زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

السيد محمد كاظم القزويني

زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

المؤلف:

السيد محمد كاظم القزويني


المحقق: السيد مصطفى القزويني
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الغدير
الطبعة: ١
ISBN: 964-7165-32-3
الصفحات: ٦٩٤

ولعن قاتله إلا كتب الله له مائة ألف حسنة ، وحطّ عنه مائة ألف سيّئة ، ورفع له مائة ألف درجة ، وكأنّما أعتق مائة ألف نَسَمة ، وحشره الله تعالى يوم القيامة ثَلجَ الفؤاد ». (١)

وروي عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام أنّهما قالا : « إنّ الله تعالى عوّض الحسين عليه‌السلام عن قتله أن : جعل الإمامة في ذريّته ، والشفاء في تربته ، وإجابة الدعاء عند قبره ، ولا تُعدّ أيام زائريه .. ـ جائياً وراجعاً ـ مِن عمره ». (٢)

وقد روي ـ أيضاً ـ عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام أنّه أمَر رجلاً كان يريد الذهاب إلى زيارة قبر الإمام الحسين عليه‌السلام أن يزور قبور الشهداء ـ بعد الفراغ من زياة الإمام الحسين عليه‌السلام ـ ويُخاطبهم بهذه الكلمات :

« ... بأبي أنتم وأمّي طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم ، وفزتم فوزاً عظيماً ... ».

____________

١ ـ كتاب « كامل الزيارات » لابن قولويه ، ص ١٠٦.

٢ ـ كتاب « بحار الأنوار » ج ٤٤ ، ص ٢٢١ ، باب ٢٩ ، نقلاً عن كتاب أمالي الطوسي.

٤٨١

« ونسأله حسنَ الخلافة ، وجميل الإنابة ، إنّه رحيم ودود »

الخلافة : يُقال خَلَف فلان فلاناً .. خلفاً وخِلافةً : جاء بعده فصار مكانه (١). وفي الدعاء : أخلَفَ الله لك وعليك خيرا ».

وفي الدعاء أيضاً : « واخلُف على عَقِبِه في الغابرين ».

الإنابة : الرجوع الى الله ، قال سبحانه : « إرجعي إلى ربّك ».

المعنى : ونسأل الله تعالى أن يُخلّف لناعمّن فقدناه أفراداً صالحين ، يسدّون بعض الفراغ الذي تركه مقتل أولئك الصفوة الطيّبة من رجال آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يجعل في البقيّة الباقية منهم خيراً.

أو : أن يجعل مستقبلنا مستقبلاً حسناً مريحاً ، بعد ما شاهدناه وعانيناه من المصائب الفجيعة التي لن تُنسى!!

إنتهت السيدة زينب البطلة الشجاعة ، مِن إلقاء خطبتها الخالدة.

والآن .. توجّهت أنظار الحاضرين إلى يزيد الحاقد

__________________

١ ـ كما يُستفاد من مجمع البحرين للطريحي.

٤٨٢

لِيَروا منه ردود الفعل.

فما كان منه سوى أنّه عَلّق على هذه الخطبة المفصّلة بقوله :

يا صحيةً تُحمدُ من صوائح

ما أهونَ الموت على النوائح (١)

فهل إنعقد لسانه عن إجابة كلّ بند من بنود تلك الخطبة؟!

أم أنّ أعصابه أُصيبت بالإنهيار والإهتزاز ، فلم يستطع التركيز والرد؟!

أم رأى أنّ الإجابة والتعليق يُسبّب له مزيداً من الفضيحة أمام تلك الجماهير الغفيرة الحاشدة في المجلس ، فرأى السكوت خيراً له من خَلق أجواء الحوار مع إبنة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام التي ظَهَرت جدارتها الفائقة على مقارعة أكبر طاغوت ، بكلام كلّه صدقٌ ، واستدلال منطقي وعَقلي مُقنع. وخاصة أنّ

__________________

١ ـ وفي نسخة : « ما أهون النوح على النوائح » ولعلّه ( لعنه الله ) يقصد من قراءته لهذا الشعر : أنّها إمرأة مفجوعة .. دَعها تتكلّم بما تُريد ، فإنّ ذلك لا يُهمّني!

المحقق

٤٨٣

الجملات الأخيرة ـ التي كانت تَحمل في طيّاتها التهديد المُرعب ـ جعلت يزيد ينهار رغم ما كان يشعر به مِن تجبّر وكبرياء. (١)

__________________

١ ـ لقد ذُكرت خطبة السيدة زينب عليها‌السلام في مجلس يزيد ، في المصادر التالية :

١ ـ كتاب مقتل الإمام الحسين عليه‌السلام ، للخوارزمي ج ٢ ص ٦٣.

٢ ـ كتاب نثر الدرر ، لمنصور بن الحسين الآبي ، المتوفّى عام ٤٢١ هـ ، طبع مصر ، ج ٤ ، ص ٢٦.

٣ ـ كتاب بلاغات النساء ، لابن طيفور ، المتوفّى عام ٢٨٠ هـ.

٤ ـ كتاب ( معالي السبطين ) للشيخ محمد مهدي المازندراني الحائري.

٥ ـ كتاب « تظلّم الزهراء » للقزويني ، طبع بيروت ، ص ٢٨٣.

٦ ـ كتاب « الإيقاد » للسيد الشاه عبد العظيمي ص ١٧٣.

المحقق

٤٨٤

نصّ خطبة السيدة زينب

على رواية أخرى

لقد ذكرنا أنّ السيد إبن طاووس قد روى خطبة السيدة زينب الكبرى عليها‌السلام بكيفيّة تختلف عمّا ذكرناه ، وتمتاز ببعض الإضافات والفُروق ، ولا تَخلو من فوائد ، وإليك نصّها :

قال الراوي : فقامت زينب بنتُ علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقالت:

« الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد رسوله وآله أجمعين ، صدق الله سبحانه ، كذلك (١) يقول : « ثمّ كان عاقبة

__________________

١ ـ وفي نسخة : إذ يقول.

٤٨٥

الذين أساؤا السوئى أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون » (١).

أظننت ـ يا يزيد! ـ حيثُ أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ـ فأصبحنا نُساق كما تُساق الأُسارى (٢) ـ أنّ بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة؟ وأنّ ذلك لَعَظم خطرك عنده؟

فَشَمَخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ، جذلان مسروراً (٣) ، حين رأيت الدنيا لك مستوثقة ، والأمور متّسقة ، وحين صفى لك مُلكنا وسلطاننا!

فمهلاً مهلاً! أنسيت قول الله ـ عزّ وجل ـ : « ولا يحسبنّ الذين كفروا أنّما نُملي لهم خيرٌ لأنفسهم ، إنّما نُملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين » (٤).

أمِن العدل يابن الطُلقاء؟! تخديرك إماءك وحرائرك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا؟

__________________

١ ـ سورة الروم ، الآية ١٠.

٢ ـ وفي نسخة : كما تُساق الإماء.

٣ ـ وفي نسخة : جَذِلاً مَسروراً.

٤ ـ سورة آل عمران ، الآية ١٧٨.

٤٨٦

قد هتكتَ ستورهنّ ، وأبديتَ وجوههنّ ، تحدوا بهنّ الاعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنّ أهل المنازل والمناهل (١) ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ، والدنيّ والشريف ، ليس معهنّ من رجالهنّ وليّ ، ولا مِن حماتهنّ حميّ.

وكيف تُرتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الأزكياء؟ ونبت لحمه بدماء الشهداء؟

وكيف يستبطأ في بُغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشَنَف والشَنآن ، والإحَن والأضغان.

ثمّ تقول ـ غير مُتأثّم ولا مستعظِم ـ :

« لأهَلّـوا واستهلّوا فرحـاً

ثم قالوا : يا يزيد لا تُشَل »

مُنحنياً على ثنايا أبي عبد الله ، سيد شباب أهل الجنة ، تنكُتُها بمخصَرتِك.

وكيف لا تقول ذلك؟ وقد نكأتَ القرحة ، واستأصلتَ الشأفة ، بإراقتك دماء ذريّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب.

__________________

١ ـ وفي نسخة : اهل المناهل والمناقل.

٤٨٧

وتَهتف بأشياخك ، زعمت أنّك تناديهم ، فلتردَنّ ـ وشيكاً ـ موردهم ، ولتودّنّ أنّك شُلِلتَ وبَكِمتَ (١) ، ولم تكن قلتَ ما قلتَ ، وفعلتَ ما فعلت.

اللهم خذ بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا ، وقتل حُماتنا.

فوالله ما فَرَيتَ إلا جلدك ، ولا حززت إلا لحمك (٢) ، ولتردنّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته ، وانتهكتَ من حرمته في عترته ولُحمته ، وحيث يجمع الله شملهم ، ويلمّ شعثهم ، ويأخذ بحقّهم.

« ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون » (٣)

وحسبُك بالله حاكماً ، وبمحمد خصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً.

__________________

١ ـ بَكمتَ : عجَزتَ عن الكلام خِلقةً. المعجم الوسيط.

٢ ـ وفي نسخة : جَزَرتَ.

٣ ـ سورة آل عمران ، الآية ١٦٩.

٤٨٨

وسيعلم مَن سوّل لك (١) ومكّنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلاً ، وأيّكم شرّ مكاناً (٢) ، وأضعف جنداً.

ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، فإنّي لأستصغرُ قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرّى.

ألا : فالعجب كل العجب! لقتل حزب الله النجباء ، بحزب الشيطان الطلقاء (٣) ، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تتناهبها العواسل ، وتعفوها أمّهات الفراعل.

ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنّا ـ وشيكاً ـ مَغرماً ، حين لا تجدُ إلا ما قدّمت يداك ، وما ربّك بظلام للعبيد.

فإلى الله المشتكى ، وعليه المعوّل.

__________________

١ ـ سوّلَ لك : زيّنَ لك عملك.

٢ ـ وفي نسخة : وأيّنا شرٌ مكانا.

٣ ـ لعلّ الأصح : على أيدي حزب الشيطان.

المحقق

٤٨٩

فكِد كيدك ، واسْعَ سعيك ، وناصِب جُهدك (١) ، فوالله لا تَمحُونّ ذكرنا ، ولا تُميت وحينا ، ولا تُدرك أمدنا ، ولا تَرحضُ عنك عارها.

وهل رأيك إلا فَنَد ، وأيامك إلا عَدَد ، وجمعك إلا بَدَد؟ يوم ينادي المنادي : ألا : لعنة الله على الظالمين.

فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أن يُكمِلَ لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويُحسن علينا الخلافة ، إنّه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ».

فقال يزيد :

« يـا صيحة تُحمدُ من صوائح

ما أهون الموت على النوائح » (٢)

__________________

١ ـ وفي نسخة : واجهَد جهدك.

٢ ـ كتاب « الملهوف » للسيد ابن طاووس ، ص ٢١٥ ـ ٢١٨.

٤٩٠

الفصل السابع عشر

آل رسول الله في خَرِبَة الشام

حوارٌ بين مِنهال

والإمام زين العابدين عليه‌السلام

مجيء زوجة يزيد إلى خربة الشام

آل رسول الله يُقيمون المآتم

على الإمام الحسين عليه‌السلام في الشام

بين الإمام زين العابدين عليه‌السلام

ويزيد بن معاوية

تَرحيل عائلة آل الرسول م

مِن دمشق إلى المدينة المنوّرة

٤٩١
٤٩٢

آل رسول الله في خَرِبة الشام

ماذا حَدَثَ بعد مجلس الطاغية يزيد؟

لقد جاء في التاريخ : أنّ يزيد أمر بهم إلى منزلٍ لا يُكنّهم من حرٍ ولا برد ، فأقاموا فيه حتّى تقشّرت وجوههم من حرارة الشمس وأشعّتها المباشرة ، وكانوا مدّة إقامتهم في ذلك المكان ينوحون على الإمام الحسين عليه‌السلام. (١)

__________________

١ ـ كتاب « الملهوف » لابن طاووس ، ص ٢١٩.

٤٩٣
٤٩٤

حوارٌ بين منهال

والإمام زين العابدين عليه‌السلام

وفي كتاب ( الأنوار النعمانيّة ) للجزائري : عن منهال بن عمرو الدمشقي قال :

كنتُ أتمشّى في أسواق دمشق ، وإذا أنا بعليّ بن الحسين يمشي ويتوكّأ على عصا في يده ، ورِجلاه كأنّهما قصبتان! والدم يجري من ساقَيه! والصُفرة قد غَلَبت عليه!

قال منهال : فخَنقَتني العبرة ، فاعترضتُه (١) وقلت له : كيف أصبحت يابن رسول الله؟!

قال : يا منهال! وكيف يُصبِح من كان أسيراً ليزيد بن معاوية؟!

يا منهال! والله ، منذ قُتِلَ أبي ، نساؤنا ما شبعن بطونهن!

__________________

١ ـ اعترضته : أقبلت نحوه وواجهته.

٤٩٥

ولا كَسَونَ رؤوسهن! صائمات النهار ، ونائحات الليل.

يا منهال! أصبحنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون! يُذبّحون أبناءهم ، ويستحيون نساءهم ، فالحاكم بيننا وبينهم الله ، يوم فصل القضاء.

أصبَحَت العرب تَفتخر على العجم بأنّ محمداً منهم ، وتفتخر قريش على العرب بأنّ محمداً منها ، وإنّا ـ عترة محمد ـ أصبحنا مقتولين مذبوحين ، مأسورين ، مشرّدين ، شاسعين عن الأمصار ، كأنّنا أولاد تُركٍ أو كابل ، هذا صباحنا أهل البيت.

ثمّ قال : يا منهال! الحبس الذي نحن فيه ليس له سقف ، والشمس تصهَرنا ، فأفرّ منه سُوَيعةً لضعف بدني ، وأرجع إلى عمّاتي وأخواتي ، خشيةً على النساء.

قال منهال : فبينما أنا أُخاطبه وهو يخاطبني وإذا أنا بإمرأةٍ قد خرجت من الحبس وهي تُناديه ، فتركني ورجع إليها ، فسألتُ عنها وإذا هي عمّته زينب بنت علي تدعوه : إلى أينَ تمضي يا قرّة عيني؟

فرجع معها ، وتركني ، ولم أزل أذكره وابكي. (١)

____________

١ ـ كتاب « معالي السبطين » ج ٢ ص ١٥٨ ، الفصل الرابع عشر ، المجلس الثاني عشر ، وذكر أيضاً في كتاب « الأنوار النُعمانيّة » ، للجزائري ج ٣ ص ٢٥٢ مع بعض الفروق بين النسختين.

٤٩٦

مجيء زوجة يزيد

إلى خَرِبة الشام

لقد جاء في التاريخ أنّ إمرأةً كانت تُسمّى « هند بنت عبد الله بن عامر » لمّا قُتل أبوها جاءت إلى دار الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وبَقيَت هناك مدّة من الزمن تَخدم في دار الإمام ، وكانت على قدر من الجمال ، ولمّا قتل الإمام أمير المؤمنين إنتقلت إلى دار الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام وكانت تخدم هناك في دار الإمام أيضاً ، فسمع عنها معاوية فطلبها وزوّجها لإبنه يزيد ، فبَقيت في دار يزيد ، وهي تَستَخبِر ـ دائماً عن الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما‌السلام وتُحاول أن تَسمَع أخبارهم من القادمين من المدينة المنوّرة.

ولمّا قتل الإمام الحسين عليه‌السلام لم تَعلَم هند

٤٩٧

بالخبر!!

ولمّا جاؤوا بعائلة الإمام الحسين إلى الشام ، دخلت امرأة على هند وقالت لها : لقد أقبَلوا بسبايا ولا أعلَم من أين هم؟

فلعلّك تمضين إليهنّ وتتفرّجين عليهن؟!

فقامت هند ولَبِست أفخر ثيابها وتخمّرت بخِمارها ، ولبِست إزارها ـ أي : عباءتها ـ ، وأمرت خادمةً لها أن تُرافقها وتحمل معها الكرسي حتى لا تجلس على التراب.

ويقول البعض : أنّ يزيد صادفها قبل الخروج من القصر فاستأذنت منه ، فأذِن لها لكنّه تغيّر لونه وبَقي مذهولاً حيث إنّه خشي من مضاعفات ورود فِعل هذه الزيارة ، فهو يعلم أنّ زوجته الحظيّة عنده .. كانت ـ مدّة سنين ـ خادمة في دار أهل البيت ، وهي تحبّهم حبّاً كثيراً ، لأنّها قضت سنوات من حياتها خادمة لهم ، ولم ترَ منهم إلا العطف والإحترام ، والإنسانية والأخلاق العالية ، فماذا يصنع يزيد؟

هل يُوافق على الزيارة أم يَرفُض ذلك؟

ولكن يبدو أنّ شخصية هند كانت قويّة ، فقد فَرضَت نفسها على يزيد ، فأذن لها إلا أنّه طلب منها أن تكون الزيارة بعد المغرب ، حينما يُخيّم الظلام على الأرض ،

٤٩٨

فوافقت على ذلك.

وعند المساء أقبلت هند ومعها الخدم يحملون معهم القناديل لإضاءة الطريق. فلمّا رأتها السيدة زينب عليها‌السلام مُقبلة هَمَسَت في أذن أختها أم كلثوم وقالت : « أُخيّه أتعرفين هذه الجارية؟

فقالت : لا والله.

فقالت زينب : هذه خادمتنا هند بنت عبد الله!!

فسكتت أمّ كلثوم ونكّست رأسها!

وكذلك السيدة زينب نكّست رأسها.

فأقبلت هند وجلست على الكرسي قريباً من السيدة زينب ـ باعتبارها زعيمة القافلة ـ ، وقالت : أخيّة أراكِ طأطأتِ رأسكِ؟

فسكتت زينب ولم تردّ جواباً!

ثم قالت هند : أخيّه من أي البلاد أنتم!

فقالت السيدة زينب : من بلاد المدينة!

فلمّا سمعت هند بذكر المدينة نزلت عن الكرسي وقالت : على ساكنها أفضل السلام.

ثم التفتت إليها السيدة زينب وقالت : أراكِ نزلتِ عن الكرسي؟

٤٩٩

قالت هند : إجلالاً لمن سكن في أرض المدينة!

ثم قالت هند : أخيّه أريد أن أسألكِ عن بيت في المدينة؟

فقالت السيدة زينب : إسألي عمّا بدا لكِ.

قالت : أسألكِ عن دار علي بن أبي طالب؟

قالت لها السيدة زينب : ومِن أينَ لكِ المعرفة بدار علي؟

فبَكت هند وقالت : إنّي كنت خادمة عندهم.

قالت لها السيدة زينب : وعن أيّما تسألين؟

قالت : أسألك عن الحسين واخوته وأولاده ، وعن بقيّة أولاد علي ، وأسألك عن سيدتي زينب! وعن أختها أم كلثوم وعن بقيّة مخدّرات فاطمة الزهراء؟

فبَكت ـ عند ذلك ـ زينب بكاءً شديداً ، وقالت لها يا هند : أمّا إن سألتِ عن دار علي فقد خَلّفناها تنعى أهلها!

وأما إن سألت عن الحسين فهذا رأسه بين يدي يزيد!!

وأمّا إن سألت عن العباس وعن بقية أولاد علي عليه‌السلام فقد خلّفناهم على الأرض .. مجزّرين كالأضاحي بلا رؤوس!

٥٠٠