زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

السيد محمد كاظم القزويني

زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

المؤلف:

السيد محمد كاظم القزويني


المحقق: السيد مصطفى القزويني
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الغدير
الطبعة: ١
ISBN: 964-7165-32-3
الصفحات: ٦٩٤

وهذا إخبارٌ من السيدة زينب عليها‌السلام بما يدور في ذهن يزيد حين يُلاقي جزاء أعماله الإجراميّة.

وتتمنّى ـ أيضاً ـ حينما تُلاقي أشدّ درجات العقوبة والتعذيب :

« وأحبَبتَ أنّ أُمّك لم تحملك ، وإيّاك لم تَلِد حين تصير إلى سخط الله ومُخاصمك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »

أحبَبتَ ـ هنا ـ : بمعنى تَمنّيتَ من أعماق قلبك أن أمّك لم تكن تحمل بك ، ولم تلدك حتى لا تكون مخلوقاً وموجوداً من أول يوم ، ولم تَكتَسِب هذه السيئة الكبيرة التي دفعت بك إلى أسفل السافلين في التابوت الموجود في اسفل طبقات جهنّم ، حيث يستقرّ فيه أفراد معيّنون من الجُناة الذين جرّوا الوَيلات على البشريّة جمعاء ، وعلى كلّ الأجيال والبلاد والشعوب ، وأسّسوا الأُسس ومهّدوا الطرق لمن يأتي من بعدهم من الطغاة والخَوَنة ، في أن يقوموا بكلّ جريمة ، وبكل جُرأة!

إنّ الأحاديث الشريفة تقول : إنّ أهل النار ـ جميعاً ـ يستغيثون بالموكّلين بهم من الملائكة .. أن لا يفتحوا باب ذلك الصندوق ، لأنّ درجة الحرارة فيها أشدّ ـ بكثير ـ مِن

٤٤١

حرارة جهنّم نفسها!! (١)

وتقول الأحاديث الشريفة : إنّه كلّما خَفّت ونزلت درجة حرارة نار جهنّم .. تَفتَح الملائكة باب ذلك الصندوق لمدّة قليلة فتزداد حرارة جهنّم كلّها بالحرارة الشديدة التي أُضيفت إليها من ذلك التابوت ، كالقِدر الكبير للطعام الذي توضع فيه البقول ، وتوضع على نار خفيفة ، وفُجأةً يرفعون درجة تلك النار إلى أقصى نسبة ممكنة ، فيحدث إضطراب عجيب في ذلك القدر وما فيه!

ويُعبّر عن ذلك الصندوق بـ « التابوت » وبالمعذّبين فيه بـ « أهل التابوت ».

وقد رُوي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « ... إذا كان يوم القيامة أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه الحسين عليه‌السلام ويده على رأسه يقطر دماً ، فيقول : « يا ربّ سل أمّتي فيمَ ( أي : لمـاذا ) قتلوا ولـدي! » (٢)

__________________

١ ـ كتاب ( بحار الأنوار ) ج ٨ ، ص ٢٩٦ ، وهو ينقل ذلك عن كتاب « تفسير علي بن إبراهيم » ، وقد نَقَلنا مضمون الحديث.

٢ ـ كتاب « أمالي الطوسي » ص ١٦١ ، حديث ٢٦٨ ، ونقله المجلسي في « بحار الأنوار » ج ٤٥ ، ص ٣١٣.

٤٤٢

ثمّ بدأت السيدة زينب عليها‌السلام بالدعاء على يزيد ومَن شاركه في ظلم آل رسول الله الطيّبين الطاهرين ، دَعَت عليهم مِن ذلك القلب المُلتَهِب بالمصائب المُتتالية ، فقالت :

« اللهم! خُذ بحقّنا ، وانتقم من ظالمنا ، واحلُل غضبك على من سفك دماءنا ، ونقضَ ذمارنا ، وقَتلَ حُماتنا ، وهتك عنّا سدولنا »

نَقَضَ : لم يُراع الحرمة والعهد.

الذمار : ما ينبغي حفظه والدفاع عنه ، كالأهل والعِرض. (١)

وقيل : ذمار الرجل : كل شيء يلزمه الدفع عنه. (٢)

سدول ـ جمع سدل ـ السِتر. (٣)

ثم أرادت السيدة زينب عليها‌السلام أن تُبيّن ليزيد حقيقة واقعيّة : وهي أنّ جميع ما قُمتَ به ضدّ آل رسول الله ، مِن : قتل وسَبي ، وحمل الرؤوس من بلد إلى بلد ، وإهانة

__________________

١ ـ المعجم الوسيط.

٢ ـ كتاب « العين » للخيل بن أحمد.

٣ ـ نفس المصدر.

٤٤٣

الرأس الشريف ، والإفصاح عن الكلمات الكُفريّة الكامنة في الصدر ، وغيرها .. لا تعود عليك بالفائدة والنَفع ، بل تعود عليك بالخسران والعقوبة ، حتى لو جعَلَتك تفرح لمدّة قصيرة ، لكنّ هذا الفرح سوف لا يستمرّ ، بل يتعقّبه سلسلة متواصلة من أنواع الخسارة والعذاب الجسدي والنفسي ، فقالت عليها‌السلام :

« وفعلت فِعلتك التي فعلت ، وما فرَيت إلا جلدك ، وما جَزَرت إلا لحمك »

فَريتَ : شققتَ وفتَتَّ (١) وقَطعتَ (٢).

جزَرتَ : قطعتَ (٣) ويُستعمل غالباً في نحر البعير وتقطيع لحمه.

« وسترد على رسول الله بما تحمّلتَ من دم ذريّته ، وانتهكتَ من حرمته ، وسفكت من دماء عترته ولُحمَته ».

__________________

١ ـ المعجم الوسيط.

٢ ـ كتاب « العَين » للخليل.

٣ ـ المعجم الوسيط.

٤٤٤

اللُحمة : القرابة ، يُقال : بينهم لُحمة نسب. (١)

المعنى : سترِد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بعد موتكَ ـ وأنت تحمل على ظهرك من الجرائم ما لا تحملها الجبال الرواسي ، فيُخاصمك على كل واحدة واحدة منها .. أشدّ أنواع الخصومة ، من دون أن يخفى عليه شيء!

« حيثُ يُجمع به شملهم ، ويُلمّ به شعثهم ، وينتقم من ظالمهم ، ويأخذ لهم بحقّهم من أعدائهم ».

الشعث : ما تَفرّقَ من الأمور أو الأفراد ، يُقال ـ في الدعاء ـ : « لَمّ الله شعَثه ». (٢)

المعنى : سوف يجمع الله تعالى آل رسول الله عند النبي الكريم في جبهة واحدة ـ وذلك في يوم القيامة ـ فيَشكو كلّ واحد من آل الرسول إلى النبي الكريم كلّ ما لقيَ من الناس مِن عداءٍ وظلم ، فينتقم الله من أعدائهم أشدّ الإنتقام. ومادام الأمر كذلك ، فاسمع يا يزيد :

« فلا يستفزّنّك الفرح بقتلهم »

__________________

١ ـ المعجم الوسيط.

٢ ـ نفس المصدر.

٤٤٥

لا يستفزّنك : أي : لا يُخرجك الفرح عن حالتك الطبيعيّة ، يُقال : إستفزّه : أي استخفّه ، أو ختَله حتى ألقاه في مهلكة. (١)

فلا خير في فرحة قصيرة يتعقّبها حزن دائم ، وعذاب أليم ، وخلود في النار.

ثمّ أدمجت السيدة زينب عليها‌السلام كلامها بالقرآن الكريم ، فقالت :

« « ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون ، فرحين بما آتاهم الله من فضله ... » (٢) وحسبُك بالله ولياً وحاكماً »

لعلّ المقصود من قولها « وحسبك بالله وليّاً وحاكماً » أي : وليّاً للدم ، وآخذاً للثار ، فالإمام الحسين عليه‌السلام هو : وصيّ رسول الله ، وسيّد أولياء الله تعالى ، فمن الطبيعي : أن يكون الله ( عز وجل ) هو الطالب بثاره ، والوليّ لدمه ، فهو الشاهد لمصيبة قتل الإمام الحسين ، وهو القاضي ، وهو الحاكم ، فهنا .. الحاكم والقاضي هو الذي قد شَهِدَ الجريمة

__________________

١ ـ كتاب « العين » للخليل ، و « لسان العرب » لابن منظور ، و « تاج العروس » للزبيدي.

المحقق

٢ ـ سورة آل عمران ، الآية ١٦٩ ـ ١٧٠.

٤٤٦

بنفسه ، فلا يحتاج إلى شهادة شهود ، وهو الذي يَعرف عظمة المقتول ظلماً ، وهو الذي يعلم أهداف القاتل مِن وراء قتله للإمام ، وهو يزيد.

« وبرسول الله خَصماً ، وبجبرائيل ظهيراً »

لقد روي عن الصحابي : إبن عباس أنّه قال : « لمّا اشتدّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرضه الذي مات فيه ، حضَرتُه وقد ضمّ الحسين إلى صدره ، يسيل من عرَقه عليه ، وهو يجود بنفسه ويقول : « ما لي وليزيد! لا بارك الله فيه ، اللهم العن يزيد ».

ثمّ غُشيَ عليه طويلاً وأفاق ، وجعل يُقبّل الحسين وعيناه تذرُفان ويقول : أما إنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدي الله ». (١)

ثمّ صعّدَت السيدة زينب عليها‌السلام من لهجتها في تهديد يزيد وإنذاره ، مُغامرةً منها في حربها الكلاميّة ومُخاطرتها في كشف الحقائق ، وإهانتها للطاغية يزيد ، فقالت :

« وسيعلم من بوّأك ومكّنك من رقاب المسلمين أن

__________________

١ ـ كتاب « الدرّ النظيم » للشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي ، المتوفى عام ٦٧٦ للهجرة ، الطبعة الاولى ، طبع ايران ، عام ١٤٢٠ هـ ، ص ٥٤٠ ، وهو ينقل ذلك عن « مثير الأحزان ».

٤٤٧

بئس للظالمين بدلاً ، وأيّكم شرّ مكاناً وأضلّ سبيلاً »

مكّنَكَ : مهّد لتسلّطك على كرسيّ الحكم على الناس والتلاعب بدماء المسلمين.

وهذا تصريح من السيدة زينب عليها‌السلام ـ أمامَ يزيد ومَن كان حوله في مجلسه ـ بعدم شرعيّة تسلّطه على رقاب الناس ، بل وعدم شرعيّة سلطة من مهّد ليزيد هذه السلطة وهو أبوه معاوية بن أبي سفيان ، فهو الذي يتحمّل ما قام به يزيد من الجرائم ، مُضافاً إلى ما تحمّله هو من الجنايات وقتل الأبرياء. فسيكون عذابه أشد ، لأن جرائمه أكثر ووزرَه أثقل. ولعلّ هذا المعنى هو المقصود من قول السيدة زينب ـ حكايةً منها عن القرآن الكريم : « أيّكم شرّ مكاناً ».

« وما استصغاري قَدرك ، ولا استعظامي تَقريعك »

التَقريع : الضرب مع العُنف والإيلام.

وفي نسخة :

« ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، إنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظِم تقريعك » (١).

__________________

١ ـ كتاب « الملهوف على قتلى الطفوف » للسيد ابن طاووس ، ص ٢١٧.

٤٤٨

الدواهي ـ جمع داهية ـ : دَواهي الدهر : ما يُصيب الإنسان من نُوَبه. (١)

لعلّ السيدة زينب عليها‌السلام تقصد ـ من كلامها هذا ـ : أنّ يا يزيد! من الصعب عليّ جداً أن أُخاطبك ، لأنّي في منتهى العفة والخدارة ، وأنت في غاية اللؤم والحقارة ، ومن الصعب عليّ أن أُخاطب رجلاً نازل القدر والمكانة ، لكنّ الضرورة والظروف المؤسفة وتقلّبات الدهر ، جعلتني أكون طرفاً لك في الخطاب ، لكي أُبيّن لك فظاعة تقريعك لرأس أخي الإمام الحسين عليه‌السلام.

« تَوَهّماً لإنتجاع الخطاب فيك »

الإنتجاع : إحتمال التأثير. (٢)

المعنى : ليس هدفي من مُخطابتك إحتمال تأثير خطابي فيك ، بل هو ردّ فعل طبيعي لما شاهدته وأُشاهده من المصائب ، وعسى أن يؤثّر كلامي في بعض الجالسين في هذا المجلس ، ممّن خفيَت عنهم الحقائق ، بسبب تأثير الدعايات ، وأقول قَولي هذا .. لكي أُبطِل

__________________

١ ـ المعجم الوسيط.

٢ ـ كما يُستفاد هذا المعنى من كتاب « العين » للخليل ، و « المعجم الوسيط ».

المحقق

٤٤٩

وأُدمر ما أحرزته من الإنتصارات الموهومة.

« بعد أن تركتَ عيون المسلمين به عبرى »

أي : مُغرَورقة ومليئة بالدموع بسبب استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام بلا ذنب ، وبتلك الكيفية الفجيعة!

« وصدورهم عند ذكره حرّى »

أي : ملتهبة من الحزن والأسى ، عند تذكّر ما جَرت عليه من المصائب المقرحة للقلوب.

وهذا أمر طبيعي لكل مسلم ـ بل كلّ إنسان ـ لم تتغيّر فيه الفطرة الأولية التي فطر الله الناس عليها ، فالتألّم من هكذا فاجعة .. هو رد فعل طبيعي لكل من تكون صفة العاطفة سليمة لديه.

ثمّ ذكرت السيدة زينب عليها‌السلام سبب عدم إحتمال تأثير خطابها في نفسيّة يزيد وحاشيته ، فقالت عليها‌السلام :

« فتلك قلوب قاسية ، ونفوس طاغية ، وأجسام محشوّة بسخط الله ولعنة الرسول ، قد عشّش فيها الشيطان وفَرّخ »

٤٥٠

مَحشوّة : أي : مملوءة.

إنّ القلب إذا صار قاسياً ، والنفس إذا أخذها الطغيان ، فسوف لا تكون الأرضيّة مساعدة فيهما لتقبّل المواعظ والنصائح.

يُضاف إلى ذلك .. أنّ الشيطان الرجيم إذا وجد التفاعل والتجاوب من شخص ، فسوف يتربّع في فكره وذهنه ، ويتّخذه لنفسه عشاً ووكراً ، ومسكناً ومحلاً للإقامة فيه ، ويكون بمنزلة جهاز التحكّم في الأشياء ، يتحكّم في ميوله واتّجاهاته ، فيوجّه الشخص حيثما يريد ، ويأمره بأنواع الإنحراف والإنسلاخ عن الفطرة الإنسانية والعاطفة وجميع الصفات الحميدة ، ويعطيه الجُرأة على اقتاحم المخاطر الدينية ، فإذا أراد الشيطان مغادرة فكر هذا المنحرف فإنّ هناك فراخه ، أي : جنوده ، الذين يقومون مقامه ويؤدّون دوره في مهمّة الإغراء والتشجيع على الجريمة من دون التفكير في مضاعفاتها السلبيّة.

« ومن هناك مِثلك ما دَرَج »

ومن هناك : أي : وبسبب ذلك ، ونتيجة لتلك الأسباب. وقيل : « ما » في « ما درج » : زائدة.

درج : يُقال : درج الصبيّ : أي : أخذ في الحركة ومشى

٤٥١

مشياً قليلاً .. أوّل ما يمشي. (١) وقيل : درج : أي نشأ وتقوّى.

« فالعجب كلّ العجب لقتل الأتقياء ، وأسباط الأنبياء ، وسليل الأوصياء ، بأيدي الطلقاء الخبيثة ، ونسل العَهَرة الفجرة »

الأتقياء ـ هنا ـ : الإمام الحسين عليه‌السلام والمستشهدين معه.

أسباط ـ جمع سبط ـ : الحفيد.

السليل : الوَلَد.

العهرة ـ جمع عاهر وعاهرة ـ : الرجل الزاني ، والمرأة الزانية.

الفجرة ـ جمع فاجر وفاجرة ـ : الرجل أو المرأة التي تُمارس جريمة الزنا والفجور.

حقّاً إنّه عجيب ، بل هو من أعجب الأعاجيب أن يُقتل أشرف وأطيب خلق الله تعالى على أيدي ذريّة العاهرين والعاهرات!!

ولكن .. هذه هي طبيعة الحياة الدنيا ، أنّها تكون

__________________

١ ـ المعجم الوسيط.

٤٥٢

قاعة امتحان للأخيار والأشرار ، وللذين يضربون أرقاماً قياسيّة في الطيب أو الخبث.

ومن هنا .. بقيت « فاجعة كربلاء » خالدة إلى يوم القيامة ، عند كلّ مجتمع يمتاز بالوعي والإدراك ، وفهم المفاهيم والقيم الإنسانية ، وكلّما إزداد البشر نُضجاً وفَهماً أقبل على دراسة وتحليل هذه الفاجعة بصورة أوسع ، والتفكير حولها بشكل أشمل ، والكتابة عنها بتفصيل أكثر.

وقد شاء الله تعالى أن يبقى هذا الملفّ مفتوحاً لدى العقلاء المؤمنين ، ويُجدّد فتحه في كل عام ، بل في كل يوم ، لتحليل ودراسة جزئيّات هذه الفاجعة!!

ولخلود فاجعة كربلاء ـ وإمتيازها على بقيّة فجائع وكوارث التاريخ ـ أسباب متعددّة ، نذكر بعضها ، ليعرف ذلك كل من يبحث عن إجابة هذا السؤال ، ويريد معرفة الواقع والحقيقة :

١ ـ إنّ الذين انصبّت عليهم مصيبة القتل أو السبي .. ـ في هذه الفاجعة ـ كانوا هم أفضل طبقات البشر ، وأشرف خلق الله تعالى .. رجالاً ونساءً ، بل كانوا في قمّة شاهقة ، ودرجة عالية من العظمة والجلالة والإيمان بالله تعالى ، والنفسيّة الطيّبة ، بحيث لا مجال لأن نقيس بهم

٤٥٣

غيرهم من البشر .. مهما كانوا عظماء.

٢ ـ إنّ الذين ارتكبوا الجرائم ـ في هذه الفاجعة ـ .. كانوا أخبث البشر ، وأكثر الناس لؤماً ، وأنزلهم نفسيّةً.

٣ ـ إنّ هذه الفاجعة مهّدَت الطريق لسلسلة من الفجائع والجرائم والجنايات ، فأعطت الناس الجُرأة بأن لا يخافوا من أحد ، ولا يلتزموا بعقيدة أو دين ، فكان عمل مرتكبي هذه الفاجعة .. بمنزلة تأسيس الأُسُس وفتح الطريق أمام كل خبيث ولئيم ، في أن يقوم بما تطيبُ له نفسه القذرة من الجرائم والجنايات!

ولقد جاء في التاريخ : أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام صرّح بهذه الحقيقة ، أثناء مُقاتَلَته مع أهل الكوفة ، فقال : « ... يا أمّة السَوء : بئسما خلفتهم محمداً في عترته ، أما إنّكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد الله فتهابوا قتله ، بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إيّاي ... ». (١)

٤ ـ إنّ طبيعة الحياة : هي أنّ التاريخ يُعيد نفسه .. لكن .. مع إختلاف الافراد والأجيال ، فكان ضروريّاً على كل مسلم أن يستلهم الدروس والعبر من هذه الفاجعة الكبرى ، ويقوم بدراستها ومعرفة تحليلها .. بشكل

__________________

١ ـ كتاب « بحار الأنوار » ج ٤٥ ، ص ٥٢.

٤٥٤

شامل ، لكي لا يَسقُط في الإمتحانات الإلهيّة الصعبة ، والمنعطفات الحادّة الخطيرة ، وحتى لا تتكرّر مآسي وفجائع مشابهة.

وحتى لو تكرّرت ذلك فإنّه يبادر إلى صفوف الأخيار ، ويتّخذ موقف الإنسان المؤمن الذي يخاف الله تعالى ، ويؤمن بيوم الحساب ، وذلك لأنّ لديه خلفيّة دينيّة واسعة وشاملة عن فاجعة كربلاء ومضاعفاتها.

٥ ـ إنّ فتح ملف « فاجعة كربلاء » والبكاء حين قراءة أو سماع تفاصيلها يعني : تأمين جاذبيّة قويّة ، تجذب الناس نحو الدين بـ « إسم الإمام الحسين عليه‌السلام » ، وبجاذبيّة عاطفيّة لا يمكن تَصَوُّر درجة قوّتها!!

وهنا .. ينبغي الإلتفات إلى حقيقة مهمّة ، وهي : أنّ الأدلّة العقليّة والإستدلالات المنطقيّة ـ في مجال دعوة الناس إلى الإلتزام بالدين ـ تقوم بدَور الإقناع فقط ، لكن لابدّ لذلك من عامل يجذب الناس لإستماع هذه الأدلّة ، وأقوى عوامل الجذب هو : العامل العاطفي ، وهو متوفّر في كلّ بند من بنود هذه الفاجعة!

وهذه الجاذبيّة لا تقتصر على جذب الناس نحو الدين فحسب ، بل تجذبهم نحو الفضائل والأخلاق ، والتطبيق العملي لبنود الدين ، وتعلّم معالم وعقائد

٤٥٥

وعبادات الدين من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام .. لا مِن غيرهم.

فإنّ الله تعالى جعل شرط قبول الأعمال ولاية أهل البيت وإتّباعهم ، لا مجرّد محبّتهم ، وجعل الله ( عز وجل ) الإسلام الواقعي ينحصر في مذهب أهل البيت ، لا المذاهب الأخرى .. حتى لو كانت تلك المذاهب مشتملة على ظواهر ومظاهر دينيّة ، فالمظهر وحده لا يكفي ، بل لابدّ من التمسّك بالمحتوى الصحيح!

ولابدّ من التوقيع الإلهي على شرعيّة ذلك المذهب ، عن طريق نزول الوحي على رسول الله الصادق الأمين ، أو ظهور المعجزات من إمام ذلك المذهب.

ولذلك فقد اشتُهر وتواتر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح ، مَن ركبها نجى ، ومن تخلّف عنها غرِق ».

والآن .. نعود إلى شرح كلمات خطبة السيدة زينب عليها‌السلام :

تقول السيدة : إنّ قتل الأتقياء وأحفاد الأنبياء وإبن الأوصياء ، كان على أيدي الطلقاء الخبيثة ، ونسل العهرة الفجرة.

إنّنا حينما نُراجع التاريخ الصحيح نجد أنّ الذين

٤٥٦

ارتكبوا فاجعة كربلاء الدامية كانوا من أولاد الحرام!! بِدءاً من يزيد ، إلى ابن زياد ، إلى الشمر ، إلى العشرة الذين سحقوا جسد الإمام الحسين عليه‌السلام بعد شهادته ، بحوافر خيولهم!!

ولإلتحاق كلّ واحد منهم بأبيه قصّة مذكورة في كتب « علم الأنساب ». (١)

فقد جاء في التاريخ : أنّ إمرأة نصرانية إسمها : « ميسون بنت بجدل الكلبي » زَنَت مع عبد أبيها ، فحملت بـ « يزيد » وبعد الحمل بشهور تزوّجها معاوية. (٢)

وأمّا عبيد الله بن زياد ، فإنّ أمّه « مرجانة » كانت مشهورة ـ عند الجميع ـ بالزنا المُستمرّ!! (٣)

وكلام الإمام الحسين عليه‌السلام مشهور وصريح بأنّ عبيد الله وأباه زياد كانا إبنَي زنا ، حيث قال الإمام : « ... الا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين : بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ... ».

__________________

١ ـ إقرأ كتاب « مثالب العرب » لهشام بن الكلبي وكتاب « إلزام النواصب » للشيخ مفلح بن الحسين البحراني.

٢ ـ كتاب « مجالس المؤمنين » ، ج ٢ ، ص ٥٤٧ ، نقلاً عن كتاب « مثالب الصحابة ».

٣ ـ كتاب « معالي السبطين » ج ١ ، الفصل السابع ، المجلس الرابع.

٤٥٧

وقد رويَ عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « قاتل الحسين عليه‌السلام ولد زنا ». (١)

« تَنطِف أكُفّهم من دمائنا »

تنطِفُ : تقطرُ أو تسيل. (٢)

والظاهر أنّ هذا الكلام ـ أيضاً ـ إستعارة بلاغيّة ، وتعني السيدة زينب عليها‌السلام تلك الأيدي والأكفّ التي كانت تضرب بسيوفها ورماحها على أجسام آل رسول الله : الإمام الحسين ورجال أهل بيته وأصحابه ، فتتقاطر أكفّهم وسيوفهم من دماء أولئك الطيّبين.

« وتتحلّب أفواههم من لحومنا »

تتحلّب : يُقال : حَلَبَ فلانٌ الشاة أو الناقة : أي : إستخرج ما في ضَرعها من اللبن ، واستحلب اللبن : إستدرّه. (٣) وتحلّب فوه أو الشيء : إذا سال. (٤)

__________________

١ ـ كتاب « كامل الزيارات » لابن قولويه ، ص ٧٩ ، حديث ١١ ، وكتاب « بحار الأنوار » ج ١٤ ، ص ١٨٣.

٢ ـ على ما هو مذكور في أكثر كتب اللغة.

المحقق

٣ ـ كتاب « أقرب الموارد » للشرتوني.

٤ ـ كتاب « العين » للخليل بن أحمد.

٤٥٨

لعل المراد : أنّه كما أنّ ولد الناقة تتحلّب وتمتصّ بفمها الحليب من محالب أمّها ، كذلك كان الأعداء يمتصّون بأفواههم من لحوم ودماء آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصّاً قوياً بدافع الحقد والبغضاء!!

وهذه ـ أيضاً ـ إستعارة بلاغيّة وكناية عن شدّة حقدهم وعدائهم.

ويُمكن أن تكون هذه الكلمة إشارةً إلى ما فعلته « هند » جدّة يزيد ـ في غزوة أحد ـ : مِن شقّها لبطن سيّدنا حمزة بن عبد المطّلب ، وإخراجها كبده ، ثم وضعه في فمها ومحاولتها أن تمضغه وتأكل منه ، حقداً منها عليه ، لكونه عمّاً لرسول الله ، وقائداً كفوءاً في جيش المسلمين. (١)

« تلك الجُثث الزاكية ، على الجَبوب الضاحية »

الجَبوب : وجه الأرض الصلبة (٢) وقيل : الجَبوب : التُراب. (٣)

__________________

١ ـ المحقق.

٢ ـ كتاب « العين » للخليل بن أحمد.

٣ ـ المعجم الوسيط.

٤٥٩

الضاحية : يُقال ضحا ضَحواً : برز للشمس ، أو أصابه حرّ الشمس ، وأرض ضاحية الظلال : أي : لا شجر فيها. (١)

إخبار من السيدة زينب عليها‌السلام عن مصيبة بقاء الأجساد الطاهرة على وجه الأرض عدّة أيام .. من غير دفن ، تصهرها الشمس بأشعّتها المباشرة ، كلّ ذلك .. رغم كونهم سادات أولياء الله تعالى.

« تَنتابها العواسل »

تنتابها : تأتي إليها مرّة بعد مرّة.

العواسل ـ جمع عاسِل ـ : وهو الذئب. (٢)

وهنا إحتمالان في المقصود من هذا الكلام.

الإحتمال الأول : إنّ المقصود من « العواسل » : هم الذين حضروا يوم عاشوراء لقتل الإمام الحسين عليه‌السلام والصفوة الطيبة من ذريته وأهل بيته واصحابه. عبّرت السيدة زينب عليها‌السلام عن أولئك الاعداء بالذئاب ، لأنّهم كانوا يحملون صفة الذئاب وهي الإفتراس ، ويُعبّر

__________________

١ ـ المعجم الوسيط.

٢ ـ وقيل : العواسل ـ جمع عسّال ـ : وهو الرمح.

المحقق

٤٦٠