زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

السيد محمد كاظم القزويني

زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

المؤلف:

السيد محمد كاظم القزويني


المحقق: السيد مصطفى القزويني
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الغدير
الطبعة: ١
ISBN: 964-7165-32-3
الصفحات: ٦٩٤

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

لا وَيلَ عليكِ ، بل الويلُ لِشانئكِ ، نَهنِهي عن وَجدِكِ يابنةَ الصفوة (١) ، وبقيّة النبوّة ، فما وَنيتُ عن ديني (٢) ، ولا أخطأتُ مقدوري ، فإن كنتِ تريدين البُلغة فرزقُكِ مَضمون (٣) ، وكفيلُك مأمون ، وما أُعدّ لكِ خيرٌ مما قُطعَ عنك ، فاحتَسبي الله.

فقالت : حسبي الله. وأمسكت. (٤)

__________________

١ ـ نَهنِهي : كُفّي. وَجدكِ : حُزنكِ.

٢ ـ وَنَيتُ : عَجَزتُ.

٣ ـ البُلغة ـ بضمّ الباء ـ : الكفاية.

٤ ـ نُنَبّه القاري الكريم أنّ السيد المؤلف ( رحمة الله تعالى عليه ) قام بشرح كلمات هذه الخطبة في كتابه : « فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد » ، وجدير بالقارئ الكريم أن يقرا شرح الخطبة في ذلك الكتاب ، ليَطّلع على بعض ما فيها من الأسرار والإشارات والتعليقات والتوضيحات.

المحقق

٥٦١
٥٦٢

٢ ـ حديث أمّ أيمَن

كانت السيدة زينب عليها‌السلام قد بَلغَت مَبلغاً من الوعي والنضج الفكري والإستعداد العقلي بحيث استطاعت أن تَسمع مِن أمّ أيمن حديثاً يتعلّق بمستقبلها ومُستَقبَل أُسرتها. (١)

حديثاً يَقشَعرّ منه الجلود ، وتتوتّر منه الأعصاب ، لأنّه إخبار عن مُستقبل محاط بشتّى أنواع الفجائع والكوارث ، والمآسي

__________________

١ ـ أمّ أيمن : اسمها بَركة بنت ثعلّبة بن عمرو ، غَلَبت عليها كُنيتها ، إمرأة جليلة محترمة ، كانت أمَةً لسيدنا عبد الله بن عبد المطلب ـ والد رسول الله ـ ، وصارت ميراثاً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبذلك صارت حاضنةً له ، وقد أعتقها النبي الكريم عندما تزوّج من السيدة خديجة عليها‌السلام. رَوت عن النبي الكريم أحاديث مُتعدّدة ، وقد شَهِدَ لها رسول الله بأنّها من أهل الجنّة ، وشهد لها ـ أيضاً ـ الإمام الباقر عليه‌السلام بذلك حيث قال للراوي : « أرأيت أمّ أيمن فإنّي أشهد أنّها من أهل الجنة ». تزوجها عُبيد بن زيد ، من بني الحارث بن الخزرج ، فولدت له « أيمَن » ، واستُشهد

٥٦٣

والإضطهاد والأهوال ، وهو مقتل أخيها الإمام الحسين عليه‌السلام وأُسرته وأهل بيته.

إذن ، لم تكن فاجعة كربلاء للسيدة زينب مفاجأة ، بل كانت على عِلم بهذه المقدّرات التي كتبتها المشيئة الإلهية.

ولا نعلم ـ بالضبط ـ التاريخ الذي سمعت فيه السيدة زينب هذا الحديث من أمّ أيمن ، حتى نستطيع معرفة مقدار عمر السيدة زينب يوم سماع هذا الحديث ، لكن ذكر المؤرّخون تاريخ وفاة أمّ أيمن سنة ٣٦ من الهجرة ، وبناءً على هذا .. فقد كان عمر السيدة زينب عليها‌السلام يوم وفاة أم أيمن ثلاثين سنة. ولعلّها كانت قد حدّثت السيدة زينب قبل وفاتها بسنوات.

وعلى كل تقدير ، فإنّ السيدة زينب كانت تعلم بقضايا كربلاء قبل وقوعها بأربع وعشرين سنة .. على أقلّ التقادير ، إستناداً إلى

__________________

عبيد يوم خيبر ، فتزوّجها ـ بعد ذلك زيد بن حارثة ، والد أسامة بن زيد ، كانت علاقاتها مع أهل بيت رسول الله .. علاقات طيّبة جداً ، وخاصّةً بعد وفاة النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قيل : تُوفّيَت في أيام حكومة عثمان بن عفّان ، وصلى على جنازتها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ودُفنت في البقيع.

المحقق

٥٦٤

حديث أم أيمن ، سوى ما سمعته من جدّها رسول الله وأبيها أمير المؤمنين من الإخبار بمقتل الإمام الحسين في أرض كربلاء ، وقد إتّضح شيء من هذا الموضوع في الفصول الماضية من هذا الكتاب.

وأمّا حديث أمّ أيمن فإليك نصّه :

ذُكرَ في ملحقات كتاب ( كامل الزيارات ) لابن قولويه (١) ، بسنده عن نوح بن درّاج ، قال : حدّثني قدامة بن زائدة ، عن أبيه قال :

قال علي بن الحسين ـ عليه‌السلام ـ : « بَلَغني ـ يا زائدة ـ أنّك تزور قبر أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام أحياناً؟ ».

فقلت : إنّ ذلك لَكَما بَلَغَك.

فقال لي : « فلماذا تفعل ذلك ، ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتملُ أحداً على محبّتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا ، والواجب على هذه الأمّة من حقّنا »؟

فقلت : والله ما أريد بذلك إلا الله ورسوله ، ولا أحفل بسخط من سخط (٢) ولا يكبُرُ في صدري مكروه ينالُني بسببه!

__________________

١ ـ كتاب ( كامل الزيارات ) لابن قولويه المتوفى سنة ٣٦٧ هـ.

٢ ـ لا أحفَلُ : لا أبالي. كما في كتاب « العين » للخليل بن أحمد.

٥٦٥

فقال : « والله إنّ ذلك لكذلك ». (١)

فقلت : والله إنّ ذلك لكذلك. يقولها ثلاثاً ، وأقولها ثلاثاً. (٢)

فقال : « أبشِر ثمّ أبشِر ثمّ أبشِر فلأُخبِرنّك بخبرٍ كان عندي فـي النَخب المخـزون (٣) فإنّه لمّا أصابنا بالطفّ ما أصابنا (٤) وقُتل أبي عليه‌السلام وقُتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله ، وحُملَت حُرَمُه ونساؤه على الأقتاب يُراد بنا

__________________

١ ـ لكذلك : أي : هو كما أخبَرتَني بذلك ، وأنتَ صادق في قولك.

٢ ـ أي : لمزيد التأكيد على صدق كلامي .. كنتُ أُقسم بالله تعالى ثلاث مرّات ، وكان الإمام عليه‌السلام أيضاً يُقسم بالله سبحانه ثلاث مرات أنّي صادقٌ في قولي ، أو : أنّه يُصدقني على كلامي.

المحقق

٣ ـ هناك إحتمالان في معنى كلمة « النَخب » : الإحتمال الأول : هو صُندوقٌ صغير ، يُصنَع من خَشَب ، توضع فيه الأشياء النفيسة أو الثمينة ، كالمجوهرات والكتب المخطوطة الفريدة.

الاحتمال الثاني : هو ما يختارها الإنسان وينتخبها من المعلومات الثقافية النادرة التي يعتزّ بها ، ويودعها في ذاكرته. قال ابن منظور ـ في « لسان العرب » ـ : نَخَبَ : إنتخبَ الشيء : إختاره ، مشتقّ من النخبة. وجاء في كتاب « لاروس » : نَخَبَ الشيء : أخذ أحسنه. والله العالم.

المحقق

٤ ـ الطفّ : أرض كربلاء.

٥٦٦

الكوفة (١).

فجعلتُ أنظرُ إليهم صرعى ولم يُواروا ، فعَظُم ذلك في صدري ، واشتدّ ـ لما أرى منهم ـ قَلَقي ، فكادت نفسي تخرج ، وتبيّنَت ذلك منّي عمّتي زينب الكبرى بنت علي عليه‌السلام فقالت : ما لي أراكَ تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟؟!

فقلت : وكيفَ لا أجزع وأهلَع؟ وقد أرى سيّدي وإخوتي وعمومَتي ووُلدَ عمّي ، وأهلي مُصرّعين بدمائهم (٢) مُرَمّلين بالعراء ، مسَلّبين ، لا يُكفّنون ولا يوارون ، ولا يُعرّج عليهم أحد ، ولا يقربُهم بشر ، كأنّهم أهل بيتٍ من الدَيلم والخَزر؟؟ (٣)

__________________

١ ـ لقد ذكرنا ـ فيما مضى ـ أنّ الأقتاب ـ جمعُ قَتَب ـ : وهي مجموعة من الأقمشة السميكة المخيّطة بعضها فوق بعض ، لكي توضَعَ على سنام الإبل وتُشَدّ وتُثبّت هناك ، وذلك لراحة الراكب. ويُعبّر عنبه بـ « الإكاف ».

المحقّق

٢ ـ لعلّ الصحيح : مضرّجين بدمائهم.

المحقق

٣ ـ الديلم والخَزَر : أهالي مُقاطعة « مازندران » و « كيلان » في إيران ، كانوا يحاربونهم ويأسرونَ رجالهم ونساءهم ، ويأتون بهم إلى الشام ، ويتعاملون معهم تعامل العبيد والإماء ، فيبيعونهم.

المحقق

٥٦٧

فقالت : لا يُجزعنّك ما ترى ، فوالله إنّ ذلك لعهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جدّك [ أمير المؤمنين ] وأبيك وعمّك [ الإمام الحسن ].

ولقد أخذ الله الميثاق ، أُناسٌ من هذه الأمّة ـ لا تعرفهم فراعنة هذه الأمّة (١) ، وهم معروفون في أهل السماوات ـ أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة وهذه الجسوم المضرّجة فيوارونها.

وينصبون لهذا الطفّ عَلَماً لقبر أبيك سيد الشهداء ، لا يُدرَس أثره (٢) ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام. (٣)

ولَيَجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهوراً ، وأمره إلا علوّاً. (٤)

فقلتُ : وما هذا العهد وما هذا الخبر؟؟

فقالت : نعم ، حدّثتني أمّ أيمن أن رسول الله ( صلى الله

__________________

١ ـ وفي نسخة : فراعنة هذه الأرض.

٢ ـ لا يُدرس أثره : أي : لا يُعفا ولا يُمحى لا أثره. كما يستفاد من « المعجم الوسيط ».

المحقق

٣ ـ كرور الليالي والأيام : مرور ومُضيّ الليالي والأيام.

المحقق

٤ ـ تطميسه : محوه وإزالته.

٥٦٨

عليه وآله وسلم ) زارَ منزل فاطمة عليها‌السلام في يوم من الأيام ، فعَمِلَت له حريرة (١) ، وأتاهُ علي عليه‌السلام بطبقٍ فيه تمر.

ثمّ قالت أمّ أيمن : فأتيتهم بعُسٍ فيه لبن وزبد (٢) فأكلَ رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين من تلك الحريرة ، وشَربَ رسول الله وشربوا من ذلك اللبن ، ثم أكل وأكلوا من ذلك التمر والزُبد. ثم غسل رسول الله يده ، وعليٌ يَصُبّ عليه الماء.

فلمّا فرغ من غسل يده مسح وجهه ، ثم نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا به السررو في وجهه ، ثم رمقَ بطرفه نحو السماء مليّاً (٣) ثم إنّه وجّه وجهه نحو القبلة ، وبسط يديه ودعا ، ثمّ خرّ ساجداً وهو ينشج (٤) فأطالَ النشيج ، وعلا نحيبه وجََرَت دموعه.

ثمّ رفع رأسه ، وأطرَقَ إلى الأرض ودموعه تقطر كأنّها

__________________

١ ـ الحريرة : دقيق « طحين » يُطبَخُ بِلَبَن. كما في كتاب « مجمع البحرين » للطريحي.

٢ ـ العُسّ ـ بضمّ العَين ، وتشديد السين ـ : القدح الكبير. كتاب « العَين » للخليل. الزُبدُ : ما خَلُصَ من اللبن إذا مُخِض .. يشبه الدُهن. « لسان العرب »

٣ ـ مَلِيّاً : مُدّةً طويلةً من الزمن. كما يُستفاد من كتب اللغة.

المحقق

٤ ـ يَنشجُ : يتردّد البكاء في صدره .. دون صوت عال.

٥٦٩

صوب المطر (١) ، فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم‌السلام وحزنت معهم ، لما رأينا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهِبناه أن نسأله (٢).

حتّى إذا طال ذلك ، قال له علي وقالت له فاطمة : ما يُبكيك يا رسول الله؟ لا أبكى الله عينيك! فقد أقرح قلوبنا ما نرى مِن حالك.

فقال : يا أخي سُررتُ بكم (٣) وإني لأنظر إليكم وأحمد الله على نعمته عليّ فيكم ، إذ هبطَ عليّ جبرئيل فقال :

يا محمد! إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ إطّلع على ما في نفسك ، وعرفَ سرورَك بأخيك وابنتك وسبطيك ، فأكمل لك النعمة وهنّأكَ العطيّة : بأن جعَلَهم وذُريّاتهم ومُحبّيهم وشيعتهم معك في الجنة ، لا يُفرّق بينك وبينهم ، يُحبَونَ كما تُحبى (٤) ، ويُعطَونَ كما تُعطى ، حتى ترضى وفوق الرضا.

__________________

١ ـ صوبُ المطر : إنصباب المطر الغزير. المعجم الوسيط.

٢ ـ هِبناه : أخَذَتنا هيبته من أن نسأله عن سبب بكائه.

٣ ـ وفي نسخة : فقال : يا حبيبَيّ إنّي سُررتُ بكم سروراً ما سررتُ مثله قطّ.

٤ ـ يُحبَونَ كما تُحبى : أي يُعطون كما تُعطى ، يُقال : حبا الرجل حبواً : أعطاه ؛ مأخوذ من الحَبوَة : وهي العطيّة الهنيئة .. بلا مَنٍّ أو توقّع جزاء. كما يُستفاد من « القاموس » و « لسان العرب ».

المحقق

٥٧٠

على بَلوى كثيرة تنالهم في الدنيا ، ومكاره تُصيبهم بأيدي أُناسٍ ينتحلون مِلّتك ، ويزعمون أنّهم من أمّتك ، بُراء من الله ومنك ، خبطاً خبطاً (١) وقتلاً قتلاً ، شتّى مصارعهم (٢) نائية قبورهم ، خيرةٌ من الله لهم ولك فيهم ، فاحمَد الله ـ عز وجل ـ على خيرته ، و إرضَ بقضائه.

فحَمِدتُ الله ، ورَضيتُ بقضائه بما اختاره لكم.

ثم قال لي جبرئيل : يا محمد! إنّ أخاك مُضطهدٌ بعدك ، مَغلوب على أمّتك ، متعوبٌ من أعدائك ، ثمّ مقتول بعدك ، يقتله أشرّ الخلق والخليقة ، وأشقى البريّة ، يكون نظير عاقر الناقة (٣) ببلد تكون إليه هجرته ، وهو مغرَسُ شيعته وشيعة ولده ، وفيه ـ على كلّ حال ـ يكثُر بَلواهم ، ويعظم مصابهم.

____________

١ ـ خبطاً خبطاً : أي : ضرباً ضرباً ، أو كسراً كسراً ، والخبطُ : شدّة الوَطء بأيدي الدَوابّ. كتاب « العين » للخليل بن أحمد. وقال ابن دُريد في « جَمهرة اللغة » : كلّ شيء ضربته بيدك فقد خَبَطتَه.

المحقق

٢ ـ شتّى مصارعهم : متفرّقة أو مُتباعدة قبورهم. وقيل : المصارع ـ جمع مصرع ـ : هو المكان الذي يقع فيه المقتول.

٣ ـ أي : عاقِرَ ( أي : قاتِل ) ناقة النبي صالح ، وإسمه « قدار » ، ويُعبّر عنه بـ « أشقى الأوّلين » أي : أشقى البشر الذين كانو قبل الإسلام. قال تعالى : « إذ انبعث أشقاها ، فقال لهم رسول الله : ناقة الله وسُقياها ، فكذّبوه فعقروها ... » ( سورة الشمس ، الآية ١٢ ـ ١٤ )

٥٧١

وإنّ سبطك هذا ـ وأومأ بيده إلى الحسين (١) ـ مقتول في عصابة من ذريّتك وأهل بيتك ، وأخيارٍ من أمّتك ، بضِفّة الفرات (٢) بأرضٍ يقال لها : كربلاء. من أجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذريّتك في اليوم الذي لا يَنقضي كَربُه ، ولا تُفنى حَسرتُه.

وهي أطيبُ بقاعِ الأرض وأعظمها حُرمةً ، يُقتلُ فيها سبطك وأهله ، وإنّها من بطحاء الجنّة.

فإذا كان ذلك اليوم الذي يُقتَلُ فيه سبطُك وأهله ، وأحاطَت به كتائب أهل الكفر واللعنة ، تزعزعت الأرض من أقطارها ، ومادَت الجبال وكثُر إضطرابُها ، واصطفقت البحار بأمواجها ، وماجت السماوات بأهلها ، غَضَباً لك ـ يا محمد ـ ولذريّتك ، واستعظاماً لِما يُنتهكُ من حُرمتك ، ولشَرّ ما تُكافأ به في ذريّتك وعترتك.

ولا يَبقى شيء من ذلك إلا استأذن الله ـ عز وجل ـ في نُصرة أهلك المستضعفين المظلومين الذين هم حجّة الله على خلقه بعدك.

فيوحي الله إلى السماوات والأرض والجبال والبحار ومَن

__________________

١ ـ أومَأ بيده : أشار بيده.

٢ ـ الضِفّة : جانب النهر أو شاطئه. الفُرات : نَهر معروف في العراق.

٥٧٢

فيهنّ :

« إنّي أنا الله المَلِك القادر ، الذي لا يفوته هارب ، ولا يعجزه ممتنع ، وأنا أقدر على الإنتصار والإنتقام.

وعزّتي وجلالي!! لأُعذّبَن مَن وَتَرَ رسولي وصَفيّي ، وانتهك حرمته ، وقَتَل عترته ، ونبذ عهده ، وظلم أهل بيته عذاباً لا أُعذّبه أحداً من العالمين ».

فعند ذلك يضجّ كلّ شيء في السماوات والأرضين ، بِلَعنِ (١) من ظلم عترتك ، واستحلّ حُرمَتك.

فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها (٢) تولّى الله ـ عزّ وجل ـ قَبضَ أرواحها بيده ، وهبط إلى الأرض ملائكة من السماء السابعة ، معهم آنية من الياقوت والزمرّد ، مملوءة من ماء الحياة ، وحُلَل من حُلَل الجنّة ، وطيب من طيب الجنّة ، فغسّلوا جُثَثَهم بذلك الماء ، وألبَسوها الحُلَل ، وحنّطوها بذلك الطيب ، وصلّت الملائكة ـ صفّاً صفّاً ـ عليهم.

ثمّ يبعث الله قوماً من أمّتك لا يعرفهم الكفّار ، لم يشركوا في تلك الدماء بقولٍ ولا فعلٍ ولا نيّة (٣) ، فيُوارون أجسامهم ،

__________________

١ ـ وفي نسخة : يَلعَن.

٢ ـ مضاجعها ـ هُنا ـ مصارعها ، أي : أماكن سقوط القَتيل على الأرض.

المحقق

٣ ـ لعلّ الصحيح : لم يَشتركوا في تلك الدماء.

المحقق

٥٧٣

ويقيمون رَسماً لقبر سيد الشهداء بتلك البطحاء ، يكون عَلَماً لأهل الحق ، وسبباً للمؤمنين إلى الفوز ، وتَحفّه ملائكة من كلّ سماء : مائة ألف مَلَك في كلّ يوم وليلة ويُصلّون عليه ، ويطوفون عليه ، ويسبّحون الله عنده ، ويستغفرون الله لمن زاره ، ويكتبون أسماء من يأتيه زائراً من أمّتك ، متقرّباً إلى الله ـ تعالى ـ وإليك بذلك ، وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم ويوسمون في وجوههم بمِيسَمِ (١) نور عرش الله : « هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء ».

فإذا كان يوم القيامة سَطَعَ في وجوههم ـ من أثر ذلك الميسم ـ نور تغشى منه الأبصار ، يُدلّ عليهم ويُعرَفون به.

وكأنّي بك ـ يا محمد ـ بيني وبين ميكائيل ، وعليٌ أمامَنا ، ومَعَنا من ملائكة الله ما لا يُحصى عددهم ، ونحن نلتقط ـ مَن ذلك الميسم في وجهه ـ من بين الخلائق ، حتى يُنجيهم الله مِن هَول ذلك اليوم وشدائده.

وذلك حكم الله وعطاؤه لمن زار قبرك ـ يا محمد ـ أو قبر أخيك أو قبر سبطيك ، لا يُريد به غير الله عز وجل.

__________________

١ ـ المِيسَم : حديدة تحمى بالنار ، ثم توضع على جسم الحيوان فتكويه ، لتكون علامة لها ، لفرزها عن حيوانات القطيع الاخر ، والجمع : مَياسِم ومَواسِم. ويُقال ـ أيضاً ـ لكلّ جهازٍ يُستَعمَل لِوَضع علامة فارقة لِفَرز شيء عن شيء.

المحقق

٥٧٤

وسيَجتهد أُناسٌ ـ مِمّن حَقّت عليهم اللعنة من الله والسخط ـ أن يُعفوا رَسمَ ذلك القبر ، ويُمحوا أثره ، فلا يجعل الله ـ تبارك وتعالى ـ لهم إلى ذلك سبيلاً.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهذا أبكاني وأحزَنَني.

قالت زينب : فلمّا ضرب ابن ملجم ( لعنه الله ) أبي عليه‌السلام ورأيتُ عليه أثر الموت منه ، قلتُ له : يا أبَه حَدّثتَني أمّ أيمن بكذا وكذا ، وقد أحببتُ أن أسمعه منك.

فقال : يا بُنيّه الحديث كما حدّثَتكِ أمّ أيمن ، وكأنّي بكِ وبنساء أهلكِ سبايا بهذا البلد ، أذلاء خاشعين ، تخافون أن يتخطّفكم الناس.

فصبراً صبراً ، فوالذي فَلَقَ الحبّة وبرأ النسمة ، ما لله على ظهر الأرض ـ يومئذ ـ وليٌّ غيركم وغير مُحبّيكم وشيعتكم.

ولقد قال لنا رسول الله ـ حين أخبرنا بهذا الخبر ـ : « إنّ إبليس ( لعنه الله ) في ذلك اليوم يطير فرَحاً (١) فيجول الأرض كلّها بشياطينه وعفاريته فيقول : يا معاشر الشياطين : قد أدركنا مِن ذريّة آدم الطلبة ، وبَلغنا في هلاكهم الغاية ، وأورَثناهم النار إلا من اعتصم بهذه العصابة ، فاجعلوا شُغلكم بِتَشكيك الناس

__________________

١ ـ ذلك اليوم : يوم قتل الإمام الحسين عليه‌السلام وهو يوم ١٠/محرم مِن سنة ٦١ للهجرة ، المشهور بـ « عاشوراء ».

٥٧٥

فيهم وحَملِهم على عَداوتِهم ، وإغرائهم بهم وأوليائهم ، حتى تستَحكموا ضلالة الخَلق وكُفرهم ، ولا يَنجو منهم ناج.

ولقد صَدَقَ عليهم إبليس ـ وهو كذوب ـ أنه لا يَنفعُ مَعَ عداوتكم عمل صالح ، ولا يضرّ مع محبّتكم وموالاتكم ذنب غير الكبائر.

قال زائدة : ثم قال علي بن الحسين عليه‌السلام بعد أن حدّثني بهذا الحديث : خُذه إليك ، ما لو (١) ضَربتَ في طلبة آباط الإبل حَولاً (٢) لكان قليلاً (٣).

__________________

١ ـ وفي نسخة : أما لو.

٢ ـ حَولاً : الحَول : السَنَة. كان البشرُ ـ في الزمن الماضي ، وقبل صُنع وسائل النقل الحديثة كالسيارات والقطارات والطائرات ـ يستعمل الدوابّ للإنتقال من مكان إلى مكان ، وللسفر من بلد إلى بلد ، وخاصة الإبل .. حيث كانت وسيلة نقل جيّدة لقطع المسافات الصحراوية ، لأنّ قدرتها على تحمّل العطش والجوع أكثر من الدواب الاخرى ، وحينما يَركب الإنسان على ظهر الإبل ( البعير ) تُحاذي قدمه إبط الإبل ، فإذا أبطأت في السير يضرب الراكب ـ أحياناً ـ بقدمه على إبط الإبل وبطنها لك تُسرع في المشي ، وبذلك يقطع مسافة أطول في مدة أقصر. فالضرب على إبط الإبل : هو كناية عن السفر من بلد إلى بلد ، وتحمّل الجوع والعطش والحرّ والبَرد ، من أجل الوصول إلى الهدف وهو البلد الآخر.

المحقق

٣ ـ كامل الزيارات ، لابن قولويه المتوفى سنة ٣٦٧ هـ ، ص ٢٦٠ ـ ٢٦٦ ، باب ٨٨ ، ونقله عنه الشيخ المجلسي في كتاب بحار الأنوار ج ٢٨ ، باب ٢ ص ٥٥ ـ ٦١.

٥٧٦

٣ ـ متفرّقات

١ ـ روى الشيخ الطوسي باسناده عن السيدة زينب بنت علي ـ عليهما‌السلام ـ قالت :

صلّى أبي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاة الفجر ، ثم أقبل على علي عليه‌السلام فقال : هل عندكم طعام؟

فقال : لم آكل منذ ثلاثة أيام طعاماً.

فقال رسول الله : إمض بنا إلى إبنتي فاطمة.

فدخلا عليها وهي تَتَلوّى من الجوع! وإبناها معها. فقال رسول الله : يا فاطمة! فِداك أبوكِ ، هل عندك شيء من الطعام.

فاستَحيَت فاطمة أن تقول لا. وقامت واستقبلت القِبلة لِتُصلّي ركعتين. فأحسّت بحَسيس ، فالتفَتَت

__________________

١ ـ الثاقب في المناقب ، ص ٢٢١ ـ ٢٢٢ و٢٩٥.

٥٧٧

وإذا بصفحة ملأى ثَريداً ولحماً ، فأتت بها ووضعتها بين يدي أبيها ، فدعى رسول الله بعليّ والحسن والحسين.

ونظر عليّ إلى فاطمة متعجّباً وقال : يا بنت رسول الله! أنّى لكِ هذا؟

فقالت : هو من عند الله ، إنّ الله يرزقُ من يشاء بغير حساب.

فضحك النبي وقال : الحمد لله الذي جعل في أهلي نظير زكريّا ومريم ، إذ قال لها : أنّى لكِ هذا؟ قالت : هو من عند الله ، إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب ... (١)

٢ ـ وجاء في التاريخ : أنّ السيدة زينب عليها‌السلام كانت جالسة ذات يوم ، وعندها أخواها الإمامان الحسن والحسين عليهما‌السلام وهما يتحدّثان في بعض أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقالت السيدة زينب سمعتُكُما تقولان : إنّ رسول الله قال : « الحلال بَيّن ، والحرامُ بيّن ، وشُبُهاتٌ لا يعلمها كثير من الناس ».

ثمّ استمرّت السيدة زينب تُكمل الحديث وتقول : « مَن تَركها ( أي : تَرَك الشبهات ) صَلُحَ له أمر دينه وصَلُحت له مُروءَته وعِرضه ، ومن تلبّس بها ووقع فيها واتّبعها ..

__________________

١ ـ الثاقب في المناقب ، ص ٢٢١ ـ ٢٢٢ و ٢٩٥.

٥٧٨

كان كمن رعى غنمه قرب الحِمى (١) ومن رعى ماشيته قرب الحمى نازعته نفسه أن يرعاها في الحمى ، ألا : وإنّ لكلّ مَلِكٍ حِمى ، وإنّ حمى الله محارمه ». (٢)

__________________

١ ـ الحِمى : موضعٌ فيه كَلأٌ يُحمى من الناس مِن أن يَدخل قطيع غنمهم فيه ، وهو بمنزلة السور .. سواء كان مِن حائط أو شجر. وفي الحديث « ومَن حامَ حول الحمى أوشك أن يقع فيها ». كما يُستفاد من كتاب « العَين » للخليل.

المحقق

٢ ـ يُعَبّر عن المكان القريب لدار مَلِك أو رئيس ، أو لمنطقة مخطورة بكلمة « حمى » ، وفي عالم اليوم .. نَجِدُ أنّ إدارة البلديّة تجعل سياجاً أو حزاماً أحمر حول المناطق المخطورة ، كالأراضي المزروعة بالألغام أو المتفجّرات ، أو الغابات التي تتواجد فيها الحيوانات المفترسة.

وهذا السياج : هو علامة تَعني : أيها الإنسان! لا تدخل هذه المنطقة ، بل لا تقترب منها ، فإنّ اللازم عليك أن تبتعد عن المكان القريب من المنطقة المخطورة ، إذ مِن الممكن أن يكون المكان القريب منها مزروعاً ـ أيضاً ـ بالألغام مثلاً.

مِن هنا .. فقد جعل الله تعالى حول المعاصي والمحرّمات حِمىً وحَظراً دينيّاً كي يُساعد الانسان على الوقاية من التلوّث بالذنوب ، وعدم الإقتراب من أجواء الحرام.

ومنها الابتعاد عن الشبهات ، أي : الأمور او الأطعمة أو الأعمال التي لا يُعلَم ـ بالضبط ـ هل هي حرام أو حلال؟

٥٧٩

٣ ـ ثمّ رَوَت السيدة زينب عليها‌السلام حديثاً آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : « ألا : وإنّ في الجسد مُضغة (١) إذا صَلُحت صَلُح الجسد كلّه ، وإذا فَسَدت فسد الجسد كلّه ، ألا : وهي القَلب ». (٢)

ثمّ قالت السيدة : أما سمعتما رسول الله ( صلى الله عليه

__________________

فإذا لم يُراعِ الإنسان الإحتياط اللازم ، فسوف يكون مٍن السَهل عليه إرتكاب المحرّمات ، لأنّ مِن آثار الشبهات : هو حصول الجُرأة على الحرام.

وقد رُويَ عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ما مضمونه : لا تُفكّر في الحرام ، فإن ذلك ـ يجُرّك إلى التخطيط لإرتكابه ، وإذا بدأت بالتفكير فسوف تُفكّر في لذة الحرام ، وتَغفل عن العقوبات والمضاعفات الناتجة عن ذلك. ونقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى : « ولا تقربوا الزنا ... » وهذا يعني وَضع « حمى » حول هذه الجريمة ، ويوضّح هذا الحِمى قول الشاعر :

نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامُ

فكـلامٌ فمـوعدٌ فلِقاءُ

١ ـ المُضغة : قِطعة لحم ، وقلب الإنسان مُضغة من جسده. كتاب « العَين » للخليل بن أحمد.

٢ ـ وهي القلب : لعلّه كناية عن محلّ إصدار الأوامر في المُخ ، حيث جاء التعبير عن الفِكر والمُخ بالقلب في كثير من الروايات.

المحقق

٥٨٠