تفسير القاسمي - ج ٥

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٥

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٢

وروى الطبراني بسند صحيح عن قتادة عن محمد بن سيرين : أن تميما الداري اشترى رداء بألف ، وكان يصلي فيه.

الرابع : وجه تأثر الأمر بأخذ الزينة ، بالأمر بالأكل والشرب في قوله تعالى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) ما رواه الكلبي أن بني عامر كانوا لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتا ، ولا يأكلون دسما ، يعظمون بذلك حجهم. فقال المسلمون نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله. فأنزل الله عزوجل (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا). وقال السدّي : كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرّمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم. فقال الله تعالى لهم : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) ... الآية.

الخامس : فسر الإسراف بمجاوزة الحد فيما أحلّ ، وذلك بتحريمه ، وقال الجشمي اليمني في تفسيره (التهذيب) : تدل الآية على المنع من الإسراف. وذلك على وجهين :

أولهما : إنفاق في معصية كالفخار واللعب والزنى والخمر ونحوها. وثانيهما : أن يتعدى الحدود وذلك مختلف بحال اليسار والإعسار. لأن من له قدر يسير ، لو أنفقه في ضيافة أو طيب أو ثياب خز ، وهو وعياله يحتاجون إليه ، فهو سرف محرم. ومثله في الموسرين لا يقبح ولا يكون سرفا وتدل على أن الأشياء على الإباحة. والعقل يدل على ذلك. لأنه تعالى خلقه لمنافعهم. والسمع ورد مؤكدا. ولذلك قال : (مَنْ حَرَّمَ) مطالبا بدليل سمعي.

وقد روى الإمام أحمد (١) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف ، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده». وأخرج النسائي (٢) وابن ماجة (٣) نحوه.

وقال البخاري (٤) : قال ابن عباس : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان : سرف أو مخيلة. ورواه ابن جرير عنه أيضا بلفظ : أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة. قال الشهاب : هذا (أي ما قاله ابن عباس) لا ينافي ما ذكره

__________________

(١) أخرجه في المسند ٢ / ١٨١ ، الحديث رقم ٦٦٩٥.

(٢) أخرجه النسائيّ في : الزكاة ، ٦٦ ـ باب الاختيال في الصدقة.

(٣) أخرجه ابن ماجة في : اللباس ، ٢٣ ـ باب البس ما شئت ، ما أخطأك سرف أو مخيلة ، حديث رقم ٣٦٠٥.

(٤) أخرجه البخاري في : اللباس ، ١ ـ باب قوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ).

٤١

الثعالبيّ وغيره من الأدباء ، أن ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ، ويلبس ما يشتهيه الناس ، كما قيل :

نصيحة نصيحة

قالت بها الأكياس

كل ما اشتهيت والبس

نّ ما اشتهته الناس

فإنه لترك ما لم يعتد بين الناس ، وهذا لإباحة كل ما اعتادوه. و (المخيلة : الكبر). و (ما) دوامية زمانية. و (أخطأتك) من قولهم : أخطأ فلان كذا ، إذا عدمه. وفي الأساس : من المجاز لن يخطئك ما كتب لك ، وأخطأ المطر الأرض : لم يصبها ، وتخاطأته النبل : تجاوزته وتخطّأته. انتهى.

وفي قوله تعالى : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) وعيد وتهديد لمن أسرف في هذه الأشياء. لأن من لم يحبه الله لم يرض عنه.

السادس ـ تناقل المفسرون وغيرهم ما قيل إن قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الآية ـ جمع الطب كله. وأصله ما حكاه الزمخشري والكرماني في عجائبه ، أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق ، فقال لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان : علم الأبدان ، وعلم الأديان. فقال له : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه. قال : وما هي؟ قال : قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) ، فقال النصراني : ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب! فقال : قد جمع رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطب في ألفاظ يسيرة. قال : وما هي؟ قال قوله : المعدة بيت الداء ، والحمية رأس الدواء ، وأعط كل بدن ما عودته. فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّا.

قال في (العناية) : وترك بعضهم تمام القصة ، لأن في ثبوت هذا الحديث كلاما للمحدثين. وفي شعب الإيمان للبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المعدة حوض البدن ، والعروق إليها واردة ، فإذا صحت المعدة ، صدرت العروق بالصحة ، وإذا فسدت المعدة ، صدرت العروق بالسقم». ـ انتهى ـ.

أقول : إن صحت هذه الحكاية ، فصواب جواب النصرانيّ في سؤاله الثاني بالتفنيد والفرية ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثر عنه من بدائع الطب وأصناف العلاج ما لم يؤثر عن نبيّ قط. وللمحدّثين ، في عهد السلف ، منه قسم كبير في جوامعهم ومسانيدهم. وأما أعلام المتأخرين فقد اضطرهم وفرة ما روي في ذلك إلى تدوينه في

٤٢

أسفار مطولة ومختصرة بعنوان (الطب النبوي). وقد بيّن الإمام ابن القيّم : عليه الرحمة ، اشتمال التنزيل العزيز على أصول الطب ، والسنة المطهرة على بدائعه ، في كتابه (زاد المعاد) ، بيانا يدهش الألباب ، وفوق كل ذي علم عليم. قال ، عليه الرضوان ، في كتابه (زاد المعاد ، في هدي خير العباد) :

فصل

قد أتينا على جمل من هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المغازي والسير والبعوث والسرايا والرسائل والكتب التي كتب بها إلى الملوك ونوابهم ، ونحن نتبع ذلك بذكر فصول نافعة في هديه في الطب الذي تطبب به ، ووصفه لغيره ، ونبين ما فيه من الحكمة التي يعجز أكثر عقول أكثر الأطباء عن الوصول إليها ، وأن نسبة طبهم إليها كنسبة طب العجائز إلى طبهم ، فنحن نقول وبالله المستعان :

المرض نوعان : مرض القلوب ، ومرض الأبدان. وهما مذكوران في القرآن. ومرض القلب نوعان : مرض شبهة وشك ، ومرض شهوة وغيّ ، وكلاهما في القرآن. قال تعالى في مرض الشبهة : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) [البقرة : ١٠] ، وقال تعالى : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [المدثر : ٣١]. وقال تعالى في حق من دعي إلى تحكيم القرآن والسنة فأبى وأعرض : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [النور : ٤٨ ـ ٥٠]. فهذا مرض الشبهات والشكوك.

وأما مرض الشهوات فقال تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ ، إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) [الأحزاب : ٣٢]. فهذا مرض شهوة الزنى ـ والله أعلم.

وأما مرض الأبدان فقال تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [النور : ٦١]. وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسرّ بديع ، يبين ذلك عظمة القرآن والاستغناء به ، لمن فهمه وعقله ، عن سواه. وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة : حفظ الصحة ، والحمية عن المؤذي ، واستفراغ الموادّ الفاسدة. فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة. فقال في آية

٤٣

الصوم : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٤]. فأباح الفطر للمريض لعذر المرض ، والمسافر ، طلبا لحفظ صحته وقوته ، لئلا يذهبه الصوم في السفر ، لاجتماع شدة الحركة وما يوجبه من التحليل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلّل ، فتخور القوة وتضعف ، فأباح للمسافر الفطر حفظا لصحته وقوته عما يضعفها. وقال في آية الحج : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة : ١٩٦]. فأباح للمريض ، ومن به أذى من رأسه ، من قمل أو حكة أو غيرهما ، أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغا لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر ، وإذا حلق رأسه تفتحت المسامات فخرجت تلك الأبخرة منها. فهذا الاستفراغ يقاس عليه استفراغ يؤذي انحباسه. والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة : الدم إذا هاج ، والمني إذا سبغ ، والبول والغائط والريح والقيء والعطاس والنوم والجوع والعطش. وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحبسه. وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها وهو البخار المحتقن في الرأس ، على استفراغ ما هو أصعب منه ، كما هي طريقة القرآن ، التنبيه بالأدنى على الأعلى.

وأما الحمية ، فقال في آية الوضوء : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [النساء : ٤٣] ، فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه. وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له ، من داخل أو خارج. فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب ، ومجامع قواعده.

ونحن نذكر هدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، ونبين أن هديه فيه أكمل هدي.

فأما طب القلوب ، فمسلّم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم ، وعلى أيديهم. فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها ، وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه ، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ولمحابّه ، متجنبة لمناهيه ومساخطه.

ولا صحة لها ولا حياة لها البتة إلا بذلك ، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل. وما يظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم ، فغلط ممن يظن ذلك. وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها. وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل. ومن لم يميز بين هذا وبين هذا ، فليبك على حياة قلبه ، فإنه من

٤٤

الأموات. وعلى نوره ، فإنه منغمس في بحار الظلمات ـ انتهى ـ :

وقد قرر رحمه‌الله هذا المقام بأسلوب آخر في كتاب (طريق الهجرتين) نورده أيضا لبداعة أسلوبه. قال عليه الرحمة :

ولما كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه ، وهو خروجه عن اعتداله الطبيعي بفساد يعرض له ، يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية ، فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم والشلل ، وإما أن ينقص إدراكه لضعف في آلات الإدراك مع استقامة إدراكه ، وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه ، كما يدرك الحلو مرّا ، والخبيث طيبا ، والطّيب خبيثا. وأما فساد حركته الطبيعية ، فمثل أن تضعف قوته الهاضمة أو الماسكة أو الدافعة أو الجاذبة. فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال ، ولكن مع ذلك لم يصل إلى حدّ الموت والهلاك ، بل فيه نوع قوة على الإدراك والحركة ، وسبب هذا الخروج عن الاعتدال ، إما فساد في الكمية أو في الكيفية فالأول إما نقص في المادة فيحتاج إلى زيادتها ، وإما زيادة فيها فيحتاج إلى نقصانها. والثاني إما بزيادة الحرارة أو البرودة أو الرطوبة أو اليبوسة أو نقصانها عن القدر الطبيعي ، فيداوى بمقتضى ذلك. ومدار الصحة على حفظ القوة والحمية عن المؤذي ، واستفراغ الموادّ الفاسدة ، ونظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة. وقد تضمنها الكتاب العزيز ، وأرشد إليها من أنزله شفاء ورحمة. فأما حفظ القوة فإنه سبحانه أمر المسافر والمريض أن يفطرا في رمضان ، ويقضي المسافر إذا قدم ، والمريض إذا برأ ، حفظا لقوتهما عليهما. فإن الصوم يزيد المريض ضعفا ، والمسافر محتاج إلى توفير قوته عليه لمشقة السفر ، فالصوم يضعفها. فأما الحمية عن المؤذي ، فإنه سبحانه حمى المريض عن استعمال الماء البارد في الوضوء والغسل إذا كان يضره ، وأمره بالعدول إلى التيمم ، حمية له عن ورود المؤذي عليه من ظاهر بدنه ، فكيف بالمؤذي له في باطنه؟ وأما استفراغ المادة الفاسدة ، فإنه سبحانه أباح للمحرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه ، فيستفرغ الحلق الأبخرة المؤذية له ، وهذا من أسهل أنواع الاستفراغ وأخفّها ، فنبّه به على ما هو أحوج إليه منه.

وذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر بهذا فقال : والله! لو سافرت إلى الغرب في معرفة هذه الفائدة ، لكان سفرا قليلا أو كما قال ـ انتهى.

ثم ردّ تعالى على من حرّم شيئا من المآكل والمشارب والملابس ، من تلقاء نفسه من غير شرع من الله ، تأكيدا لما سبق ، بقوله سبحانه.

٤٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣٢)

(قُلْ) أي لهؤلاء المشركين الذين يحرّمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) أي من الثياب وسائر ما يتجمّل به (الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) من النبات كالقطن والكتان ، والحيوان كالحرير والصوف ، والمعادن كالدروع. هكذا عمم المفسرون هنا ، ووجهه أن تخصيصه يغني عنه ما مرّ (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) أي المستلذات من المآكل والمشارب.

قال المهايمي : يعنى إن زعموا أن التزين والتلذذ ينافيان التذلل الذي هو العبادة ، فيحرمان معها ، فأعلمهم أنه قد أخرجها لعباده الذين خلقهم لعبادته ليتزينوا بها حال العبادة ، فعل عبيد الملوك إذا حضروا خدمتهم ، ولا ينافي ذلك تذللهم لهم ، وكذلك الطيبات التي خلقها لتطييب قلوب عباده ليشكروه ، والشكر عبادة ، فلا ينافي التلذذ العبادة ، بل قد يكون داعية إليها. انتهى.

تنبيهات

الأول ـ فسرت (الطيبات) ب (الحلال) ، وفسرت ب (اللحم والدسم) الذي كانوا يحرمونه أيام الحج كما تقدم ، وفسرت ب (البحائر والسوائب) كما قال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) [يونس : ٥٩] وظاهر أن لفظ الآية أعم من ذلك ، وإن كان يدخل فيه ما ذكر دخولا أوليّا ، لأنها إنما وردت نعيا عليهم فيه ، والعبرة بعموم اللفظ.

قال الرازي : لفظ (الزينة) يتناول جميع أنواع التزين ، ومنه تنظيف البدن ، ومنه المركوب ، ومنه أنواع الحلي (يعني للنساء). ثم قال : ويدخل تحت (الطيبات) كل ما يستلذ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات ، ويدخل تحته التمتع بالنساء والطيب وقد رد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عثمان بن مظعون ، ما هم به من الاختصاء والتبتل.

الثاني ـ دلت الآية على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة ، لأن الاستفهام في (مَنْ) لإنكار تحريمها على وجه بليغ ، لأن إنكار الفاعل يوجب إنكار الفعل لعدمه بدونه.

٤٦

الثالث ـ في الآية رد على من تورّع من أكل المستلذات ولبس الملابس الرقيقة ، لأنه لا زهد في ترك الطيب منها ، ولهذا جاءت الآية معنونة بالاستفهام المتضمن للإنكار على من حرم ذلك على نفسه ، أو حرّمه على غيره. وما أحسن ما قال ابن جرير الطبري : لقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف ، على لباس القطن والكتان ، مع وجود السبيل إليه من حله ، ومن أكل البقول والعدس ، واختاره على خبز البرّ ، ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض الشهوة ـ انتهى ـ.

الرابع ـ قال ابن الفرس : واستدل بالآية من أجاز لبس الحرير والخزّ للرجال. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سنان بن سلمة أنه كان يلبس الخزّ ، فقال له الناس : مثلك يلبس هذا؟ فقال لهم : من ذا الذي يحرم زينة الله التي أخرج لعباده؟ ولكن أخرج عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال : لم يأمرهم بالحرير ولا الديباج ، ولكنه كانوا إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت عنه. كذا في (الإكليل).

أقول : عدم شمول الآية للحرير غنيّ عن البيان ، لأن ما خصه الدليل لا يتناوله العامّ. والأحاديث في تحريم الحرير لا تحصى كثرة ، فاستنباط حلّه منها مردود على زاعمه.

(قُلْ هِيَ) أي زينة الله والطيبات ، مخلوقة (لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالأصالة ، والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع (خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : لا يشاركهم فيها غيرهم ، لأن الله حرم الجنة على الكافرين. وانتصابها على الحالية ، وقرئ بالرفع ، أي على أنه خبر بعد خبر.

لطيفة :

قال المهايمي : إنما خلقت للمؤمنين ليعلموا بها لذّات الآخرة ، فيرغبوا فيها مزيد رغبة ، لكن شاركهم الكفرة فيها لئلا يكون هذا الفرق ملجئا لهم إلى الإيمان. فإذا ذهب هذا المعنى ، تصير خالصة لهم يوم القيامة ، فلو حرمت على المؤمنين لكانت مخلوقة للكافرين ، وهو خلاف مقتضى الحكمة. وإن خلقت للمؤمنين فأولى أوقات الانتفاع بها وقت جريانهم على مقتضى الإيمان ، وهو العبادة والتقوى ، ولكن من غير انهماك في الشهوات.

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي الحكمة في خلق الأشياء ، واستعمال الأشياء على نهج ينفع ولا يضر. فإن زعموا أنه يخاف من التزين والتلذذ الوقوع في

٤٧

الكبر ، والانهماك في الشهوات ، فيحرمان على أهل العبادة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٣)

(قُلْ) إنهما من المنافع الخالصة في أنفسهما. والإفضاء احتمال غير محقق. فإذا أفضى ، فالحرام هو المفضى إليه بالذات لأنه (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) أي : ما تفاحش قبحه من الذنوب ، أي تزايد (وهي الكبائر) وهي ما يتعلق بالفروج (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي : ما جاهر به بعضهم بعضا ، وما ستره بعضهم عن بعض ، وما ظهر من أفعال الجوارح ، وما بطن من أفعال القلوب (وَالْإِثْمَ) أي : ما يوجب الإثم ، وهو عامّ لكل ذنب ، وذكره للتعميم بعد التخصيص. ويقال : إن الإثم هو الخمر ، قال الشاعر :

نهانا رسول الله أن نقرب الزنى

وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا

وأنشد الأخفش :

شربت الإثم حتى ضلّ عقلي

كذاك الإثم تذهب بالعقول

وهو منقول عن ابن عباس والحسن. وذكره أهل اللغة كالأصمعيّ وغيره. قال الحسن : ويصدقه قوله تعالى : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) [البقرة : ٢١٩]. وقال ابن الأنباري : لم تسمّ العرب الخمر إثما في جاهلية ولا إسلام ، والشعر المذكور موضوع. وردّ بأنه مجاز ، لأنه سببه. وقال أبو حيان : هذا التفسير غير صحيح هنا ، لأن السورة مكية ، ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد ، وقد سبقه إلى هذا غيره. وأيضا ، الحصر يحتاج إلى دليل. كذا في (العناية) (وَالْبَغْيَ) أي : الاستطالة على الناس وظلمهم. إنما أفرده بالذكر ، مع دخوله فيما قبله ، للمبالغة في الزجر عنه. وذلك لأن تخصيصه بالذكر يقتضي أنه تميّز من بينها حتى عدّ نوعا مستقلّا (بِغَيْرِ الْحَقِ) متعلق ب (البغي) ، مؤكد له معنى. وقيل : البغي قد يخرج عن كونه ظلما إذا كان بسبب جائز في الشرع ، كالقصاص ، إلا أنه مثله لا يسمى بغيا حقيقة ، بل مشاكلة (وَ) قد حرّم (أَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي : برهانا أي : ما لم يقم عليه حجة. قال الزمخشري : فيه تهكم ، لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره. وفي (العناية) : إنما جاء التهكم من حيث إنه يوهم أنه لو كان عليه سلطان

٤٨

لم يكن محرّما ، دلالة على تقليدهم في الغي. والمعنى على نفي الإنزال والسلطان معا على الوجه الأبلغ ـ انتهى ـ قال الرازيّ : وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل. وتبعه القاضي فقال : في الآية تنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان (وَ) قد حرّم عليكم (أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي : تتقوّلوا عليه ، وتفتروا الكذب في التحليل والتحريم ، أو في الشرك.

تنبيه :

قال الجشمي : تدل الآية على تحريم جميع الذنوب ، لأن قوله (الفواحش والإثم) يشتمل على الصغير والكبير ، والأفعال القبيحة ، والعقود المخالفة للشرع ، والأقاويل الفاسدة ، والاعتقادات الباطلة. ودخل في قوله (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أفعال الجوارح ، وأفعال القلوب والخيانات ، والمكر ، والخديعة ، ودخل تحت قوله (وَالْبَغْيَ) كل ظلم يتعدى على الغير ، فيدخل فيه ما يفعله البغاة والخوارج ، والأمراء إذا انتصروا بغير حق. ودخل تحت قوله (وَأَنْ تُشْرِكُوا) تحريم كل شرك وعبادة لغير الله. ودخل تحت قوله (وَأَنْ تَقُولُوا) كل بدعة وضلالة وفتوى بغير حق ، وشهادة زور ونحوه. فالآية جامعة في المحرمات ، كما أن ما قبلها جامعة في المباحات. وفيه تعليم للآداب ، دينا ودنيا ، وتدل على بطلان التقليد ، لأنه أوجب اتباع الحجة ، لقوله (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) ، والسلطان الحجة. وتدل على أن لكل أحد وقت حياة ، ووقت موت ، لا يجوز فيه التقديم والتأخير ، فيبطل قول من يقول : المقتول مات قبل أجله. انتهى.

ثم أوعد تعالى أهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عنده سبحانه ، كما نزل بالأمم ، فقال تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٣٤)

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي : مدة أو وقت لنزول العذاب بهم (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي : ميقاتهم المقدر لهم (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي : لا يتركون بعد الأجل شيئا قليلا من الزمان ، ولا يهلكون قبله كذلك. والساعة مثل في غاية القلة من الزمان.

لطائف

١ ـ وقع هذا التركيب في موضع من التنزيل ، وفيه بحث مشهور : وهو أنه لما

٤٩

كان الظاهر عطف (لا يستقدمون) على (لا يستأخرون) كما أعربه الحوفيّ وغيره ، أورد عليه أنه فاسد ، لأن (إذا) إنما يترتب عليها الأمور المستقبلة لا الماضية ، والاستقدام حينئذ بالنسبة إلى محلّ الأجل متقدم عليه ، فكيف يترتب عليه ما تقدمه؟ ويصير باب الإخبار بالضروري الذي لا فائدة فيه ، كقولك : إذا قمت فيما يأتي ، لم يتقدم قيامك فيما مضى. وأجيب بأن المراد بالمجيء الدنوّ ، بحيث يمكن التقدم في الجملة ، كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة فيه. وقيل : إن جملة (لا يَسْتَقْدِمُونَ) مستأنفة. وقيل : إنها معطوفة على الشرط وجوابه ، أو على القيد والمقيّد. أو أن مجموع (لا يستأخرون ولا يستقدمون) كناية عن أنهم لا يستطيعون تغييره. والتحقيق أنه عطف على (يَسْتَأْخِرُونَ) لكن لا لبيان انتفاء التقدم ، مع إمكانه في نفسه كالتأخر ، كما يتوهم ، بل للمبالغة في انتفاء التأخر. يعني أن التأخر مساو للتقدم في الاستحالة ، ولذا نظمه معه في سلك ، كما في قوله سبحانه (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) [النساء : ١٨] فإن من مات كافرا مع ظهور أن لا توبة له رأسا ، قد نظم في عدم القبول ، في سلك من سوّفها إلى حضور الموت. إيذانا بتساوي وجود التوبة حينئذ وعدمها بالمرة.

٢ ـ تقديم بيان انتفاء الاستئخار ، لما أن المقصود بالذات بيان عدم خلاصهم من العذاب. وأما (ما) في قوله تعالى : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) [الحجر : ٥] من سبق (السبق) في الذكر ، فلما أن المراد هناك بيان سر تأخير إهلاكهم مع استحقاقهم له ، حسبما ينبئ عنه قوله تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [المؤمنون : ٤٣]. فالأهم هناك بيان انتفاء السبق.

٣ ـ صيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم وحرمانهم عن ذلك ، مع طلبهم له ، أفاده أبو السعود.

ثم أنذر تعالى بني آدم بأنه سيبعث إليهم رسلا يهدونهم ، وبشّر وأنذر بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣٥)

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) شرط ذكره بحرف

٥٠

الشك ، للتنبيه على أن إتيان الرسل أمر جائر غير واجب. وضمت إليها (ما) لتأكيد معنى الشرط ، ولذلك أكد فعلها بالنون الثقيلة أو الخفيفة. والمراد ببني آدم جميع الأمم ، وهو حكاية لما وقع مع كل قوم. وليس المراد بالرسل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وببني آدم أمته ، كما قيل ، فإنه خلاف الظاهر ـ كذا في (القاضي وحواشيه) ـ وجواب الشرط قوله تعالى (فَمَنِ اتَّقى) أي التكذيب (وَأَصْلَحَ) أي عمله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من العذاب (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الآخرة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٦)

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا) أي تكبروا (عَنْها) فلم يؤمنوا بها (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) :

تنبيه :

قال الجشمي : تدل الآية على وجوب اتباع الرسل ، وقبول ما يؤدون. وتدل على أن الصلاح في الرسل أن تكون من جملة من بعث إليهم ، لأنهم يكونون بطريقته أعرف ، ومن النفار عنه أبعد ، وإلى السكون إليه أقرب ، وتدل على أن الغرض بالرسول ما يؤدي من الأدلة ، فلذلك قلنا لا يجوز أن يكون رسولا إلا ومعه ما يؤديه : وتدل على أن الجنة تنال بشيئين : بالأعمال الصالحة ، واتقاء المعاصي ، فبطل قول المرجئة. وتدل على أن المؤمن في الآخرة لا يخاف ولا يحزن ، خلاف ما يقوله الأحسدية (كذا) والحشوية ـ هكذا قاله أكثر أصحابنا ـ.

وقال أبو بكر أحمد بن عليّ : قوله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) كقول الطبيب للمريض (لا بأس عليك) يعني أن أمره يؤول إلى العافية. وليس هذا بالوجه لأنه نفى الخوف والحزن مطلقا. وتدل على الوعيد للمكذبين ، كما تدل على الوعيد للمطيعين ، ترغيبا وترهيبا. وتدل على أن التقوى والصلاح والتكذيب فعل العبد ، فبطل قولهم في المخلوق والاستطاعة. انتهى كلامه رحمه‌الله.

ثم ذكر تعالى وعيد المكذبين الذين تقدم ذكرهم ، بقوله سبحانه :

٥١

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (٣٧)

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي ممن تقوّل على الله كذبا بالتحليل والتحريم ، أو بنسبة الولد والشريك ، أو كذب بآياته المنزلة (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) أي يصيبهم حظهم مما كتب لهم من الرزق والعمر وغير ذلك. أي مع ظلمهم وافترائهم وتكذيبهم ، لا يحرمون ما قدر لهم من العمر والزرق إلى انقضاء آجالهم. وفي الآية وجوه أخر ، هذا أظهرها وأقواها في المعنى ، وتتمة الآية تدل عليه ، وحينئذ تتلاقى مع نظائرها ، كقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) [يونس : ٦٩ ـ ٧٠].

وقوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ..) [لقمان : ٢٣ ـ ٢٤] الآية ـ (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) أي : ملائكة الموت تقبض أرواحهم (قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : أين الآلهة التي كنتم تعبدونها ليكونوا لكم شفعاء ، فلا نراهم يخلّصونكم مما تحقق عليكم من هذه الشدائد. وفائدة السؤال وجهان : توبيخ وتبكيت لهم يزيدهم غمّا إلى غم ، ولطف بالمكلف لأنه إذا تصور ذلك صرفه عن التكذيب. و (ما) وقعت موصولة ب (أين) في خط المصحف العثمانيّ ، ومقتضى الاصطلاح الفصل لأنها موصولة (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) أي : غابوا عنا فلم يخلّصونا من شيء (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أي : عابدين لما لا يستحق العبادة. اعترفوا بأنهم لم يكونوا على شيء فيما كانوا عليه ، وأنهم لم يحمدوه في العاقبة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) (٣٨)

(قالَ) أي الله ، سبحانه ، لهم في الآخرة (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ) أي في

٥٢

جملة أمم قد مضت (مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) يعني كفار الأمم الماضية من النوعين (فِي النَّارِ) متعلق ب (ادْخُلُوا كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ) أي في النار (لَعَنَتْ أُخْتَها) أي التي قبلها لضلالها بها ، كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ...) [العنكبوت : ٢٥] الآية ـ (إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) أي تداركوا ، بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار (قالَتْ أُخْراهُمْ) وهم الأتباع (لِأُولاهُمْ) أي : لأجل أولاهم ، إذ الخطاب مع الله سبحانه ، لا معهم. قال ابن كثير : أي قالت أخراهم دخولا وهم الأتباع ، لأولادهم وهم المتبعون ، لأنهم أشد جرما من أتباعهم ، فدخلوا قبلهم ، فيشكوهم الأتباع إلى الله يوم القيامة ، لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل ، فيقولون : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) أي سنّوا لنا الضلال ، ودعوا إليه ، فاقتدينا بهم (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) أي مضاعفا لأنه ضلوا وأضلوا (قالَ) أي تعالى : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أي عذاب مضاعف. أما القادة والرؤساء فبالضلال والإضلال. وأما الأتباع والسفلة ، فبالضلال وتقليد أهل الضلال ، مع وجود الهادين بالبراهين القاطعة (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) أي ما لكم ، أو ما لكل فرقة. وقرئ بالياء. وعليها ، فهو تذييل لم يقصد إدراجه في الجواب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٣٩)

(وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي لا فضل لكم علينا في ترك الكفر والضلال حتى يكون عذابنا مضاعفا دونكم ، فقد ضللتم كما ضللنا ، فنحن وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب. وقوله تعالى : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) من قول القادة ، أو من قول الله تعالى للفريقين ، وهو أظهر.

تنبيه :

قال الجشمي : تدل الآية على أن الكفار والضلال والمبتدعة ، وإن تناصروا وتعاونوا على ضلالتهم ، وتوادّوا في الدنيا ، فإنهم في الآخرة يتلاعنون ويتقاطعون ويسألون العذاب لمن أضلهم. وتدل على فساد التقليد ، والاغترار بقول علماء السوء. وتدل على أن الداعي إلى الضلال مضلّ. وتدل على أن إضلال غيره إياه ليس بعذر له. وتدل على أن اشتراكهم في العذاب لا يوجب لهم راحة ، بخلاف الاشتراك

٥٣

في محن الدنيا. وتدل على أن ذلك الإضلال فعلهم ، فيبطل قول المجبرة في المخلوق ، والهدى والضلال.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (٤٠)

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) أي لا تفتح لأعمالهم ، ولا لدعائهم ، ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله. أي لا يقبل ذلك منهم ، لأنه ليس صالحا ولا طيّبا. وقد قال سبحانه : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] ، قال ابن عباس : أي لا يرفع لهم منها عمل صالح ، ولا دعاء ـ رواه جماعة عنه. وقاله مجاهد وابن جبير. أو المعنى : لا تنزل عليهم البركة والرحمة ، ولا يغاثون ، لأنه أجرى العادة بإنزال الرحمة من السماء ، كما في قوله : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) [القمر : ١١] ، أو المعنى : لا يؤذن لهم في صعود السماء ولا يطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة ، على ما روي أن الجنة في السماء. أو المعنى لا تفتح لأرواحهم ، إذا ماتوا ، أبواب السماء ، كما تفتح لأرواح المؤمنين ـ رواه الضحاك عن ابن عباس ـ ورواه ابن جرير عن البراء ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر قبض روح الفاجر ، وأنه يصعد بها إلى السماء ، فيصعدون بها ، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون فلان! (بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا) حتى ينتهوا بها إلى السماء ، فيستفتحون له ، فلا يفتح له. ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) .. الآية ـ قال ابن كثير : هكذا رواه. وهو قطعة من حديث طويل ، رواه الإمام أحمد (١) مطولا وأبو داود والنسائي وابن ماجة من طرق.

__________________

(١) أخرجه في المسند بالصفحتين ٤ / ٢٨٧ و ٢٨٨ ونصه : عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جنازة رجل من الأنصار. فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد. فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجلسنا حوله وكان على رؤوسنا الطير. وفي يده عود ينكت في الأرض فرفع رأسه فقال «استعيذوا بالله من عذاب القبر» مرتين أو ثلاثا ثم قال «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس. معهم كفن من أكفان الجنة ، وحنوط من حنوط الجنة ، حتى يجلسوا منه مدّ البصر. ثم يجيء ملك الموت ، عليه‌السلام ، حتى يجلس عند رأسه. فيقول : أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ـ

٥٤

تنبيهات :

الأول ـ قال الشهاب كون السماء لها أبواب ، وأنها تفتح للدعاء الصالح ، وللأعمال الصاعدة أو للأرواح ـ وارد في النصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية ، فلا حاجة إلى تأويل. انتهى.

__________________

ـ ورضوان. قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها. فإذا أخذها ، لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها. فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط. ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على الأرض. قال فيصعدون بها. فلا يمرون (يعني بها) على ملائكة من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون : فلان بن فلان (بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا) حتى ينتهوا بها الى السماء الدنيا. فيستفتحون له فيفتح لهم. فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها ، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة. فيقول الله عزوجل : اكتبوا كتاب عبدي في علّيين ، وأعيدوه إلى الأرض. فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى.

قال فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك؟ فيقول : ربي الله. فيقولان له : ما دينك؟ فيقول : ديني الإسلام. فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول : هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فيقولان له : وما علمك؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء : إن صدق عبدي. فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة.

قال فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفسح له في قبره مدّ بصره.

قال ويأتيه رجل حسن الوجه ، حسن الثياب ، طيب الريح ، فيقول أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعده. فيقول له : من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول : أنا عملك الصالح. فيقول : رب! أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.

قال ، وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه ، معهم المسوح. فيجلسون منه مدّ البصر. ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عن رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة! أخرجي إلى سخط من الله وغضب.

قال فتفرق في جسده. فينتزعها كما ينتزع السّفود من الصوف المبلول. فيأخذها. فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح. ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض. فيصعدون بها. فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون : فلان بن فلان (بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا) حتى ينتهى بها إلى السماء الدينا. فيستفتح له فلا يفتح له».

ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ). فيقول الله عزوجل : اكتبوا كتابه في سجّين ، في الأرض السفلى. فتطرح روحه طرحا. ثم قرأ : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ). «فتعاد روحه في جسده. ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له : من ربك؟ فيقول : هاه هاه. لا أدري. فيقولان له ما دينك؟ فيقول : هاه هاه. لا أدري. فيقولان له : ما هذا الرجل الذي ـ

٥٥

وهذا على قاعدة أهل الظاهر في مثل ذلك ، إلا أن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة. والتنزيل الكريم ، إنما ورد على مناح للعرب معروفة في لسانهم ـ والله أعلم.

الثاني ـ التضعيف في (تفتح) لتكثير المفعول ، لا الفعل لعدم مناسبة المقام.

الثالث ـ قرئ بالتخفيف في (تفتح) وبالتخفيف ، والياء. وقرئ على البناء للفاعل ، ونصب الأبواب ، على أن الفعل للآيات مجازا ، وبالياء على أنه لله تعالى.

(وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ) أي يدخل (الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) أي ثقب الإبرة ، وهو غير ممكن ، فكذا دخولهم.

لطائف :

الأول ـ قرأ الجمهور (الجمل) بفتح الجيم والميم ، وفسروه : بأنه الجمل المعروف وهو البعير قال الفراء : الجمل زوج الناقة. وقال شمر : البكر والبكر بمنزلة الغلام والجارية ، والجمل والناقة بمنزلة الرجل والمرأة. وقرئ في الشواذ (الجمّل) كسكّر وصرد وقفل وعنق وجبل بمعنى حبل السفينة الغليظ الذي يقال له (القلس).

وقال أبو البقاء : يقرأ في الشاذ بسكون الميم ، والأحسن أن يكون لغة ، لأن تخفيف المفتوح ضعيف ، ويقرأ بضم الجيم وفتح الميم وتشديدها ، وهو الحبل الغليظ ، وهو جمع مثل صوّم وقوّم ، ويقرأ بضم الجيم والميم مع التخفيف وهو جمع مثل أسد وأسد ، ويقرأ كذلك إلا أن الميم ساكنة ، وذلك على تخفيف المضموم ـ انتهى ـ.

وذكر الكواشي أن القراءات المذكورة كلها لغات في البعير ما عدا «جمّلا» كسكّر وقفل ، ونوقش في ذلك ـ انتهى ـ.

__________________

ـ بعث فيكم؟ فيقول : هاه هاه. لا أدري. فينادي مناد من السماء : أن كذب. فافرشوا له من النار. وافتحوا له بابا إلى النار. فيأتيه من حرّها وسمومها. ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه. ويأتيه رجل قبيح الوجه ، قبيح الثياب ، منتن الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسوءك. هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول : من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر. فيقول : أنا عملك الخبيث. فيقول : رب! لا تقم الساعة».

وأخرجه أبو داود في : السنّة ، ٢٤ ـ باب في المسألة في القبر وعذاب القبر ، حديث ٤٧٥٣.

٥٦

وقراءته (كسكّر) على معنى الحبل المذكور ، رواها مجاهد وعكرمة عن ابن عباس ، واختارها سعيد بن جبير.

قال الزمخشري : وعن ابن عباس رضي الله عنه ، أن الله أحسن تشبيها من أن يشبه بالجمل ، أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة ، والبعير لا يناسبه ، إلا أن قراءة العامة أوقع ، لأن سمّ الإبرة مثل في ضيق المسلك ، يقال : أضيق من خرت الإبرة.

وقالوا للدليل الماهر (خرّيت) للابتداء به في المضايق المشبهة بأخرات الإبر ، والجمل مثل في عظم الجرم ، قال :

جسم الجمال وأحلام العصافير

إن الرجال ليسوا بجزر تراد منهم الأجسام ، فقيل : لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدا من ولوج هذا الحيوان ، الذي لا يلج إلا في باب واسع ، في ثقب الإبرة.

وعن ابن مسعود : أنه سئل عن الجمل؟ فقال : زوج الناقة ، استجهالا للسائل ، وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلّف ـ انتهى.

وحاصله أن الجمل لما كان مثلا في عظم الجسم ، لأنه أكثر الحيوانات جسما عند العرب ، وخرق الإبرة مثلا في الضيق ، ظهر التناسب. على أن في إيثار الجمل ، وهو مما ليس من شأنه الولوج في سم الإبرة ، مبالغة في استبعاد دخولهم الجنة.

الثانية ـ (السّم) : الثقب الضيق. قال أبو البقاء : بفتح السين وضمها ، لغتان ـ انتهى وصح بالتثليث فيه ، وفي القاتل المعروف ، صاحب القاموس وغيره ، إلا أنهم قالوا : المشهور في الثقب الفتح كما في التنزيل. والأفصح في القاتل الضم.

قال العلامة الفاسي : قال الزبيديّ : لم أر من تعرض لكسرهما ، وكأنها عامية.

قلت : قال الزمخشري : وقرئ (فِي سَمِّ الْخِياطِ) بالحركات الثلاث ، وكفى به مرجعا.

الثالثة ـ (الخياط) ككتاب ومنبر ، ما خيط به الثوب ، والإبرة ـ كذا في القاموس ـ قال الزمخشري : وقرأ عبد الله (في سم المخيط). قال الشهاب : بكسر الميم وفتحها ، كما ذكره المعرب ، وهي قراءة شاذة.

الرابعة ـ قال السيوطيّ في (الإكليل) : في قوله تعالى (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ ...) إلخ. جواز فرض المحال ، والتعليق عليه كما يقع كثيرا للفقهاء ـ انتهى ـ.

٥٧

والتعليق على المحال معروف في كلام العرب ، كقوله :

إذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللّبن الحليب

وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء الفظيع (نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٤١)

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) أي : فرش من تحتهم (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أي أغطية ، إذا أحاطت بهم الخطيئة (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي بالكفر ، وإنما عبر عنهم بالمجرمين تارة ، وبالظالمين أخرى ، إشعارا بأنهم بتكذيبهم الآيات ، اتصفوا بكل واحد من ذينك الوصفين القبيحين. وذكر الجرم مع الحرمان من دخول الجنة ، والظلم مع التعذيب بالنار الذي هو أشد من الحرمان المذكور ـ تنبيها على أنه أعظم الجرائم. ثم تأثر تعالى وعيده بوعده ، على سنته في تنزيله الكريم ، فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٤٢)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) قال أبو البقاء : والذين آمنوا مبتدأ ، وفي الخبر وجهان :

أحدهما ـ (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، والتقدير (منهم) ، فحذف العائد ، كما حذف في قوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى : ٤٣].

والثاني ـ أن الخبر (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) و (لا نُكَلِّفُ) معترض بينهما ـ انتهى ـ وعلى الثاني اقتصر غير واحد من المحققين. قالوا : وسر الاعتراض ، الترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولة مناله ، وتيسير تحصيله. والذي حسّنه سبق العمل الصالح قبله. أي وإذ علم أن مبنى التكليف على الوسع ، زادت الرغبة في ذلك الاكتساب ، لحصوله بما فيه يسر لا عسر.

لطيفة :

الوسع : ما يقدر عليه الإنسان بسهولة ويستمرّ. قال الرازي ، أخذا من قول معاذ في الآية (يسرها لا عسرها) قال : وأما أقصى الطاقة فيسمى جهدا لا وسعا ، وغلط

٥٨

من ظن أن الوسع بذل المجهود.

قلت : في القاموس : الوسع (مثلثة) الجدة والطاقة كالسعة. وفيه : الجهد الطاقة (ويضم) والمشقة ـ انتهى ـ.

قال ابن الأثير : الجهد (بالفتح) المشقة ، وقيل : المبالغة والغاية ، وبالضم الوسع والطاعة وقيل : وهما لغتان في الوسع والطاعة ، فأما في المشقة والغاية ، فالفتح لا غير ـ انتهى ـ وبه يعلم أن ما جرى عليه الرازي قول للغويين ، ليس وفاقا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣)

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي : نخرج من قلوبهم أسباب الحقد والحسد والعداوة ، أو نطهّرها منها ، حتى لا يكون بينهم إلا التوادّ والتعاطف. وصيغة الماضي للإيذان بتحققه وتقرره وتقرره (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) أي لما جزاؤه هذا ، أي : لأسباب هذا العلوّ ، بإرسال الرسل والتوفيق للعمل (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) أي ما كنا لنرشد لذلك العلم الذي هذا ثوابه ، لو لا أن وفقنا الله بدلائله وألطافه وعنايته (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) أي : فاهتدينا بإرشادهم قال الزمخشري : يقولون ذلك ، أي (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ... إلخ سرورا واغتباطا بما نالوا ، وتلذّذا بالتكلم به ، لا تقرّبا ولا تعبدا ، كما ترى من رزق خيرا في الدنيا يتكلم بنحو ذلك ، ولا يتمالك أن لا يقوله ، للفرح والتوبة (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : أعطيتموها بسبب أعمالكم في الدنيا. فالميراث مجاز عن الإعطاء ، تجوّز به عنه إشارة إلى أن السبب فيه ليس موجبا ، وإن كان سببا بحسب الظاهر ، كما أن الإرث ملك بدون كسب ، وإن كان النسب مثلا سببا له. وعلى ما تقرر ، فلا يقال إنه معارض لما

ثبت في الصحيحين (١) من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «واعلموا أن

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق ، ١٨ ـ باب القصد والمداومة على العمل ، حديث ٢٤٢٧ ونصه : عن عائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «سدّدوا وقاربوا وأبشروا ، فإنه لا يدخل أحدا الجنة عمله» قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة».

وأخرجه مسلم في : صفات المنافقين وأحكامهم ، حديث ٧٨.

٥٩

أحدكم لن يدخله عمله الجنة! قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» ، ولا يحتاج إلى الجواب عنه ، ولا أن يقال الباء للعوض لا للسبب. وهذا تنجيز للوعد بإثابة المطيع ، لا بالاستحقاق والاستيجاب ، بل هو بمحض فضله تعالى ، كالإرث ـ كذا في العناية ـ.

روى الإمام مسلم (١) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا ، وإنّ لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا ، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا ، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا». فذلك قوله عزوجل (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) ... الآية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٤٤)

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي إذا استقروا في منازلهم (أَصْحابَ النَّارِ) توبيخا وتحسيرا لهم (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) حيث نلنا هذه المراتب العالية (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) من تنزيلكم إلى أسفل سافلين ، لاستكباركم على الآيات والرسل (قالُوا نَعَمْ) أي وجدناه حقّا (فَأَذَّنَ) أي نادى (مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) أي بين الفريقين ليسمعهم ، زيادة في شماتة أحد الفريقين وندامة الآخر (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) (٤٥)

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يمنعون أنفسهم وغيرهم عن دينه القويم الذي بيّنه على ألسنة رسله لمعرفته وعمارة الدارين (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي : يبغون لها زيغا وميلا عما هي عليه ، حتى لا يتبعها أحد (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) أي وهم بلقاء الله في الدار الآخرة جاحدون لا يؤمنون به ، فلهذا لا يبالون ، فيأتون المنكر من

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الجنة وصفة نعيمها وأهلها ، حديث ٢٢ ونصه : عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ينادي مناد : إن لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا. وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا. وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا. وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا».

٦٠