الرسائل الأحمديّة - ج ٣

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

وما رواه البرقي في ( المحاسن ) عن جابر بن يزيد الجعفي ، قال : سألتُ أبا جعفر عليه‌السلام عن شي‌ء من التفسير فأجابني ، ثمّ سألته عنهُ ثانياً فأجابني بجواب آخر ، فقلتُ له : جعلت فداكَ كنتَ أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم. فقال : « يا جابر ، إنّ للقرآن بطناً وللبطن بطناً ، ولهُ ظهرٌ وللظهر ظهر. يا جابر ، ليس شي‌ءٌ أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ؛ إنّ الآية يكون أوّلها في شي‌ء وآخرها في شي‌ء ، وهو كلامٌ متّصل متصرّفٌ على وجوه » (١).

ومن الثاني : ما رواه الطبرسي والصدوق عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أنّه قال لأبي حنيفة : « أنت فقيه أهل العراق؟ ». فقال : نعم. قال : « فبم تفتيهم؟ » قال : بكتاب الله وسنّة نبيّه. قال : « يا أبا حنيفة ، لقد ادعيت علماً ، ويلكَ ما جعل الله ذلكَ إلّا عندَ أهل الكتاب الذين أُنزل إليهم ، ويلك ولا هو إلّا عندَ [ الخاصّ (٢) ] من ذريّتنا ، ولا تراكَ تعرف من كتابه حرفاً » (٣).

وما رواه في ( الكافي ) عن أبي الصباح قال : والله لقد قال لي جعفر بن محمَّد عليه‌السلام : « إنّ الله علّم نبيّه التنزيلَ والتأويل ، فعلّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً قال وعلّمنا وَاللهِ (٤) ».

وما رواه في ( البصائر ) عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « تفسير القرآن على سبعة أوجه ، منه ما كان ومنه ما لم يكن بعد ذلك تعرفه الأئمّة » (٥).

وما روي في تفسير قوله تعالى ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ) (٦) ، من أنّهم الأئمّة (٧). وقوله تعالى ( بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (٨) ، أنّهم الأئمّة (٩). وقوله تعالى ( ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (١٠) ، و ( قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً

__________________

(١) المحاسن ٢ : ٧ / ١٠٧٦. (٢) في المخطوط : ( الحاضرين ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٣) علل الشرائع ١ : ١١٢ ، الاحتجاج ٢ : ٢٦٧ ٢٦٨ / ٢٣٧ ، باختلاف.

(٤) الكافي ٧ : ٤٤٢ / ١٥.

(٥) بصائر الدرجات : ١٩٦ / ٨.

(٦) فاطر : ٣٢.

(٧) تفسير القمّي ٢ : ٢١٠.

(٨) العنكبوت : ٤٩.

(٩) تفسير القمّي ٢ : ١٥١.

(١٠) آل عمران : ٧ ، تفسير العيّاشي ١ : ١٨٧ / ٧ ، ٨.

١٢١

بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) (١) ، قال : « إيّانا عنى » (٢). وقوله تعالى ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات.

ومنها : لزوم اطّراح أكثر الأخبار الواردة في تفسير الآيات ممّا يخالفُ الظاهر بحسب الوضع اللغوي ، كتفسير الشمس بالنبيّ (٤) ، والنهار بعليّ (٥) ، والسكارى بسكر النوم (٦). أو العرف ، كتفسير بعض هذه الآيات المتقدّمة.

ولمناقش أنْ يناقشَ في الأوّل بأنّ النّهي عن التفسير الباطني التأويلي لا يدُلّ على النهي عن التفسير الظاهري التنزيليّ ، وفي الثاني بأنّ انحصار علمه جميعه فيهم من علم الظاهِر وَالباطن والناسخ وَالمنسُوخ والمحكم والمتشابه لا يدلّ على عدم إدراك غيرهم بعضه منَ المحكم.

ومنها : قول عليّ عليه‌السلام : « القرآن كتاب الله الصامت ، وأنا كتابُ الله الناطق » (٧).

وجهُ الاستدلال : أنّه لو فهم معناهُ بدونهم لم يكن لوصفه بالصمت معنىً.

ويمكن الجواب عنه بحمل الصمت والنطق على المعنى اللغويّ الخاصّ لا العامّ.

وممّا استدلّ به الفريقان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّي مخلّفٌ فيكم الثّقلين ؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لن يفترقا حَتّى يردا عليّ الحوض » (٨).

وجه المجتهدين : أنّه لو لم يفهم معناه لم يكن لتخليفه فائدة.

ووجه المحدّثين : أنّ الظّاهر من عدم الافتراق أنّما هو باعتبارِ الرجُوع إليهم في معاني الكتاب ، ولو فهم بدون تفسيرهم لصدق الافتراق.

ويرد على الأوّل أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قرَنُه بهم عليهم‌السلام ، فتحصل الفائدة منه في الرجوع إليهم ؛ لأنّهما كالشي‌ء الواحد ، كما هو فائدة القرن معهم.

__________________

(١) الرعد : ٤٣.

(٢) تفسير العيّاشي ٢ : ٢٣٦ / ٧٧.

(٣) الزخرف : ٤٤ ، تفسير القمّي ٢ : ٢٩١.

(٤) تفسير القمّي ٢ : ٤٥٥.

(٥) فسر النهار بالإمام من ذريّة فاطمة عليها‌السلام ، وفسر القمر بعلي. انظر : تفسير القمّي ٢ : ٤٥٥.

(٦) تفسير العيّاشي ١ : ٢٦٩ / ١٣٧ ، تفسير القمّي ١ : ١٦٧.

(٧) الوسائل ٢٧ : ٣٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٥ ، ح ١٢ ، البحار ٣٩ : ٢٧٢.

(٨) معاني الأخبار : ٩١ / ٥ ، كمال الدين ١ : ٢٤٤.

١٢٢

وربّما يمكن الجواب عن الثاني بأنّ المراد من عدم الافتراق أنّهم عليهم‌السلام ملازمون للعمل بما فيه وعدم التجاوز عنه ، أو أنّ كلّاً منهما يعرض على الآخر ، كما في حديث أحمد بن الحسن الميثمي عن الرضا عليه‌السلام ، قال عليه‌السلام فيه بعد كلام طويل تركناه خوف الاطناب ـ : « فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهُما على كتاب الله ، فما كان في كتاب الله مَوْجوداً حَلالاً أو حراماً فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضُوه على سنن رَسُول الله ، فما كان في السنّة موجوداً منهيّاً عنه نهيَ حرامٍ أو مأموراً به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرَ إلزامٍ ، فاتّبعُوا ما وافق نهي رَسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره ، وما كان في السنّة نهيَ إعافةٍ أو كراهة ثمّ كان الخبر [ الآخر (١) ] خلافه فذلك رخصةٌ فيما عافَهُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .. »إلى آخره.

وفي قوله عليه‌السلام : « فما كان في كتاب الله موجوداً » ، وقوله : « وما لم يكن في الكتاب » ، دلالةٌ واضحةٌ على ما ندّعيه كما يأتي ؛ إذ المرادُ من عدم الوجدان فيه عدم استفادة الحكم منه ، وإلّا ففيه تبيان كلّ شي‌ء حتى أرش الخدش ، وردت به أخبارهم عليهم‌السلام ، ومن الوجدان الاستفادة. وإنّما أتينا بهذا الخبر مع الاستغناء عن ذكره بما تقدم ؛ لأنّه أصرح ، ولما فيه من النكت : فمنها : ما مرَّ آنفاً. ومنها : استعمال الأمر والنهي في الوجوب والندب والتحريم والكراهة ، واشتراكهما في المعنيين. ومنها : الجمع بين الخبرين المختلفين أمراً ونهياً بحملهما على الندب والكراهة إذا لم تقم قرينةٌ على إرادة الوجوب أو التحريم.

إذا عرفت هذا عرفتَ أنَّ الأقرب إلى الصواب هُوَ قَوْلُ المُبَعِّضِينَ جمعاً بين ما تقدّم بوجهين :

أحدهما : بتقييد المطلق من الأخبار بما رواهُ حجّة الإسلام أبو منصور الطبرسي في ( الاحتجاج ) في حديث الزنديق الذي جاءَ محتجّاً بآي متشابهة تقتضي التناقض ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال عليه‌السلام بعد كلام طويل ـ : « ثمّ إنّ الله جلّ ذكرهُ لسعة رحمته

__________________

(١) من المصدر.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١.

١٢٣

ورأفته بخلقه وعلمه بما يحدثُه المبدّلونَ من تغيير كلامه (١) ، قسّم كلامَهُ ثلاثة أقسام ؛ فجعل قسماً منه يعرفهُ العالم والجاهل ، وقسماً لا يعرفهُ إلّا مَنْ صفا ذهنه وَلطفَ حسّهُ وصحّ تمييزه ممّن شرحَ اللهُ صدرَهُ للإسلام ، وقسماً لا يعرفه إلّا الله وَأُمناؤه [ و (٢) ] الراسخون في العلم ، وإنّما فعل ذلك لئلّا يدّعي أهل الباطل من المستولين على ميراثِ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من علم الكتاب ما لم يجعله الله لهم ؛ وَليقودهم الاضطرارُ [ إلى الائتمار لمن ولاه الله (٣) ] ، فاستكبروا عن طاعته تعزّزاً وافتراء على الله عزَّ وجَلّ واغتراراً بكثرة من ظاهرهم وعاونهم وعاند الله عزوجل.

فأمّا ما علمه الجاهل وَالعالم من فَضْل رسُول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من كتاب الله فهو قوله سبحانه ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) (٤) ، وقوله ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٥) ، ولهذه الآية ظاهر وباطن ، فالظاهر قوله ( صَلُّوا عَلَيْهِ ) ، والباطن ( سَلِّمُوا تَسْلِيماً ) ، أي سلّموا لمَنْ وَصّاهُ وَاستخلَفه عليكم وفضّله وما عهد به إليه تسليماً ، وهذا ممّا أخبرتكَ أنّه لا يعلم تأويله إلّا من لطفَ حسّهُ وصَفا ذهنه وصحّ تمييزه.

وكذلك قوله : ( سَلَامٌ عَلَى إل يس ) (٦) ؛ لأن الله سمّى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الاسم ، حيث قال ( يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (٧) ، لعلمِه بأنّهم يسقطون قول : سلامٌ على آل محمّد ، كما أسقطوا غيره » (٨) .. » إلى آخره.

وإنّما ترك القسمَ الثالثَ وَهُوَ الذي لا يعرفهُ إلّا الله وَأُمناؤه والراسخون في العلم لعدم احتمال الزنديق له.

ولما رواه الملّا محسن الكاشاني في ( الأُصول ) عن الطبرسي ، عن ابن عبّاس ، أنّه قسّم وجوهَ التفسير على أربعة أقسام : ( تفسيرٌ لا يعذر أحدٌ بجهالته ، وتفسير تعرفهُ العربُ بكلامها ، وتفسير تعرفهُ العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلّا الله عزوجل. فأمّا الذي لا

__________________

(١) في المصدر : ( كتابه ) بدل ( كلامه ). (٢) من المصدر.

(٣) في المخطوط : ( الاضطرار لمن ولاه أمرهم ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٤) النساء : ٨٠.

(٥) الأحزاب : ٥٦.

(٦) الصافات : ١٣٠.

(٧) يس : ١ ٣.

(٨) الاحتجاج ١ : ٥٩٦ ٥٩٧.

١٢٤

يعذرُ أحدٌ بجهالته ، فهو ما يلزمُ المكلّف من الشرائع التي في القرآن ، وجمل دلائل التوحيد. وأمّا الذي تعرفهُ العربُ بلسانها ، فهو حقائق اللّغة وموضوع كلامهم ، وأمّا الذي تعرفه العلماء ، فهو تأويل المتشابه وفروع الأحكام ، وأمّا الذي لا يعلمه إلّا الله ، فهو ما يجري مجرى الغيوب وقيام الساعة ) (١).

وبما تقدّم في حديث الميثمي (٢) من الوجود وعدم الوجود.

وبما رواهُ السيّد المرتضى في رسالة ( المحكم والمتشابه ) عن النعماني عن إسماعيل ابن جابر عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « إنّ الله بعث محمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله فختم به الأنبياء فلا نبيّ بعده ، وأنزل عليه كتاباً فختم به الكتب ، فلا كتاب بعده ـ إلى أنْ قال ـ فجعله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله علماً باقياً في أوصيائه ، فتركهم الناس ، وهم الشهداء على أهل كلّ زمان ، حتى عاندوا مَنْ أظهر ولاية ولاة الأمر وطلبَ علومهم. وذلك أنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض ، واحتجّوا بالمنسوخ وهم يظنّون أنّه الناسخ ، واحتجّوا بالخاصّ وهم يقدّرون أنّه العامّ ».

ثم سألوه عن تفسير المحكم ، فقال : « المحكم الذي [ لم (٣) ] ينسخه شي‌ء ؛ لقوله تعالى ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ) (٤) ، الآية. وإنّما هلكَ النّاس في المتشابه ؛ لأنّهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم ، وَاستغنوا بذلكَ عن مسألة الأوصياء ، ونبذوا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وراء ظهورهم (٥) .. » إلى آخره.

فإنّه عليه‌السلام بعد أنْ ذكر ما ذكر من أمر القرآن خاصّه وعامّه وناسخه وَمنسُوخه وَمحكمه ومتشابهه ، وَفسّر المحكم بأنّه الذي لا ينسخه شي‌ء ، ذكر أنّ هلاكَ الناس في المتشابه خاصّة ، حيث لم يدركوا حقيقته وَلا المرادَ منه. وَأمّا المحكم فلم يهلكوا فيه ؛ لأنّه لا يحتاج إلى بيان خرج منهم ، فمن أرادَ من الآية معنىً ظاهراً للّفظ جاز له العمل به.

__________________

(١) الأصول الأصيلة : ٣٣ ، مجمع البيان ١ : ١٢.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١.

(٣) في المخطوط : ( لا ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٤) آل عمران : ٧.

(٥) رسالة المحكم والمتشابه : ٣ ، ١١ ، ١٢.

١٢٥

أو ما إذا كان له رأي في شي‌ء ويميل طبعه إليه فيتناول القرآن على وفق رأيه ، حتى لو لم يكُن له ذلكَ الميل لم يخطر ذلك التأويل له ببال ، كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي ، ويستدلّ على تصحيح غرضه من القرآن بقوله تعالى ( اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ) (١) ، تحسيناً للكلام وترغيباً للمستمع ، وهو ممنوعٌ وإنْ كان مقصده صحيحاً.

الثاني : قد قيل : إنّ التّفسير كشف المراد عن اللّفظ المشكل ، والتأويل ردّ أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر. وَقيل : التفسير كشف المغطّى ، والتأويل انتهاء الشي‌ء ومصيره وما يؤول إليه أمره.

فالمعنى : مَنْ فسّر وجزم وقطع بأنّ المراد منَ اللّفظ المشكل كالمجمل وَالمتشابه كذا ، بحمل مشترك المعاني على أحدها من غير سمع كخبر منصوص أو آية أُخرى كذلك ، بل بمجرّد ميله واستحسانه من غير شاهدٍ شرعي ، فقد أخطأ.

فتبيّن ممّا مرّ أنّ قسماً منَ القرآن يعرف المرادَ منهُ سائر النّاس ، وقسماً يعلم بالتعلّم ، وهما اللذان يرجع إليهما عندَ التعارض وإن لم يرد في الأوّل تفسير منهم ، كما في خبر الميثمي (٢).

وأنّ البيّن كآيات الوعد وَالوعيد وَالزجر والتهديد وما شابهها من الآيات الظاهرة لا تتوقّف على الأثر من الآيات الباهرة ، وأنّ المجمل منه كالآيات الدالّة على إقامة الصلوات وإيتاء الزكوات لا بدّ فيه من تفسيرهم لإعداد الركعات في الصلوات ، ومقادير النصاب في الزكاة.

وأنّ المحتمل لأمرين أو أُمور ، فإنْ لم يكن الجميع مراداً ، بل دلّ الدليل على أنّ المراد واحد لا غير ، يحمل على الوجه الموافق للدليل. وإنْ احتمل إرادة منها فلا يجوز القطعُ بإرادة معنىً إلّا بقول المعصوم عليه‌السلام ، ولا يؤخذ بقول أحد إلّا إذا أجمع عليه فيؤخذ به ؛ لمكان الإجماع لكشفه عن قول المعصوم عليه‌السلام.

__________________

(١) طه : ٢٤.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١.

١٢٦

اختلاف الفقهاء في الفتاوى

قال أيّده الله وساعده وأسعده وسدّده ـ : مسألة : ( قد آل الحال بين مجتهدي علمائنا وأخباريّيهم إلى إبطال أكثر أقوالهم وفتاويهم ، ولازم ذلك عدم صحّة صلاة مقلّديهم عند التخالف ، بمعنى : مقلّدي المجتهدين إذا أمّوا الأخباريين ، وبالعكس.

إنّي لم أقف على تصريح فيه من أحد منهم ، إلّا إنّه الظاهر من أكثر عباراتهم في التخطئة في أُمّهات المسائل ، وناهيك بـ ( هداية الأبرار ) من كتاب كاشف عن المعنى الأستار ، وكذلك ( الفوائد المدنيّة ) ، وكذلك كتاب ( الأخبار ) وحدائقُ مولانا المشار إليه آنفاً ، ومقدّمات ( شرح المفاتيح ) و ( المفاتيح ) نفسها ، وما لا يأتي عليه قلم الإحصاء تصريحاً تارةً وتلويحاً اخرى على وجه لا يقبلُ الجمع بوجهٍ من الوجوه ، وأنتم ممّن لا يخفى عليه الوجه ).

أقول وبالله الثقة ونيل المأمول ـ : إنّ تحقيق المرام في هذا المقام يتوقّف على بيان منشأ اختلاف أُولئك الأعلام ، فاعلم أنّ اختلافهم أنّما نشأ من أُمور :

الأوّل : اختلاف الأخبار الواردة عن الأئمّة الأطهار ، وذلك أيضاً أنّما نشأ من أُمور :

أحدها : التقيّة ، وهي أقوى الأسباب في هذا الباب ؛ لأنّهم عليهم‌السلام لم يزالوا في زاوية التقيّة والإغضاء والغضّ عن كلّ محنة وبليّة ، فيخالفون بين الأحكام وإنْ لم يحضر أحدٌ من أُولئك الطغاة الطغام اللئام ، محافظة وخوفاً على شيعتهم الكرام ؛ إذ بعدمهم يؤول الدين إلى الانهدام ، فيجيبون في المسألة الواحدة بأجوبة غير متّحدة. والأخبارُ في هذا المعنى أكثر من أنْ تحصى وأجلّ من أنْ تستقصى.

فمنها : ما رواه ثقة الإسلام وعلم الأعلام في ( الكافي ) موثّقاً عن زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام ، قال : سألته عن مسألة فأجابني فيها ، ثمّ جاء رجل آخر فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثمّ جاء رجل آخر فأجابه بخلافِ ما أجابني وأجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرجلان قلتُ : يا ابن رسول الله ، رجلان من العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبتَ كلّ واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟

فقال : « يا زرارة ، هذا خير لنا ولكم ، فلو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم علينا الناس ولكان

١٢٧

أقلّ لبقائنا وبقائكم ».

قال : ثمّ قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنّة أو على النار لمضوا ، وهم يخرجون من عندكم مختلفين! فأجابني بمثل جواب أبيه (١).

ومثله : رواية ابن أَشْيَم ، قال : فلمّا خرج القوم نظر إليّ ، فقال : « يا ابن أَشْيَم ، كأنّك جزعت ».

قلت : جعلت فداك ، إنّما جزعت من ثلاثة أقاويل في مسألة واحدة. فقال : « يا ابن أَشْيَم ، إنّ الله فوّض إلى داود أمر ملكه ، فقال ( هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) (٢) وفوّض إلى محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر دينه ، فقال ( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (٣) ، وإنّ الله تبارك وتعالى فوّض إلى الأئمّة منّا وإلينا ما فوّض إلى محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) ». ويظهر منهما وأمثالهما أنّ أحكام التقيّة لا تنافي اليقين وعدم خطأ العالمين بأخبارها.

والمراد بالتفويض تفويض بيان الحكم الواقعي في مواضعه وحكم التقيّة في محلّه ، والسكوت فيما لم يروا المصلحة في بيانه ، ولا ينافيه تعدّد الأجوبة ؛ لأنّ من الأشياء أشياء موسّعة تجري على وجوه كثيرة ، وإنّ لها عند الأئمّة سبعين وجهاً ، كما رواه في ( المحاسن ) عن عبد الأعلى بن أعْيَن ، قال :

سأل علي بن حنظلة أبا عبد الله عليه‌السلام عن مسألة وأنا حاضر فأجابه فيها ، فقال له علي : فإنْ كان كذا وكذا؟ فأجابه بوجه آخر ، حتى أجابه بأربعة أوجه ، إلى أنْ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إنّ من الأشياء أشياء مضيّقة ليس تجري إلّا على وجهٍ واحد إلى أنْ قال ومن الأشياء أشياء موسّعة ، تجري على وجوه كثيرة ، وهذا منها ، والله إنّ له عندي لسبعين وجهاً (٥) ».

وتلك الأجوبة يحتمل أنْ تكون كلّها أو بعضها من باب التقيّة، لعلمهم بأنّ السائل قد يضطر إليها ، وأنْ يكون كلّها حكم الله في الواقع ، إذ ما من شي‌ء إلّا وله ذوات وصفات متعدّدة متغايرة تترتّب عليها أحكام مختلفة ، فلو أُجيب في كلّ فرع بجواب مخالف للسابق كانت كلّها صادقة في نفس الأمر وإن لم يعلم السائل وجه صحّتها ،

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٥ / ٥. (٢) ص : ٣٩.

(٣) الحشر : ٧. (٤) بصائر الدرجات : ٣٨٣ / ٢ ، البحار ٢ : ٢٤١ / ٣٢.

(٥) المحاسن ٢ : ٦ / ١٠٧٥ ، البحار ٢ : ٢٤٣ / ٤٦.

١٢٨

وهم العالمون بما سيحدث لرعيّتهم من المصالح والمفاسد.

ومنها : ما رواه حجّة الإسلام أبو منصور الطبرسي ، عن حَرِيز بن عبد الله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له : ليس شي‌ءٌ أشدُّ عليّ من اختلاف أصحابنا. قال : « ذلك من قِبلي » (١).

ومنها : ما رواه الصدوق في ( معاني الأخبار ) عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : « اختلاف أصحابي رحمة ، ولو جمعتكم على أمر واحد لأخذ برقابكم » (٢).

ومنها : ما رواه الشيخ في ( التهذيب ) صحيحاً عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سأله إنسانٌ وأنا حاضر ، فقال : ربّما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلّي العصر وبعضهم يصلّي الظهر؟ فقال : « أنا أمرتهم بهذا ، لو صلّوا على وقت واحد فعُرفوا أُخذوا برقابهم » (٣).

وما رواه ثقة الإسلام في ( الكافي ) حسناً عن منصور بن حازم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب ، ثمّ يجيئك آخر غيري فتجيبه فيها بجواب آخر؟ فقال : « إنّا نجيبُ الناسَ على الزيادة والنقصان » (٤). إلى غير ذلك من الأخبار.

ومعنى قوله عليه‌السلام : « إنَّا نجيبُ الناسَ » ، أي : قدر زيادة التقيّة أو نقصانها ، ويحتمل أنْ يكون مراده عليه‌السلام قدر أيمانهم أو أفهامهم ، أو على الزيادة والنقصان في الجواب ، أو في السؤال والتعبير. ويدلّ عليه ما رواه الشيخ في ( التهذيب ) عن أبي بصير ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام جالساً فدخل رجل فسأله عن التكبير على الجنائز ، فقال : « خمس تكبيرات ». ثمّ دخل آخر فسأله عن الصلاة على الجنائز ، فقال له : « أربع صلوات ». قال : فقلت : جعلت فداك سألتك فقلت خمساً (٥).

وثانيها : اختلاف لفظ الروايات ، وذلك أيضاً أنّما نشأ من الرواة ؛ لأنّ منهم مَنْ

__________________

(١) لم نعثر عليه ، ووجدناه في : علل الشرائع ٢ : ٩٧ / ١٤ ، والبحار ٢ : ٢٣٦ / ٢٢.

(٢) لم نعثر عليه في ( معاني الأخبار ) ، ووجدناه في : علل الشرائع ٢ : ٩٧ / ١٥ ، والبحار ٢ : ٢٣٦ / ٢٣.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٥٢ / ١٠٠٠.

(٤) الكافي ١ : ٦٥ / ٣.

(٥) التهذيب ٣ : ٣١٨ / ٩٨٦.

١٢٩

ينقل بالمعنى مع أنّه سيّ‌ء الفهم ، كعمّار بن موسى الساباطي ومَنْ شابهه ، ومنهم مَنْ كان قليل الضبط ، ويدلّ عليه قوله عليه‌السلام في خبر سُلَيْم بن قيس : « ورجل سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً لم يحفظه على وجهه ووهم فيه ، فلم يتعمّد كذباً ، فهو في يده يقول به ويعمل به ويرويه ويقول : أنا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلو علم المسلمون أنّه وهْمٌ لم يقبلوه ، ولو علم هو أنّه وهْمٌ لرفضه » (١).

وهذه الأُمور منها ما هو مشترك بين أخبار الرسول والأئمة كهذا ، ومنها ما هو مختصٌّ بأخباره كالنسخ ، ومنها هو مختصّ بأخبارهم كالتقيّة.

وأمّا التوجيه بدسِّ الأخبار ؛ فمنهم مَنْ عدّه أيضاً من تلك الأسباب ، ولا بأس به لدلالة الأخبار عليه ، ولا ينافيه القول بعدم ورود الأخبار ، ولا يلزم منه العمل بغير ما أنزل الواحد القهّار ؛ لوقوع التنبيه عليه من الأطهار ، كما لا يخفى على مَنْ جاس خلال ديار الآثار وتصفّح كتب الأخبار ، كـ ( الكافي ) و ( الاحتجاج ) و ( عيون الأخبار ) ؛ ضرورة قولهم عليهم‌السلام : « إنّ لنا في كلّ خلفٍ عدولاً ينفون عن هذا الدين تحريف الضالّين وانتحال المبطلين » (٢).

هذا ، ويحتمل أنْ يكون من الإمام عليه‌السلام كما هو أحد الاحتمالات في قوله عليه‌السلام : « إنّا نجيبُ الناس على الزيادة والنقصان » (٣).

وثالثها : النسخ ، ويدلّ عليه خبر سُليم بن قيس الهلالي ، عن عليّ عليه‌السلام ، حيث سأله عن أشياء كثيرة في أيدي الناس من التفسير والأحاديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يخالفونهم فيها ، وقال : أفترى الناس يكذِّبون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فأجابه عليّ عليه‌السلام ، إلى أنْ قال : « ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً أمر به ثمّ نهى عنه وهو يعلم ، أو سمعه نهى عن شي‌ء ثمّ أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه ، ولو علم

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٣ / ١ ، الوسائل ٢٧ : ٢٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٤ ، ح ١.

(٢) الكافي ١ : ٣٢ / ٢ ، البحار ٢ : ٩٢ / ٢١ ، باختلاف.

(٣) الكافي ١ : ٦٥ / ٣.

١٣٠

المسلمون أنّه منسوخ لرفضوه » (١).

وخبر محمّد بن مسلم ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : قلت له : ما بال أقوام يروون عن فلان بن فلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يتّهمون بالكذب ، فيجي‌ء منكم خلافه؟ قال : « إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن » (٢).

وحَسَنُ منصور بن حازم ، عن الصادق عليه‌السلام ، حيث قال فيه : فأخْبرني عن أصحاب محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله صدقوا على محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أم كذبوا؟ قال : « بل صدقوا ». قال : قلت : فما بالهم اختلفوا؟ فقال : « أما تعلم أنّ الرجل كان يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيسأله عن المسألة فيجيبه بالجواب ، ثمّ يجيبه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب » (٣).

[ .. (٤) ].

وأصرح منه ما وفّقني الله للوقوف عليه في كتاب مثنى بن الوليد الحناط وهو من الأُصول المعروفة ـ : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام مسألة فقلت : أسألك عنها ثمّ يسألك غيري فتجيبه بغير الجواب الذي أجبتني؟. فقال : « إنّ الرجل يسألني عن المسألة يزيد فيها الحرف فأعطيه على قدر ما زاد ، وينقص الحرف فأعطيه على قدر ما ينقص » (٥).

فهذا والله العالم هو الموجب لاختلاف الأخبار ، وإلّا فإنّ كلامهم وفتاويَهم متلقّاة من الجناب الصمداني والوحي السبحاني والفيض الرباني ، ( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (٦) ، إنّا إذا حدّثنا حدّثنا عن الله (٧) ، ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ يُوحى ) (٨).

الثاني : اختلافهم في القواعد الأُصوليّة التي وضعها المتأخّرون ليبنوا عليها الفروع الفقهيّة ، كالخلاف في مفاد الأمر والنهي ، وأنّ النهي عن الشي‌ء يستلزم النهي عن

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٢ ٦٣ / ١ ، الوسائل ٢٧ : ٢٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٤ ، ح ١.

(٢) الكافي ١ : ٦٤ / ٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٠٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٤ ، ح ٢.

(٣) الكافي ١ : ٦٥ / ٣ ، الوسائل ٢٧ : ٢٠٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٤ ، ح ٣.

(٤) سقط في أصل المخطوط. (٥) عنه في البحار ٢ : ٢٣٥ / ٣٠.

(٦) الأنبياء : ٢٧.

(٧) رجال الكشّي ٢ : ٤٨٩ / ٤٠١ ، البحار ٢ : ٢٥٠ / ٦٢.

(٨) النجم : ٣ ، ٤.

١٣١

ضدّه الخاصّ أم العامّ ، وفي أنّ الأمر والنهي هل يصحّ اتّحاد متعلّقهما وحدة شخصيّة بحيث يتعلّقان بجزئي ذي جهتين يجب بإحداهما ويحرم بالأُخرى ؛ لاندراجه تحت كلّيّتين بينهما عموم من وجه أم لا؟.

وكالخلاف في ثبوت الحقائق الشرعيّة وعدمه ، والخلاف في حجّيّة المفاهيم ، كمفهوم الشرط والصفة وغيرهما ، وعدمها ، والخلاف في حجّيّة البراءة الأصليّة ، والاستصحاب ، وخبر الواحد ، إلى غير ذلك.

الثالث : اختلافهم رضوان الله عليهم في الأنظار والفهم والاعتبار.

وهنا أمر رابع ، ذكره العلّامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله الماحوزي ، حيثُ قال في بعض رسائله : أكثر الخلاف الواقع في الشريعة أنّما نشأ من أمرين :

أحدهما : الاختلاف في الأُصول والقواعد التي تبنى عليها فروع الفقه وعدم التفطّن لها.

والثاني : تكلّم مَنْ ليس له قدمٌ في هذه الصناعة ولا حظٌّ وافرٌ من هذه البضاعة ، كما أشار إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله : « العلم نقطة كثّرها الجاهلون » (١).

فلو أنّ جميع المحصّلين عمدوا أوّلاً إلى تحقيق الأُصول واستفرغوا الوسعَ في تمهيدها وبذلوا الجهد في تحديدها وبيانها وتشييدها ، وكان مرمى قصدهم هو وجه الله سبحانه وإرادة رضاه ، وأخلصوا النيّة في ذلك ولم تسرع نفوسهم إلى الشوائب المكدّرة للإخلاص ، وجاهدوا في ذلك حقّ المجاهدة ؛ لهداهم الله سبحانه إلى دينه القويم ومنهاجه المستقيم ؛ لأنّه سبحانه يقول ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (٢).

ولو أنّ الجهّال صمتوا وكفّوا عن التكلّم في الفروع لم يكد يقع خلاف في فروع الشريعة ولا في أُصولها.

ومن ثمّ ذكر صاحب ( رسائل إخوان الصفا ) : ( إنّ الخطأ في كلّ صناعة أنّما نشأ من

__________________

(١) غوالي اللئلئ ٤ : ١٢٩ / ٢٢٣.

(٢) العنكبوت : ٦٩.

١٣٢

تكلّم غير أهلها فيها ، وجولان مَنْ ليس له نصيبٌ منها في فيافيها ، وفي المثل السائر : استعينوا على كلّ صناعة بأهلها ) (١). انتهى كلامه ، علت في الفردوس أقدامه.

وإذ تحقّق وجه الاختلاف ، فإنّ الذي يقتضيه الإنصاف أنّه إن كان اختلاف فتاوى هؤلاء الأشراف ناشئاً من اختلاف أخبار أهل الأعراف لم تتناقض تلك الفتاوى حتى يكون الحقّ في واحد ؛ لأنّ كلّاً منهم يقول : هذه الفتوى ثبت ورودها عنهم عليهم‌السلام ، وكلّ ما هو كذلك يجوز لنا العمل به إلى ظهور القائم عليه‌السلام ، وإنْ كان ورود شي‌ء منها واقعاً من التقيّة فكلّ منها حقّ ، إحداها عند الاختيار والأُخرى عند التقيّة والاضطرار ؛ لأنّ اليقين المعتبر عندنا على قسمين : يقينٌ متعلّقٌ بأنّ هذا حكم الله في الواقع ، ويقين متعلّقٌ بأنّ هذا ما ورد عن المعصوم ، وما هو كذلك فالعمل به واجبٌ وإنْ لم يحصل لنا منه ظنٌّ بما هو حكم الله في الواقع ، والمقدّمة الثانية متواترةٌ معنىً عنهم عليهم‌السلام.

والمعتبر في اليقين في البابين ما يشمل العادي ، فلا يتعيّن تحصيل ما هو أقوى منه من أفراد اليقين ، وقد ورد الأمر منهم عليهم‌السلام بالعمل بأخبارهم وإنْ كانت تقيّة ، فروى الثقة في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « لا يسع الناس حتى يسألوا ، أو يتفقّهوا ، ويعرفوا إمامهم ، ويسعهم أنْ يأخذوا بما يقول وإنْ كان تقيّة » (٢).

وممّا يدلّ على حقيّة العمل بأخبار التقيّة وعدم منافاتها الحقّ ما رواه الكشّي عن عُبَيْد بن زرارة في حديث طويل ، قال فيه بعد كلام طويل :

« فلا يضيقنّ صدرك من الذي أمرك به أبي وأمرتك به ، وأتاك أبو بصير بخلاف الّذي أمرناك به ، فلا والله ما أمرناك ولا أمرناه إلّا بأمرٍ وسعنا ووسعكم الأخذ به ، ولكلّ ذلك عندنا تصاريف ومعان توافق الحقّ ، ولو اذن لنا لعلمتم أنّ الحقّ في الذي أمرناكم » (٣). وسيأتي له في المسألة الأخيرة زيادة بيان وإيضاح ، والله العالم.

لكن ينشأ هنا إشكالٌ من ورود تركِ ما وافق القوم ، فيحتاج إلى الجمع بين ما دلّ

__________________

(١) رسائل إخوان الصفاء ٣ : ٤٣٨.

(٢) الكافي ١ : ٤٠ / ٤ ، الوسائل ٢٧ : ١١٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١٣.

(٣) رجال الكشي ١ : ٣٥٠ / ٢٢١.

١٣٣

على الأخذ بأخبار التقيّة الموافقة لهم كالأخبار السابقة ، وبين ما دلّ على تركه كالمقبولة الحنظليّة (١) والمرفوعة الزراريّة (٢).

ولعلّ الجواب بحمل ما دلّ على ترك أخبار التقيّة الموافقة لهم على ما إذا خالف حكمها حكم الكتاب والسنّة ، أو بتخصيص هذا الحكم بحالة التعارض ، أو بحمله على حال السعة وعدم الضرورة.

وأجاب المحقّق الكاشاني في ( الوافي ) : ( بحمل ما دلّ على الأخذ وما دلّ على الترك ؛ بحمل الأوّل على حالة العمل ، والثاني على حالة العلم والاعتقاد بأنّه حقٌّ ، والله العالم. وإنْ لم يكن ناشئاً عمّا ذكر لزم التناقض بينها ؛ لابتنائها على ما لم يرد التمسّك به والتعويل عليه والركون إليه ، فإنّهم إنّما يقولون : هذا حكم الله بحسب ظنّي ، وما هو كذلك يجوز لمقلّدي العمل به ) (٣). وسيأتي ما يرد عليه مفصّلاً إنْ شاء الله تعالى.

وهذا التفصيل هُو الحقّ الحقيق بالاتّباع وإنْ كان قليل الأتباع.

إذا صحَّ منك الودُّ يا غايةَ المُنى

فكلُّ الذي فوق الترابِ ترابُ

ثمّ نقول : قول السائل الفاضل سلّمه الله ـ : ( قد آل الحال بين مجتهدي علمائنا وأخبارييهم إلى إبطال أكثر أقوالهم وفتاويهم ، ولازم ذلك عدم صحّة صلاة مقلّديهم عند التخالف ).

فيه نظر : أمّا أوّلاً ؛ فلأنّ هذا ليس مختصّاً بهذين الفريقين ، بل عامّ لكلّ فريق.

وأمّا ثانياً ؛ فلأنّ ما جرى بينهم أنّما هو من باب الردّ والمعارضة ، والنقض والإبرام ، والمجادلة بالتي هي أحسن كما أمر به عزّ شأنه ، ولولاه لخفي الحقّ ولم يتّضح.

وأكثر ما وقع لمولانا الأمين الأسترآبادي والمولى الملّا محسن الكاشاني على ما وقفنا عليه من كلامه ممّا يدور مدار هذا الشأن ، فإنّه في كتاب ( الحقائق ) الذي قال

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠ ، التهذيب ٦ : ٣٠١ / ٨٤٥ ، الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

(٢) غوالي اللئلئ ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

(٣) الوافي ١ : ٢٩٢.

١٣٤

في آخره : إنّه آخر مصنّفاته (١) في ذكر افتراق الناس بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكر سيرة الشيعة الإماميّة في الاقتصار على اتّباع المحكمات في العقائد والأحكام قال :

( أمّا ما ترى من اجتهاد بعض متأخّري أصحابنا وتدوينهم الأُصول وخوضهم في الفضول ، فإنّما ذلك لشبهة جرت فيهم من مخالفيهم كما بيّنا وجهه في مسفوراتنا ، مع احتمال أنْ يكون سبب حدوثه [ فيهم (٢) ] أوّلاً لمصلحةٍ رأوها ومماشاةٍ مع مخالفيهم راعوها ، لئلّا يزعموا أنّ دقائق العلم ليست فينا ، ثمّ صار ذلك شبهة لمَنْ تأخّر عنهم فسرت (٣) فيهم ثمّ سرت في ذويهم ، وعلى التقديرين فليس ذلك قادحاً في منزلتهم العليا ولا سبباً لإلحاقهم بالفرقة الأُولى حاشاهم عن ذلك ، فإنّ لهم حقوقاً جمّة على الفرقة الناجية الجليلة بترويجهم المذهب الحقّ بمساعيهم الجميلة ورفعهم جلّ التقيّة عن كثير من العباد والبلاد ، فجزاهم الله عنّا خير الجزاء ) (٤). انتهى ما أردنا نقله من كلامه ، زِيد في إكرامه.

وكذا من حذا حذوهما ، كمولانا الحرّ وشيخنا المحقّق المنصف الشيخ يوسف ، لم يكن قصدهم إلّا إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل ، فإنّه في آخر المقدّمة الثانية عشرة من مقدّمات حدائقه في ذكر عدم الفرق بين الفريقين وسدّ باب التشنيع من البين ، واعترافه بمناقشة بعضهم بعضاً في جزئيات المسائل واختلافهم في تطبيق الدلائل قال : ( وحينئذ فالأولى والأليق بذوي الإيمان ، والأحرى والأنسب في هذا الشأن ، هو أنْ يقال : إنّ عمل علماء الفرقة المحقّة وأهل الشريعة الحقّة أيّدهم الله بالنصر والتمكين ورفع درجاتهم في أعلى عليين سلفاً وخلفاً ، إنّما هو على مذاهب أئمّتهم صلوات الله عليهم ، وطريقهم الذي أوضحوه لديهم ، فإنّ جلالة شأنهم وسطوع برهانهم وورعهم وتقواهم المشهور ، بل المتواتر على مر الأيّام والدهور ، يمنعهم من الخروج عن تلك الجادّة القويمة والطريقة المستقيمة.

__________________

(١) الحقائق : ٣٢٥.

(٢) من المصدر.

(٣) في المصدر : ( جرت ).

(٤) الحقائق : ٢١ ٢٢.

١٣٥

ولكن ربّما حاد بعضهم أخبارياً كان أو مجتهداً عن الطريق غفلة أو توهّماً ، أو لقصور اطّلاع أو قصور فهم ، أو نحو ذلك في بعض المسائل ، فهو لا يوجب تشنيعاً ولا قدحاً.

وجميع تلك المسائل التي جعلوها مناط الفرق من هذا القبيل كما لا يخفى على مَنْ خاض بحار التحصيل ، فإنّا نرى كلّاً من المجتهدين والأخباريّين يختلفون في آحاد المسائل ، بل ربّما خالف أحدهم نفسه مع أنّه لا يوجبُ تشنيعاً ولا قدحاً.

وقد ذهبَ رئيس الأخباريّين الصدوق رحمه‌الله إلى مذاهب غريبة لم يوافقه عليها مجتهدٌ ولا إخباري ، مع أنّه لم يقدح ذلك في علمه وفضله.

ولم يرتفع صيت هذا الخلاف ، ولا وقوع هذا الاعتساف ، إلّا من زمن صاحب الفوائد المدنية سامحه الله برحمته المرضية ـ ، فإنّه قد جرّد لسان التشنيع على الأصحاب وأسهب في ذلك أيّ إسهاب ، وأكثر من التعصّبات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب.

وهو وإنْ أصاب الصواب في جملة من المسائل التي ذكرها في ذلك الكتاب ، إلّا إنّها لا تخرج عمّا ذكرنا من سائر الاختلافات ، ودخولها فيما ذكرنا من التوجيهات ، وكان الأنسب بمثله حملهم على محامل السداد والرشاد إنْ لم يجد ما يدفع به عن كلامهم الفساد.

فإنّهم رضي‌الله‌عنهم لم يألوا جهداً في إقامة الدين وإحياء سنّة سيّد المرسلين ، ولا سيّما آية الله العلّامة الذي قد أكثر من الطعن عليه والملامة ، فإنّه بما ألزم به علماء الخصوم والمخالفين من الحجج القاطعة والبراهين ..

إلى أنْ قال : قد صار له من اليد العليا عليه وعلى غيره من علماء الفرقة الناجية ما يستحقّ به الثناء الجميل ومزيد التعظيم والتبجيل ، لا الذم والنسبة إلى التجهيل (١) كما اجترأ به قلمه عليه وعلى غيره من المجتهدين ) (٢). انتهى كلامه علا مقامه.

__________________

(١) في المصدر : ( تخريب الدين ).

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ١٦٩ ١٧٠.

١٣٦

وهو حسنٌ إلّا إنّ ما ردّ به على المحدِّث الأمين لا وجه له ، لما عُرف من أنّ ما وقع منه ومن أضرابه أنّما هو لإحقاق الحقّ وإزهاق الباطل بالزهق.

وأمّا ما ربّما وعسى يقع من التهكّم والإزراء والتشنيع فهو من الغفلات التي تعرضُ للأريب من غير إصرار وقصد تثريب.

قال المحقّق الشيخ علي ابن العلّامة الشيخ محمّد المقابي في ( رسالة الجهر والإخفات ) في ذكر ما وقع للشيخ عبد علي صاحب الإحياء ، أخ الشيخ يوسف مع معاصريه من الإزراء : ( وما كان أغنى الكلّ عن ذلك ، فإنّ القومَ كبَني أُمٍّ واحدة قد جمعهم التوحيد والولاية ، والمسألة ليست أُصوليّة توجبُ خروج أحد الفريقين من الدين إذا أخطأ فيها.

واختلاف الأصحاب في مسائل الفروع أكثر من أنْ يحصى ، والكلّ إلى خير إنْ شاء الله ، فإنّه عاملٌ بما ظهر له من الأدلّة وذلك فرضه والمخاطبُ به ، وكذلك الآخر ، ولكن قد جرت عادة العلماء خصوصاً أهل بلدنا في إطلاق عذبة اللسان في الوقوع فيمن خالفهم في الحكم والتشنيع عليهم والسبّ ، وخصوصاً إذا لم يكن قريباً منهم ، وينسبونه إلى الجهل والفساد ، والفسق والتعصّب ، وبعد ذلك يلتمسون منه الدعاء.

وهذا هو الذي يمرض القلوبَ ويعمي ويصمّ عن رؤية القول واستماعه وإنْ كان لصاحبه تقوى يحجزه عن الوقوع في المحارم ، فإنّه بسبب مرض قلبه وسكره في غيظه لا يلتفت إليه ولا يشمّ منه شيئاً كالمزكوم ويحسب أنّه على حقّ ، ولذلك تراه عند صحوه يظهر له أمر بخلاف ما ظهر له في حال مرضه ) (١). انتهى ما أردنا نقله.

أقول : وما أشبه هذا الحال باللغو الذي قال الله فيه ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) (٢).

وبالجملة ، فما جرى بين أُولئك الأبدال غير قادحٍ بلا إشكال ، ويدلّ عليه صريحاً ما رواه الثقة في ( الكافي ) عن عليّ بن عطيّة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كنت عنده

__________________

(١) رسالة في الجهر والإخفات ( مخطوط ) : ١٣.

(٢) البقرة : ٢٢٥.

١٣٧

وسأله رجل عن رجل يجي‌ء منه الشي‌ء على حدّ الغضب ، يؤاخذه الله به؟ فقال : « الله أكرم من أنْ يستغلق عبده ». قال : وفي نسخة أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام : « يستقلق عبده » (١).

فهذا لسان معدن الرسالة ناطق بأنّ ما ربّما خرج منهم غير مخلّ بالعدالة ، وأنّ الله أكرم من أن يضيّق على عبده فيؤاخذه بمثل هذه المقالة ، وهذا بحمد الله واضح لمن أصلح الله باله.

وأمّا ثالثاً : فلأنّ قوله مدّ ظلّه ـ : ( ولازم ذلك ) .. إلى آخره ، لا يخفى ما فيه ؛ إذ لا ملازمة بين ما وقع وبين بطلان صلاة مقلّديهم حتى من اللزوم الغير البيّن ، مع ما يظهر ممّا تقدّم من عبائرهم من عدم ذلك ، وكون الخلاف الواقع أنّما هو في الفروع الناشئ من اختلاف الأُصول ، كالكتاب والسنّة ظاهراً ، واصلة الناشئ من اختلاف أفهامهم أو غير ذلك ، مع تصريح المحدّثين منهم والمجتهدين بجواز اقتداء المأموم بالإمام المخالف له في الفروع ، وها أنا أتلو عليك بعضاً من كلامهم :

قال الشهيد الأوّل في ( البيان ) : ( المخالف في الفروع الخلافية يجوز الاقتداء به لمَن يخالفه ، إذا كان الخلافُ ليس من أفعال الصلاة ، أو منها ولا يقتضي إبطالها عند المأموم ) (٢). انتهى.

وقال المحدث الشيخ حسين في كتاب ( السداد ) : ( والمخالف في الفروع الخلافية للمأموم يجوز الاقتداء به إذا كان الخلاف ليس في أفعال الصلاة ، أو فيها ولم يقتضِ إبطالها عند المأموم ، كما لو اعتقد الإمام وجوب القنوت والمأموم ندبه ) (٣). انتهى.

وقال الشيخ محمّد ابن الشيخ عبد علي آل عبد الجبّار ، وقد سئل هل يشترط اتّفاقهم في الأُصول والفروع أم لا؟.

فأجاب : بـ : أنّ اشتراط الاتّفاق في الأُصول غير ظاهر ، إذ لا تفاوت عند الإماميّة في الأُصول الدينية ولا يضرّ اختلافهم في بعض المسائل النظريّة التي لا توجب

__________________

(١) الكافي ٨ : ٢١١ / ٣٦٠.

(٢) البيان : ٢٢٩.

(٣) سداد العباد : ٢٦٠.

١٣٨

اختلافاً في الأُصول الأوّليّة ، ولا يلزمنا الخلاف فيما تركّبت منه الأجسام ، ومعنى الزمان ومعنى الطبيعة وغير ذلك ، وهو كثير.

أمّا المسائل الفروعيّة فلا يضرّ الاختلاف فيما يحصل بالنظر فيما يحصل للمجتهدين بعد بذل الوسع ، وهذا الاختلاف ممّا أوقعوه عليهم‌السلام ودلّت عليه الروايات بحسب ابتداء النظر ، ولا يضرّ اختلاف العالمين في بعض شروط الاجتهاد إذا كان بسبب اختلاف النظر بعد بذل الوسع ). انتهى.

وهو ظاهرٌ كسابقيه في عدم الضرر بالاقتداء ، إلّا إنّه استقوى عدم جواز الاقتداء في بعض الجزئيّات أو الكيفيّات بإمام لم يأتِ بها.

وقال في رسالة الصلاة : ( ولا يضرّ الخلاف بين الإمام والمأموم في الفروع ، إلّا أنْ يكون فيما يوجب بطلان الصلاة عند أحدهما ) (١).

وقد وجدت بخطّ بعض الثقات ما لفظه : وسُئل العلّامة السيّد مهدي الطباطبائي ، ساكن النجف والمقبور به عند جدّه عليه‌السلام ، عن حال الفريقين ، فقال :

لم أدرِ ما الفرق بين أهل الأُصول والأخبار ، فأمّا أهل الأُصول فإنّهم يأخذون أصل دينهم من الخبر المرويّ عن الأئمّة عليهم‌السلام ، وأمّا أهل الأخبار فإنّهم يسندون دينهم إلى الأخبار المرويّة الصحيحة عن الأئمّة الأطهار ، والكلّ منهم محقّ ، والسلام.

وسُمع من الشيخ جعفر النجفي أيضاً يقول : إنّي عاصرت جملة من علماء الأخباريّين ، أُناساً لم أرَ مثلهم ؛ فمن أُولئك الشيخ يوسف الأصمّ صاحب ( الحدائق الناضرة ) ، وأخوه الشيخ عبد علي الدرازي صاحب الإحياء ، فإنّهما يستسقى بوجههما الغمام.

ورأيتُ مكتوباً منقولاً من خطّ منقول عن الشيخ جعفر النجفي كتبه بيده وهذه صورته :

( بسم الله ، وله الحمد ، وصلّى الله على محمّد وآله ، قد تكرّر في كلام بعض

__________________

(١) الرسالة الصلاتية : ٥٤. ( مخطوط ).

١٣٩

القدماء والمتأخّرين في تقسيم علماء الإماميّة إلى اصوليين وأخباريين ، وإنّي بعد النظر التامّ وتمام الخوض في أخبار الأئمّة عليهم‌السلام لم أجد فرقاً بين الفريقين في المقام ، والعلماء من الجانبين على تقدير الفرق في أعلى محلّ ، والجهّال المدّعُونَ للعلم وليسوا من أهله في الدرك الأسفل.

فكلّ من رأيتموه من العلماء الأعلام راجعاً إلى الأئمّة عليهم‌السلام في جميع الأحكام عوّلوا عليه وارجعوا في الأحكام إليه ، وصلّوا خلفه جماعة ، وأعدّوا الركون إليه من أحسن البضاعة.

وإنْ رأيتم شخصاً يطعن بالعلماء وينسبهم إلى مخالفة جبّار الأرض والسماء فتباعدوا عنه ولا تأخذوا دينكم عنه ، ألا وإنّي رأيتُ قوماً ينسبُونَ أنفسهم إلى الأخباريّة وآخرين ينتسبون إلى الأُصوليّة وكلّ من الفريقين لا يعبأ بهم ؛ لأنّهم محسوبون من أعداد الجهّال لا العلماء.

وأمّا العلماء من الأُصوليّين والأخباريّين فإنّي استشفعُ بهم إلى اللهِ في قضاء مقاصد الدنيا والدين ، واستسقي بهم الغمامَ عند غور الأنهار وقلّة الأمطار ، والسلام ). انتهى كلامه ، علت في الخلد أقدامه.

وقد صرّح السيد كاظم الحسني الرشتي في ( دليل المتحيّرين ) بأنّ اختلاف هذين الفريقين لا يوجب كفراً ولا فسقاً ، قال بعد ذكر ما جرى بين الكشفيّة والبالاسرية ـ : ( وأين هذه من مسألة الأُصوليّة والأخباريّة ، فإنّ اختلافهما لا يوجب كفراً ولا فسقاً ، وإنّما هما من قبيل قوله عليه‌السلام : « نحن أوقعنا الخلاف بينكم ، فراعيكم الذي استرعاه الله أمر غنمه أعلم بمصالح غنمه ، إنْ شاء فرّق بينها لتسلم وإنْ شاء جمع بينها لتسلم » (١) ). انتهى كلامه ، علت في الفردوس أقدامه.

وبالجملة ، فإنّي لم أقف على عبارة من الفريقين تدلّ على ترك الاقتداء بأحد من الفريقين عند التخالف.

__________________

(١) رجال الكشّي ١ : ٣٥٠ / ٢٢١ ، البحار ٢ : ٢٤٧ / ٥٩ باختلاف.

١٤٠