تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

بين اجزائها وبين فكرتها الكلية بهذا العلاج فالاستئذان على البيوت يحقق للبيوت حرمتها التي تجعل منها مثابة وسكنا. ويوفر على اهلها الحرج من المفاجأة. والتأذي بانكشاف العورات. انها ليست عورات البدن بل يضاف اليها عورات الطعام. وعورات اللباس. وعورات الاثاث. التي قد لا يحب اهلها ان يراه الناس وهو في حالة غير مرضية او غير مناسبة للزائر او لأهل البيت.

وكل هذه الدقائق يرعاها المنهج القرآني بهذا الادب الرفيع. ادب الاستئذان. ويرعى معها تقليل فرص النظرات السانحة. والالتقاءات العابرة التي تيقظ في النفوس كامن الشهوات. والمسلمون اليوم قد تبلدت حساسيتهم عن مثل هذه الاخلاق الرفيعة. فلذا ترى الرجل يهجم على بيت اخيه في اية لحظة من الليل والنهار بدون اشارة او استئذان. لانهم تركوا اداب الاسلام الرفيع الذي يطلب من المسلمين ان يكونوا في أعلى الكمال الانساني والأخلاق العالية.

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١))

البيان : ان الاسلام يهدف الى اقامة مجتمع نظيف. لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة. ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي الى سعار شهواني لا ينطفىء ولا يرتوي والنظرة الخائنة. والحركة المثيرة والزينة المتبرجة والجسم العاري ..

٤٤١

كلها لا تصنع شيئا الا ان تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون. والا ان يفلت زمام الاعصاب والارادة. فاما الافضاء الفوضوي. الذي لا يتقيد بقيد. واما الامراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الاثارة وهي تكاد ان تكون عملية تعذيب.

واحدى وسائل الاسلام الى انشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة. وابقأ الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليما. وبقوته الطبيعية. دون استثارة مصطنعه. لقد شاع في وقت من الاوقات ان النظرة المباحة. والحديث الطليق. والاختلاط الميسور والدعاية المرحة بين الجنسين. والاطلاع على مواضع الفتنة المخبآة. شاع ان كل هذا تنفيس وترويح. واطلاق للرغبات الحبيسة. ووقاية من الكبت. ومن العقد النفسية. وتخفيف من حدة الضغط الجنسي وما وراءه من الدوافع شاع ذلك على اثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الانسان من خصائصه التي تفرقه من الحيوان والرجوع به الى القاعدة الحيوانية الغارقة في القذارات العفنة. وبخاصة نظرية (فرويد اليهودي) ولكن هذا كله لم يكن سوى فروض نظرية غايتها الاباحة المطلقة بين الرجل والمرأة. وتفلّتهما من جميع الموانع والقيود. وتعريهما من جميع الاخلاق الدينية والانسانية. وقد ثبت بطلان هذه النظرية الممقوتة التي غايتها الاباحة المطلقة.

نعم لقد شاهدت البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي. والاختلاط الجنسي بكل صوره وأشكاله. ان هذا كله. مما احرق الاخضر واليابس ومحق الاخلاق التي يقول الشاعر فيه (وانما الامم الاخلاق ما بقيت ... فانهم ذهبت اخلاقهم ذهبوا)

وانما انتهى الى سعار مجنون لا ترويه مياه البحار والانهار. ولا يهدأ له خارج ولا قرار. وشاهدت الامراض النفسية والزهرية. ومعها

٤٤٢

الشذوذ الجنسي بكل انواعه. كل ذلك كان ثمرة الاتصال والاختلاط الخالي من كل قيد وشرط ورادع ومانع. والاباحة المطلقة بشتى انواعها. وللاجسام العارية في الطرق المباحة. وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة التي يباح معها كل شيء. واللفتات الجهنمية التي تلهب النيران في قلوب الشباب كل ذلك يكذب ما قال ويقولون : ان من الأختلاط واباحة الاجتماع بين الجنسين بدون قيد ولا شرط هو انفع للمجتمع الانساني ومما يدل بوضوح على اعادة النظر وضرورة الرجوع الى ما قرره الاسلام وفرضه القرآن المجيد. ان الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق. متأصل في التكوين الحيوي. لأن الله عزوجل قد ناط به امتداد الحياة على هذه الارض. وتحقيق الخلافة لهذا الانسان فيها. فهو ميل دائم يستحيل زواله حتى يزول الانسان من الوجود.

والنظرة تثير. والحركة تثير. والضحكة تثير. والدعابة تشعل الضمير. والنبرة المعبرة عن هذا الميل تزيد اللهيب. ويستحيل ان يوجد طريق مأمون لهذه المثيرات ولاطفاء هذه الملهبات سوى ما قرره الاسلام الحنيف. وفرضه القرآن المجيد. كما في الآيتين اللتين مر ذكرهما آنفا. (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) وغض البصر من جانب الرجال أدب نفسي ومحاولة للاستعلاء الذاتي. ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم الى القلوب. وحفظ الفرج هو ثمرة طبيعية لغض البصر. او هو الخطوة التالية لتحكيم الارادة اليقظة (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) فلا يرسلن بنظراتهن الجائعة الى القلوب المتعطشة. ولا يبرجن فروجهن الا في ما احله الخالق العظيم لهن. لأزواجهن لا غير (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) والزينة حلال للمرأة تلبية لفطرتها. فكل انثى مولعة بان

٤٤٣

تكون جميلة. وان تبدو جميلة. والزينة تختلف من عصر الى عصر. ولكن اساسها في الفطرة واحد. هو الرغبة في تحصيل الجمال او استكماله وتجليته للرجل.

والاسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية. ولكنه ينظمها ويضبطها. ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها الى رجل واحد ـ هو شريك الحياة ـ يطلع منها على ما لا يطلع احد سواه.

ـ عن الامام الصادق (ع) : لا يحل لرجل ان ينظر الى فرج رجل آخر. ولا يحل لأمرأة ان تنظر الى فرج امرأة أخرى. وقد فرض الله على جوارح الانسان فرائض. ففرض على البصر ان لا ينظر الى ما حرم الله عليه وان يعرض عما نهى الله عنه مما لا يحل له. وهو من الايمان. فقال تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ). فنهاهم عن ان ينظروا الى عوراتهم (قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) و. ان يحفظن فروجهن) من ان ينظر احداهن الى فرج غيرها وان تحفظ فرجها من ان تنظر اليه غيرها. وكل شيء من حفظ الفرج في القرآن فهو من الزنا. الا هذه الآية فهي من النظر).

(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) والجيب فتحة الصدر في الثوب والخمار غطاء الرأس والنحر والصدر. ليدارى على مفاتنهن. فلا يعرضها للعيون الجائعة. ولا حتى لنظرة الفجاءة. التي يتقي المتقون أن يطيلوها او يعاودوها ولكنها قد تترك كمينا في أطوائهم بعد وقوعها على تلك المفاتن لو تركت مكشوفة. ان الله لا يريد ان يعرض القلوب للتجربة والابتلاء في هذا النوع من البلاء.

والمؤمنات اللواتي تلقين هذا النهي. وقلوبهن مشرقة بنور الله. لم يتلكأن في الطاعة على الرغم من رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال. وقد كانت المرأة في الجاهلية ـ كما هي اليوم في الجاهلية

٤٤٤

الحديثة ـ تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء. وربما أظهرت عنقها وبعض شعرها.

فلما أمر الله النساء ان يضربن بخمارهن على جيوبهن. ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها. كن نساء الانصار اشد تصديقا لكتاب الله. وايمانا بالتنزيل. لما نزلت في سورة النور انقلب رجالهن اليهن يتلون عليهن. ما انزل الله اليهم فيها. فيتلو الرجل على امرأته واخواته وقرابته فما منهن امرأة الى قامت الى مرطها المرجل. فاعتجرت به تصديقا وايمانا بما أنزل الله من كتابه. فأصبحن وراء رسول الله ص وآله. متجرات كأن على رؤوسهن الغربان.

لقد رفع الاسلام ذوق المجتمع الاسلامي وظهر احساسه بالجمال. فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحسن. بل الطابع الانساني المهذب. وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني. فجمال الحشمة هو الجمال النظيف. الذي يرفع الذوق الجمالي. ويجعله لائقا بالانسان (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) وانها لمعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية. وانفعالاتها. فان الخيال قد يكون احيانا اقوى في اثارة الشهوات من العيان. وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها أو حليها. وفي النهاية يرد القلوب كلها الى الله عزوجل ويفتح باب التوبة لمن ألمت به قبل نزول هذا القرآن (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) بذلك يثير الحساسية برقابة الله. وعظمته ورعايته. وعونه للبشر في ضعفهم امام ذلك الميل الفطري العميق. الذي لا يضبطه شيء مثل الشعور بالله عزوجل وبتقواه.

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا

٤٤٥

مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤))

البيان : ان الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية. وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة. فيجب ان تزول العقبات من طريق الزواج لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها. والعقبة المالية هي العقبة الاولى في طريق بناء البيوت. وتحصين النفوس. والاسلام نظام متكامل. فهو لا يفرض العفة الا وقد هيأ لها اسبابها وجعلها ميسورة للافراد. فلا يلجأ الى الفاحشة حينئذ الا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامدا.

لذلك يأمر الله الجماعة المسلمة ان تعين من يقف المال في طريقهم الى النكاح الحلال .. (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ ..) والايامى هم الذين لا ازواج لهم من الجنسين .. والمقصود هنا الاحرار وقد افرد الرقيق بالذكر بعد ذلك. (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ).

وكلهم ينقصهم المال لما يفهم من قوله بعد ذلك (ان يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله) وهذا أمر للجماعة بتزويجهم .. ولا يجوز ان يقوم الفقر عائقا عن التزويج ـ متى كانوا صالحين فالرزق بيد الله. وقد تكفل الله برزق عباده اذا اطاعوه. والرزق مع العيال يسوقه الله.

وهكذا يواجه الاسلام المشكلة مواجهة عملية. فيهيء لكل فرد صالح للزواج. ان يتزوج ولو كان عاجزا من ناحية المال. (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ ...) (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر. وهذا النهي عن اكراه الفتيات على البغاء ـ وهن يردن العفة ـ ابتغاء المال كان جزءا

٤٤٦

من خطة القرآن المجيد وهكذا يصنع الاسلام في علاج مشاكل المجتمع المتكامل الذي يصل الارض بالسماء ويرفع البشرية الى الافق المشرق الوضىء المستمد نوره من خالقه العظيم.

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ ..) فالقرآن آياته مبينات لا تدع مجالا للغموض والتأويل والانحراف عن النهج القويم. وهو عرض لمصائر الغابرين الذين انحرفوا عن نهج الله عزوجل : فكان مصيرهم النكال والدمار (وهو موعظة للمتقين) وهذا ما يربط القلوب بالله العظيم.

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨))

ـ البيان : النور الذي هو قوام السموات والأرض ومنه نظامها. فهو الذي يهبها جوهر وجودها. ويودعها ناموسها. ولقد استطاع البشر أخيرا أن يدركوا بعلمهم طرفا من هذه الحقيقة الكبرى عند ما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة ـ بعد تحطيم الذرة ـ الى اشعاعات منطلقة. لا قوام لها الا النور. ولا (مائدة) لها الا النور. فذرة المادة مؤلفة من كهارب واليكترونات تنطلق ـ عند تحطيمها ـ في هيئة اشعاع. قوامه هو النور.

فاما القلب البشري فكان يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون. كان يدركها كلما شق ورف وانطلق الى آفاق النور. ولقد

٤٤٧

أدركها كاملة شاملة قلب محمد رسول الله ص وآله. ففاض بها وهو عائد من الطائف. نافض كفيه من الناس. عائد بوجه ربه يقول : (أعوذ بنور وجهك الذي اشرقت به الظلمات. وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة).

ولكن الكيان البشري لا يقوى طويلا على تلقي ذلك الفيض الغامر دائما. ولا يستشرف طويلا ذلك الافق البعيد. فبعد أن جلا النص هذا الافق المترامي بمادى يقارب مداه. ويقربه الى الادراك البشري المحدود فقال (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ...) وهو مثل يقرب للادراك طبيعة النور. (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) تقيه الريح. وتصفي نوره فيتألق ويزداد (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) ونور زيت الزيتون. كان أصفى نور يعرفه المخاطبون. ولكن ليس لهذا وحده كان اختيار هذا المثل. انما هو كذلك الظلال المقدس الذي تلقيه الشجرة المباركة (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ).

عن الامام الصادق (ع) انه قال : محمد ص وآله كمشكاة ، فيها مصباح فيه نور العلم ، يعني النبوة المصباح في زجاجة. قال علم رسول الله ، صدر الى قلب علي بن ابي طالب (ع) الزجاجة. كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة. قال ذلك علي (ع) نور على نور. الامام في اثر الامام (ع).

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ... رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ).

هناك صلة تصويرية بين مشهد المشكاة هناك. ومشهد البيوت هنا على طريقة التناسق القرآني في عرض المشاهد ذات الشكل المتشابه او المتقاربة. وهناك صلة مثلها بين المصباح المشرق بالنور في المشكاة.

٤٤٨

والقلوب المشرقة بالنور في بيوت الله. الذين قلوبهم مشرقة بنور العلم واليقين الذي لا يدنوه شكوك ولا تردد ولا ارتياب بصحته كما أنزله الله في كتابه والصدق بكل ما وعد الله من ثوابه للمطيعين وعقابه للعامين.

عن الامام (ع) قال : كان الخياط اذا سمع صوت المؤذن للصلاة لا يخرج الابرة بل يتركها ويسارع للصلاة. وكان الحداد اذا سمع صوت المؤذن للصلاة وكان رافعا مطرقته ألقاها جانبا ولم يتم رميها على الحديدة. ويبادر لاداء الصلاة. لذلك ورد في الخبر عن سادة البشر (اختبروا شيعتنا بمحافظتهم على أول اوقات الصلاة. والا فليس منهم وان ادعوا ذلك).

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠))

البيان : التعبير رسم حال الكافرين ومآلهم مشهدين عجيبين. يلتمع التماعا كاذبا. في المشهد الاول (اعمالهم كسراب في أرض مكشوفة .. فيتبعه صاحبه الظامىء. وهو يتوقع الري. غافلا عما ينتظره هناك. وفجأة يتحرك المشهد حركة عنيفة. واذا هو سراب. فلا يجد ماء فيرويه (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ ...)

فكيف واذا هو الخالق العظيم. المنتقم الجبار. الذي كان هذا العبد الحقير يتنمرد عليه ويتجاهر بعصيانه. (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) هكذا في سرعة عاجلة تتناسق مع البغتة والفجأة (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) تعقيب يتناسق مع المشهد الخاطف المرتاع.

٤٤٩

وفي المشهد الثاني. تطبيق الظلمة بعد الالتماع الكاذب. ويتمثل الهول في ظلمات البحر اللجي. موج من فوقه موج من فوقه سحاب. وتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض. حتى ليخرج يده امام بصره فلا يراها من شدة الرعب والظلام.

انه الكفر ظلمة منقطة عن نور الله الفائض في أرجاء الكون. (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) ونور الله هدى في القلب. تفتح في البصيرة واتصال في الفطرة بنواميس الله.

فمن لم يتصل بهذا النور ، فهو في ظلمة لا انكشاف لها. وفي مخافة لا أمن فيها. وفي ضلال لا رجعة منه ونهاية العمل سراب ضائع يقود صاحبه الى الهلاك والعذاب. لانه عمل بغير عقيدة. وصلاح بغير ايمان. ان هدى الله هو الهدى. وان نور الله هو النور.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦))

البيان : ان الانسان ليس مفردا في هذا الكون الفسيح. فان حوله من جميع الجهات اخوان له من خلق الله في السموات والارض. وهم يسبحون بحمد خالقهم وتقواه. ويوجه بصره وقلبه خاصة الى مشهد كل ما يراه. منها مشهد الدواب فمنها ما يختص في البحر. ومنها

٤٥٠

ما يختص في البر. ومنها ما يشترك بين السماء والارض. ومنها ما يمشي على الارض بدون رجلين. ومنها ما يمشي برجلين اثنتين. ومنها ما يمشي على أكثر من ذلك يخلق الله ما يشاء.

(الطَّيْرُ صَافَّاتٍ) بأجنحتها وهي طائرة في الفضاء تسبح بحمد خالقها (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) والانسان وحده هو الذي يغفل عن تسبيح خالقه. وكان الاجدر به أن يسبق جميع المخلوقات في تسبيح خالقه وتمجيده. وان الكون ليبدو في هذا المشهد الخاشع متجها كله الى خالقه. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) والمشهد يعرض على مهل وفي اطالة .. ان يد الله عزوجل تزجي السحاب وتدفعه من مكان الى مكان ... والوبل الهاطل وهو في هيئة الجبال الضخمة.(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) التأمل في تقلب الليل والنهار بهذا النظام الذي لا يختل ولا يغتر. وهو يوقظ في القلب الحساسية. والقرآن يجدد حسّنا الجامد. ويوقظ حواسنا المكلولة. كما ينبغي أن نقف أمام كل ظاهرة نتأملها. ونرقب يد الله عزوجل كيف تفعل فعلها فيها. (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ ...) وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة. حقيقة ان كل دابة من ماء قد خلقت وكونت. وهذا ما يشعر توحيد العنصر الاساسي في تركيب الاحياء جميعا. والمراد من شمولها للانسان بلحاظ جسمه وحيوانيته لا بلحاظ روحه وانسانيته. والا فذلك نفخة او نفخة من روح خالقه عزوجل. (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) غير مقيد كل أولئك بشكل ولا هيئة. فالنواميس والسنن التي تعمل في الكون قد اقتضتها مشيئة الخالق العظيم الطليقة وارتضتها (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) فآيات الله مبينة كاشفة. تجلو نور الله. وتكشف عن ينابيع هداه. فاذا تحاكم الناس اليها

٤٥١

فانما يتحاكمون الى شريعة واضحة مضبوطة. لا يخشى منها صاحب حق على حقه. ولا يلتبس فيها حق بباطل. ولا حلال بحرام (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها).

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢))

البيان : ان الايمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك. والاسلام عقيدة متحركة لا تطيق السلبية. فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج. وهؤلاء كانوا يقولون (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) فالمؤمنون من تصدّق أفعالهم أقوالهم. والايمان ليس لعبة يتلهّى بها صاحبها ثم يدعها ويمضي. وانما هو تكيف في النفس وانطباع بالقلب. وعمل في الواقع. ثم لا تملك النفس الرجوع عنه متى استقرت حقيقته في الضمير. (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ).

فلقد كانوا يعلمون أن حكم الله ورسوله لا يحيد ولا يميل عن الحق قيد شعرة. ومتى مال وانحرف أصبح حكم الجبروت والطاغوت المأمور كل مؤمن بالكفر بهما. والبراءة منهما.

(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، أَمِ ارْتابُوا) فمرض القلب جدير بان ينشىء مثل هذا الاثر. وما ينحرف الانسان هذا الانحراف وهو سليم

٤٥٢

الفطرة. انما هو المرض الذي تختل به فطرته عن استقامتها. فلا تتذوق حقيقة الايمان. ولا تسير على نهجه القويم.

ان حكم الله هو الحكم الوحيد المبرأ من فطنة الحيف. لان الله هو العادل الذي لا يظلم (مِثْقالَ ذَرَّةٍ). وحين ما يشرع فرد ويحكم فلا بد ان يلحظ في التشريع حماية نفسه وحماية مصالحه ، قبل كل أحد غيره. من أجل ذلك كان الذين لا يرتضون حكم الله ورسوله هم الظالمون. الذين لا يريدون العدالة.

(بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) واما المؤمنون فصفتهم الاذعان والتسليم بكل ما يحكم الله ورسوله ص وآله به.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المفلحون لان الله الذي يدبر امورهم وينظم علاقاتهم. ولا تقودهم الشهوات.

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ..) (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) الناجون في دنياهم وآخرتهم. وعد الله حقا. ولن يخلف الله وعده وهم للفوز أهل. ولديهم أسبابه من واقع حياتهم مع خشية الله تعالى.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥))

البيان : ولقد كان المنافقون يقسمون لرسول الله ص وآله ، لئن أمرهم بالخروج الى القتال ليخرجن. والله يعلم انهم لكاذبون. فهو يرد عليهم متهكما ساخرا من ايمانهم.

٤٥٣

(قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) لهذا يعود فيأمرهم بالطاعة الحقيقية ، لا طاعتهم المزيفة.

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ. وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فان تولوا واعرضوا (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ). فليس مسؤولا عن ايمانكم. وليس مقصرا فأنتم المسؤولون بما توليتم وعصيتم وخالفتم امر الله تعالى.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ. كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)

ذلك وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد ص وآله. ان يستخلفنّهم في الارض ... وان يبدلهم من بعد خوفهم أمنا ، فما حقيقة ذلك الايمان. وما حقيقة هذا الاستخلاف.

ان حقيقة الايمان التي يتحقق بها وعد الله. حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الانساني كله. وتوجه ذلك النشاط الى الله. لا يبتغي به صاحبه الا وجه الله. وهي طاعة لله واستسلام لامره في الصغيرة والكبيرة. حتى لا يبقى معها هوى في النفس. ولا شهوة في القلب. ولا ميل في الفطرة.

هذا هو الايمان الذي يستغرق الانسان كله. (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً).

ذلك الايمان هو منهج حياة كامل يتضمن كل ما أمر الله به. ويدخل فيما أمر الله به. توفير الاسباب فما حقيقة الاستخلاف في الارض : انها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم. انما هي هذا كله على شرط استخدامه في الاصلاح والتعمير والبناء. وتحقيق المنهج الذي رسمه الله عزوجل للبشرية كي تسير عليه وتصل عن طريقه الى مستوى الكمال اللائق للخلافة لله في أرضه.

٤٥٤

عن الامام زين العابدين (ع) قال هم والله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك لهم على يدي رجل منا وهو المهدي ثاني عشر أئمة أهل البيت (ع). وهو الذي قال رسول الله ص وآله : لو لم يبق من الدنيا الا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يلي هذا الامر رجل من عترتي. اسمه اسمي يملأ الارض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا) (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ).

وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب. كما يتم بتمكينه من تصريف الحياة وتدبيرها. فقد وعدهم الله عزوجل أن يستخلفهم في الارض. وان يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الارض (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

البيان : فاقامة الصلاة هي العدة للاتصال بالله عزوجل وتقويم القلب. والزكاة هي تطهير للنفس من الشح. وطاعة الرسول والرضى بحكمه وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة هي السعادة.

فاذا استقمتم على النهج فلا عليكم من قوة الكافرين. فما هم

٤٥٥

بمعجزين في الارض. وقوتهم الظاهرة مهما كانت. لا تقف لكم في طريق سيركم الى الله الذي هو غايتكم الكبرى.

فما من مرة سارت هذه الامة على نهج الله. وحكمت هذا النهج في الحياة. الا تحقق لها النصر والفوز بالاستخلاف في الارض والتمكين والامن. وما من مرة خالفت وانحرفت عن نهج الله. الا تقهقرت وانخذلت وانتصر عليها اعداء الدين والحط. بسبب غضب الله عليها وتركها لما تركت شريعته.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ)

لقد سبق في السورة احكام الاستئذان على البيوت. وهنا يبين احكام الاستئذان في داخل البيوت. كالخدم والاطفال المميزون ولم يبلغوا الحلم. في ثلاث أوقات حيث يحتمل خلو الرجل مع أهله. أو يكون في حالة لا يرضى أن يراه عليها احد مهما كان قريبا غير الزوجة. وسماها (عَوْراتٍ) لانكشاف العورات فيها. والعليم الخبير يؤدب المؤمنين بهذه الاداب وهو يريد ان يبني أمة مسلمة سليمة من كل نقص ودنس. طاهرة القلوب نظيفة التصورات. فاما حين يدرك الصغار البلوغ فهم كغيرهم من وجوب الاستئذان دائما عليهم في كل مرة أرادوا الدخول على غيرهم.

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) ... فهؤلاء لا حرج عليهن بان ينزعن ثيابهن الخارجية ولا يكشفن عن زينة. وخير لهن أن يبقين كغيرهن من لباس الحشمة واللباس الكامل. وهن لأيرات العمر

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ

٤٥٦

أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١))

البيان : روى انهم كانوا يأكلون من هذه البيوت المذكورة ـ دون استئذان ـ ويستصحبون معهم العمى والعرج والمرضى ليطعموهم ـ الفقراء منهم ـ فتحرجوا ان يطعموا وتحرج هؤلاء أن يصحبوهم دون دعوة من أصحاب البيوت. أو اذن ـ ذلك حين نزلت (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) فقد كانت حساسيتهم مرهقة. فكانوا يحذرون دائما أن يقعوا فيما نهى الله عنه. ويتحرجون أن يلموا بالمحظور ولو من بعيد. فأنزل الله عزوجل هذه الآية. ترفع الحرج عما ذكر فيها.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) فقد كان من عادات بعضهم في الجاهلية ألا يأكل طعاما على انفراد. فان لم يجد من يؤاكله عاف الطعام. فرفع الله هذا الحرج. وأباح الانفراد والاجتماع.

(فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ ...) وهو تعبير لطيف عن قوة الرابطة. فالسلام أمان من المسلم ومن الراد السّلام. وهي تحية من عند الله تفوح بالامن والمحبة. ورابطة بين الافراد.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

٤٥٧

البيان : والسياق ينص على لزوم الاداب التي لا يستقيم أمر الجماعة الا حين تنبع من مشاعر الامة المسلمة. وعواطفها واعماق ضميرها. والامر الجامع. هو الامر الهام الذي يقتضي اشتراك الجماعة فيه كالامور العامة من حرب ومشاريع يلزمها موافقة الامة بأجمعها.

ويلتفت الى ضرورة توقير الرسول ص وآله. عند الاستئذان. وفي كل الاحوال. فلا يدعى باسمه بل بالكنية ـ يا ابا القاسم ـ او يا نبي الله. أو يا رسول الله (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) فلا بد من امتلاء القلوب بالتوقير لرسول الله ص وآله. حتى تستشعر توقير كل كلمة منه وكل توجيه. وهي لفتة ضرورية. فلا بد للمربي من وقار. ولا بد للقائد من هيبة. خصوصا اذا كان من المتواضعين المتقين.

ثم يحذر المنافقين الذين يتسللون ويذهبون بدون اذن. يلوذ بعضهم ببعض. ويتوارى فعين الله عليهم. وان كانت عين الرسول لا تراهم. (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) وهو تعبير يصور حركة التخلي والتسلل بحذر من أهل المجلس. ويتمثل فيهم الجبن والخدع.

(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ. أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وانه لتحذير مرهوب. وتهديد مرعب. فليحذر الذين يخالفون عن أمره. ويتبعون نهجا غير نهجه. ويتسللون من الصف ابتغاء منفعة. او اتقاء مضرة. ليحذروا أن تصيبهم فتنة تضطرب فيها المقاييس.

٤٥٨

وتختل فيها الموازين. وينتكث فيها النظام. فيختلط الحق بالباطل. والطيب بالخبيث. وتفسد امور الجماعة وحياتها. فلا يأمن على نفسه احد. (أو يصيبهم عذاب شديد) في الدنيا وفي الاخرة. جزاء لمخالفتهم عن أمر الله. ولانحرافهم عن منهجه القويم. وصراطه المستقيم. (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا).

ـ ٢٥ ـ سورة الفرقان وهي (٧٧) سبع وسبعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥)

قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩))

(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠))

البيان : انه البدء الموحى بموضوع السورة الرئيسي. تنزيل القرآن من عند الله. وعموم الرسالة. الى البشر جميعا. ووحدانية الله المطلقة. وتنزيهه عن الولد والشريك. وملكيته للكون وما حواه. وتدبيره بحكمة وتقدير. وبعد ذلك كله ينحرف البشر عن الفطرة ويجعل

٤٥٩

بعضهم له ولدا وشريكا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وسماه الفرقان بما فيه من فارق بين الحق والباطل. والهدى والضلال. بل بما فيه من تفرقة بين نهج في الحياة ونهج في الممات. فالقرآن يرسم منهجا لا يختلط بأي منهج اخر مما عرفته البشرية قبله.

فهو فرقان بهذا المعنى الواسع الكبير. فرقان ينتهي به عهد الجاهلية والهمجية. ويبدأ به عهد الرشد والانسانية. ينتهي به عهد الرسالة الخالدة (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) .. (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) قدر حجمه وشكله. وقدر وظيفته وعمله. وقدر حركته ومكانه وتنسيقه مع غيره.

يقول (ا. كرسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان : (الانسان لا يقوم وحده) ومما يدعو الى الدهشة أن يكون تنظيم الطبيعة على هذا الشكل. بالغا هذه الدقة الفائقة. لانه لو كانت قشرة الارض أسمك مما هي بمقدار بضعة اقدام. لامتص ثاني أكسيد الكربون. الاوكسيجين. ولما امكن وجود حياة النبات.

(ولو كان الهواء أرفع كثيرا مما هو فان بعض الشهب التي تحترق الان بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الارضية. ولكانت العاقبة مروعة. اما الانسان فان اصطدامه بشهاب ضئيل تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة. كان يمزقه اربا من مجرد حرارة مروره.

(ان الهواء سميك بالقدر اللازم بالضبط ... ولو كان الاوكسيجين بنسبة ٥٠ في المئة مثلا بدلا (٢١) في المئة فان جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال.

ويقول في فصل ثالث : ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي

٤٦٠