زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

السيد محمد كاظم القزويني

زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

المؤلف:

السيد محمد كاظم القزويني


المحقق: السيد مصطفى القزويني
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الغدير
الطبعة: ١
ISBN: 964-7165-32-3
الصفحات: ٦٩٤

حكموا على الإمام بالقتل والإعدام ، لولا أن دفع الله تعالى عنه شرهم؟!

فما ظنك لو كان الإمام عليه‌السلام يخطب في شارع الكوفة أو في مجلس الدعي بن الدعي عبيد الله بن زياد ، والحال هذه؟!

هل كان يسلم من القتل؟

طبعاً : لا.

إنهم أرادوا أن يقتلوه وهو ـ بعد ـ لم يخطب شيئاً ، فكيف لو كان يخطب في الناس ويكشف لهم عن مساوئ بني أمية ومخازيهم ، ويبين لهم أبعاد ومضاعفات جريمة مقتل الإمام الحسين عليه‌السلام وأصحابه وأهل بيته؟؟!

* * * *

٢٨١
٢٨٢

نص خطبة السيدة زينب في الكوفة

والآن .. نذكر نص الخطبة ، ثم نشرح بعض كلماتها :

قال بشير بن خزيم الأسدي (١) :

ونظرت إلى زينب بنت علي عليه‌السلام يومئذ فلم أر خفرةً ـ والله ـ أنطق منها (٢) ، كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (٣) ، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا.

__________________

١ ـ المصادر التي تذكر خطبة السيدة زينب في الكوفة كثيرة ، ونحن اعتمدنا على كتاب « الملهوف » للسيد ابن طاووس ( رضوان الله عليه ).

٢ ـ خفرةً : المرأة الشديدة الحياء.

٣ ـ تفرغ : تصب ، الإفراغ « الصب ، قال تعالى : « أفرغ علينا صبراً ».

٢٨٣

فارتدت الأنفاس ، وسكنت الأجراس ، ثم قالت :

« الحمد لله والصلاة على أبي : محمد وآله الطيبين الأخيار.

أما بعد :

يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر!!

أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة.

إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم.

ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف؟ والصدر الشنف؟ وملق الإماء؟ وغمز الأعداء؟

أو كمرعى على دمنة؟ أو كفضة على ملحودة؟

ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.

أتبكون؟ وتنتحبون؟

إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً.

فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً.

وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة؟ ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهلا الجنة ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ،

٢٨٤

ومنار حجتكم ، ومدرة سنتكم؟؟

ألا ساء ما تزرون ، وبعداً لكم وسحقاً ، فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة.

وَيلكم يا أهل الكوفة!

أتدرون أيّ كبدٍ لرسولا لله فَرَيتُم؟!

وأيّ كريمةٍ له أبرزتم؟!

وأي دم له سفكتم؟!

وأيّ حرمةٍ له هتكتم؟!

لقد جئتم بها صَلعاء عَنقاء سَوداء فَقماء ، خَرقاء شَوهاء ، كطِلاع الأرض وملء السماء.

أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى ، وأنتم لا تُنصَرون.

فلا يَستَخفّنكم المُهَل ، فإنّه لا يَحفِزُه البِدار ، ولا يَخافُ فَوتَ الثار ، وإنّ ربّكم لبالمرصاد ». (١)

قال الراوي : « فوالله لقد رأيت الناس ـ يومئذ ـ حَيارى

__________________

١ ـ كتاب « الملهوف » للسيد ابن طاووس ، المتوفّى سنة ٦٦٤ هـ ، ص ١٩٢ ـ ١٩٣.

٢٨٥

يبكون ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم. ورأيت شيخاًَ واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته ، وهو يقول : « بأبي أنتم وأمي!! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى ». (١)

____________

١ ـ كتاب « الملهوف » للسيد ابن طاووس ، ص ١٩٣ ـ ١٩٤. وسوف نذكر نص الخطبة على رواية كتاب « الإحتجاج » للشيخ الطبرسي ، وذلك لوجود بعض الفروق وزيادة بعض الإضافات ، ـ بعد الفراغ من شرح هذه الخطبة ـ إن شاء الله تعالى.

المحقق

٢٨٦

شرح خطبة السيدة زينب

في الكوفة

قبل أن أبدأ بشرح بعض كلمات الخطبة أجلب إنتباه القارئ الذكي إلى بعض ما يرويه الراوي لهذه الخطبة ، وهو قوله :

« فلم أر خفرة ـ والله ـ أنطق منها »

يقال : خفرت الجارية : إذا استحت أشد الحياء ، فهي خفرة. ومن الطبيعي أن المرأة الخفرة يمنعها حياؤها من أن ترفع صوتها ، أو تخطب في مكان مزدحم ، فمن الواضح أنها إذا لم تمارس الخطابة لا تقوى على النطق والتكلم كما ينبغي ، ولكن راوي هذه الخطبة يقول : « فلم أر خفرة ـ والله ـ أنطق منها » أي : لم أر أقوى منها على التكلم ، وأقدر على الخطابة ، رغم كونها شديدة الحياء.

٢٨٧

« كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب »

إن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام هو إمام الخطباء والبلغاء والمتكلمين ، وقد كان له أسلوب خاص ، ومستوى رفيع في كلامه وخطبه ، يمتاز عن كلام غيره ، وفي أعلى قمة الفصاحة والبلاغة ، وجودة التعبير ، وعلو المستوى الأدبي والعلمي.

فمن ناحية : كان يسترسل في كلام .. دون أي توقف أو شرود ذهني ، وكان ينطق بالحروف .. دون أي تلكؤ في التلفظ ، فقد كان في غاية التمكن من الكلام والخطابة.

ومن ناحية أخرى : كانت الكلمات الأدبية الرفيعة منقادة له بشكل عجيب ، فهي تنبع من لسانه نبعاً طبيعياً .. دون أي تكلف أو تحضير مسبق ، وكان لصوته نبرة معينة.

وراوي هذه الخطبة كان ممن رأى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وسمع كلامه ، وها هو الآن .. يستمع إلى كلام السيدة زينب عليها‌السلام وبالمقارنة بين الكلامين يظهر له أن خطبة السيدة زينب صورة طبق الأصل لكلام أبيها ، من ناحية الأسلوب والبيان والمستوى وغير ذلك.

٢٨٨

« وقد أومات إلى الناس أن اسكتوا ، فارتدت الأنفاس ، وسكنت الأجراس ».

في ذلك المجتمع المتدفق بالسيل البشري ، وفي ذلك الجو المملوء بالهتافات والأصوات المرتفعة من الناس ، وأصوات الأجراس المعلقة في أعناق الإبل.

في بلدة إنتشر في جميع طرقها الآلاف من الشرطة كي يخنقوا كل صوت يرتفع ضد السلطة ، ويراقبوا حركات الناس وسكناتهم بكل دقة ، ويقضوا على كل إنتفاضة متوقعة.

في هذه الظروف وصل موكب آل رسول الله إلى الكوفة ، محاطاً بالحرس ، عملاء بني أمية ، وشر طبقات البشر ، وأرجس جميع الأمم.

في تلك الأجواء والظروف أشارت السيدة زينب الكبرى عليها‌السلام إلى الناس أن اسكتوا. فتصرفت في الانسان والحيوان والجماد. إحتبست الانفاس في صدور الناس ، ووقفت الإبل وسكنت عن الحركة ، وسكنت الأجراس المعلقة فوق الإبل.

نعم ، بإشارة واحدة ، وبتلك الروح القوية ، والنفس المطمئنة استولت على الموقف.

فقالت :

٢٨٩

« الحمد الله ، والصلاة على أبي : محمد وآله الطيبين الأخيار »

افتتحت كلامها بحمد الله ، ثم الصلاة على أبيها ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا منتهى البلاغة ، فإنها ـ بهذا الإفتتاح ـ عرّفت نفسها ـ لتلك الجماهير المتجمهرة ـ بأنها بنت رسول الله ، فالحفيدة تعتبر بنتاً ، كما إن الجد يعتبر أباً ، ولهذا قالت : الصلاة على أبي : محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ومما يستفاد من هذا التعبير هو التأكيد على مسألة مهمة جداً وهي مسألة بنوّة أولاد السيدة فاطمة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو صرح آية المباهلة في قوله تعالى « قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ... » (١)

وقد كان أئمة أهل البيت عليهم‌السلام يؤكدون على هذه النقطة ، كما أن أعداءهم النواصب كانوا يحاولون ـ دائماً ـ التشكيك والمناقشة فيها ، وقد ذكرنا كلمة موجزة حول هذه النقطة في كتابنا : فاطمة الزهراء عليها‌السلام من المهد إلى اللحد.

__________________

١ ـ سورة آل عمران ، الآية ٦١.

٢٩٠

« أما بعد ، يا أهل الكوفة! يا أهل الختل والغدر »

الختل : الغدر (١) ، وقال البعض : هو الخدعة عن غفلة (٢). وفي نسخة : « والختر » : وهو شبه الغدر (٣) ، لكنه أقبح أنواع الغدر (٤).

لقد كانت لهذه الكلمات أشد الأثر في نفوس أهل الكوفة ، فإنها قد أوجدت فيهم اليقظة والوعي بصورة عجيبة ، حتى شعروا أن ضمائرهم بدأت تؤنبهم ، وان وجدانهم صار يوبخهم على جرائمهم الفجيعة وجناياتهم العظيمة.

فقد ذكرتهم كلمات السيدة زينب عليها‌السلام بماضيهم المخزي وتاريخهم الأسود ، حيث صدر منهم الغدر مرات عديدة ، فمنها :

١ ـ في يوم صفين عند تحكيم الحكمين ، غدر أهل الكوفة بالإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه‌السلام

__________________

١ ـ الخاتل : الغادر. أقرب الموارد للشرتوني.

٢ ـ المعجم الوسيط. وقال ابن عباد ـ في « المحيط » ـ الختل : الخدعة عن غفلة.

٣ ـ كتاب « العين » للخليل بن أحمد.

٤ ـ كما في كتاب « القاموس » للفيروز آبادي.

٢٩١

الذي كان الحق يتجسد فيه بأكمل وجه ، وخذلوه بتلك الكيفية المؤلمة!

٢ ـ وحينما قتل الإمام أمير المؤمنين تهافت أهل الكوفة على مبايعة إبنه الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام. وعندما خرج معاوية لحرب الإمام الحسن ، خذله أهل الكوفة وقعدوا عن نصرته غدراً منهم ، فخلا الجو لمعاوية وفعل ما فعل ، وضرب الرقم القياسي في الجريمة واللؤم!

٣ ـ وبعد موت معاوية أرسل أهل الكوفة إثني عشر ألف رسالة إلى الإمام الحسين عليه‌السلام أيام إقامته في مكة ، يطلبون منه التوجه إلى العراق لينقذهم من الإستعمار الأموي الغاشم. وضمنوا رسائلهم الأيمان المغلظة ، والعهود المؤكدة .. لنصرة الإمام والدفاع عنه بأموالهم وأنفسهم.

فبعث إليهم سفيره مسلم بن عقيل ، فبايعه الآلأاف من أهل الكوفة ، ثم تفرقوا عنه وغدروا به ، وفسحوا المجال للدعي بن الدعي : عبيد الله بن زياد أن يلقي القبض على مسلم بن عقيل ويقتله ، واجتمع أطفال الكوفة وشدوا حبلاً برجل مسلم ، وجعلوا يسحبون جثمانه الطاهر في أسواق الكوفة .. بمرأى من الناس!!!

٢٩٢

٤ ـ وحينما لبى الإمام الحسين عليه‌السلام رسائل أهل الكوفة وجاء إلى العراق ، ووصل إلى أرض كربلاء ، ومعه عائلته والصفوة الطيبة من رجال أهل بيته ، خرج أهل الكوفة ، وقتلوا جميع من كان مع الإمام ، وأخيراً .. قتلوا الإمام الحسين عطشاناً وبتلك الكيفية المقرحة للقلوب ، ثم أحرقوا خيام الإمام ، وأسروا عائلته ونساءه وأطفاله ، وقطعوا الرؤوس من الأبدان ورفعوها على رؤوس الرماح ، وجاءوا بها من كربلاء إلى الكوفة.

هذا هو الملف الأسود ، المليء بالغدر والخيانة.

فحينما نظرت السيدة زينب عليها‌السلام إلى دموع أهل الكوفة ، وسمعت أصوات بكائهم لم تنخدع بهذه المظاهر الجوفاء ، بل وجهت خطابها إلى جميع الحاضرين هناك ، ولعلها كانت تقصد بكلامها الذين إشتركوا في جريمة فاجعة كربلاء .. بشكل أو بآخر ، ولم تقصد كل من كان حاضراً وسامعاً لخطابها:

« أتبكون؟! »

إعتبرت السيدة زينب عليها‌السلام بكاءهم ـ لدى المقايسة مع ما قاموا به من الجرائم ـ نوعاً من النفاق والتلون المشين ، فإن رجالهم الذين باشروا الجريمة ـ وهي مجزرة كربلاء الدامية ـ ونساءهم هن اللواتي قمن بتربية

٢٩٣

أولئك الرجال .. على الغدر ، وهاهم يبكون!!

يبكون وهم يشاهدون تلك الرؤوس المقدسة على رؤوس الرماح ، ويشاهدون حفيدات الرسالة وبنات الإمامة على النياق .. بتلك الحالة المقرحة للقلوب!

من الطبيعي أن يبكي كل من يشاهد هذه المشاهد ، ولكن ..

ما هي فائدة هذا البكاء؟!

ولماذا عدم القيام بتغيير أنفسهم؟!

لماذا عدم بناء نفوسهم ونفسياتهم؟!

لماذا عـدم الهجوم على مـن أصدر الأوامر وهـو الطاغية ابن زياد وحاشيته الفاسدة؟!

إن الحاكم الطاغي لا يستطيع الظلم والتعدي إلا مع وجود الأرضية المساعدة والأجواء الملائمة للظلم والطغيان. والناس ـ بنفاقهم وخذلانهم لآل الرسول الكريم ـ هم الذين مهدوا للظالمين القيام بتلك الفاجعة المروعة!

وهذا درس لكل مجتمع يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويريد أن يعيش في ظل حكومة عادلة.

٢٩٤

« فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة ».

رقأت الدمعة : سكنت (١) أو إنقطعت بعد جريانها وجفت. الرنة : الصوت الحزين عند البكاء.

لما رأت السيدة زينب عليها‌السلام ذلك البكاء الذي كله نفاق .. دعت عليهم ، ومن ذلك القلب الملتهب بالمصائب والأحزان ، دعت أن تمر عليهم ظروف وأحوال تجعل بكاءهم متواصلاً ودموعهم مستمرةً في الجريان ، لا تهدأ ولا تنقطع ، ولا تهدأ رنتهم ، أي : بكاءهم المصحوب بالنحيب والعويل ، بعد أن قاموا بتلك الأعمال الإجرامية.

وهنا .. نقطة مهمة يجب أن لا نغفل عنها ، وهي :

رغم أن في أغلب المجتمعات يوجد الأخيار والأشرار ، والطيبون وغيرهم ، ومدينة الكوفة كانت كذلك إلا أن الطابع العام عليهم في ذلك اليوم كان هو التلون كل يوم بلون ، والغدر ، وقلة الإلتزام بالأسس الدينية.

من هنا .. فإذا جاءهم حاكم طاغ ، وعرف منهم هذه الطبائع والصفات المذمومة يسهل عليه التسلط عليهم واتخذاهم مساعدين وأعواناً له في تحقيق أهدافه الإجرامية

__________________

١ ـ كتاب الصحاح للجوهري.

٢٩٥

الفاسدة.

وهم ـ أيضاً ـ يتسارعون إلى التجاوب والتعاطف معه ، غير مبالين بنتائج ذلك.

وعلاج هذا المجتمع هو التكلم معهم بكل صراحة ، وبالكلام اللاذع ، فالملف الأسود لأهل الكوفة كان يقتضي أن تواجههم السيدة زينب عليها‌السلام بهذه الشدة وبأعلى درجات التوبيخ والشجب والمؤاخذة إزاء ما اقترفوه من جرائم متتالية ، كل واحدة منها تهتز منها الجبال.

نعم .. لم يكن ينفع معهم ـ يومذاك ـ إلا هذا الأسلوب من الكلام اللاذع ، فلم تعد النصائح والمواعظ تؤثر فيهم!

والسيدة زينب ـ بملاحظة أنها إمرأة (١) ، وأنها بنت الإمام أمير المؤمنين ـ كانت لها القدرة على التعنيف في الكلام مع الناس ، ولإمتلاكها القدرة العظيمة على البيان والخطابة ، فقد كانت مؤهلة للقيام بهذا الدور الكبير ، لإيقاظ بعض تلك الضمائر الميتة من سباتها

__________________

١ ـ لا يسمح بمؤاخذتها ولا يمكن للمجرمين قتلها بسهولة لوجود صيانة خاصة لكل امرأة في العرب.

المحقق

٢٩٦

العميق.

ولا نعلم ـ بالضبط ـ كيفية إلقائها للخطبة من ناحية درجة الحماس والحرارة ، ولكننا نعلم أنها ورثت الخطابة من جدها رسول الله إمام الفصاحة ، ومن والدها : إمام نهج البلاغة!!

« إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً ».

شبهت السيدة زينب أهل الكوفة بالمرأة التي نقضت غزلها ، وهذا التشبه مستقى من القرآن الكريم ـ ويا له من مستوى رفيع في البلاغة والأدب الراقي ـ وإليك بعض التوضيح :

قال الله تعالى ـ في القرآن الكريم ـ : « ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ». (١)

وقد جاء في كتب تفسير القرآن الكريم أن امرأةً حمقاء من قريش ، تسمى بـ « ريطة بنت عمرو بن كعب » (٢) كانت تغزل ـ

__________________

١ ـ سورة النحل ، الآية ٩٢.

٢ ـ ولعل إسمها : زيطة! لكي يتطابق الإسم مع المسمى.

المحقق

٢٩٧

مع جواريها ـ الصوف والشعر ـ من الصباح إلى نصف النهار ـ وتصنع بذلك خيوطاً جاهزة للنسيج ، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن طوال هذا الوقت ، ولا يزال دأبها ذلك. (١)

« من بعد قوة » أي : كانت تنكث غزلها من بعد إحكام وإتقان وإستحكام وفتل للغزل ، في المرة الأولى وكأنها تريد أن تصنع من ذلك الغزل أقمشة. فبعد النكث والنقض كان يفقد الصوف معظم قوته.

« انكاثاً » جمع نكث ، وهو الصوف والشعر ، يبرم ـ ويعمل منه الخيوط ـ ثم ينكث : أي : ينقض ويفل ليغزل مرةً ثانية.

وقد شبه الله تعالى ناقض العهد بتلك المرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة وإتقان.

« تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم »

أيمان ـ جمع يمين ـ : وهو القسم والحلف.

الدخل : المكر والخيانة.

أي : كانوا يحلفون بالوفاء بالعهد ، ويضمرون في أنفسهم الخيانة. وكان الناس يطمئنون إلى عهدهم ..

__________________

١ ـ « والجنون فنون ».

المحقق

٢٩٨

لكن أولئك كانوا ينقضون العهد.

وبعد هذا التمهيد .. نقول : لقد شبهت السيدة زينب عليها‌السلام أهل الكوفة بتلك المرأة الحمقاء ، من ناحية عدم الوفاء بعهودهم ونقضهم لها. بسبب صفة الغدر المتجذرة في نفسياتهم اللئيمة ، البعيدة عن الإنسانية ، وعن التفكير في نتائج الأمور ومضاعفاتها.

« ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف »

الصلف : صلف الرجل : تمدح بما ليس عنده ، إعجاباً بنفسه وتكبراً (١).

ويقال : أصلفت الرجل إذا أبغضته ومقته ، ويعبر عن البخيل ـ أيضاً ـ بهذه الكلمة. (٢)

هذا ما ذكره علماء اللغة ، ولكن الذي يتبادر إلى الذهن ـ من كلمة الصلف ـ : هو الوقح ، ولا مانع من تفسير الكلمة بهذا المعنى .. فبكاؤهم بعد ارتكابهم تلك الجرائم يدل على شدة وقاحتهم وقلة حيائهم.

__________________

١ ـ كما في كتاب ( أقرب الموارد ) للشرتوني.

٢ ـ كما في كتاب ( المحيط في اللغة ) للصاحب بن عباد.

٢٩٩

النطف : المتلطخ بالعيب. (١)

« والصدر الشنف »

الشنف : شدة البغض (٢). والشنف : المبغض. (٣) والمعنى : الصدر الذي يحتوي على شدة البغض والعداء لأهل البيت عليهم‌السلام.

« وملق الإماء »

الملق ـ بفتح اللام ـ الود واللُطف ، وأن تعطي باللسان ما ليس في القلب والفعل (٤).

والمعنى : أنكم مجتمع للصفات الرذيلة ، ففيكم حالة التملق والتذلل لمن لا يستحق ذلك من الحكام الخونة أمثال : يزيد وابن زياد اللئيمين ، وحاشيتهما القذرة ، فكما أن الإماء ـ جمع أمة ـ : وهي العبدة. يتملقن إلى المالك لجلب مودته ، ويعطينه باللسان من الود

__________________

١ ـ كما في كتاب ( العين ) للخليل بن أحمد الفراهيدي ، و « الصحاح » للجوهري.

٢ ـ كتاب « العين » للخليل بن أحمد ، والمحيط في اللغة ، لابن عباد.

٣ ـ المنجد في اللغة.

٤ ـ القاموس المحيط ، للفيروز آبادي.

٣٠٠