تفسير القاسمي - ج ٥

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٥

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٢

هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء ، حتى التقى السقاة وشهد الناس بعضهم إلى بعض.

(وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي ولكن جمع بينكم على هذه الحال على غير ميعاد ، ليقضي ما أراد من إعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله ، من غير ملأ منكم. وقوله (كانَ مَفْعُولاً) أي حقيقا بأن يفعل. وقيل : (كانَ) بمعنى (صار) أي صار مفعولا ، بعد أن لم يكن. وقيل : إنه عبر به عنه لتحققه حتى كأنه مضى. وقوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) أي إنما جمعكم مع عدوّكم في مكان واحد على غير ميعاد ، لينصركم عليهم ، ويرفع حجة الحق على الباطل ، ليصير الأمر ظاهرا ، والحجة قاطعة ، والبراهين ساطعة ، ، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة ، فحينئذ يهلك من هلك ، أي يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره ، أنه مبطل لقيام الحجة عليه. ويؤمن من آمن عن حجة وبصيرة ويقين ، بأنه دين الحق ، الذي يجب الدخول فيه ، والتمسك به. وذلك أن ما كان من وقعة (بدر) ، من الآيات الغرّ المحجّلة ، التي من كفر بعدها ، كان مكابرا لنفسه ، مغالطا لها.

لطائف :

الأولى ـ قوله تعالى (لِيَهْلِكَ) بدل من (لِيَقْضِيَ) أو متعلق ب (مَفْعُولاً).

الثانية ـ الحياة والهلاك استعارة للكفر والإسلام ، وقرئ (لِيَهْلِكَ) بفتح اللام.

الثالثة ـ (حَيَ) يقرأ بتشديد الياء ، وهو الأصل ، لأن الحرفين متماثلان متحركان ، فهو مثل شدّ ومدّ. ومنه قول عبيدة بن الأبرص :

عيّوا بأمرهم كما

عيّت ببيضتها الحمامه

ويقرأ بالإظهار وفيه وجهان :

أحدهما ـ أن الماضي حمل على المستقبل ، وهو (يحيا) فكما لم يدغم في المستقبل ، لم يدغم في الماضي ، وليس كذلك شدّ ومدّ ، فإنه يدغم فيهما جميعا.

والوجه الثاني : أن حركة الحرفين مختلفة ، فالأولى مكسورة ، والثانية مفتوحة ، واختلاف الحركتين ، كاختلاف الحرفين ، ولذلك أجازوا في الاختيار : لححت عليه ، وضبب البلد ، إذا كثر ضبة ، ويقوي ذلك أن الحركة الثانية عارضة ، فكأن الياء الثانية ساكنة ، ولو سكنت لم يلزم الإدغام ، وكذلك إذا كانت في تقدير الساكن ، والياءان أصل ، وليست الثانية بدلا من (واو) ، فأما الحيوان ، ف (الواو) فيه بدل من الياء. وأما

٣٠١

الحواء ، فليس من لفظ (الحية) ، بل من (حوى يحوي) إذا جمع ـ قاله أبو البقاء ـ. (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي بكفر من كفر وعقابه ، وإيمان من آمن وثوابه. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٤٣)

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) منصوب ب (اذكر) ، أو بدل آخر من (يوم الفرقان). وذلك أن الله عزوجل أراه إياهم في رؤياه قليلا ، فأخبر بذلك أصحابه ، فكان تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوّهم (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ) أي لجبنتم وهبتم الإقدام (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أي أمر الإقدام والإحجام ، فتفرقت كلمتكم (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أي عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع بتأييده وعصمته (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع. ولذلك دبر ما دبر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤٤)

(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) وذلك تصديقا لرؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليعاينوا ما أخبرهم به ، فيزداد يقينهم ، ويجدّوا ، ويثبتوا.

قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة! فأسرنا رجلا منهم ، فقلنا له : كم كنتم؟ قال : ألفا! ـ رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) أي في اليقظة ، حتى قال أبو جهل : إن محمدا وأصحابه أكلة جزور مثل في القلة ، ك (أكلة رأس) أي أنهم لقلتهم يكفيهم ذلك. و (أكلة) بوزن (كتبة) ، جمع آكل ، بوزن فاعل ، والجزور الناقة ، كذا في (العناية). (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً) أي من إظهار الخوارق الدالة على صدق دين الإسلام ، وكذب دين الكفر (كانَ مَفْعُولاً) أي كالواجب فعله على الحكيم ، لما فيه من الخير الكثير. قاله المهايمي.

٣٠٢

لطائف :

الأولى ـ قال الزمخشري : فإن قلت : الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر ، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم؟ قلت : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ، ثم كثّرهم فيها بعده ، ليجترؤوا عليهم ، قلة مبالاة بهم ، ثم تفجؤهم الكثرة ، فيبهتوا ويهابوا ، وتفلّ شوكتهم ، حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم ، وذلك قوله : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) [آل عمران : ١٣] ولئلا يستعدوا لهم ، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أولا وكثرتهم آخرا.

الثانية ـ قال الزمخشري أيضا : فإن قلت : بأي طريق يبصرون الكثير قليلا؟ قلت : بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر ، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير ، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين قيل لبعضهم : إن الأحول يرى الواحد اثنين ـ وكان بين يديه ديك واحد ـ فقال : مالي لا أرى هذين الديكين أربعة؟ انتهى.

قال الناصر في (الانتصاف) : وفي هذا ـ يعني كلام الزمخشري ـ دليل بيّن على أن الله تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة ، غير موقوف على سبب من مقابلة ، أو قرب ، أو ارتفاع حجب ، أو غير ذلك. إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلا ، لما أمكن أن يستر عنهم البعض ، وقد أدركوا البعض ، والسبب الموجب مشترك. فعلى هذا يجوز أن يخلق الله الإدراك مع اجتماعها ، فلا ربط إذن بين الرؤية ونفيها في مقدرة الله تعالى؟ وهي رادّة على القدرية المنكرين لرؤية الله تعالى ، بناء على اعتبار هذه الأسباب في حصول الإدراك عقلا ، وأنها تستلزم الجسمية ، إذ المقابلة والقرب وارتفاع الحجب إنما تتأتى في جسم. فهذه الآية حسبهم في إبطال زعمهم ، ولكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون ، والله الموفق.

الثالثة : لا يقال : إن قوله تعالى : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) مكرر مع ما سبق. لأنّا نقول : إن المقصود من ذكره أولا هو اجتماعهم بلا ميعاد ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين ، على وجه يكون معجزة دالة على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمقصود منه هاهنا بيان خارق آخر ، وهو تقليلهم في أعين المشركين ، ثم تكثيرهم للحكمة المتقدمة.

وفي قوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) تنبيه على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها ، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زادا ليوم المعاد.

ثم أرشد تعالى عباده المؤمنين إلى آداب اللقاء في ميدان الوغى ، ومبارزة الأعداء ، بقوله سبحانه :

٣٠٣

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٤٥)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) أي إذا حاربتم جماعة فاثبتوا للقائهم واصبروا على مبارزتهم ، فلا تفروا ولا تجبنوا ولا تنكلوا. وتفسير (اللقاء) ب (الحرب) لغلبته عليه ، كالنزال ولم يصف الفئة بأنها كافرة ، لأنه معلوم غير محتاج إليه (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) أي في مواطن الحرب ، مستظهرين بذكره مستنصرين به ، داعين له على عدوّكم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة.

وقد ثبت في الصحيحين (١) عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض أيامه ، التي لقي فيها العدوّ انتظر حتى مالت الشمس. ثم قام في الناس فقال : «يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدوّ ، وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف».

ثم قال : اللهم! منزل الكتاب. ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم.

وفي الآية إشعار بأن على العبد ألا يفتر عن ذكر ربه ، أشغل ما يكون قلبا ، وأكثر ما يكون همّا ، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ، ويقبل إليه بكليته ، فارغ البال ، واثقا بأن لطفه لا ينفك عنه في حال من الأحوال.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٤٦)

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي في كل ما يأمران به وينهيان ، وهذا عامّ ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الجهاد ، ١١٢ ـ باب كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس ، حديث رقم ١٣٤٦.

وأخرجه مسلم في : الجهاد والسير ، حديث رقم ٢٠.

٣٠٤

والتخصيص بالذكر هنا فيه تأكيد (وَلا تَنازَعُوا) أي باختلاف الآراء ، أو فيما أمرتم به (فَتَفْشَلُوا) أي تجبنوا ، إذ لا يتقوى بعضكم ببعض. (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي قوتكم وغلبتكم ، ونصرتكم ودولتكم ، شبه ما ذكر في نفوذ الأمر وتمشيته ، بالريح وهبوبها ، ويقال : هبت رياح فلان ، إذا دالت له الدولة ونفذ أمره ، قال :

إذا هبّت رياحك فاغتنمها

فإن لكلّ خافقة سكون

ولا تغفل عن الإحسان فيها

فما تدري السكون متى يكون

(وَاصْبِرُوا) أي على شدائد الحرب ، وعلى مخالفة أهويتكم الداعية إلى التنازع ، فالصبر مستلزم للنصر (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي بالنصر.

قال ابن كثير رحمه‌الله : وقد كان للصحابة رضي الله عنهم ، في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله ، وامتثال ما أرشدهم إليه ، ما لم يكن لأحد من الأمم ، والقرون قبلهم ولا يكون لأحد من بعدهم. فإنهم ببركة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطاعته فيما أمرهم ، فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا ، في المدة اليسيرة ، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم. من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر والحبوش وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم. قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان ، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها ، في أقل من ثلاثين سنة ، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

تنبيه :

قال بعض المفسرين في قوله تعالى : (وَلا تَنازَعُوا) ، أي لا تختلفوا فيما أمركم به من الجهاد ، بل ليتفق رأيكم. قال : ولقائل أن يقول : استثمر من هذا وجوب نصب أمير على الجيش ليدبّر أمرهم. ويقطع اختلافهم ، فإن بلزوم طاعته ، ينقطع الاختلاف. وقد فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السرايا ، وقال (١) : اسمعوا وأطيعوا ، وإن أمّر عليكم عبد حبشي. انتهى.

ولما أمر تعالى المؤمنين بالثبات والصبر عند اللقاء ، أمرهم بالإخلاص فيه ، بنهيهم. عن التشبه بالمشركين ، في انبعاثهم للرياء ، بقوله سبحانه :

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الأحكام ، ٤ ـ باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية ، الحديث رقم ٤٣٤ عن أنس. وفيه (استعمل) عوضا عن (أمّر).

٣٠٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (٤٧)

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً) أي فخرا بالشجاعة (وَرِئاءَ النَّاسِ) أي طلبا للثناء بالسماحة والشجاعة (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي لا تكونوا كأبي جهل وأصحابه ، وقد أتاهم رسول أبي سفيان ، وهم بالجحفة : أن ارجعوا ، فقد سلمت عيركم. فأبوا وقالوا : لا نرجع حتى نأتي بدرا ، فننحر بها الجزر ، ونسقي بها الخمر ، وتعزف علينا فيه القيان ، وتسمع بنا العرب. فذلك بطرهم ورثاؤهم الناس بإطعامهم. فوافوها ، فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان ، أي : لا يكن أمركم رياء ولا سمعة ولا التماس ما عند الناس ، وأخلصوا لله النية والحسبة ، في نصر دينكم ، ومؤازرة نبيّكم ، لا تعملوا إلا لذلك ، ولا تطلبوا غيره ، و (الرئاء) مصدر (راءى) ، إذا أظهر العمل للناس ليروه غفلة عن الخالق ، وقد يقال رأياه مراياة ورياء ، على القلب. و (بَطَراً وَرِئاءَ) إما مفعول من أجله ، أو مصدر في موضع الحال. و (يصدون) إما حال ، بتأويل اسم الفاعل ، أو بجعله مصدر فعل هو حال ، وإما مستأنف. ونكتة التعبير بالاسم أولا ثم الفعل ، الإعلام بأن البطر والرياء دأبهم ، بخلاف الصد فإنه تجدد لهم في زمن النبوة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٤٨)

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي في معاداة الرسول والمؤمنين ، بأن وسوس إليهم (وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) أي من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) أي مجير ومعين لكم (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي تلاقتا ، وتراءت كل واحدة صاحبتها ، فرأى الملائكة نازلة من السماء لإمداد المؤمنين (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) أي

٣٠٦

ولّى هاربا على قفاه (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) أي من عهد جواركم (إِنِّي أَرى) أي من الملائكة النازلة لإمداد المؤمنين (ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ) أي أن يعذبني قبل يوم القيامة (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي فلا يبعد مع إمهالي إلى القيامة ، أن يعذبني لشدة عقابه.

تنبيه :

ذكروا في التزيين وجهين :

أحدهما : أن الشيطان وسوس لهم من غير تمثيل ، في صورة إنسان ، وهو مروي عن الحسن والأصم. فالقول على هذا مجاز عن الوسوسة. والنكوص وهو الرجوع استعارة لبطلان كيده.

وثانيهما : أنه ظهر في صورة إنسان ، لأنهم لما أرادوا المسير إلى بدر ، خافوا من بني كنانة ، لأنهم كانوا قتلوا رجلا ، وهم يطلبون دمه ، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم ، فتمثل إبليس اللعين في صورة سراقة الكناني ، وقال : أنا جاركم من بني كنانة ، فلا يصل إليكم مكروه منهم. فقوله (إني جار لكم) على الحقيقة. وقال الإمام : معنى (الجار) هنا الدافع للضرر عن صاحبه ، كما يدفع الجار عن جاره. والعرب تقول : أنا جار لك من فلان ، أي حافظ لك ، مانع منه. وهذا القول الثاني ذهب إلى جمهور المفسرين.

روى مالك (١) في الموطأ عن طلحة بن عبيد الله بن كريز ، مرسلا ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ ، منه في يوم عرفة. وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة ، وتجاوز الله عن الذنوب العظام. إلا ما رأى يوم بدر ، فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة.

قال الإمام : وكان في تغيير صورة (إبليس) إلى صورة (سراقة) معجزة عظيمة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك لأن كفار قريش لما رجعوا إلى مكة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم ، حتى بلغتني هزيمتكم ، فعند ذلك تبين للقوم أن ذلك الشخص ما كان سراقة ، بل كان شيطانا.

__________________

(١) أخرجه في الموطأ في : الحج : حديث ٢٤٥.

٣٠٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٩)

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) أي بالمدينة. و (إذ) منصوب ب (اذكر) مقدرا ، أو ب (زين) (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يجوز أن يكون من صفة المنافقين ، وتوسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، لأن هذه صفة للمنافقين ، لا تنفك عنهم. قال تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [البقرة : ١٠]. أو تكون الواو داخلة بين المفسّر والمفسّر نحو : أعجبني زيد وكرمه. ويجوز أن يراد : الذين هم على حرف ، ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام. وعن الحسن : هم المشركون. (غَرَّ هؤُلاءِ) يعنون المؤمنين (دِينُهُمْ) فظنوا أنهم ينصرونهم به على أضعافهم (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي من يعتمد عليه سبحانه وتعالى فإنه ينصره على أضعافه ، بالغين ما بلغوا ، لأنه عزيز غالب على ما أراد ، وهو يريد نصر أوليائه ؛ حكيم ، وحكمته تقتضي نصرهم. وهو جواب لهم من جهته تعالى ، ورد لمقالتهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٥٠)

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يقبض أرواحهم (الْمَلائِكَةُ) أي ملائكة القهر والعذاب مما يناسب هيئات نفوسهم (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ) لإعراضهم عن الحق ، ولهيآت الكبر والعجب والنخوة فيها (وَأَدْبارَهُمْ) لميلهم إلى الباطل ، وشدة انجذابهم إليه ، ولهيئات الشهوة والحرص والشره (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) عطف على (يضربون) بإضمار القول. أي : ويقولون ذوقوا بشارة لهم بعذاب الآخرة. وجواب (لو) محذوف ، لتفظيع الأمر وتهويله.

وقال ابن كثير : وهذا السياق ، وإن كان سببه وقعة بدر ، ولكنه عامّ في حق كل كافر. وفي سورة القتال مثل هذه الآية. وتقدم في الأنعام نحوها ، وهو قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) [الأنعام : ٩٣] ، أي بالضرب فيهم بأمر ربهم.

٣٠٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (٥١)

(ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من الضرب والعذاب (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي ما كسبتم من الكفر والمعاصي (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي بأن يأخذهم بلا جرم.

فإن قيل : ما سر التعبير ب (ظلّام) بالمبالغة ، مع أن نفي نفس الظلم أبلغ من نفي كثرته ، ونفي الكثرة لا ينفي أصله ، بل ربما يشعر بوجوده ، وبرجوع النفي للقيد؟

وأجيب بأجوبة :

منها : أنه نفي لأصل الظلم وكثرته ، باعتبار آحاد من ظلم ، كأنه قيل : ظالم لفلان ولفلان وهلم جرّا. فلما جمع هؤلاء عدل إلى (ظلّام) لذلك ، أي لكثرة الكمية فيه.

ومنها : أنه إذا انتفى الظلم الكثير ، انتفى الظلم القليل ، لأن من يظلم ، يظلم للانتفاع بالظلم فإذا ترك كثيره ، مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر ، كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركا.

ومنها : أن (ظلاما) للنسب ، ك (عطار) ، أي لا ينسب إليه الظلم أصلا.

ومنها : أن كل صفة له تعالى في أكمل المراتب ، فلو كان تعالى ظالما ، كان ظلاما ، فنفى اللازم ، لنفي الملزوم.

ومنها : أن نفي (الظلام) لنفي الظالم ، ضرورة أنه إذا انتفى الظلم انتفى كماله ، فجعل نفي المبالغة كناية عن نفي أصله ، انتقالا من اللازم إلى الملزوم.

ومنها : أن العذاب من العظم بحيث ، لو لا الاستحقاق ، لكان المعذب بمثله ظلاما بليغ الظلم متفاقمه. فالمراد تنزيهه تعالى ، وهو جدير بالمبالغة.

وأيضا : لو عذب تعالى عبيده بدون استحقاق وسبب ، لكان ظلما عظيما ، لصدوره عن العدل الرحيم. كذا في (العناية).

وفي صحيح مسلم (١) عن أبي ذرّ رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله

__________________

(١) أخرجه مسلم في : البرّ والصلة والآداب ، حديث رقم ٥٥.

٣٠٩

تعالى يقول : إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه. والحديث طويل جليل. معروف ، عند المحدثين ، بالحديث المسلسل بالدمشقيين.

ثم بين تعالى أن سير المشركين المستمر ، وعادتهم الدائمة ، مع ما أرسل به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كسير الأمم السالفة مع رسلهم ، بقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٥٢)

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) خبر لمقدر ، أي دأب هؤلاء ، كدأب آل فرعون ومن تقدمهم من الأمم ، كقوم نوح ، وهو عملهم الذي دأبوا ، أي استمروا عليه ، ثم فسره فقال : (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أي قبل يوم القيامة (بِذُنُوبِهِمْ) أي كما أخذ هؤلاء ، لأنهم اجترءوا على معاصيه بما رأوا لأنفسهم من القوة. فضعّفهم ، إظهارا لقوته (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) قال المهايمي : تأخير العذاب إنما يكون للرحمة ، لكنه لما اشتد عنادهم ، اشتد غضبه ، لأنه شديد العقاب لمن اشتد عناده معه ، فلا يكون في حقه رحمة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٥٣)

(ذلِكَ) أي التعذيب الذي علم كونه مؤاخذة بالذنوب (بِأَنَّ اللهَ) أي بسبب أنه تعالى (لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ) بتبديله إياها بالنقمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من موجبات تلك النعم من اعتقاد أو قول أو عمل. وهذا إخبار عن تمام عدله وقسطه في حكمه ، بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١].

قال القاشاني. كل ما يصل إلى الإنسان هو الذي يقتضيه استعداده ، ويسأله بدعاء الحال ، وسؤال الاستحقاق. فإذا أنعم على أحد النعمة الظاهرة أو الباطنة

٣١٠

لسلامة الاستعداد ، وبقاء الخيرية فيه لم يغيرها حتى أفسد استعداده ، وغير قبوله للصلاح ، بالاحتجاب وانقلاب الخير الذي فيه بالقوة إلى الشر ، لحصول الرين وارتكام الظلمة فيه ، بحيث لم يبق له مناسبة للخير ، ولا إمكان لصدوره منه ، فيغيرها إلى النقمة عدلا منه وجودا ، وطلبا من ذلك الاستعداد إياها بجاذبة الجنسية والمناسبة ، لا ظلما وجورا. انتهى.

(وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي فيغير إذا غيّروا ، غضبا عليهم بما يسمع منهم أو يعلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) (٥٤)

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فكان مبدأ تغييرهم أنهم (كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي الذي رباهم بالنعم ، فصرفوها إلى غير ما خلقت له بمقتضى تلك الآيات ، فكانت ذنوبا (فَأَهْلَكْناهُمْ) أي زيادة على سلبه النعم (بِذُنُوبِهِمْ) أي بما صرفوا بها النعم إلى غير ما خلقت له (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) لإغراقهم النعم في بحر الإنكار بنسبتها إلى فرعون حيث أقروا بآلهيته (وَكُلٌ) أي من الفرق المكذبة الكافرة ،. أو من آل فرعون ، ومن قبلهم ، وكفار قريش : (كانُوا ظالِمِينَ) أي بصرف النعم إلى غير ما خلقت له ، وهو نوع من الإغراق لها في بحر الإنكار لأنه مرجع التغيير لها. كذا أوّل المهايمي. وفيه إشارة إلى دفع ما يتوهم من التكرار في الآيتين ، بتغاير التشبيهين فيهما ، فلا يحتاج إلى دعوى التأكيد. فمعنى الأول : حال هؤلاء كحال آل فرعون في الكفر ، فأخذهم وآتاهم العذاب. ومعنى الثاني : حال هؤلاء كحال آل فرعون في تغييرهم النعم ، وتغيير الله حالهم بسبب ذلك التغيير ، وهو أنه أغرقهم وقيل : إن النظم يأباه ، لأن وجه التشبيه في الأول كفرهم المترتب عليه العقاب ، فينبغي أن يكون وجهه في الثاني قوله (كَذَّبُوا) لأنه مثله ، إذ كل منهما جملة مبتدأة بعد تشبيه ، صالحة لأن تكون وجه الشبه ، فتحمل عليه ، كقوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : ٥٩] وأما قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً ...) فكالتعليل لحلول النكال ، معترض بين التشبيهين ، غير مختص بقوم ، فجعله وجها للتشبيه بعيد عن الفصاحة. كذا في (العناية).

٣١١

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٥٥)

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أصرّوا على كفرهم ورسخوا فيه (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي فلا يتوقع منهم إيمان.

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (٥٦)

(الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) أي لا يخافون عاقبة الغدر ، ولا يبالون بما فيه من العار والنار.

تنبيهات :

الأول ـ قال المهايمي : أشار تعالى إلى أنه كيف يترك نعمه على من غيّر أحواله التي كانت أسباب النعم ، وقد كان بها إنسانيته ، فبتغييرها لحق بالدوابّ ، وبإنكار المنعم صار شرّا منها. والنعم تسلب ممن لا يعرف قدرها ، فكيف لا تسلب ممن ينكر المنعم؟.

الثاني ـ دلت الآية على جواز تحقير العصاة ، والاستخفاف بهم ، حيث سماهم تعالى (دوابّ) وأخبر أنهم (شرّ الدواب).

الثالث ـ قالوا : نزلت الآية في يهود بني قريظة ، رهط كعب بن الأشرف ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان عاهدهم ألا يحاربوه ، ولا يعاونوا عليه ، فنقضوا العهد ، وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا. فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد أيضا. ومالئوا الكفار على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الخندق. وركب كعب بن الأشرف إلى مكة ، فوافقهم على مخالفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الرابع ـ (الذين) بدل من الموصول الأول ، أو عطف بيان له ، أو نصب له على الذم. وضمن (عاهدت) معنى الأخذ ، حتى عدّي ب (من) أي أخذت منهم عهدهم. وقيل : (من) صلة ، وقال أبو حيّان : هي للتبعيض ، لأن المباشر بالذات للمعاهدة بعض القوم ، وهم الرؤساء والأشراف.

الخامس ـ قوله : (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) ، حال من فاعل (ينقضون) ، أي يستمرون على النقض ، والحال أنهم لا يتقون العار فيه ، لأن عادة من يرجع إلى دين وعقل وحزم

٣١٢

أن يتقي نقض العهد ، حتى يسكن الناس إلى قوله ، ويثقون بكلامه. فبيّن الله عزوجل أن من جمع بين الكفر ونقض العهد ، فهو شرّ من الدواب.

ثم شرع تعالى في بيان أحكام الناقضين ، بعد تفصيل أحوالهم ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٥٧)

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) أي فإما تصادفنهم وتظفرنّ بهم (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي فرّق بهم من وراءهم من المحاربين يعني : بأن تفعل بهم من النكال وتغليظ العقوبة ، ما يشرّد غيرهم خوفا ، فيصيروا لهم عبرة. كما قال : (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي لعل المشرّدين يتعظون بما شاهدوا ما نزل بالناقضين ، فيرتدعوا عن النقض أو عن الكفر. قال في (التاج) : وقيل : معنى (فَشَرِّدْ بِهِمْ) فسمّع بهم ، وقيل : فزّع بهم ، ولا يخفى أن هذه المعاني متقاربة. وأصل التشريد الطرد والتفريق. ويقال. شرد به تشريدا ، سمّع الناس بعيوبه. قال :

أطوّف بالأباطح كلّ يوم

مخافة أن يشرّد بي حكيم

معناه أنّ يسمّع بي و (حكيم) رجل من بني سليم كانت قريش ولّته الأخذ على أيدي السفهاء.

استشهد به في اللسان في مادة (ش ر د).

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) (٥٨)

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) بيان لأحكام المشرفين إلى نقض العهد ، إثر بيان الناقضين له بالفعل. و (الخوف) مستعار للعلم. أي : وإما تعلمن من قوم من المعاهدين نقض عهد فيما سيأتي ، بما لاح لك منهم من دلائل الغدر ، ومخايل الشرّ (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) أي فاطرح إليهم عهدهم (عَلى سَواءٍ) أي على طريق مستو قصد ، بأن تظهر لهم النقض ، وتخبرهم إخبارا مكشوفا بأنك قد قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة ، ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد ، كي لا يكون من قبلك شائبة خيانة أصلا ، وإن كانت في مقابلة خيانتهم.

٣١٣

وقوله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) تعليل للأمر بالنبذ ، إما باعتبار استلزامه النهي عن مناجزة القتال ، لكونها خيانة ، فيكون تحذيرا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها ، وإما باعتبار استتباعه للقتال ، فيكون حثّا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم على النبذ أولا ، وعلى قتالهم ثانيا ، كأنه قيل. وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم ، ثم قاتلهم ، إنّ الله لا يحب الخائنين ، وهم من جملتهم ، لما علمت من حالهم. أفاده أبو السعود.

تنبيه :

دلت الآية على جواز معاهدة الكفار لمصلحة ، ووجوب الوفاء بالعهد إذا لم يظهر منهم أمارة الخيانة ، وتدل على إباحة نبذ العهد لمن توقع منهم غائلة مكر ، وأن يعلمهم بذلك ، لئلا يعيبوا علينا بنصب الحرب مع العهد.

روى أصحاب السنن (١) أنه كان بين معاوية وبين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب ، حتى إذا انقضى العهد غزاهم. فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول : الله أكبر! الله أكبر! وفاء لا غدر. فإذا هو عمرو بن عبسة ، فأرسل إليه معاوية فسأله ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من كان بينه وبين قوم عهد ، فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء : فرجع معاوية.

وروى الإمام أحمد (٢) عن سلمان الفارسي أنه انتهى إلى حصن أو مدينة ، فقال لأصحابه : دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم ، فقال : إنما كنت رجلا منكم فهداني الله عزوجل للإسلام ، فإن أسلمتم فلكم مالنا ، وعليكم ما علينا ، وإن أنتم أبيتم ، فأدوا الجزية وأنتم صاغرون ، فإن أبيتم نابذناكم على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين. يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها.

هذا ، وما ذكر من وجوب إعلامهم ، إنما هو عند خوف الخيانة منهم وتوقعها ، كما هو منطوق الآية. وأما إذا ظهر نقض العهد ظهورا مقطوعا به فلا حاجة للإمام إلى نبذ العهد ، بل يفعل كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة ، وهم في ذمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يرعهم إلا وجيش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمرّ الظهران ، وذلك على أربعة فراسخ من مكة.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الجهاد ، ١٥٢ ـ باب في الإمام يكون بينه وبين العدّ عهد فيسير إليه ، حديث رقم ٢٧٥٩.

وأخرجه الترمذي في : السير ، ٢٧ ـ باب ما جاء في الغدر.

(٢) أخرجه في المسند ٥ / ٤٤٠.

٣١٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) (٥٩)

(وَلا يَحْسَبَنَ) قرئ بالياء والتاء (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) أي فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي لا يفوتون الله من الانتقام منهم ، إما في الدنيا بالقتل ، وإما في الآخرة بعذاب النار. وقرئ بفتح (أن) على تقدير لام التعليل ، وهذا كقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [العنكبوت : ٤] ، وقوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ، وَمَأْواهُمُ النَّارُ ، وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [النور : ٥٧] وقوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ، وَبِئْسَ الْمِهادُ) [آل عمران : ١٩٦ ـ ١٩٧].

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٦٠)

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ) أي لقتال ناقضي العهد السابق ذكرهم ، أو الكفار مطلقا ، وهو الأنسب بسياق النظم الكريم (مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) أي من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها ، أطلق عليه القوة مبالغة.

قال الشهاب : وإنما ذكر لأنه لم يكن لهم في (بدر) استعداد تام ، فنبّهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان.

(وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) (الرباط) في الأصل مصدر ربط ، أي شدّ ، ويطلق بمعنى المربوط مطلقا ، وكثر استعماله في الخيل التي تربط في سبيل الله. فالإضافة ، إما باعتبار عموم المفهوم الأصلي ، أو بملاحظة كون الرباط مشتركا بين معان أخر ، كانتظار الصلاة وملازمة ثغر العدوّ ، والمواظبة على الأمر ، فإضافته لأحد معانيه للبيان ، ك (عين الشمس) ومنه يعلم أنه يجوز إضافة الشيء لنفسه إذا كان مشتركا. وإذا كان من إضافة المطلق للمقيد ، فهو على معنى (من) التبعيضية. وقد يكون (الرباط) جمع ربيط ، كفصيل وفصال. قال في (التاج) : يقال : نعم الربيط هذا ، لما

٣١٥

يرتبط من الخيل. ثم إن عطفها على (القوة) مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادها ، كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة (تُرْهِبُونَ بِهِ) أي تخوّفون بذلك الإعداد (عَدُوَّ اللهِ) وهو المثبت له شريكا ، المبطل لكلمته (وَعَدُوَّكُمْ) أي الذي يظهر عداوتكم ، فتخوفونهم لئلا يحاربوكم باعتقاد القوة في أنفسهم دونكم.

تنبيه :

دلت هذه الآية على وجوب إعداد القوة الحربية ، اتقاء بأس العدوّ وهجومه.

ولما عمل الأمراء بمقتضي هذه الآية ، أيام حضارة الإسلام ، كان الإسلام عزيزا ، عظيما ، أبي الضيم ، قوي القنا ، جليل الجاه ، وفير السنا ، إذ نشر لواء سلطته على منبسط الأرض ، فقبض على ناصية الإفطار والأمصار ، وخضد شوكة المستبدين الكافرين ، وزحزح سجوف الظلم والاستعباد ، وعاش بنوه أحقابا متتالية وهم سادة الأمم ، وقادة مشعوب ، وزمام الحول والطول وقطب روحي العز والمجد ، لا يستكينون لقوة ، ولا يرهبون لسطوة. وأما اليوم ، فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة ، ومالوا إلى النعيم والترف فأهملوا فرضا من فروض الكفاية ، فأصبحت جميع الأمة آثمة بترك هذا الفرض. ولذا تعاني اليوم من غصته ما تعاني. وكيف لا يطمع العدوّ بالممالك الإسلامية ، ولا ترى فيها معامل للأسلحة ، وذخائر الحرب ، بل كلها مما يشترى من بلاد العدوّ؟ أما آن لها أن تتنبه من غفلتها ، وتنشئ معامل لصنع المدافع والبنادق والقذائف والذخائر الحربية؟ فلقد ألقي عليها تنقص العدوّ بلادها من أطرافها درسا يجب أن تتدبره ، وتتلافى ما فرطت به. قبل أن يداهم ما بقي منها بخيله ورجله ، فيقضي ـ والعياذ بالله ـ على الإسلام وممالك المسلمين ، لاستعمار الأمصار ، واستعباد الأحرار ، ونزع الاستقلال المؤذن بالدمار. وبالله الهداية.

وقوله تعالى (آخَرِينَ) أي وترهبون قوما آخرين (مِنْ دُونِهِمْ) أي من دون من يظهر عداوتكم ، وهم المنافقون (لا تَعْلَمُونَهُمُ) أي أنهم يعادونكم (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) أي أنهم أعداؤكم ، يظهرون عداوتهم إذا رأوا ضعفكم. ثم شجعهم سبحانه على إنفاق المال في إعداد القوة ، ورباط الخيل ، مبشرا لهم بتوفية جزائه كاملا ، بقوله تعالى (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي الذي أوضحه الجهاد (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي في الدنيا من الفيء والغنيمة والجزية والخراج ، وفي الآخرة بالثواب المقيم (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي بترك الإثابة.

٣١٦

تنبيهات :

الأول ـ هذه الآية أصل في كل ما يلزم إعداده للجهاد من الأدوات.

الثاني ـ في قوله تعالى (تُرْهِبُونَ بِهِ) إشارة إلى التجافي عن أن يكون الإعداد لغير الإرهاب كالخيلاء. وفي حديث الإمام مالك عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الخيل ثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر ولرجل وزر. فأما الذي له أجر ، فرجل ربطها في سبيل الله ، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ، فهي له ستر. ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام ، فهي على ذلك وزر.

الثالث ـ ما ذكرناه في تأويل (الآخرين) من أنهم المنافقون ، يشهد له قوله تعالى (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ ، نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [التوبة : ١٠١].

ثم بين تعالى جواز مصالحة الكفار بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦١)

(وَإِنْ جَنَحُوا) أي مالوا وانقادوا (لِلسَّلْمِ) بكسر السين وفتحها ، لغتان ، وقد قرئ بهما. أي الصلح والاستسلام ، بوقوع الرهبة في قلوبهم ، بمشاهدة ما بكم من الاستعداد ، وإعتاد العتاد (فَاجْنَحْ لَها) أي فمل إلى موافقتهم وصالحهم وعاهدهم ، وإن قدرت على محاربتهم ، لأن الموافقة أدعى لهم إلى الإيمان. ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسع سنين ، أجابهم إلى ذلك ، مع ما اشترطوا من الشروط الأخر. و (السلم) يذكر ويؤنث ـ كما في القاموس ـ

قال الزمخشري : (السلم) تؤنث تأنيث نقيضها ، وهي الحرب. قال العباس بن مرداس :

السّلم تأخذ منها ما رضيت به

والحرب يكفيك من أنفاسها جرع

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي لا تخف في الصلح مكرهم ، فإنه يعصمك من مكرهم (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) أي بأحوالهم ، فيؤاخذهم بما يستحقون ، ويردّ كيدهم في نحرهم.

٣١٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (٦٢)

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) أي بالصلح لتكفّ عنهم ظاهرا ، وفي نيتهم الغدر (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) أي كافيك بنصره ومعونته. قال مجاهد : يريد قريظة. ثم علل كفايته له ، بما أنعم عليه من تأييده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنصره وبالمؤمنين ، فقال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) أي يوم بدر بعد الضعف ، من غير إعداد قوة ولا رباط (وَبِالْمُؤْمِنِينَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٦٣)

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي جمع بين قلوبهم وكلمتهم ، بالهدى الذي بعثك الله به إليهم ، بعد ما كان فيها العصيبة والضغينة (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي من الذهب والفضة (ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) إذ لا يدخل ذلك تحت قدرة البشر ، لكونه من عالم الغيب (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) أي بين قلوبهم بدينه الذي جمعهم إليه (إِنَّهُ عَزِيزٌ) أي غالب في ملكه وسلطانه على كل ظاهر وباطن (حَكِيمٌ) أي فاقتضت حكمته ذلك ، لما فيه من تأييد دينه ، وإعلاء كلمته.

قال الزمخشري رحمه‌الله تعالى : التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من الآيات الباهرة. لأن العرب ، لما فيهم من الحمية والعصبية ، والانطواء على الضغينة ، في أدنى شيء ، وإلقائه بين أعينهم ، إلى أن ينتقموا ، لا يكاد يأتلف منهم قلبان. ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واتحدوا وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة ، وذلك لما نظم الله من ألفتهم ، وجمع من كلمتهم ، وأحدث بينهم من التحابّ والتوادّ ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت ، وكلفهم من الحب في الله ، والبغض في الله ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب ، فهو يقلبها كما شاء ، ويصنع فيها ما أراد. وقيل : هم الأوس والخزرج ، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم ، ودق جماجمهم. ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى. وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن ، ويديم التحاسد والتنافس. وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ، ما آثرته أختها ، وتكرهه وتنفر عنه ، فأنساهم الله تعالى ذلك كله ، حتى اتفقوا على الطاعة ، وتصافوا وصاروا أنصارا وعادوا أعوانا ،

٣١٨

وما ذاك إلا بلطيف صنعه ، وبليغ قدرته. انتهى.

وإنما ضعف القول الثاني لأنه ليس في السياق قرينة عليه. كذا في (العناية).

أقول : لكن شهرة ما كان بين هذين البطنين من التعادي الذي تطاول أمده ، واستحال قبل البعثة نضوب مائه ، يصلح أن يكون قرينة. ونقل علماء السيرة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما لقي في الموسم الرهط من الخزرج ، ودعاهم إلى الله تعالى. فأجابوه وصدقوه ، قالوا له : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وعسى أن يجمعهم الله بك ، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، نعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعزّ منك. رواه ابن إسحاق وغيره.

وفي الصحيحين (١) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم (حنين) قال لهم يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلّالا فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ كلما قال شيئا قال : الله ورسوله أمنّ.

لطيفة :

روى الحاكم أن ابن عباس كان يقول : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء. ثم يقرأ : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ) ... الآية.

وعند البيهقي نحوه. وقال : ذلك موجود في الشعر :

إذا بتّ ذو قربى إليك بزلة

فغشّك واستغنى فليس بذي رحم

ولكنّ ذا القربى الذي إن دعوته

أجاب ، وأن يرمي العدوّ الذي ترمي

قال : ومن ذلك قول القائل :

ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم

وبلوت ما وصلوا من الأسباب

فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا

وإذا المودة أقرب الأسباب

قال البيهقي : لا أدري هذا موصولا بكلام ابن عباس ، أو هو قول من دونه من الرواة.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : المغازي ، ٥٦ ـ باب غزوة الطائف في شوّال سنة ثمان ، الحديث رقم ١٩٣١ عن عبد الله بن زيد بن عاصم.

وأخرجه مسلم في : الزكاة ، حديث رقم ١٣٩.

٣١٩

قال الرازي : احتج أصحابنا بهذه الآية ، على أن أحوال القلوب من العقائد والإرادات ، كلها من خلق الله تعالى. وذلك لأن الألفة والمودة والمحبة الشديدة إنما حصلت بسبب الإيمان ومتابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انتهى.

ولما بين تعالى كفايته لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند مخادعة الأعداء ، في الآية المتقدمة ، أعلمه بكفايته له في جميع أموره مطلقا ، فقال تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٤)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال العلامة ابن القيّم في مقدمة (زاد المعاد) في تفسير هذه الآية : أي الله وحده كافيك ، وكافي أتباعك ، فلا يحتاجون معه إلى أحد. ثم قال : وها هنا تقديران :

أحدهما ـ أن تكون الواو عاطفة ل (من) على الكاف المجرورة ، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار ، على المذهب المختار ، وشواهد كثيرة ، وشبه المنع منه واهية.

والثاني ـ أن تكون الواو واو (مع) ، وتكون (من) في محل نصب عطفا على الموضع فإن (حسبك) في معنى كافيك ، أي الله يكفيك ، ويكفي من اتبعك ، كما يقول العرب : حسبك وزيدا درهم ، قال الشاعر :

إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا

فحسبك والضحاك سيف مهنّد

وهذا أصح التقديرين. وفيها تقدير ثالث ، أن تكون (من) في موضع رفع بالابتداء ، أي ومن اتبعك من المؤمنين ، فحسبهم الله ؛ وفيها تقدير رابع ، وهو خطأ من جهة المعنى ، وهو أن يكون (من) في موضع رفع عطفا على اسم الله ، ويكون المعنى : حسبك الله وأتباعك. وهذا ، وإن قال به بعض الناس ، فهو خطأ محض ، لا يجوز حمل الآية عليه ، فإن الحسب والكفاية لله وحده ، كالتوكل والتقوى والعبادة. قال الله تعالى : (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ ، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ٦٢] ففرق بين الحسب والتأييد ، فجعل الحسب له وحده ، وجعل التأييد له بنصره وبعباده. وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده ، حيث أفردوه بالحسب ، فقال تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل

٣٢٠