زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

السيد محمد كاظم القزويني

زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

المؤلف:

السيد محمد كاظم القزويني


المحقق: السيد مصطفى القزويني
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الغدير
الطبعة: ١
ISBN: 964-7165-32-3
الصفحات: ٦٩٤

واجتمعت لها خيولهم وكان لها جولة واختلاف صهيل ، حتى كأن كلاً ينادي صاحبه وفارسه. (١) (٢)

وروي عن فخر المخدرات السيدة زينب عليها‌السلام أنها قالت : « لما كانت ليلة عاشر من المحرم خرجت من خيمتي لأتفقد أخي الحسين وأنصاره ، وقد أفرد له خيمة ، فوجدته جالساً وحده ، يناجي ربه ، ويتلو القرآن.

فقلت ـ في نفسي ـ : أفي مثل هذه الليلة يترك أخي وحده؟ والله لأمضين إلى إخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم بذلك.

فأتيت إلى خيمة العباس ، فسمعت منها همهمة ودمدمة ، (٣)

__________________

١ ـ الظاهر أن المراد : حتى كأن كل واحد من الخيل ينادي ـ في صهيله ـ صاحبه وفارسه .. لركوب استعداداً للإنطلاق والقتال.

المحقق

٢ ـ كتاب ( الدمعة الساكبة ) ج ٤ ص ٢٧٣ ، المجلس الثاني : فيما وقع في ليلة عاشوراء ، نقلاً عن الشيخ المفيد ، رضوان الله عليه. وكتاب ( معالي السبطين ) للشيخ محمد مهدي المازندراني ، المجلس الرابع : وقائع ليلة عاشوراء.

٣ ـ الهمهمة : هو الصوت الذي يسمع ولايفهم معناه ، بسبب خفائه أو اختلاطه مع أصوات أخرى. قال إبن منظور في ( لسان العرب ) : الهمهمة : الكلام الخفي ، وهمهم الرجل : إذا لم يبين كلامه ، والهمهمة : الصوت الخفي ، وقيل : هو صوت معه بحح.

وقال ابن دريد في ( جمهرة اللغة ) : الهمهمة : الكلام الذي لا يفهم.

المحقق

١٨١

فوقفت على ظهرها (١) فنظرت فيها ، فوجدت بني عمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين كالحلقة ، وبينهم العباس بن أمير المؤمنين ، وهو جاث على ركبتيه كالأسد على فريسته ؛ فخطب فيهم خطبة ـ ما سمعتها إلا من الحسين ـ : مشتملة على الحمد والثناء لله والصلاة والسلام على النبي وآله.

ثم قال ـ في آخر خطبته ـ : يا إخوتي! وبني إخوتي! وبني عمومتي! إذا كان الصباح فما تقولون؟

قالوا : الأمر إليك يرجع ، ونحن لا نتعدى لك قولاً. (٢)

فقال العباس : إن هؤلاء ( أعني الأصحاب ) قوم غرباء ، والحمل ثقيل لا يقوم إلا بأهله ، فإذا كان الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم.

نحن نقدمهم إلى الموت لئلا يقول الناس : قدموا أصحابهم ، فلما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة. (٣)

فقامت بنو هاشم ، وسلوا سيوفهم في وجه أخي العباس ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه!

__________________

١ ـ ظهرها : أي ظهر الخيمة ، بمعنى خلفها وورائها.

٢ ـ لا نتعدى : لا نتجاوز من رأيك إلى رأي غيرك.

٣ ـ عالجوا : حاولوا التخلص من الموت بسيوفهم .. محاولةً بعد محاولة ، ومرةً بعد اخرى.

١٨٢

قالت زينب : فلما رأيت كثرة إجتماعهم ، وشدة عزمهم ، وإظهار شيمتهم ، سكن قلبي وفرحت ، ولكن خنقتني العبرة ، فأردت أن أرجع إلى أخي الحسين وأخبره بذلك ، فسمعت من خيمة حبيب بن مظاهر همهمة ودمدمة ، فمضيت إليها ووقفت بظهرها ، ونظرت فيها ، فوجدت الأصحاب على نحو بني هاشم ، مجتمعين كالحلقة ، بينهم حبيب بن مظاهر ، وهو يقول :

« يا اصحابي! لم جئتم إلى هذا المكان؟ أوضحوا كلامكم ، رحمكم الله ».

فقالوا : أتينا لننصر غريب فاطمة!

فقال لهم : لم طلقتم حلائلكم؟

قالوا : لذلك.

قال حبيب : فإذا كان الصباح فما أنتم قائلون؟

فقالوا : الرأي رأيك ، لا نتعدى قولاً لك.

قال : فإذا صار الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم ، نحن نقدمهم للقتال ولا نرى هاشمياً مضرجاً بدمه وفينا عرق يضرب ، لئلا يقول الناس : قدموا ساداتهم للقتال ، وبخلوا عليهم بأنفسهم.

فهزوا سيوفهم على وجهه ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه.

قالت زينب : ففرحت من ثباتهم ، ولكن خنقتني العبرة ،

١٨٣

فانصرفت عنهم وأنا باكية ، وإذا بأخي الحسين قد عارضني (١) ، فسكنت نفسي (٢) ، وتبسمت في وجهه.

فقال : أخيه.

قلت : لبيك يا أخي.

فقال : يا أختاه! منذ رحلنا من المدينة ما رأيتك متبسمة ، أخبريني : ما سبب تبسمك؟

فقلت له : يا أخي! رأيت من فعل بني هاشم والأصحاب كذا وكذا.

فقال لي : يا أختاه! إعلمي أن هؤلاء أصحابي من عالم الذر ، وبهم وعدني جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هل تحبين أن تنظري إلى ثبات أقدامهم؟

__________________

١ ـ عارضني : واجهني.

٢ ـ هناك احتمالان في كيفية قراءة « فسكنت نفسي » هما :

١ ـ سكنت نفسي : بمعنى أنها حاولت أن تتغلب على ما بها من البكاء ، وتمسح آثار الحزن والكآبة عن ملامحها .. لكي لا تزيد من هموم الإمام. وعلى هذا .. لا تكون الجملة تكملة .. بل جملة مستأنفة.

٢ ـ سكنت نفسي : بمعنى أنه زال القلق عن نفسها ، وارتاح قلبها .. بما رأته وسمعته من موقف بني هاشم وموقف الأصحاب. فتكون الجملة تكملة لـ « ففرحت من ثباتهم ».

المحقق

١٨٤

فقلت : نعم.

فقال : عليك بظهر الخيمة.

قالت زينب : فوقفت على ظهر الخيمة ، فنادى أخي الحسين : « إين إخواني وبنو أعمامي »؟

فقال الحسين : أريد أن أجدد لكم عهداً.

فأتى أولاد الحسين وأولاد الحسن ، وأولاد علي وأولاد جعفر وأولاد عقيل ، فأمرهم بالجلوس ، فجلسوا.

ثم نادى : أين حبيب بن مظاهر ، أين زهير ، أين نافع بن هلال؟ أين الأصحاب؟

فأقبلوا ، وتسابق منهم حبيب بن مظاهر ، وقال : لبيك يا أبا عبد الله!

فأتوا إليه وسيوفهم بأيديهم ، فأمرهم بالجلوس فجلسوا.

فخطب فيهم خطبةً بليغة ، ثم قال :

« يا أصحابي! إعملوا أن هؤلاء القوم ليس لهم قصد سوى قتلي وقتل من هو معي ، وأنا أخاف عليكم من القتل ، فأنتم في حل من بيعتي ، ومن أحب منكم الإنصراف فلينصرف في سواد هذا الليل.

١٨٥

فعند ذلك قامت بنو هاشم ، وتكلموا بما تكلموا ، وقام الأصحاب وأخذوا يتكلمون بمثل كلامهم.

فلما رأى الحسين حسن إقدامهم ، وثبات أقدامهم ، قال : إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم ، وانظروا إلى منازلكم في الجنة.

فكشف لهم الغطاء ، ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم فيها ، والحور العين ينادين : العجل العجل! فإنا مشتاقات إليكم.

فقاموا بأجمعهم ، وسلوا سيوفهم ، وقالوا : يا أبا عبد الله! إئذن لنا أن نغير على القوم ، ونقاتلهم حتى يفعل الله بنا وبهم ما يشاء.

فقال : إجلسوا رحمكم الله ، وجزاكم الله خيراً.

ثم قال : ألا ومن كان في رحله إمرأة فلينصرف بها إلى بني أسد. (١)

فقام علي بن مظاهر وقال : ولماذا يا سيدي؟

فقال : إن نسائي تسبى بعد قتلي ، وأخاف على نسائكم من السبي.

فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته ، فقامت زوجته إجلالاً له ، فاستقبلته وتبسمت في وجهه.

__________________

١ ـ الرحل : ما تستصحبه في السفر .. من الأثاث أو الزوجة أو غير ذلك ، كما يستفاد من « لسان العرب ».

١٨٦

فقال لها : دعيني والتبسم!

فقالت : يا بن مظاهر! إني سمعت غريب فاطمة! خطب فيكم وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة ، فما علمت ما يقول؟

قال : يا هذه! إن الحسين قال لنا : ألا ومن كان في رحله إمرأة فليذهب بها إلى بني عمها ، لأني غداً أقتل ، ونسائي تسبى.

فقالت : وما أنت صانع؟

قال : قومي حتى ألحقك ببني عمك : بني أسد.

فقامت ، ونطحت رأسها بعمود الخيمة ، وقالت :

« والله ما انصفتني يا بن مظاهر ، أيسرك أن تسبى بنات رسول الله وأنا آمنة من السبي؟!

أيسرك أن تسلب زينب إزارها من رأسها وأنا استتر بإزاري؟!

أيسرك أن يبيض وجهك عند رسول الله ويسود وجهي عند فاطمة الزهراء؟!

والله أنتم تواسون الرجال ، ونحن نواسي النساء ».

فرجع علي بن مظاهر إلى الإمام الحسين عليه‌السلام وهو يبكي.

١٨٧

فقال له الحسين : ما يبكيك؟

قال : سيدي .. أبت الأسدية إلا مواساتكم!!

فبكى الإمام الحسين ، وقال : جزيتم منا خيراً. (١)

__________________

١ ـ معالي السبطين للمازندراني ج ١ ، المجلس الثالث في وقائع ليلة عاشوراء.

١٨٨

أزمة الماء

كانت السيدة زينب عليها‌السلام ركناً مهماً في الأسرة الشريفة الطيبة ، وانطلاقاً من صفة العاطفة المثالية التي كانت تمتاز بها ، فقد كانت تشعر بالمسؤلية عن كل ما يرتبط بحياة الأسرة .. بجميع أفرادها.

فكانت مفزعاً للكبار والصغار ، وملاذاً لجميع أفراد العائلة ، ومعقد آمالهم ، فلعلها كانت تدخر شيئاً من الماء منذ بداية أزمة الماء عندهم.

فكان بعض العائلة يأملون أن يجدوا عندها الماء ، جرياً على عادتها وعادتهم ، ولهذا قالت سكينة بنت الإمام الحسين عليه‌السلام :

١٨٩

« عز ماؤنا ليلة التاسع من المحرم (١) ، فجفت الأواني ، ويبست الشفاه (٢) حتى صرنا تنوقع الجرعة من الماء فلم نجدها.

فقلت ـ في نفسي ـ : أمضي إلى عمتي زينب ، لعلها أدخرت لنا شيئاً من الماء!!

فمضيت إلى خيمتها ، فرأيتها جالسة ، وفي حجرها أخي عبد الله الرضيع ، وهو يلوك بلسانه من شدة العطش ، وهي تارةً تقوم ، وتارةً تقعد.

فخنقتني العبرة ، فلزمت السكوت خوفاً من أن تفيق (٣) بي عمتي فيزداد حزنها.

فعند ذلك إلتفتت عمتي وقالت : سكينة؟

قلت : لبيك.

قالت : ما يبكيك؟

قلت : حال أخي الرضيع أبكاني.

ثم قلت : عمتاه! قومي لنمضي إلى خيم عمومتي ،

__________________

١ ـ عز ماؤنا : صار قليلاً جداً ، أو صار عزيزاً لنفاده.

المحقق

٢ ـ وفي نسخة : السقاء : يعني القربة.

٣ ـ تفيق : تشعر.

١٩٠

وبني عمومتي ، لعلهم ادخروا شيئاً من الماء!

قالت : ما أظن ذلك.

فمضينا واخترقنا الخيم ، بأجمعهم ، فلم نجد عندهم شيئاً من الماء.

فرجعت عمتي إلى خيمتها ، فتبعتها من نحو عشرين صبي وصبية ، وهم يطلبون منها الماء ، وينادون : العطش العطش ... » (١)

__________________

١ ـ كتاب ( معالي السبطين ) للمازندراني ج ١ ، ص ٣٢٠ ، المجلس الثامن : في عطش أهل البيت ، نقلاً عن كتاب ( اسرار الشهادة ) للدربندي.

١٩١
١٩٢

الفصل التاسع

يوم عاشوراء

مقتل سيدنا علي الأكبر عليه‌السلام

مقتل أولاد السيدة زينب ( عليها اسلام )

مقتل سيدنا أبي الفضل العباس عليه‌السلام

مقتل الطفل الرضيع عليه‌السلام

١٩٣
١٩٤

يوم عاشوراء

أصبح الصباح من يوم عاشوراء ، واشتعلت نار الحرب وتوالت المصائب ، الواحدة تلو الأخرى ، وبدأت الفجائع تترى!

فالأصحاب والأنصار يبرزون إلى ساحة الجهاد ، ويستشهدون زرافات ووحدانا ، وشيوخاً وشباناً.

ووصلت النوبة إلى أغصان الشجرة النبوية ، ورجالات البيت العلوي ، الذين ورثوا الشجاعة والشهامة ، وحازوا عزة النفس ، وشرف الضمير ، وثبات العقيدة ، وجمال الإستقامة.

١٩٥
١٩٦

مقتل سيدنا علي الأكبر

وأول من تقدم منهم إلى ميدان الشرف : هو علي بن الحسين الأكبر عليهما‌السلام ، فقاتل قتال الأبطال ، وأخيراً .. إنطفأت شمعة حياته المستنيرة ، وسقط على الأرض كالوردة التي تتبعثر أوراقها.

وتبادر الإمام الحسين عليه‌السلام إلى مصرع ولده ، ليشاهد شبيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقطعاً بالسيوف إرباً إرباً.

ولا أعلم كيف علمت السيدة زينب بهذه الفاجعة المروعة ، فقد خرجت تعدو ، وهي السيدة المخدرة اللمحجبة الوقورة!

خرجت من الخيمة مسرعة وهي تنادي : « وا ويلاه ، يا حبيباه ، يا ثمرة فؤاداه ، يا نور عيناه ، يا أخياه وابن أخياه ، واولداه ، واقتيلاه ، واقلة ناصراه ، واغريباه ، وامهجة قلباه.

١٩٧

ليتني كنت قبل هذا اليوم عمياء ، ليتني وسدت الثرى ».

وجاءت وانكبت عليه ، فجاء الإمام الحسين عليه‌السلام فأخذ بيدها ، وردها إلى المخيم ، وأقبل بفتيانه إلى المعركة وقال : إحملوا أخاكم ، فحملوه من مصرعه وجاؤا به حتى وضعوه عند الخيمة التي كانوا يقاتلون أمامها. (١)

__________________

١ ـ كتاب ( معالي السبطين ) للشيخ المازندراني ، ج ١ ، الفصل التاسع ، المجلس الثالث عشر.

١٩٨

مقتل أولاد السيدة زينب

وإلى أن وصلت النوبة إلى أولاد السيدة زينب عليها‌السلام وأفلاذ كبدها.

أولئك الفتية الذين سهرت السيدة زينب لياليها ، وأتبعت أيامها ، وصرفت حياتها في تربية تلك البراعم ، حتى نمت وأورقت.

إنها قدمت أغلى شيء في حياتها في سبيل نصرة أخيها الإمام الحسين عليه‌السلام.

وتقدم أولئك الأشبال يتطوعون ويتبرعون بدمائهم وحياتهم في سبيل نصرة خالهم ، الذي كان الإسلام متجسداً فيه وقائماً به.

وغريزة حب الحياة إنقلبت ـ عندهم ـ إلى كراهية تلك الحياة.

ومن يرغب ليعيش في أرجس مجتمع متكالب ، يتسابق على إراقة دماء أطهر إنسان يعتبر مفخرة أهل السماء والأرض؟!

١٩٩

وكان عبد الله بن جعفر ـ زوج السيده زينب ـ قد أمر ولديه : عوناً ومحمداً ان يرافقا الإمام الحسين عليه‌السلام ـ لما أراد الخروج من مكه ـ والمسير معه ، والجهاد دونه.

فلما انتهى القتال إلى الهاشميين برز عون بن عبد الله بن جعفر ، وهو يرتجز ويقول :

إن تنكروني فأنا ابن جعفر

شهيد صدق في الجنان أزهر

يطيـر فيها بجناح أخضر

كفى بهذا شـرفاً في المحشر

فقتل ثلاثة فرسان ، وثمانية عشر راجلاً ، فقتله عبد الله بن قطبة الطائي. (١)

ثم برز أخوه محمد بن عبد الله بن جعفر ، وهو ينشد :

أشكـو إلى الله من العدوان

فعال قوم في الردى عميان

قـد بدلـوا معـالم القرآن

ومحكـم التنزيـل والتبيان

وأظهروا الكفر مع الطغيان

فقتل عشرة من الأعداء ، فقتله عامر بن نهشل التميمي. (٢)

__________________

١ ـ وفي نسخة : عبد الله بن قطنة الطائي.

٢ ـ كتاب ( مناقب آل ابي طالب ) لابن شهر آشوب ، ج ٤ ص ١٠٦. وبحار الأنوار ج ٤٥ ص ٣٣.

٢٠٠