الرسائل الأحمديّة - ج ٣

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

وتارةً مع ذلك بإضمار وجوب العمل.

وتارةً بهذا مع إبقاء العلم على أصله.

وتارةً بصرف الأحكام عن الواقعيّة إلى الأعمّ منها ومن الظاهريّة.

وتارةً بإضمار لفظ المدلوليّة ، وإبقاء العلم والأحكام على معناهما.

ويرد على الأوّل :

أوّلاً : إنّ إطلاق العلم على الظنّ أو الأعمّ مجاز لا قرينة له سوى مجرّد الشهرة التي لا تكفي في الصرف عن المعنى الحقيقي ولا تعيين المعنى المجازي ، وارتكاب ذلك من أعظم المخالفات ولا سيّما في التعريفات.

وثانياً : إنّ الظنَّ والاعتقاد الراجح كثيراً ما يتخلّفان في الحكم الواقعي ؛ لتطرّق الخطأ فيهما ، فلا يلائمان إبقاء الأحكام على ظاهرها.

وثالثاً : انتقاض التعريف طرداً وعكساً ؛ لدخول ظنّ المقلّد الحاصل من الأدلّة المعهودة ، وخروج القطعيّات النظريّة ؛ لأنّ الاستدلال قد ينتهي إلى حدّ القطع ، ولا أظنُّ أحداً يلتزمه ، والشكّيّاتِ والوهميّات ؛ لأنّ بعض الأدلّة الفقاهتيّة كأصل البراءة والاستصحاب في نفي التكليف أو إثباته ، ونحوهما ممّا يرجع إليه عند عدم الدليل قد لا تفيد الظنّ بالواقع ، مع دخول الأحكام المثبتة بها في الفقه البتّة.

وعلى الثاني :

أوّلاً : ما على الأوّل من فساد الطرد والعكس.

وثانياً : إنّ العلم أو الظنّ بوجوب العمل من مسائل الأُصول لا الفقه ؛ لتفرّعهما على العلم أو الظنِّ بالتكليف والمكلّف به ، وإثباتهما من الأُصول الكلاميّة لا المسائل الفقهيّة.

وثالثاً : إنّه إنْ أُريد من الإضمار أنّ المراد بالحكم ما يجب العمل به ، رجع إلى التصرّف في الأحكام بتأويلها بالظاهرية ؛ إذ ليس المراد بالحكم الظاهري إلّا هذا ، فلا يصلح جعله وجهاً مقابلاً له. وإنْ أُريد أنّ ذلك مدلول لفظ العلم ، فمع ما فيه من

١٠١

التعسّف لا يغني عن التصرّف في الأحكام. وبالتأمّل في ما ذكرنا يعلم ما في الثالث بأدنى ملاحظة.

وعلى الرابع : إنّ العلم بالحكم النفس الأمري من حيث إنّه الحكم النفس الأمري لا يسمّى فقهاً إلّا مع اقترانه بوصف الظاهريّة ، فلا وجه للأعمّيّة.

وعلى الخامس :

أوّلاً : ما في الثالث من التعسّف في العلم.

وثانياً : إنّ العلم بمدلوليّة الأحكام لا يسمّى فقهاً ، إذ هو العلم بنفس المدلولات.

وثالثاً : إنّه مع الغضّ عن ذلك ينتقض الطرد بالمقلّد الممكن في حقّه العلم بمدلوليّة الأحكام للأدلّة ، وبالشكّيّات والوهميّات التي هي مجرى أُصول الفقاهة. والعكس بخروج الظّنيّات ، إذ المفروض البناء على الانسداد الأغلبي ، فكما لا طريق إلى العلم بالأحكام الواقعيّة ، كذا لا طريق إلى الظنّ بها في كثير من المسائل الفروعيّة.

إلّا إنّه لمّا ثبت بقاء التكليف بالأدلّة القطعيّة وجب الأخذ بمقتضيات الأدلّة الشرعيّة لا بشرط المطابقة الواقعيّة ، فإنّ كثيراً من الآيات والأخبار وأصالة البراءة والاستصحاب أنّما تفيد ثبوت الحكم في الظاهر ، مع وجوب البناء على مقتضياتها حتى يتبيّن الخلاف من غير خلاف وإنْ لم يعلم أو يظنّ مطابقتها للواقع ؛ للإذن في ذلك من الشارع.

وحينئذ ، فيلزم خروج مثل هذه الأحكام عن الفقه ، مع أنّ كثيراً من مسائله من هذا القبيل ، وهو خروج عن سواء السبيل ، فلا مناص عن الإشكال إلّا بصرف الأحكام عن الواقعيّة إلى مجرّد الظاهريّة ، ولا ضير فيه ولا عصبيّة.

وإنّ الأحكام المتعلّقة بالوقائع الحادثة على قسمين :

واقعي أوّلي : هو المكلّف به أوّلاً لولا طروّ الجهل المانع من التكليف به ، وهو ما جعله الشارع على وفق الصفات الكامنة والمصالح الظاهرة والباطنة.

وظاهري ثانوي : وهو ما يظهر من الأدلّة التي قرّرها الشارع وأوجب على الرعيّة

١٠٢

العمل بمقتضياتها والاعتماد على كلّيّاتها وجزئيّاتها في أصليّاتها وفرعيّاتها ، فإذا استفرغ المجتهد وسعه وبذل جهده في تلك الأدلّة المقرّرة فما وضح لديه سبيله وصحّ عنده دليله فهو حكم الله في حقِّه ظاهراً ، سواء طابق الواقع أم لا ، فحصول القطع عنده حينئذ بتكليفه بما ظهر له منها للعقل القاطع الدالّ على قبح التكليف بما لا يطاق.

فالفقه حينئذ العلم بالأحكام الظاهريّة الشرعيّة الفرعيّة المأخوذة عن الأدلّة التفصيليّة ، فيندفع ما أُورد به على العلّامة رفع الله مقامه حيث أجاب بأنّ الظنَّ في طريق الحكم لا فيه نفسه ، وظنّيّة الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم بـ ( أنّ هذا لا يتمّ إلّا على أصل المصوّبة القائلين بتعدّد الأحكام الواقعيّة بتعدّد آراء المجتهدين في كلّ قضيّة ، لأنّه إنّما يتمّ لو لم يرد الظاهريّة ، ولا ريب في اختلافها باختلاف الأنظار القويّة ، كما لا ريب في كونها حينئذ أحكاماً شرعيّة وإنْ كانت على فرض المخالفة ثانويّة.

والفرق بين التصويب والتخطئة على فرض مطابقة الظاهري الواقعي أنّ الحكم بالامتثال في الأوّل أنّما يكون مع بقاء الجهل أو الغفلة ، وأمّا بعد الانكشاف فيرجع الأمر إلى التكليف بالثاني ، فإنْ بقي الوقت وجبت الإعادة لقاعدة الشغل اليقيني المستلزمة للبراءة اليقينيّة ، وإنْ خرج فإنْ كان ممّا قام الدليل على قضائه قضي ، وإلّا فلا ، إنْ قيل بافتقار القضاء إلى أمر جديد.

والسرّ في التلافي مع اقتضاء الأمر الإجزاء خلوّ الظاهري عن جهة الإتيان بما هو مراد الأمر وإنْ اشتمل على جهة الإتيان بما يعتقده كذلك ؛ لأنّ فعل المأمور به وترك المنهي عنه كما يكونان مراد الأمر كذلك الإتيان بما يعتقده طاعة من حيث إنّه طاعة وترك المخالفة من حيث إنّها مخالفة ، فمع فرض المطابقة تجتمع الجهتان ، ومع عدمها لا تحصل إلّا جهة الاعتقاد ، كما هو الحال في التكاليف الامتحانية ). كذا حقّقه بعض المحقّقين ، فليتأمّل وسيأتي إنْ شاء الله لهذا المقام في بحث الاجتهاد

١٠٣

مزيدٌ من الكلام.

نعم ، ربّما يقال : إنّ تخطئة الفقهاء بعضهم بعضاً في المطالب الفقهيّة مع اتّفاقهم على تعدّد الظاهري بتعدّد الأنظار ، واختلافه باختلاف الأفكار ، يدلّ على أنّ اختلافهم وتخطئتهم ليس بالنسبة إلى الحكم الظاهري ، بل الواقعي ، فلا يصحّ صرف الأحكام عن الواقعيّة.

وأُجيب : بأنّ البحث عن الأحكام الواقعيّة لا ينافي كون الفقه هو الأحكام الظاهريّة ، فإنّ الأحكام الفقهيّة الحاصلة للمجتهدين من حيث وجوب الأخذ بها والحكم بمقتضاها تكون فقهيّة ، ومن حيث مطابقة الواقع أو مقتضى الأدلّة الشرعيّة تكون خلافيّة ، فبالحيثيّة الاولى تكون معلومة للفقيه قطعيّة ، وبالحيثيّة الثانية تكون متعلّقة للاجتهاد ظنيّة ، فوقوع الخلاف في المسائل الفقهيّة ، وكون المنظور حين الاستدلال هو الوصول إلى الواقع أو إصابة مقتضى الأدلّة الشرعيّة ، لا يقتضي أنّ الملحوظ في صدق الفقه الأحكام الواقعيّة ، ضرورة ابتناء التكاليف على الأحوال الظاهريّة ، كما هو مقتضى الشريعة السمحة السهلة الحنيفيّة.

وقد أكثر علماؤنا الأعلام في هذا المقام من المناقشات بالنقض والإبرام ، أضربنا عنها مخافة التطويل ، فليراجعها في المطوّلات مَنْ أراد الوقوف عليها من أهل التحصيل ، ولعلّ في ما ذكرناه كفاية لمن سلك سواء السبيل.

الجواب عن الإشكال الثاني

وأمّا سؤال الأحكام فقد أُجيب عنه :

تارةً باختيار الشقّ الأوّل ومنع فساد العكس ، بجعل العلم بمعنى الملكة والتهيّؤ القريب للإحاطة بالكلِّ مجازاً ، تنزيلاً للقوّة القريبة منزلة الفعليّة ، وإطلاق العلم على المعنى المذكور متداولٌ في الإطلاقات كثيرٌ في الاستعمالات ، فيكون إمّا حقيقة عرفيّة ، أو مجازاً مشهوراً. والفقيه وإنْ لم يُحِط بجميع المسائل بالفعل إلّا إنّ عنده تلك الملكة والتهيّؤ بحيث يستخرج بهما ما يسنح له من الفروع ممّا لديه من

١٠٤

الأُصول.

وأمّا تردّد بعض الفقهاء أو توقّفه ففي مقام الاجتهاد لا الفتوى ؛ إمّا لانتفاء المدرك ، أو ضعفه ، أو معارضته بما لا يترجّح عليه ، وهو دليل قوّة الملكة لا ضعفها ، إذ سعة الباع وكثرة الاطّلاع ينشأ منهما تضعيف القويّ وتقوية الضعيف في ظاهر الحال بإبداء وإزالة وجوه الإشكال ، كما هو المشاهد من حال المحقّقين الأبدال.

وتارةً باختيار الثاني ، ومنع فساد الطرد ؛ إمّا على التجزّي ؛ فلدخول العلم المذكور ، وإمّا على عدمه ؛ فلمنع العلم بالبعض حينئذ ، وإلّا لعلم الكلّ ، إذ لا يتصوّر انفكاك العلم ببعض الأحكام عن أدلّتها عن الاجتهاد ، وإمّا لأنّ العلم أو الظنّ المعتبر بالبعض لا يحصلان إلّا بالإحاطة بكلّ الأدلّة ، وهي لا تحصل إلّا للمجتهد المطلق ، وإمّا لأنّ العلم القطعي بحكم من الأحكام لا يحصل من الأمارات بناءً على جعل الدليل بمعنى الأمارة والعلم بمعنى القطع إلّا له ؛ للإجماع على أنّ ما أدّى إليه ظنّه حكم الله في حقّه وحق مقلّده بخلاف غيره.

هذا ، ويرد على الأوّل :

أوّلاً : إنّه لو كان العلم هنا بمعنى المَلَكَة ، لصحّ صدق الفقيه على ذيها وإنْ لم يعلم شيئاً من الأحكام الشرعيّة ؛ لعدم التلازم بين حصولها وتحصيل الأحكام فعلاً ، وهو ممّا لا وجه له أصلاً.

وثانياً : إنّ إطلاق العلم على مجرّد المَلَكَة ليس ظاهراً في الإطلاقات ولا متداولاً في المحاورات ، وإنّما الشائع غالباً إطلاقها على المَلَكَة مع حصول فعليّة معتدّ بها لا مطلقاً ، وكلام المجيب خالٍ منه ، اللهمَّ إلّا أن يقال : إنّ مبنى الجواب عليه.

وثالثاً : إنّا لو سلّمنا حمل العلم على المَلَكَة والقوّة القريبة لكنّه لا يصلح تفسيراً للفقه وإنْ صحّ حينئذ تعلّقه بجميع الأحكام ، إذ العلوم المدوّنة ليست أسماء لنفس الملكات ، وإنّما المنساق منها عند الإطلاقات نفس المسائل أو العلم بها ، لا تلك الكيفيّات لمقولة الملكات بالشكّيّات ؛ لتفاوتها شدّة وضعفاً ، بخلاف العلوم ،

١٠٥

ولصدق جعل كلّ مسألة منها مسألة من ذلك العلم وبعضاً منه ، وعدم صدق جعلها من الملكة وبعضاً منها.

ويرد على الثاني : أنّه إن أُريد بدخول العلم بالبعض في الفقه صدقه وحمله عليه بالمواطاة ، فهو من الوهن بمكان ، إذ الفقه كغيره من العلوم ليس عبارة عن العلم بمسألة ؛ لأخذ الكثرة وملحوظيّتها في مفهومات العلوم ومصاديقها واعتبارها في أوصافها ، لا أنّها كأسماء الأجناس الصادقة على القليل والكثير ، كالماء بالنسبة للقطرة والغدير.

وإنْ أُريد كون المعلوم من جملة مسائل الفقه ، فإنّما يفيد علم المتجزّئ ببعض مسائله وكونه حجّة عليه لو سلّم ، لا صدق الفقه على علمه ولا كونه فقيهاً كما هو المدّعى.

فالإنصاف : أنْ يراد بالأحكام أو المسائل في سائر العلوم الجمل المعتدّ بها منها ، والقدر الكافي في ترتّب الآثار والأغراض الناشئة بحيث يصدق عرفاً العالم بها أنّه عالم بمسائل العلم ، وذلك العلم غالباً ينفكّ عن المَلَكَة ، لا كلّ ما يصلح للاندراج في مسائل ذلك الفنّ من الفروض النادرة والأحكام غير المنتشرة ، ولا أنّها أسماء بإزاء المَلَكَة فقط ، فلا بدّ مع تلك المَلَكَة من اطّلاع ذويها على القدر المذكور ، فلا مشاحّة حينئذ في وضع تلك الأسامي بإزاء علم صاحب المَلَكَة بتلك المسائل ، أو بإزائها أو بإزائهما معاً. والردُّ إلى العرف بنفي الجهل وعدم الصدق على الغافل والنائم والذاهل لا ينفي اعتبار العلم بالفعل ؛ لقيام التصديقات والإدراكات والأفهام بالنفوس والأرواح ، لا بالأبدان والأجسام. هذا كلّه في معنى الجزءين المادّيين ، أعني : المتضايفين.

وأمّا الثالث وهو الجزء الصوري أعني : المعنى النسبي ، المنتسبين والإضافة ، المدلول عليهما بالمتضايفين فهو ما ذكروه في وجه الفرق بين إضافة اسم المعنى واسم العين بعد اشتراكهما في إفادة مطلق الاختصاص ، فهو أنّ إضافة الأوّل تفيد

١٠٦

اختصاص المضاف بالمضاف إليه في وصفه العنواني ، أي : المعنى الذي وضع بإزائه لفظ المضاف وعيّن للدلالة عليه ، ضرورة إفادة مكتوب عمرو ومملوك بكر إفادة الاختصاص في وصفه العنواني ، أي : المكتوبيّة والمملوكيّة بأصل الوضع كما هو ظاهر الأكثر ، أو بالنظر الى الظهور عند الإطلاق كما هو صريح البعض ، بخلاف إضافة الثاني فإنّها أنّما تفيد الاختصاص مطلقاً من دون اعتبار صفة داخلة في المضاف وإنْ استلزمه باعتبار بعض الصفات لكنّها غير معيّنة ، ضرورة إفادة دار زيد الاختصاص به ؛ إمّا باعتبار الملك أو السكنى ، لكن لا دلالة في لفظ المضاف على تعيين أحدهما ، ضرورة خروجهما عن مفهومه.

وحيث فسّرت الأُصول بما يبتني عليه غيره أو المستلزم للعلم بشي‌ء آخر كانت من أسماء المعاني ، فتفيد إضافتها إلى الفقه الاختصاص به من حيث الابتناء والدليليّة ، فيخرج ما سواه من النحو والصرف والمنطق وإنْ ابتنى عليها لعدم اختصاصها به. وتوقّفُ غيره عليها وجريان كثير من مسائله في غيره كعلمي أُصول الدين والأخلاق وغيرهما لا ينافي الاختصاص ؛ لاختصاص تدوينه ووضعه بخصوص الفقه دون غيره ممّا يجري فيه كثير من مسائله ، فاختصاصه به بحسب التدوين لا ينفك عنه في حين.

والحق : أنّ مفاد الإضافة مطلقاً أنّما هو انتساب أحد المتضايفين إلى الآخر ، وإلّا أفادت إضافة اسم المعنى الانتساب في خصوص المعنى الموضوع له لفظ المضاف.

وأمّا إفادتها الاختصاص فإنّما يكون حيث لا يقبل الوصف العنواني الانتساب إلى أكثر من واحد كالمملوكيّة والمكتوبيّة ، لا مطلقاً كالمحبوبيّة والمبغوضيّة ، ولهذا نقض بعض المحقّقين على القائلين بإطلاق الاختصاص في إضافة اسم المعنى بأنّها لو أفادت الاختصاص لكان قولك : الله ربي وخالقي ورازقي ومصوّري ، دالّاً على عدم كونه تعالى ربّاً وخالقاً ورازقاً ومصوّراً للغير ، وهو ظاهر البطلان.

١٠٧

وأنت خبيرٌ بأنّ الظاهر من كلماتهم عدم إرادة إفادة الاختصاص ، بمعنى عدم إمكان الانتساب إلى الغير أصلاً ليرد ما ذكر ، وإنّما ظاهرها إنْ لم يكن صريحها إفادة الاختصاص بمعنى تعيين المعنى المحقّق للانتساب ، وهذا لا ينافي جواز الإضافة إلى غير المضاف إليه ولا يمنع التعدّي عنه ، فقولك : الله ربي ورازقي وخالقي ومصوّري ، أنّما يفيد الاختصاص بمعنى تعيين وجه النسبة ، أي : أنّ إضافتك الله من حيث كونه ربّاً وخالقاً ورازقاً لك ، إذ لا بدّ في الإضافة من نوع مناسبة وملابسة ، وهذا المعنى لا ينافي إضافته تعالى إلى غيرك المتحقّق فيه نوع الملابسة ، لدوران الإضافة مدارها وجوداً وعدماً.

فإنْ أرادوا الاختصاص بالمعنى الذي استظهرناه فلا إشكال فيه ولا اشتباه ، وإنْ أرادوا المعنى الذي استظهره المحقّق المذكور فهو بمكان من الضعف والقصور.

بقي الكلام في المراد من اسم العين والمعنى ، وقد اختلفت الكلمة في المراد منهما هنا ، فبعضهم قال : ( إنّ المراد باسم المعنى هو المعنى المصطلح عليه عند النحاة ) ، يعني : ما دلّ على معنى قام بغيره ، وقال : ( إنّه المفهوم من إطلاقه ، فيتناول المصدر ).

ولا يخفى ما فيه من لزوم الدور ، لأخذه المعنى في تفسير اسم المعنى ، مع أنّه لا يصلح لتعريف اسم العين بمقابله ، كما هو ديدنهم من الاكتفاء بتعريف أحدهما عن تعريف الآخر ؛ لمعرفته بالمقابلة ، وكأنّه لاحظ تعريف بعض النحاة لاسم العين بأنّه اسم شي‌ء يقوم بذاته ويستغني عن محلٍّ يقوّمه.

ثمّ تعريف اسم المعنى بمقابله ، أي : اسم شي‌ء لا يقوم بذاته ويحتاج إلى محلّ يقوّمه ، ولكن تسامح في التعبير لعدم قصده الحدّ الحقيقي ، بل التفسير اللفظي ، وفيه تأمّل ، ثم قال : ( وزعم المحقّق الشريف أنّ المراد به ما دلّ على شي‌ء باعتبار معنى وحاصله المشتق ) (١).

__________________

(١) هذا آخر ما جاد به المصنِّف في هذا الكتاب.

١٠٨

الرسالة الثلاثون

الدرر الفكريّة في أجوبة المسائل

الشبّريّة

١٠٩
١١٠

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله الذي وفّقنا عند تعاوُر الشبَهِ واختلاف الآراء للتمسّك بالكتابِ العزيز والعروة الوثقى ، اللذَيْنِ قال فيهما أفضل الرسل والأنبياء : « إنّي مخلّف فيكم الثقلين ، كتابَ اللهِ والعترةَ الغرّاء » (١) ، وعند اختلاف الطرق لسلوك الجادّة الوسطى.

والصلاةُ والسلامُ على عِلَلِ الوجودِ وقطب الورى ، الذين لا تخلو الأرضُ من حجّة منهم ، ولو خلت لساخَتْ بالورى ، صلاةً وسلاماً ما دام أرضٌ وسماء.

أمّا بعد :

فيقول أقلّ الطلبة عملاً وأكثرهم خطأً وخطلاً ، راجي عفو ربّه العالي أبو الحسين أحمد ابن الشيخ صالح بن طعّان الأوالي الموالي ، عفا الله عنه ووالديه والمؤمنين ، ووفّقه لسلوكِ السويّ من النجدين :

هذِهِ خمس درر فكرية (*) فاقت على الدرر البحريّة ، نظمتها في الجواب عن خمسٍ

__________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة ١ : ٢٤٠ / ٦٤ ، أمالي الصدوق : ٤٢١ / ١ ، الوسائل ٢٧ : ١٨٩ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٣٤. من غير كلمة ( الغرّاء ) ، وبلفظٍ آخر في : مسند الإمام أحمد ٣ : ١٤ ، وصحيح مسلم ٤ : ١٤٩٢ / ٢٤٠٨.

(*) اشتملت هذه الرسالة على خمسة أسئلة ، أربعة منها هنا ، والخامس أفردناه في رسالة مستقلّة هي الرسالة الثانية من علم الكلام ضمن الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

١١١

من عويصاتِ المسائل العليّة ، التي يجب أنْ يكتب في جوابها الرسائل المليّة ، وردَتْ من لجّ بحر العلوم والمكارم ، وزبدة الأعالم الأعاظم ، رئيس محدّثي هذا الزمان ، وشيخ طائفة هذا الأوان ، ذي النسب العلويّ ، والفخر السَّني ، والمقام العليّ ، السيّد السند السيّد شبّر ، نتيجة السيّد عليّ ، أيّد الله به الشريعة الغرّاء والملّة النوراء.

جواز الأخذ بالكتاب وإن لم يكن مفسّراً من المعصوم

قال سقاهُ الله من سلسل التدقيق ، ورحيق التحقيق ـ : ( مسألة : ما قولكم دام ظلّكم فيما اعتمده الأخباريّون من عدم جواز الأخذ بالكتابِ ما لم يكن مفسّراً من المعصوم ، وما قيل من أنّه أقوى المرجّحاتِ كما في الخبر المعصومي ، وبذلك حكم الشيخ يوسف البحراني (١) وغيره (٢) ، فلا مفرّ من الدور ؛ لما علم من إثبات الشي‌ء من نَفْسِهِ.

وما أُجيب به من أنّه حكاية مراد الله ، مردودٌ بأنّهُ ليسَ يكونُ أوّلاً حكمٌ أصلاً ، فهو كلا حكم مراد الله أوّلاً ؛ لتوقّفه على التفسير كما لا يخفى ، والتوقّف على الشي‌ء فرعُ ثبوته به أو نفيه به أيضاً ، فالتفسير هُوَ المثبت لحكمه حينئذ. وأنتم أدرى بما هنالك ، فأفيدوا ).

الجواب ومن اللهِ الصّوابُ ـ : قد استفاضت الأخبارُ عن الأئمّة الأطهارِ بوجوب العرض على الكتابِ عندَ التعارض ، وأنّه أقوى المرجّحاتِ في هذا البابِ :

فمنها : ما رواه ثقة الإسلام وعلم الأعلام في ( الكافي ) صحيحاً عن أيّوب بن الحرّ ، قال : سمعتُ أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « كلّ شي‌ء مردودٌ إلى الكتاب والسنّة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف » (٣).

وما رواه فيه أيضاً عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ على كلّ حَقٍّ حقيقة ، وعلى كلّ صوابٍ نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه » (٤).

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ١٠٩.

(٢) الفوائد الطوسية : ١٩٤.

(٣) الكافي ١ : ٦٩ / ٣.

(٤) الكافي ١ : ٦٩ / ١.

١١٢

وَما رواه فيه أيضاً عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أنّه قال : « إذا وردَ عليكم حديثان [ مختلفان (١) ] فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب اللهِ فخذوه ، وما خالفَ كتابَ اللهِ فَذَرُوهُ » (٢).

وما رواه الثّقة أيضاً في ( الكافي ) عن أيّوب بن راشد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرفٌ » (٣).

وما رواه أيضاً صحيحاً عن هشام بن الحكم وغيره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « خطب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنى ، فقال : أيّها الناسُ ، ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم عنّي يخالِفُ كتابَ اللهِ فلم أَقُلْه » (٤).

وفيه دلالةٌ على أنّ الخبرَ المخالِفَ للكتاب غير صادر منهم ، بل من الأكاذيب كما في مرسل يونس بن عبد الرحمن (٥).

وما رواه أيضاً صحيحاً عن ابن أبي يعفور ، قال : حدّثني حسين بن أبي العَلاءِ ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن اختلاف الحديث يرويه مَنْ نثق به ومَنْ لا نثق به؟ قال : « إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلّا فالّذي جاءكُم به أوْلى به » (٦).

وفيه دلالة على ترك الترجيح بالأوثقيّة مع وقوعه في متن السؤال.

وما رواه محمّد بن مسعود العيّاشي في تفسيره ، عن محمّد بن مسلم ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « يا محمّد ، ما جاءك عنّي (٧) في رواية من برّ أو فاجر يوافقُ القرآنَ فخذ به ، وما جاءك في رواية [ من برّ أو فاجر (٨) ] يخالف القرآنَ فلا تأخذ به » (٩).

ومثلها كثيرٌ في هذا الباب تركناهُ خوفَ الإطنابِ ، وفيه دلالة على وجوبِ الأخذ برواية الفاجر الموافقة للكتاب ، وترك رواية البرّ المخالفة لَهُ.

واختلف الفريقان من أصحابنا الإماميّين على أقوال :

__________________

(١) من المصدر. (٢) بحار الأنوار ٢ : ٢٣٥ / ٢٠.

(٣) الكافي ١ : ٦٩ / ٤. (٤) الكافي ١ : ٦٩ / ٥.

(٥) رجال الكشي ٢ : ٤٨٩ ٤٩٠ / ٤٠١ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٤٩ ٢٥٠ / ٦٢.

(٦) الكافي ١ : ٦٩ / ٢.

(٧) لم يرد في المصدر : « عنّي ».

(٨) من المصدر.

(٩) تفسير العيّاشي ١ : ٢٠ / ٣.

١١٣

فأصحابنا المجتهدون المعروفون بالأُصوليّين على الاعتماد عليه في الأحكام الشرعيّة ، والعمل بظواهِر آياته من غير تَفسير من الأئمّة أصحاب العصمة.

وأمّا أصحابنا المحدّثون المعروفون بالأخباريّين فمنهم مَنْ جعل القرآن كلّه متشابهاً بالنسبة إلينا ، ومنع فهم شي‌ء منه بدون التفسير ، حتّى مثل ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) (١) ، كما حكاه السيّدُ نعمة الله الجزائري عن شيخه صاحِب ( جوامِع الكلم ) (٢) ، حيث قال : كُنت حاضراً في المسجد الجامِع من شيراز ، وكان أستاذِيَ المجتهد الشيخ جعفر البحراني (٣) وشيخي المحدّث صاحب ( جوامع الكلم ) يتناظرانِ في هذه المسألة ، فانجرّ الكلام بينهما حَتّى قال له المجتهد : ما تقول في معنى ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ، فهَل يحتاجُ في فهم معناها إلى الحديث؟. فقال : نعم ، لأنّا لا نعرف معنى الأحديّة ، ولا الفرق بين الأحد والواحد (٤).

ومنهم من جوّز ذلكَ في بعضهِ.

احتجّ المجتهدون بوجوه :

الأوّل : بالآيات ، كقوله تعالى ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ ) (٥) ، وقوله تعالى ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‌ءٍ ) (٦) ، ولا دلالة فيهما على شي‌ء منَ المدّعى ؛ إذ نهاية ما يدلّان عليه اشتماله على كلّ الأحكام حتى أرش الخدش ، ولا نزاعَ فيه بيننا ، وبقوله تعالى ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) (٧) الآية.

وفيه : أنّا لا نمنعُ فهم شي‌ء منه ، كآيات الوعد والوعيد والزجر والتهديد ، كما هو

__________________

(١) الإخلاص : ١.

(٢) جوامع الكلم ) للسيد محمد الشهير بالسيد الميرزا الجزائري من مشايخ العلّامة المجلسي والشيخ الحرّ والسيد المحدّث الجزائري. الذريعة ٥ : ٢٥٣.

(٣) عالم فقيه من مشايخ السيد نعمة الله الجزائري ، اضطرّته ظروف المعيشة الصعبة في البحرين إلى السفر الى شيراز ومكث فيها برهة من الزمن ، ثم سافر بعدها الى حيدرآباد في الهند وتوفي فيها سنة ١٠٨٨ ه‍. لؤلؤة البحرين : ٧٠ ٧١ ، أنوار البدرين : ١٢٨ ١٣١.

(٤) الأنوار النعمانيّة ١ : ٣٠٨ باختلاف.

(٥) النحل : ٨٩.

(٦) الأنعام : ٣٨.

(٧) النساء : ٨٢.

١١٤

المراد من هذه الآية بشهادة السياق.

وقوله تعالى ( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (١). وجه الاستدلال : أنّهُ أثبتَ للعلماء استنباطاً ، ولا وصف بالاستنباط إلّا مع عدم السماع.

والجَوابُ : أنّ المراد بالمستنبطينَ الأئمّة عليهم‌السلام ؛ لسياق ما قبلها من قوله تعالى ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ) (٢) ، ولقول الباقر عليه‌السلام في تفسيرها : إنّهم « هم الأئمّة » (٣) ، ولقول الرضا عليه‌السلام : « يعني آل محمّد ، وهم الّذين يستنبطون [ من (٤) ] القرآن ويعرفون الحلال والحرام » (٥).

الثاني : أحاديث وجوب التمسّك به والعرض عليه التي تقدّمت.

ووجه استدلالهم : أنّ القرآن لو فرض أنّه لا يعلم إلّا بالخبر لم يكن للعرض عليه فائدة ، وللزوم الدور ؛ لتوقّفه على غيره.

وأُجيب بوجوه :

الأوّل : ما قاله فقيه ( الحدائق ) من أنّ تفسيرهم عليهم‌السلام أنّما هو حكاية مراد الله ، فالأخذ بتفسيرهم أخذ بالكتاب (٦).

وما ردّ به من أنّه ليس يكون أوّلاً حكم أصلاً ، ممنوع ؛ لأنّا لا نسلّم أنّه ليس يكون أوّلاً حكم أصلاً ، بل هو حكم مكنون مخزون لا يجوز أخذه إلّا من أهله.

وردّه أيضاً الشيخ محمّد آل عبد الجبّار باستلزامه اختصاص العرض بالسنّة فقط دون الكتاب ، مع ورود العرض عليه في الأخبار الكثيرة معها تارةً ووحدَهُ اخرى ، مع أنّ كون الأخذ بقولهم أخذاً بالقرآن غير مجدٍ ؛ لأنّه إنْ كان في نفس الأمر وإنْ لم يظهر لنا وجهه فحقّ ، وإنْ كان هو حكم الله الواقعيّ بما ظهر لنا مع أنّه لا يقول بأنّ الأحكام كلّها يقينيّة فكيفَ يكون الأخذ به أخذاً بالقرآن؟.

وفيه : أنّه لا ملازمة بين كون تفسيرهم حكاية مراده تعالى وبين اختصاص العرض

__________________

(١) النساء : ٨٣. (٢) النساء : ٨٣.

(٣) جوامع الجامع ١ : ٢٧٤. (٤) من المصدر.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٢٨٧ / ٢٠٦.

(٦) الحدائق الناضرة ١ : ٣٠.

١١٥

بالسنّة فقط ، بل غاية ما دلّ عليه كلامه أنّهم عليهم‌السلام لمّا كانوا لا يقولون إلّا عن الله كان الأخذ بقولهم أخذاً بكتاب الله ، وهذا لا يلزمُ منهُ الاختصاص ؛ لأنّ قولهم فرع قوله ، فيلزمُ أنْ يكونَ للفرع مزيّةٌ على الأصل.

وقوله ( مَع أنّه لا يقول بأنّ الأحكام كلّها يقينيّة ) غير وجيه ؛ لأنّ المبحوث فيه والحال هذه يصير يقينيّاً لموافقته للكتاب ، لكونه حكاية مراد الله فيه ؛ لأنّ الكلام في الحديث المفسّر للآية ، فليتأمّل.

الثاني : أنّ الدّورَ أنّما يحصل لو توقّف عليه مطلقاً ، وليس فليس ؛ لما مرّ ويأتي من عدم التوقّف على التفسير في البعض ، ولا ينبِّئُك مثل خبير.

الثالث : أنّ المراد من عرض الأخبار على الكتاب عرض متشابهها المقول على المجمل على محكمه المقول على النصّ والظاهر ، ومن عرضه عليها عرض متشابهه على محكمها ، ويدلّ عليه ما في خبر الدامغاني من قول الكاظم عليه‌السلام : « أُمور الأديان أمران : أمرٌ لا اختلاف فيه وهو إجماع الأُمّة على الضرورة التي يضطرّون إليها ، والأخبار المجمع عليها ، وهي الغاية المعروض عليها كلّ شبهة ، المستنبطُ منها كلّ حادثة » (١).

والتقريب فيه : أنّ المراد بالإجماع عليها ما يشمل الإجماع على معناها ، وإنّ المحكم :

١ ـ إمّا المحفوظ من الإجمال كما في ( الصافي ) (٢).

٢ ـ أو المحفوظ من الاحتمال والاشتباه كما في ( مجمع البحرين ) عن ( مجمع البيان ) (٣).

٣ ـ أو المحفوظ من النسخ.

٤ ـ أو التخصيص.

٥ ـ أو منهما معاً.

٦ ـ أو ما كان نظمه مستقيماً خالياً من الخلل.

__________________

(١) الاختصاص : ٥٨ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٤٠ ، باختلاف.

(٢) تفسير الصافي ١ : ٣١٨.

(٣) مجمع البحرين ٦ : ٤٤ حكم ، مجمع البيان ١ : ٥٢٦ ٥٢٧ حكم ، بالمعنى.

١١٦

٧ ـ أو ما لا يحتمل من التأويل إلّا وجهاً واحداً ، كما في ( مجمع البحرين ) (١) عن بعض المحقّقين.

٨ ـ أو واضح الدلالة.

٩ ـ أو المضبوط المتقن ، كما نقل عن البهائي ، حيث قال : ( المحكم في اللغة هو المضبوط المتقن ، ويطلق على ما اتّضح معناه وظهر لكلّ عارف باللغة مغزاه ) (٢). ونقله في ( مجمع البحرين ) (٣) عن بعض المحقّقين وهو الذي مال إليه الغزالي (٤) على ما نقل عنه فقال : والمحكم ما اتّضح معناه وانتفى عنه الاشتباه ؛ لأنّ المحكم اسم مفعول من ( أحكم ) ، والإحكامُ الضّبطُ والإتقان ، ولا شكّ أنّ ما كان واضح المعنى كان مضبوطاً متقناً لا اشتباه فيه. ورجّحه الشيخ عليّ المقابي. وعلى كلا معانيه يحصل الإجماع على فهم معناه.

الرابع : أنّ المراد من عرضه عليها عرض آياته المتشابهة على الروايات المتواترة الموافقة لضروريّ الدين أو المذهب ، ويدُلّ عليه نصّ خبر الدامغاني ، ومن عرضها عليه عرض متشابهها على محكمه ، فانتفى الدور لاختلاف المتعلّق في الموضعين ، وتثبت فائدة العرض عليه بلا مين.

الخامس : ما أجاب به الشيخ أحمد بن زين الدين ، وهو : أنّ من القرآن حروفاً جامعة ليسَتْ صورة الآحاد ، وانطوت على ما لا يتناهى من الأفراد ، قد عرفت من حيث جزئيّتها من اللغة ، كقوله ( إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ) (٥) ، فاعلم أنّه لا إله إلّا الله ؛ ولهذا قال عليه‌السلام : « ويل لمن لاكها بين لحييه ولم يتدبّرها » (٦) ، فلو توقّفت على السماع لم يذمّ مَنْ لم يتدبّرها ، فإنّ أدنى عارف بالعربيّة يعرفُ منها ثبوت الوحدة لله ، ولم يعرف حروفها من حيث كلّيّتها.

فإذا نظر فيها أهل النظر عرفوا كلّيّتها ، فلو ورَد خبر دلّ على قدم الكلام عرفوا أنّه

__________________

(١) مجمع البحرين ٦ : ٤٣ حكم.

(٢) الأربعون حديثاً : ٢٩٣.

(٣) مجمع البحرين ٦ : ٤٣ حكم ، بالمعنى.

(٤) المستصفى ١ : ١٠٦.

(٥) الأنعام : ١٩.

(٦) مجمع البيان ٢ : ٦٩٨ ، البحار ٦٦ : ٣٥٠ ، باختلاف.

١١٧

إنْ لم يكن محدثاً بمعنى المَصْنُوع تعدّدت الآلهةُ ، وكذا لو وردَ خبر بقدم المشيئة وهو المشار إليه في أمرهم عليهم‌السلام بالعرض على السنّة ، مثل « لا تنقض اليقين بالشكّ أبداً » ، أو « إلّا بيقين مثله » (١).

فإذا ورد خبرٌ ينقض الشّك باليقين في غير ما استثني من البلل المشتبه وغسالة الحمام وعيبة الحيوان ، أو ورد خبران متعارضان أحدهما مُطابقٌ والآخر مفارق ، فما شهدَتْ له السنّة كـ : « لا تنقض اليقين بالشكّ » و « النّاس في سعة ما لم يعلموا » (٢) ، فحق وإلّا فباطل.

قال : فالعرض على الكتاب على مثل ذلك ممّا لا يحتاجُ إلى الخبر في فهم المراد ، سواء من اللّغة أو الإلهام ، كما قال عليّ عليه‌السلام : « إلّا أنْ يؤتي الله عبداً فهماً في القرآن » (٣) ، أو إخلاص العمل كقوله ( وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ) (٤) ، وقول الصادق عليه‌السلام : « ما من عبد حبّنا وزاد في حبّنا وأخلص في معرفتنا وسُئل عن مسألة ، إلّا نفثنا في روعه جواباً لتلك المسألة » ، أو عرف أنّ هذهِ الآية من المحكمات ، أو عرف بالإجماع أو غير ذلك من طرق اليقين ، فالعرض بهذا النحو لا يستلزم الدور.

السادس : ما نقل عن محمّد أمين ، وهو : أنّ المراد عرض الحديث الذي جاء به غير الثقة على واضحات الكتاب التي من ضروريّات الدين والمذهب. وربّما يستدلّ عليه بخبر الدامغاني (٥) ، والله العالم.

الثالث : استدلال الأئمّة عليهم‌السلام على من يسألهُم ، كقولهم عليهم‌السلام : « أما سمعت قول الله » (٦) ويسوق الآية ، وقولهم : « أما تنظر إلى قول الله » ويسوق الآية .. إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبّع.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨ / ١١ ، الوسائل ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١ ، بتفاوت.

(٢) الكافي ٦ : ٢٩٧ / ٢ ، الوسائل ٢٥ : ٤٦٨ ، كتاب اللقطة ، ب ٢٣ ، ح ١. وفيهما : « هم في سعة حتى يعلموا ».

(٣) الأُصول الأصلية ( الكاشاني ) : ٤١. (٤) البقرة : ٢٨٢.

(٥) الاختصاص : ٥٨ ، البحار ٢ : ٢٤٠.

(٦) تفسير العيّاشي ٢ : ٢٩٣ / ٧٤ ، مختصر البصائر : ٣ ، البحار ٢٥ : ٦٣ / ٤٢ ، البحار ٧٢ : ٤٠٨ / ٤٩.

١١٨

ووجهُ الاستدلال : أنّهم عليهم‌السلام يقرءونها على السائل ويصدّق بها بعد أنْ فهم معناها بدون التفسير.

وفيه : أنّ هذا عليهم لا لهم.

أمّا أوّلاً ؛ فلأنّه لو فهم المراد من الآية لم يحتج إلى سُؤالهم.

وأمّا ثانياً ؛ فلأنّ تصديقه بها بدون التفسير غير مسلّم ؛ لأنّ الذي يجيبون به عليهم‌السلام هُوَ التفسير.

وأمّا ثالثاً ؛ فلاحتمال أنْ يكون قد تعلّم تفسيرها عند تعلّم ألفاظها ، كما هو المتداول في العصر الأوّل ، ويؤيّده قول الصادق عليه‌السلام في صحيح زرارة ومحمّد بن مسلم : « إنْ كان قد قرأت عليه آية التقصير وفُسّرَتْ لهُ فَصلّى أربعاً أعاد » (١).

الرابع : أنّه إذا لم يجز تفسيرهُ إلّا بالأثر منهم عليهم‌السلام كان كاللّغز والمُعمّى الذي لا يعرف إلّا بالتفسير ، وانتفى وصفه بأنّه عربيّ وأنّه تبيان لكلّ شي‌ءٍ.

وفيه : أنّ الفائدة في عدم الرخصة في التفسير ظاهرة ؛ لما رواهُ الشيخ في ( التهذيب ) عن عاصم ، قال : حدّثني مولى لسلمان ، عن عبِيدَة السلماني ، أنّه قال : سمعت عليّاً عليه‌السلام يقول : « يا أيّها الناسُ ، اتّقوا اللهَ وَلا تفتوا النّاس بما لا تعلمون ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قال قولاً آل منهُ إلى غَيْره ، وقد قال قولاً من وضعه غير موضعه كذب عليه ». فقام عبِيدَة وعلقمة والأسود وأُناسٌ معهم ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، فما نصنع بما قد خبّر به نبيَّهُ (٢) في المصحَفِ؟ فقال : « يسألُ عن ذلكَ آل محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٣).

وفي خبر آخر « إنّما القرآن أمثال لقوم [ يعلمون (٤) ] دون غيرهم ، ولقوم يتلونه حَقّ تلاوته ، وهم الذين يؤمنون به ويعرفونه ، وأمّا غيرهم فما أشدَّ إشكاله عليهم وأبعده من مذاهب قلوبهم إلى أنْ قال وإنّما أرادَ الله بتعميته في ذلكَ أنْ ينتهوا إلى بابه وصراطه ، ويعبدوه وينتهوا في قوله إلى طاعة القوّام بكتابه ، والنّاطقين عن أمره ، وأنْ يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٧٩ / ٢٦٦ ، تهذيب الأحكام ٣ : ٢٢٦ / ٥٧١ ، الوسائل ٨ : ٥٠٦ ، أبواب صلاة المسافر ، ب ١٧ ، ح ٤. (٢) في المصدر : ( خبّرنا به ) بدل : ( خبّر به نبيّه ).

(٣) تهذيب الأحكام ٦ : ٢٩٥ / ٨٢٣. (٤) من المصدر.

١١٩

أنفُسِهم » (١).

وفيهما دلالة واضحة على المدّعى ووجه السبب في عدم الرخصة ، وسيأتي في حديث الزنديق (٢) بيان الوجه أيضاً على التحقيق.

واحتج المحدّثون بأحاديث كثيرة مشهورة أقوى سنداً ودلالة ، ولنقتصر على بعض منها :

فمنها : الروايات الناهية عن التفسير بالرأي.

ومنها : الأخبار الدالة على حصر علم القرآن فيهم عليهم‌السلام.

فمن الأوّل : ما رواهُ ثقة الإسلام في ( روضة الكافي ) عن زيد الشحّام ، وأحمد بن أبي طالب الطبرسي في ( الاحتجاج ) عنه أيضاً ، قال : دخل قَتَادَة بن دعامة على أبي جعفر عليه‌السلام ، فقال : « يا قتادة ، إنّك فقيه أهل البصرة؟ ». فقال : هكذا يزعمون. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « بلغني أنّكَ تفسّر القرآن؟ ». قال له قتادة : نعم. فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : « فإنْ كنتَ تفسّرهُ بعلم فأنتَ أنتَ ، وإنْ كنت إنّما فسّرتَ من تلقاءِ نفسكَ فقد هلكت وأهلكتَ ، ويحكَ يا قتادة ، إنّما يعرفُ القرآن مَنْ خوطب به (٣) ».

وما رواهُ الصدوق عن الريّان بن الصلت ، عن عليّ بن موسَى الرضا عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال الله تعالى : ما آمن بي مَنْ فسّر برأيه في كلامي ، وما عرفني مَنْ شبّهني بخلقي ، وما على ديني مَنْ استعمل القياسَ في ديني » (٤).

وما رواه الثقة في ( الكافي ) عن زياد بن أبي رجاء ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « ما علمتم فقولوا ، وما لم تعلموا فقولوا : الله أعلم ، إنّ الرجل لينتزع الآية من القرآن [ يخرّ (٥) ] فيها أبعد [ من (٦) ] السماء والأرض » (٧).

__________________

(١) المحاسن ١ : ٤١٧ ٤١٨ / ٩٦٠ ، البحار ٨٩ : ١٠٠ / ٧٢.

(٢) الاحتجاج ١ : ٥٩٦ ٥٩٧. (٣) الكافي ٨ : ٢٥٨ / ٤٨٥.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١١٦ / ٤.

(٥) في المخطوط : ( يخرج ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٦) في المخطوط : ( ما بين ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٧) الكافي ١ : ٤٢ / ٤.

١٢٠