفهم منه عدم وجوب الردّ مع الاتّفاق.

وردّ بوجوه ، منها : أنّ ما يرتفع به النزاع لا بدّ أنْ يكون مردوداً إلى الكتاب والسنّة ؛ لأنّهم لا يجمعون إلّا عن دليل ، وهو إمّا من الكتاب أو السنّة.

ووجه استدلالهم على عدمها : أنّ المفهوم منها أنّ المرجع أنّما هو الكتاب والسنّة.

وأُجيب بأنّ الآية لا تدلّ على حصر الدلالة فيهما ، وأيضاً فإنّ المجمع عليه لا تنازع فيه.

وقوله تعالى ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ ) (٣).

__________________

(١) انظر : القوانين : ١٧٩.

(٢) النساء : ٥٩.

(٣) النحل : ٨٩.

١٥٤

وأُجيب بأنّ تبيانيّته لا تمنع من تبيانيّة غيره ، مع أنّ هذا لا يختصّ بالإجماع ، بل بالسنّة أيضاً.

وأمّا المانعون منّا فقالوا أيضاً : لا حجّة إلّا في الكتاب والسنّة ، وأمّا الإجماع فشي‌ءٌ وضعته العامّة لمعارضته الكتاب والسنّة وإنْ استدلّوا على إثباته وحجّيّته بهما ، واحتجّوا على عدم الحجّيّة بوجوه :

الأوّل : ما تضمّنته عبارة السؤال من كونه قد لا يفيد ظنّاً فضلاً عن العلم ؛ لأنّه إن لم يكن قطعيّاً لم يكن دليلاً.

وأُجيب بأنّه إذا كان مناط الحجّيّة هو قول الإمام المعصوم عليه‌السلام فهو كالخبر ، فكما تقولون بقطعيّة دلالة الخبر يلزمكم أنْ تقولوا بقطعيّة دلالة الإجماع ، وسيجي‌ء أنّ دلالة الإجماع عند بعض أقوى من دلالة الخبر ؛ لقطعيّته وظنّيّة الخبر.

الثاني : ما تضمّنته عبارة السؤال أيضاً ـ : من مصادرة بعضه بعضاً ، فإنّ الشيخ والسيّد قد يدّعيان الإجماع على حكم ويخالفانه ، بل قد يدّعيانه على خلافه أيضاً.

وأُجيب بأنّ مخالفة ما يدّعى من الإجماع بحكم أو إجماع أنّما يكون لوجهين :

أحدهما : كون الإجماع منقولاً ، ولم يظهر الدليل الجازم على انحصار الحقّ فيه ، ولم يكن عنده مانع من النقيض ، فظهر له في وقت رجحان دليل حكم مطابق للإجماع المنقول ، فأيّد ذلك الدليل بنقل الإجماع ؛ لأنّه كالخبر ، بل أزيد كما قيل. وفي وقت آخر ظهر له دليل عكس ما قال سابقاً وهو مطابق لإجماع منقول غير الأوّل ، فأيّده بنقل ذلك الإجماع ولم يكن عنده مانع من النقيض وقد يكون.

فإنْ قيل : قد قلتم : إنّ النقل يشترط فيه الاطّلاع الابتدائي (١) ، وإذا كان الحال هذه امتنع النقلان أو أحدهما ، لامتناع اتّفاقين مختلفين.

قلنا : إنّا نقول بجواز النقلين المختلفين ؛ لاحتمال المحصّل الخاصّ في كليهما أو في أحدهما ، والإجماعات المحصّلة الخاصّة لا يشترط في تحقّقها الاتّفاق ليقع

__________________

(١) الاطّلاع الابتدائي : أن ينقل بداية أصل الإجماع من الزمن السابق إلى الزمن اللاحق. ( منه ).

١٥٥

التدافع ، فيجوز أنْ تكون تلك الإجماعات إجماعات محصّلة خاصّة بمحصّلها ، وهي تختلف باختلاف الأوقات في المسائل المتعدّدة ، بل في المسألة الواحدة في وقتين.

وقد يكون الإجماعان المختلفان ليسا محصّلين ، بل أحدهما مشهور والآخر محصّلٌ أو منقول وبالعكس ، ولم يثبت المحصَّل اسم مفعول عند غير المحصِّل اسم فاعل ولم يثبت المنقول عند غير المحتجّ به ، ولا ضير على مدّعي الإجماع مع وجود المخالف ، بل قد يدّعى على خلاف المشهور ، كما هو معروفٌ من كثير من آثارهم من دعوى الإجماع مع وجود المخالف إذا قام الدليل القاطع على المدّعى.

وثانيهما : أنْ يوجد قولان وهناك خبران متعارضان يجوز العمل بأيّهما من باب التسليم ، فيصحّ ادّعاء الإجماع على كلّ من القولين المستندين إلى الخبرين المتعارضين ، فيعني بإجماعه الأوّل إجماعاً مشهوراً بين جماعة عملت بأحد الخبرين ، وبالثاني إجماعاً مشهوراً بين جماعة أُخرى عملت بالثاني ، ولا ضير في ذلك ؛ لأنّ أحد الخبرين يجوز العمل به لكونه حكم الله الواقعي ، والآخر يجوز العمل به رخصة وإنْ لم يوافق الحكم الواقعي.

ويدلّ على ذلك أنّك لا ترى إجماعين مختلفين إلّا وهناك خبران مختلفان يدلّ كلّ منهما على كلّ منهما غالباً ، ولعلّ خلاف الغالب لعدم الوجدان لا الوجود. وحينئذ لا تناقض ، وإنّما يكون تناقضاً لو قلنا : إنّ مدلول كلّ من الخبرين هو الحكم الواقعي ، ولكنّا لا نقول به ، بل يكفي في جواز العمل بالأخبار كما قالوه ؛ إمّا الحكم بكون مدلول الخبر موافقاً لحكم الله في الواقع ، أو العلم بوروده عنهم عليهم‌السلام ، سواء علم موافقته للحكم الواقعي أم لا.

قال بعض العلماء : ( ويعلم موافقته للحكم الواقعي بكونه مجمعاً عليه أو مخالفاً لما عليه العامّة ). انتهى.

واعتذر شهيد ( الذكرى ) على ما نقل عنه فيها عن اختلاف الإجماعات

١٥٦

باحتمال تسميتهم المشهور إجماعاً ، أو عدم الظفر بالمخالف حين دعوى الإجماع ، أو بتأويل الخلاف على وجه يمكن مجامعته دعوى الإجماع وإنْ بعد ، أو إرادتهم الإجماع على روايته بمعنى تدوينه في كتبهم منسوباً لأئمّتهم (١).

أقولُ : في الاعتذار باحتمال تسميتهم المشهور إجماعاً أو عدم الظفر بالمخالف نظرٌ ؛ لأنّ الأول يفضي إلى كون اعتمادهم على مجرّد الشهرة لا غير ، وهم إنّما يريدون به ما يتحقّق باتّفاق جماعة يعلم دخول قول المعصوم في قولهم قطعاً.

ولأنّ الثاني ليس على ما ينبغي ، فإنّه قد يكشف عن دخول المعصوم فيتحقّق الإجماع حينئذ ، وما قاله وإن أمكن في بعض الأفراد لكن لا يحمل عليه ما هو كثير الوقوع ، فالأوْلى حمله على ما مرّ قريباً ، فليلاحظ.

ونقل فقيه ( الحدائق ) عن المحدّث السيّد نعمة الله الجزائري عن بعض مشايخه وجه العذر عن اختلافهم في الإجماعات بما ملخّصه :

( أنّ الأُصول التي كان عليها المدار كانت بأيديهم ، وإنّما حدث فيها التلف من زمن ابن إدريس ، وكانوا بملاحظة ما اشتمل عليه جميعها أو أكثرها من الأحكام يدّعون عليه الإجماع.

وربّما اختلفت الأخبار في ذلك الحكم بالتقيّة وعدمها والجواز والكراهة ، فيدّعي كلّ منهم الإجماع على ما يؤدّي إليه نظره وفهمه من تلك الأخبار بعد اشتمال أكثر تلك الأُصول أو كلّها على الأخبار المتعلّقة بما يختاره ويؤدّي إليه نظره ) (٢). انتهى.

والحاصل : أنّ هذا الاختلاف لا يضرّ ، فإنّ الخبر أكثر اختلافاً منه ، فلمّا لم يضرّ اختلاف الأخبار وتعارضها بالعمل بها وحجّيّتها ، كذلك لا يضرّ بالإجماع وحجّيّته تعارضه في بعض الأوقات ، إذ الظاهر أنّ اختلاف الإجماعات ناشئ من اختلاف الأخبار ، فاعتبروا يا أُولي الأبصار.

الثالث : أنّ السيّد المرتضى نقل الإجماع على تسع مسائل ولا قائل بها غيره.

__________________

(١) الذكرى : ٤.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٣٩ ٤٠.

١٥٧

وأُجيب بأنّ عدم العلم بوجدان القائل من القدماء لا يدلّ على عدم وجود القائل بها منهم ، وأيضاً فمن أين صحّ العلم بعدم القائل ؛ لانتشار العلماء في ذلك الزمان أيّ انتشار في جميع الأمصار والأقطار.

فقول السيّد في هذه التسع إنْ كان حقّا فلا بدّ من قائل بها قبله ، إلّا أنْ يكون في واقعة متجدّدة لم تقع قبل ، ولا بدّ من قائل بها بعده لئلّا يرتفع الحقّ في زمان التكليف عن أهله ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تزال طائفة من أُمّتي على الحقّ حتى تقوم الساعة » (١).

ومن هذه التسع حكمه بوجوب رفع اليدين عند التكبير كما هو المنقول عن كتابه ( الانتصار ) الموضوع في متفرّدات الإماميّة ، وصورة عبارته المنقولة هكذا : ( وممّا انفردت به الإماميّة القول بوجوب رفع اليدين في كلّ تكبيرات الصلاة ) (٢). انتهى.

فيحتمل عدم إرادة الإجماع ، بل المراد أنّ فيهم مَنْ قال بذلك وإنْ كان واحداً ، ولم يقل بذلك أحدٌ من الجماعة ، وهذا لا يدلّ على الإجماع ، ويحتمل إرادة عدم الظفر بالمخالف ، فإنّه قد يكشف عن قول المعصوم فيتحقّق الإجماع ، أو أراد الإجماع على الرواية المتضمّنة لتلك الأحكام ، أو لعلّ الخلاف يرجع إلى وجه يمكن مجامعته لدعوى الإجماع فإنّ من هذه التسع حكمه بوجوب رفع اليدين عند التكبير ، ويحتمل إرادة المعنى اللغويّ من الوجوب وهو الثبوت ، لا أحد الأحكام الخمسة.

وقد وفّق الله للوقوف على هذا الكتاب المستطاب بعد أنْ كمل هذا الجواب بمدّة تقرب من سنة ببركة محمّد وآله الأطياب ، فرأيت أنّ طريق إجماعاته في هذا الكتاب ليس على المصطلح عليه من الأصحاب ، فإنّه جعل ما انفردت به الإماميّة أو شاركت فيه غيرها من الإجماع ، قال في ديباجته : ( وممّا يجب علمه أنّ حجّة الشيعة الإماميّة في جميع ما انفردت به أو شاركت فيه غيرها من الفقهاء من إجماعها عليه ؛

__________________

(١) غوالي اللئلئ ٤ : ٦٢ / ١٣ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥ / ١٠.

(٢) الانتصار : ١٤٧.

١٥٨

لأنّ إجماعها حجّة قاطعة ) (١).

فظاهر كلامه أنْ لو انفردت الشيعة أو بعضهم بقول كان الانفراد من الإجماع ، وحيث كان السيّد رحمه‌الله قريب العهد من عصر أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام وشاهد كثيراً من العلماء الأعلام مع كثرة تتبّعه واطّلاعه ، فلا غرو في ادّعائه الإجماع وإنْ لم يعثر المتأخّرون على قائل سواه ، على أنّه قد صرّح في بحث هذه المسألة بأنّ ما ادّعاه من الإجماع ليس على ما هو المصطلح عليه ، حيث قال : ( والحجّة فيما ذهبنا إليه طريقة الإجماع ) (٢). انتهى.

وقد عرفت ممّا تقدّم أنّ طريقه هو النفي في أقوال العامّة ، حيث قال بعد ما قدّمنا نقله من قوله : وممّا انفردت .. إلى آخره ـ : ( لأنّ أبا حنيفة وأصحابه والثوري لا يرون رفع اليدين بالتكبير إلّا في الافتتاح للصلاة. وروى عن مالك أنّه قال : لا أعرف رفع اليدين في شي‌ء من تكبيرات الصلاة (٣) ) (٤).

فهذا يدلّ على أنّ الإماميّة قائلون بثبوت التكبير والعامّة ينفونه ، وكون الوجوب بمعنى الثبوت في كلامهم غير عزيز.

وقد قال بعض الأفاضل : ( إنّ أقوال السيّد التي لم يقل بها الشيخ كانت مهجورةً وإن كانت قبلُ متداولةً مشهورة ، ولا يبعد أنْ تكون هذه التسع منها ). انتهى.

ويناقش فيه ببطلان القول بالانقراض ، فيكون عدم القائل بها دليلاً على بطلان ذلك الإجماع ، وأنّ أقوالهم ليست حقّا ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تزال طائفة من أُمّتي على الحقّ حتى تقوم الساعة » (٥).

بل الوجه أنّ السيّد أنّما ادّعى الإجماع المحصّل الخاصّ ، وسيأتي أنّه ليس حجّة إلّا على محصِّله ، فدعوى السيّد الإجماع حقّ في حقّه وإنْ بطل فيما يعلم الله ، والتكليف أنّما هو منوط بالظاهر لا الباطن ؛ وذلك أنّ دخول قول المعصوم في جملة

__________________

(١) الانتصار : ٨١.

(٢) الانتصار : ١٤٨.

(٣) المحلّى ٤ : ٨٧.

(٤) الانتصار : ١٤٧ ١٤٨.

(٥) غوالي اللئلئ ٤ : ٦٢ / ١٣ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥ / ١.

١٥٩

أقوال من اعتبر قولهم السيّد ؛ إمّا أنْ يكون دخولاً لحكم في واقعة ، أو أنّه قائل بأقرب الأحكام إلى الحكم الواقعي حتى زال أوانه.

الرابع : أنّ اتّفاق الفرقة المحقّة كملاً على حكم من الأحكام متعذّرٌ في نفسه غير معلوم ، واتّفاق جماعة من خواصّ الأئمّة عليهم‌السلام على حكم من الأحكام لا يكون حجّة إلّا إذا علم أنّهم لا يفتون إلّا بسماعٍ من الإمام ، والمعلوم من تتبّع آثارهم استنادهم في الأحكام الشرعيّة إلى الظواهر القرآنيّة ، فيجوز خطؤهم في ذلك لسوء فهمهم ؛ لأنّ زرارة خالف الإمام عليه‌السلام في مسألتين :

الأُولى : أنّ زرارة يعتقد عدم الواسطة بين الإيمان والكفر ؛ لقوله تعالى ( فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) (١) ، والإمام عليه‌السلام مصرّح بثبوت الواسطة بينهما ؛ لقوله تعالى ( خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ) (٢) .. (٣).

والثانية : أنّ زرارة يعتقد حجب الإخوة الأُمّ عمّا زاد عن السدس وإنْ لم يكونوا لأب ؛ لقوله تعالى ( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ) (٤) (٥) ، ولم يعرف اشتراط كونهم لأب.

وأردفوا ذلك بخبر صحيفة الفرائض (٦) التي ادّعى زرارة أنّها باطلة وأنّها خلاف ما عليه الناس ، مع أنّها إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطّ عليّ عليه‌السلام.

قالوا : وهي صريحة في أنّ الإجماع قد لا يطابق قول الإمام عليه‌السلام ، فإنّ قول زرارة فيها نصّ في مخالفتها لما عليه الناس كافّة عامّة وخاصّة.

وأُجيب عن قولهم : ( إنّ اتّفاق الفرقة المحقّة ) .. إلى آخره ، بعدم تعذّره ، إذ كان منشؤه الروايات المتواترة أو المحفوفة بقرائن القطع.

وعن قولهم : ( إنّ اتّفاق جماعة من خواصّ الأئمة عليهم‌السلام ) .. إلى آخره ، بأنّ زرارة وأمثاله كانوا قبل تلامذة الحَكَم بن عُيَيْنَة وغيره من فقهائهم ، وكانت لهم مذاهب

__________________

(١) التغابن : ٢.

(٢) التوبة : ١٠٢.

(٣) الكافي ٢ : ٤٠٣ / ٢.

(٤) النساء : ١١.

(٥) الكافي ٧ : ٩٣ / ٧.

(٦) الكافي ٧ : ٩٤ / ٣.

١٦٠