زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

السيد محمد كاظم القزويني

زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

المؤلف:

السيد محمد كاظم القزويني


المحقق: السيد مصطفى القزويني
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الغدير
الطبعة: ١
ISBN: 964-7165-32-3
الصفحات: ٦٩٤

وهتك الحرمة : يعني إهانة كرامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قتل إبنه الحسين وسبي كريماته وبناته ، والهجوم عليهن في خيامهن .. بكل وحشية!

وأي إهانة أكبر من هذه الإهانة؟!

لقد كانت المرأة تمتاز في الإسلام بصيانة معينة ، وكان كل من يهينها يستحق الذم واللوم من الجميع ، ولكن أهل الكوفة ـ وبأمر من يزيد الطاغية وابن زياد اللعين ـ قاموا بأبشع أنواع الجرائم في مجال إهانة رسول الله وإهدار كرامته!!

ولذلك نقرأ في كتاب واحد من أبرز علماء أهل السنة هذا الكلام : « إذا دافعنا عن يزيد ، واعتذرنا له في قتله الإمام الحسين بأنه كان يرى منه منافساً له في الخلافة ، فبماذا وكيف نعتذر له في سبيه لبنات رسول الله وأسرهن بتلك الكيفية المؤلمة ، ثم الإنتقال بهن من بلد إلى بلد؟ ».

ثم استمرت السيدة زينب عليها‌السلام تصف فاجعة كربلاء الدامية وملحقاتها من سبي النساء الطاهرات .. بهذه الأوصاف المتتالية :

« لقد جئتم بها»أي بهذه الجريمة التي لا مثيل لها في

٣٢١

تاريخ البشر.

« صلعاء » : وهي الداهية الشديدة (١) ، أو الأمر الشيدد. ولعل المراد : الجريمة المكشوفة التي لا يمكن تغطيتها بشيء.

« عنقاء » : الداهية (٢) وقيل : عنق كل شيء بدايته. (٣)

فلعل المعنى أن هذه الجريمة سوف تكون بداية لسلسلة من الأزمات والويلات لكم ، فلا تتوقعوا خيراً بعد عملكم الشنيع هذا.

« شوهاء » قبيحة (٤) وفي نسخة : سوداء.

« فقماء » : العظيمة (٥) أو الشديدة (٦) هذا بعض ما ذكره اللغويون ، ولعل معنى « فقماء » أي معقدة بشكل لا يمكن

__________________

١ ـ ذكر ذلك « المحيط في اللغة » لابن عباد ، وكتاب « العين » للخليل بن أحمد.

٢ ـ القاموس المحيط ، ولسان العرب.

٣ ـ أقرب الموارد للشرتوني.

٤ ـ المعجم الوسيط.

٥ ـ المنجد في اللغة ، وأقرب الموارد للشرتوني.

٦ ـ المعجم الوسيط.

٣٢٢

معرفة طريق إلى حلها أو التخلص من مضاعفاتها. (١)

« خرقاء ، كطلاع الارض » أي ملؤها. (٢)

« وملء السماء » لعل المعنى أن حجم هذه الجريمة أكبر من أن تشبه أو توصف بمساحة أو حجم معين ، بل هي بحجم الأرض كلها ، والسماء والفضاء كليهما. أي : أن حجمها أكبر من أن يتصور.

فإن قتل الإمام الحسين عليه‌السلام وفقدان الأمة إياه يعني :

أولاً : إبتلاء كل حر في العالم ـ في جميع الأجيال القادمة ـ بالحزن والأسى حينما يقرأ تفاصيل فاجعة كربلاء ، فحتى لو لم يكن مسلماً يشعر بالحزن وتتسابق دموع عينيه بالهطول ، ويشعر بالإنزعاج والتذمر من الذين ارتكبوا هذه الجريمة النكراء.

ثانياً : لقد حرم البشر .. ـ بمختلف دياناتهم وطبقاتهم

__________________

١ ـ المحقق.

٢ ـ المعجم الوسيط ، والقاموس المحيط ، وقال في « لسان العرب » طلاع الأرض : ما طلعت عليه الشمس ، طلاع الشيء ملؤه.

المحقق

٣٢٣

وأعمارهم وأجيالهم وبالادهم ـ من بركات وجود الإمام الحسين عليه‌السلام والتي كانت تبقي آثاراً إيجابية مستمرةً ودائمةً إلى آخر عمر الدنيا!

ثالثاً : إن هذه الجريمة ـ بحجمها الواسع ـ فتحت الطريق أمام كل من يحمل نفساً خبيثة في أن يقوم بكل ما تسول له نفسه وتمليه عليه نفسيته في مجال الظلم والإعتداء على الآخرين ، وعدم التوقف عند أي حد من الحدود في مجال الطغيان وسحق كرامة الآخرين.

وقد صرح الإمام الحسين عليه‌السلام بهذا المعنى ـ حينما كان يقاتل أهل الكوفة بنفسه ـ فقال : « ... أما إنكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد الله فتهابوا قتله ، بل يهون عليكم عند قتلكم إياي ... ». (١)

« أفعجبتم أن مطرت السماء دما »

إن المصادر والوثائق التاريخية التي تصرح بأن السماء أمطرت دماً بعد قتل الإمام الحسين عليه‌السلام كثيرةً جداً.

وكان ذلك المطر أحمر يشبه الدم في لونه وغلظته .. وهذه الحقيقة الكونية مذكورة في كتب الشيعة

__________________

١ ـ كتاب معالي السبطين ، ج ٢ ، الفصل العاشر ، المجس الثالث. وكتاب « تظلم الزهراء » ص ٢٢٢.

٣٢٤

والسنة ، القديمة منها والحديثة. (١)

__________________

١ ـ إليك الآن بعض ما كتبه المؤرخون حول هذه الظاهرة الغريبة التي حدثت يوم عاشوراء عند مقتل الإمام الحسين عليه‌السلام :

١ ـ ذكر الحافظ محب الدين الطبري الشافعي ـ المتوفى سنة ٦٩٤ هـ ـ في كتابه : ذخائر العقبى ، طبع مصر ، عام ١٣٥٦ هـ ، صفحة ١٤٥ قال : « وذكر أبو نعيم الحافظ في كتاب « دلائل النبوة » عن نضرة الأزدية أنها قالت : لما قتل الحسين بن علي أمطرت السماء دماً ، فأصبحنا وجبابنا ( أي : آبارنا ) وجرارنا ( جمع : جرة ) مملوءةً دماً ».

وعن مروان مولى هند بنت المهلب ، قال : حدثني بواب عبيد الله بن زياد أنه لما جيء برأس الحسين بين يديه رأيت حيطان دار الإمارة تسايل دماً. خرجه ابن بنت منيع. وعن جعفر بن سليمان قال : « حدثني خالتي أم سالم : قالت : لما قتل الحسين مطرنا مطراً كالدم على البيوت والجدر. قالت : وبلغني أنه كان بخراسان والشام والكوفة. خرجه ابن بنت منيع. وعن أم سلمة قالت : « لما قتل الحسين مطرناً دماً ». وعن ابن شهاب قال : « لما قتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ لم يرفع أو لم يقلع حجر بالشام إلا عن دم » خرجهما ابن السري.

٢ ـ ذكر العلامة الشيخ المحمودي في كتابه : عبرات المصطفين في مقتل الحسين عليه‌السلام ، طبع إيارن عام ١٤١٧ هـ ، ص ١٦٩ : « ذكر أبو بكر محمد بن أبي بكر التلمساني ـ المتوفى بعد عام ٦٤٤ هـ في ترجمة الإمام الحسين ، في كتاب الجوهرة ج ٢ ص ٢١٨ ، طبع الرياض ،

٣٢٥

__________________

قال : روى البخاري ـ في ترجمة سليم القاص تحت الرقم ٢٢٠٢ من القسم الثاني من المجلد الثاني من التاريخ الكبير ، ج ٤ ص ١٢٩ قال : وعن سليم القاص : مطرنا يوم قتل الحسين دماً ».

٣ ـ وروى ذلك ابن حجر الهيثمي في كتابه : الصواعق.

٤ ـ وروى ذلك القندوزي الحنفي في كتابه : ينابيع المودة ج ٢ ص ٣٢٠.

٥ ـ وروى ذلك : سبط ابن الجوزي في كتاب ( مرآة الزمان ) ص ١٠٢.

٦ ـ وروى البلاذري في الحديث ٥٢ في كتابه ( أنساب الأشراف ) طبع بيروت ج ٣ ص ٢٠٩ قال : حدثني عمر بن شبة ، عن موسى بن اسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، عن سليم القاص قال : مطرنا أيام قتل الحسين دماً.

٧ ـ وروى الشيخ المحمودي ـ أيضاً ـ عن ابن العديم ، عن هلال بن ذكوان قال : لما قتل الحسين مطرنا مطراً بقي أثره في ثيابنا مثل الدم.

وعن قرط بن عبد الله قال : مطرت ذات يوم بنصف نهار فأصاب ثوبي فإذا دم ، فذهبت الإبل إلى الوادي فإذا دم فلم تشرب ، وإذا هو يوم قتل الحسين.

٨ ـ وذكر القرطبي ـ المتوفى سنة ٦٧١ هـ ، في تفسيره المسمى بـ « الجامع لأحكام القرآن » ج ١٦ ص ١٤١ ، طبع بيروت عام ١٤٠٥ هـ : « ... قال سليمان القاضي : مطرنا دماً يوم قتل الحسين ».

٣٢٦

وكان هذا المطر الأحمر كإعلان سماوي ـ على مستوى الكون ـ لفظاعة حادث قتل الإمام الحسين عليه‌السلام واستنكاراً لهذه الجريمة النكراء ، ولكن .. « ما أكثر العبر وأقل الإعتبار ».

وقد بقيت آثار تلك الدماء من ذلك المطر على جدران مدينة الكوفة وحيطانها وعلى ثياب أهلها مدة تقرب من سنة كاملة.

لقد كان ذلك المطر تنديداً بفظاعة الجريمة ، وإنذاراً للعاقبة السيئة لأهل الكوفة في يوم القيامة.

« ولعذاب الآخرة أخزى »

أي : إن العقاب الصارم لقتلة الإمام الحسين عليه‌السلام سوف لا يقتصر ولا ينحصر بالعذاب الدنيوي ، والصفعات الدنيوية المتتالية ، بل إن العذاب الإلهي ينتظرهم في الآخرة.

إن الدنيا سوف تنتهي ويخرج كل إنسان من قاعة

__________________

٩ ـ وروى ذلك الحافظ إبن عساكر الشافعي ـ المتوفى عام ٥٧١ هـ ـ في كتابه : تاريخ مدينة دمشق قال : حدثتنا أم شرف العبدية ، قالت : حدثتني نضرة الأزدية قالت : لما قتل الحسين بن علي مطرت السماء دماً ، فأصبحت كل شيء لنا ملآن دماً.

« المحقق »

٣٢٧

الإمتحان ، وعندها يكون المجرمون في قبضة محكمة العدالة الإلهية ، فمن يخلصهم ـ في ذلك اليوم ـ من رسول الله جد الحسين؟!

« وأنتم لا تنصرون »

أي : لا تجدون من ينصركم يوم القيامة ، ومن ينجيكم من العذاب الأليم ، لأن طرف النزاع : هو الإمام المظلوم البريئ المقتول : الإمام الحسين عليه‌السلام ذاك الرجل العظيم الذي زين الله تعالى العرش الأعلى باسمه « إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة » ومن الواضح أنه سوف لا يتنازل عن حقه .. مهما كانت نفسيته المقدسة عالية وفوق كل تصور. لأن المجرمين ضربوا أرقاماً قياسية في اللؤم والخبث والغدر والجناية!

والمخاصم لأهل الكوفة : هو أشرف الخلق وأعز البشر عند الله تعالى : وهو سيدنا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو أيضاً لا يتنازل عن دم إبنه الحبيب العزيز ، وعن سبي بناته الطاهرات!

والمحامي : هو جبرئيل سيد أهل السماء ، حيث يقف ظهراً لرسول الله في قضية ملف مقتل الإمام الحسين عليه‌السلام.

٣٢٨

ونوعية الجريمة وحجمها ومضاعفاتها .. تأبى شمول الغفران والعفو الإلهي لها ، لعدم وجود الفوضى في أجهزة القضاء الإلهية ، فاللازم إعطاء كل ذي حق حقه.

هذا أولاً ..

وثانياً : إن من آثار هذه الجريمة النكراء : هو أنها تمنع المجرم من التوفيق للتوبة والإنابة إلى الله ، كما صرح بذلك الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه‌السلام.

ويجب علينا أن لا ننسى أن كبار قواد جيش الكوفة .. كانوا من الذين قد كتبوا إلى الإمام الحسين بأن يأتي إليهم في الكوفة ، ووعدوه بالنصر .. حتى لو آل الأمر إلى القتل والقتال ، وإلى التضحية ببذل دمائهم وأرواحهم ، وختموا رسائلهم بتوقيعاتهم وأسمائهم الصريحة.

إلى درجة أن البعض منهم أعطى لنفسه الجرأة في أن يكتب إلى الإمام الحسين عليه‌السلام هذه الكلمات : « إن لم تأتنا فسوف نخاصمك غداً ـ يوم القيامة ـ عند جدك رسول الله »!!

فهم ـ إذن ـ كانوا يعرفون الإمام الحسين ، « وليس من يعرف كمن لا يعرف » والأحاديث الشريفة تقول : « إن الله تعالى يغفر للجاهل سبعين ذنباً .. قبل أن يغفر للعالم ذنباً واحداً ».

٣٢٩

« فلا يستخفنكم المهل »

المهل ـ بضم الميم ـ جمع المهلة : وهي بمعنى الإنظار والإمهال وعدم العجلة. (١)

أي : لا يصير الإمهال والتأخير في الإنتقام سبباً لخفة نفوسكم وانتعاشها من الطرب والفرح ، وبذلك تأخذكم سكرة الإنتصار والظفر. فالإنتصار الذي يتعقبه العذاب الأليم ـ مع فاصل زمني قصير ـ لا يعتبر إنتصاراً حقيقياً ، بل هو سراب مؤقت ، لا يعترف به العقلاء ، فـ « لا خير في لذة وراءها النار »!

إن الإمهال ليس دليلاً على الإهمال ، فإن الله تعالى قد يمهل ، ولكنه ( سبحانه ) لا يهمل.

وبناءً على هذا .. فلا يكون الإمهال سبباً لتصور خاطئ منكم بأن علة تأخير العقاب هي أن الجريمة قد تم التغاضي والتغافل عنها ، ولسوف تنسى بمرور الأيام ، لأنها شيء حدث وانتهى .. بلا مضاعفات لاحقة ، أو أن الإنتقام غير وارد حيث أن الأمور قد فلتت من اليد.

كلا..ليس الأمر كذلك ، بل شاء الله تعالى أن يجعل الدنيا دار إمتحان لجميع الناس : الأخيار والأشرار ، وقرر أن يدفع كل من يخالف أوامر الله ضريبة مخالفته .. إن عاجلاً أو آجلاً.

__________________

١ ـ كما يستفاد ذلك من « مجمع البحرين » للطريحي.

٣٣٠

فعدم تعجيل العقوبة لا يعني أن الأمور منفلتة من يد الله الغالب القاهر العلي القيدر ، فهو المهمين على العالم كله. لكنه قد يؤخر الجزاء لأسرار وحكم يعلمها سبحانه ، فهو لا يعجل العذاب للعاصين ـ أحياناً أو غالباً ـ ولكنه بالمرصاد ، فكما أن الجندي الذي يجلس وراء المتراس يراقب ساحة الحرب ، وينتظر الوقت المناسب للهجوم أو لإطلاق القذيفة ، كذلك العذاب الإلهي ينزل في التوقيت المناسب .. مع ملاحظة سائر أسرار الكون. ولا مناقشة في الأمثال.

قال تعالى : « ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ، مهطعين مقنعي رؤوسهم ، لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ». (١)

وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنه قال : « ولئن أمهل الله الظالم فلن يفوت أخذه ، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه وبموضع الشاجا من مساغ ريقه ». (٢)

____________

١ ـ سورة إبراهيم ، الآية ٤٢ و ٤٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، طبع لبنان ، المطبوع مع تعليقات صبحي الصالح ، ص ١٤١ ، خطبة ٩٧.

٣٣١

« فإنه لا يحفزه البدار »

« يحفزه » يقال : تحفز في مشيه : أي جد وأسرع (١) فهو محتفز : أي : مستعجل (٢) والحفز : الإعدال في الأمر للبطش وغيره.

« البدار » يقال : بدر إلى الشيء مبادرةً وبداراً : أسرع (٣) وبدر فلاناً بالشيء : عاجله به. (٤)

تقول السيدة زينب عليها‌السلام : إعلموا ـ يا أهل الكوفة ـ : أن عدم نزول العذاب الإلهي عليكم .. ليس سببه الإهمال ، فإن الله تعالى لا تدفعه العجلة إلى إنزال العذاب ، لأن الحكمة الإلهية تجعل إطاراً للمقدرات الكونية ، ومنها : إختيار التوقيت المناسب لنزول العذاب ، وإختيار نوعيته.

هذا أولاً ..

وثانياً .. لقد جاء في الحديث الشريف أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل ربه أن لا يعاجل أمته

__________________

١ ـ المعجم الوسيط.

٢ ـ مجمع البحرين للطريحي.

٣ ـ نفس المصدر.

٤ ـ المعجم الوسيط.

٣٣٢

بالعذاب في الدنيا ، واستجاب الله تعالى لرسوله ذلك ، فجعل من القوانين الكونية عدم نزول العذاب الغيبي على الأمة الإسلامية ـ في الدنيا ـ كرامةً واحتراماً لرسول الله ، وهذه الكرامة لم تكن لغير نبي الإسلام ، من الأمم السالفة ، والأنبياء السابقين في الزمن.

فمعنى قول السيدة زينب عليها‌السلام : « فإنه لا يحفزه البدار » أي : لا يحث الله ـ سبحانه ـ شيء على تعجيل العقوبة والإنتقام ، لوجود أسباب وأسرار كونية ، ولعدم خوف إنفلات المجرم من قبضة العدالة الإلهية. ونقرأ في الدعاء : « ولا يمكن الفرار من حكومتك ».

« ولا يخاف فوت الثار ، وإن ربك لبالمرصاد »

فسوف يأتي الإمام المهدي المنتظر ( عجل الله ظهوروه ) وينتقم من قتلة الإمام الحسين .. في الدنيا ، أما في الآخرة .. فستكون أول دفعة ـ من البشر ـ يؤمر بهم إلى نار جهنم : هم قتلة الإمام الحسين عليه‌السلام.

المرصاد : المكمن ، وهو المكان الذي يختفى فيه عن أعين الأعداء ، بانتظار التوقيت المناسب للهجوم أو الدفاع.

* * * *

٣٣٣

قال الراوي :

« فوالله لقد رأيت الناس ـ يومئذ ـ حيارى يبكون ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم (١). ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته ، وهو يقول : « بأبي أنتم وأمي!! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى ».

* * * *

إلى هنا إنتهى ما هو مذكور في الكتب حول نص الخطبة ، وللقارئ الكريم أن يتساءل : ماذا حدث بعد ذلك؟

الجواب : هذا ما ستقرؤه في الصفحات القادمة إن شاء الله.

__________________

١ ـ لعل وضع أيديهم في أفواههم كان من أجل حبس أصوات بكائهم كي لا تغطي على صوت السيدة زينب عليها‌السلام وبذلك يستمروا في الإستماع إلى خطبتها ، أو كان ذلك لعض أصابعهم بسبب شدة الندم والتأثر للجريمة التي ارتكبوها ، أو المصيبة الكبرى التي نزلت بالإسلام والمسلمين.

المحقق

٣٣٤

كيف ولماذا قطعوا

على السيدة زينب خطابها؟

كانت السيدة زينب عليها‌السلام الشجاعة المفجوعة تتكلم بصوت شجي ، وكل كلمة منها تلهب احاسيس الحزن والأسى والندم في الناس ، حتى ضج الناس بالبكاء والعويل ، وارتبكت قوات الأمن والشرطة ، وصار كل إحتمال للتمرد والإنتفاضة وارداً ، فكيف يتصرفون؟!

وماذا يصنعون حتى يقطعوا على السيدة زينب خطابها ، ويصرفوا أذهان الناس إلى شيء آخر؟!

هناك من يقول : أمروا بحركة القافلة ، وجاؤا بالرمح الذي عليه رأس الإمام الحسين ( عليه السالم ) وقربوه من محمل السيدة زينب ، وتعالت صرخات الناس : هذا رأس الحسين .. هذا رأس الحسين!!

وكانت عينا الإمام مفتوحتين ، وهو ينظر نظرةً فريدة ، وصفها المؤرخون بقولهم : « شاخص ببصره

٣٣٥

نحو الأفق »!

وهنا لم تستطع السيدة زينب أن تستمر في الخطبة رغم شجاعتها وانطلاقها بالكلام ، فهاج بها الحزن من ذلك المنظر الذي وتر أعصابها ، وأوشك أن يقضي عليها .. بسبب الألم الذي بدأ يعصر قلبها العطوف عصرةً يعلم الله درجتها.

فكان رد الفعل منها أنها نطحت جبينها بمقدم المحمل .. وبكل قوة ، حتى سال الدم من رأسها وجبهتها ، وأومأت ( أي : أشارت ) إليه بخرقة ـ حسب العادة ، العشائرية المتبعة يومذاك ، عند رؤية جنازة الفقيد الغالي ـ ، وشاهدت أن الناس يشيرون بأصابع أيديهم إلى رأس الإمام الحسين ، كما يشيرون إلى مكان وجود الهلال في أول ليلة من الشهر!

فنادت السيدة زينب عليها‌السلام :

يـا هلالاً لمـا استتم كمالا

غالـه خسفه فأبدى غروبا

ما توهمت يا شقيق فؤادي

كـان هذا مقـداراً مكتوبا

ويتصور أحد الشعراء ـ وهو الحاج هاشم الكعبي ـ ذلك

٣٣٦

الموقف الحزين ويقول : كانت مع السيدة زينب عليها‌السلام في محملها بنت صغيرة للإمام الحسين عليه‌السلام فحينما رأت رأس أبيها بدأت تناديه : يا أبه .. يا أبه .. كلمني أين كنت! ولما لم تسمع جواباً إنفجرت بالبكاء الشديد ، فنادت السيدة زينب مخاطبةً رأس أخيها العزيز :

أخي : فاطم الصغيرة كلمها

فقـد كاد قلبهـا أن يذوبـا

* * * *

الإحتمال الثاني : أن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام تقدم إلى عمته ـ ولعل ذلك كان بأمر من الشرطة ـ وقال : يا عمة! اسكتي ، ففي الباقي من الماضي إعتبار ، وأنت بحمد الله عالمة غير معلمة ، وفهمة غير مفهمة ، إن البكاء والحنين لا يردان من قد أباده الدهر ، فسكتت. (١)

__________________

١ ـ الإحتجاج للشيخ الطبرسي ، طبع لبنان ، عام ١٤٠٣ هـ ، ج ٢ ص ٣٠٥.

٣٣٧
٣٣٨

نص خطبة السيدة زينب

برواية أخرى

وروى الشيخ الطبرسي في كتاب « الإحتجاج » نص الخطبة مع وجود بعض الفروق بين النسختين ، ونحن نذكر ذلك ، تتميماً للفائدة :

قال حذيم الأسدي : لم أر ـ والله ـ خفرةً قط انطق منها ، كأنها تنطق وتفرغ على لسان علي عليه‌السلام وقد أشارت إلى الناس بأن انصتوا ، فارتدت ، الأنفاس وسكنت الأجراس ، ثم قالت ـ بعد حمد الله تعالى والصلاة على رسوله ـ : « أما بعد ، يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر والخذل. (١)

__________________

١ ـ الخذل : ترك النصرة والإعانة. مجمع البحرين للطريحي.

٣٣٩

ألا فلا رقأت العبرة ولا هدأت الزفرة.

إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ، هل فيكم إلا الصلف والعجب ، والشنف ، والكذب ، وملق الإماء وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة ، أو كفضة على ملحودة ، ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.

أتبكون أخي؟!

أجل ـ والله ـ فابكوا فإنكم أحرى بالبكاء ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فقد أبليتم بعارها ، ومنيتم بشنارها ، ولن ترحضوها أبداً ، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهل الجنة ، وملاذ حربكم ، ومعاذ حزبكم ومقر سلمكم وآسي كلمكم ، ومفزع نازلتكم ، والمرجع إليه عند مقاتلتكم ، ومدرة حججكم ، ومنار محجتكم.

ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم ، وساء ما تزرون ليوم بعثكم ، فتعساً تعساً!! ونكساً نكساً!! لقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة ..

أتدرون ـ ويلكم ـ أي كبد لمحمد ( صلى الله عليه وآله

٣٤٠