روح المعاني - ج ١٥

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٥

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٤

بالسيف ويضرب عنقه. وعن الحسن أن المعنى لقطعنا يمينه ثم لقطعنا وتينه عبرة ونكالا والباء عليه زائدة وعن عباس أن اليمين بمعنى القوة والمراد أخذ بعنف وشدة وضعف بأن فيه ارتكاب مجاز من غير فائدة وأنه يفوت فيه التصوير والتفصيل والإجمال ويصير منه زائدا لا فائدة فيه. وقرأ ذكوان وابنه محمد «ولو يقول» مضارع قال وقرئ «ولو تقوّل» مبنيا للمفعول فنائب الفاعل (بَعْضَ) إن كان قد قرئ مرفوعا وإن كان قد قرئ منصوبا فهو (عَلَيْنا فَما مِنْكُمْ) أيها الناس (مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ) أي عن هذا الفعل وهو القتل (حاجِزِينَ) أي مانعين يعني فما يمنع أحد عن قتله واستظهر عود ضمير (عَنْهُ) لمن عاد عليه ضمير (تَقَوَّلَ) والمعنى فما يحول أحد بيننا وبينه والظاهر في (حاجِزِينَ) أن يكون خبرا لما على لغة الحجازيين لأنه هو محط الفائدة و (مِنْ) زائدة و (أَحَدٍ) اسمها و (مِنْكُمْ) قيل في موضع الحال منه لأنه لو تأخر لكان صفة له فلما تقدم أعرب حالا كما هو الشائع في نعت النكرة إذا تقدم عليها ونظر في ذلك وقيل للبيان أو متعلق بحاجزين كما تقول ما فيك زيد راغبا. ولا يمنع هذا الفصل من انتصاب خبر (ما) وقال الحوفي وغيره إن (حاجِزِينَ) نعت لأحد وجمع على المعنى لأنه في معنى الجماعة يقع في النفي العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ومنه (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] و (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) [الأحزاب : ٣٢] فأحد مبتدأ والخبر (مِنْكُمْ) وضعف هذا القول بأن النفي يتسلط على الخبر وهو كينونته منكم فلا يتسلط على الحجز مع أنه الحقيق بتسلطه عليه (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) لأنهم المنتفعون به (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) فنجازيهم على تكذيبهم وقيل الخطاب للمسلمين والمعنى أن منهم ناسا سيكفرون بالقرآن (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَحَسْرَةٌ) عظيمة (عَلَى الْكافِرِينَ) عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين وقال مقاتل وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم فأعادا الضمير للمصدر المفهوم من قوله تعالى (مُكَذِّبِينَ) والأول أظهر (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي لليقين حق اليقين والمعنى لعين اليقين فهو على نحو عين الشيء ونفسه والإضافة بمعنى اللام على ما صرح به في الكشف وجوز أن تكون الإضافة فيه على معنى من أي الحق الثابت من اليقين وقد تقدم في الواقعة ما ينفعك هنا فتذكره وذكر بعض الصوفية قدست أسرارهم أن أعلى مراتب العلم حق اليقين ودونه عين اليقين ودونه علم اليقين فالأول كعلم العاقل بالموت إذا ذاقه والثاني كعلمه به عند معاينة ملائكته عليهم‌السلام. والثالث كعلمه به في سائر أوقاته وتمام الكلام في ذلك يطلب من كتبهم (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فسبح الله تعالى بذكر اسمه العظيم تنزيها له عن الرضا بالتقول عليه وشكرا على ما أوحى إليك من هذا القرآن الجليل الشأن وقد مر نحو هذا في الواقعة أيضا فارجع إليه إن أردت والله تعالى الموفق.

٦١

سورة المعارج

وتسمى سورة المواقع وسورة سأل وهي مكية بالاتفاق على ما قال القرطبي وفي مجمع البيان عند الحسن إلا قوله تعالى (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) [المعارج : ٢٤] وآيها ثلاث وأربعون في الشامي واثنتان وأربعون في غيره وهي كالتتمة لسورة الحاقة في بقية وصف القيامة والنار وقد قال ابن عباس إنها نزلت عقيب سورة الحاقة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ(١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى)(١٨)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) أي دعا داع به فالسؤال بمعنى الدعاء ولذا عدي بالباء تعديته بها في قوله تعالى : (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) [الدخان : ٥٥] والمراد استدعاء العذاب وطلبه وليس من التضمين في شيء. وقيل الفعل مضمن معنى الاهتمام والاعتناء أو هو مجاز عن ذلك فلذا عدي بالباء. وقيل إن الباء زائدة وقيل إنها بمعنى عن كما في قوله تعالى (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) [الفرقان : ٥٩] والسائل هو النضر بن الحارث كما روى النسائي وجماعة وصححه الحاكم عن ابن عباس. وروي ذلك عن ابن جريج والسدي والجمهور حيث قال إنكارا واستهزاء (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] وقيل هو أبو جهل حيث قال (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [الشعراء : ١٨٧] وقيل هو الحارث بن النعمان الفهري وذلك أنه لما بلغه قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علي كرم الله تعالى وجهه : «من كنت مولاه فعلي مولاه» قال : اللهم إن كان ما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقا فأمطر علينا حجارة من السماء فما لبث حتى رماه الله تعالى بحجر فوقع على دماغه فخرج من أسفله فهلك من ساعته.

٦٢

وأنت تعلم أن ذلك القول منه عليه الصلاة والسلام في أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه كان في غدير خم وذلك في أواخر سني الهجرة فلا يكون ما نزل مكيا على المشهور في تفسيره. وقد سمعت ما قيل في مكية هذه السورة وقيل هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعجل عذابهم وقيل هو نوح عليه‌السلام سأل عذاب قومه. وقرأ نافع وابن عامر «سال» بألف كقال سايل بياء بعد الألف فقيل يجوز أن يكون قد أبدلت همزة الفعل ألفا وهو بدل على غير قياس وإنما قياس هذا بين بين ويجوز أن يكون على لغة من قال سلت أسال حكاها سيبويه وفي الكشاف هو من السؤال وهو لغة قريش يقولون سلت تسال وهما يتسايلان وأراد أنه من السؤال المهموز معنى لا اشتقاقا بدليل وهما يتسايلان وفيه دلالة على أنه أجوف يأتي وليس من تخفيف الهمزة في شيء. وقيل السؤال بالواو الصريحة مع ضم السين وكسرها وقوله يتسايلان صوابه يتساولان فتكون ألفه منقلبة عن واو كما في قال وخاف وهو الذي ذهب إليه أبو علي في الحجة وذكر فيها أن أبا عثمان حكى عن أبي زيد أنه سمع من العرب من يقول هما يتساولان ثم إن في دعوى كون سلت تسال لغة قريش ترددا والظاهر خلاف ذلك وأنشدوا لورود سال قول حسان يهجو هذيلا لما سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبيح لهم الزنا :

سالت هذيل رسول الله فاحشة

ضلت هذيل بما قالت ولم تصب

وقول آخر :

سالتاني الطلاق أن رأتاني

قل مالي قد جئتماني بنكر

وجوز أن يكون سال من السيلان وأيد بقراءة ابن عباس «سال سيل» فقد قال ابن جني السيل هاهنا الماء السائل وأصله المصدر من قولك سال الماء سيلا إلّا أنه أوقع على الفاعل كما في قوله تعالى (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) [الملك : ٣٠] أي غائرا وقد تسومح في التعبير عن ذلك بالوادي فقيل : المعنى اندفع واد بعذاب واقع والتعبير بالماضي قيل للدلالة على تحقيق وقوع العذاب إما في الدنيا وهو عذاب يوم بدر وقد قتل يومئذ النضر وأبو جهل. وإما في الآخرة وهو عذاب النار وعن زيد بن ثابت أن سائلا اسم واد في جهنم وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن ابن عباس ما يحتمله (لِلْكافِرينَ) صفة أخرى لعذاب أي كائن (لِلْكافِرينَ) أو صلة لواقع واللام للتعليل أو بمعنى على ويؤيده قراءة أبيّ «على الكافرين» وإن صح ما روي عن الحسن وقتادة أن أهل مكة لما خوفهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعذاب سألوا عنه على ما ينزل وبمن يقع فنزلت كان هذا ابتداء كلام جوابا للسائل أي هو للكافرين وقوله تعالى (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) صفة أخرى لعذاب أو حال منه لتخصيصه بالصفة أو بالعمل أو من الضمير في (لِلْكافِرينَ) على تقدير كونه صفة لعذاب على ما قيل أو استئناف أو جملة مؤكدة لهو (لِلْكافِرينَ) على ما سمعت آنفا فلا تغفل وقوله سبحانه (مِنَ اللهِ) متعلق بدافع و (مِنَ) ابتدائية أي ليس له دافع يرده من جهته عزوجل لتعلق إرادته سبحانه به وقيل متعلق بواقع فقيل إنما يصح على غير قول الحسن وقتادة وعليه يلزم الفصل بالأجنبي لأن (لِلْكافِرينَ) على ذلك جواب سؤال ثم إن التعلق ب (واقِعٍ) على ما عدا قولهما إن جعل للكافرين من صلته أيضا كان أظهر وإلا لزم الفصل بين المعمول وعامله بما ليس من تتمته لكن ليس أجنبيا من كل وجه (ذِي الْمَعارِجِ) هي لغة الدرجات والمراد بها على ما روي عن ابن عباس السماوات تعرج فيها الملائكة من سماء إلى سماء ولم يعينها بعضهم فقال أي ذي المصاعد التي تصعد فيها الملائكة بالأوامر والنواهي وقيل هي مقامات معنوية تكون فيها الأعمال والاذكار أو مراتب في السلوك كذلك يترقى فيها المؤمنون السالكون أو مراتب الملائكة عليهم‌السلام. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة

٦٣

تفسيرها بالفضائل والنعم وروى نحوه ابن المنذر وابن أبي عباس وقيل هي الغرف التي جعلها الله تعالى لأوليائه في الجنة والأنسب بما يقتضيه المقام من التهويل ما هو أدل على عزه عزوجل وعظم ملكوته تعالى شأنه (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) أي جبريل عليه‌السلام كما ذهب إليه الجمهور أفرد بالذكر لتميزه وفضله بناء على المشهور من أنه عليه‌السلام أفضل الملائكة. وقيل لمجرد التشريف وإن لم يكن عليه‌السلام أفضلهم بناء على ما قيل من أن إسرافيل عليه‌السلام أفضل منه. وقال مجاهد (الرُّوحُ) ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم لا تراهم الحفظة كما لا نرى نحن حفظتنا. وقيل خلق هم حفظة الملائكة مطلقا كما أن الملائكة حفظة الناس وقيل ملك عظيم الحلقة يقوم وحدة يوم القيامة صفا ويقوم الملائكة كلهم صفا وقال أبو صالح خلق كهيئة الناس وليسوا بالناس. وقال قبيصة بن ذؤيب : روح الميت حين تقبض ولعله أراد الميت المؤمن وقرأ عبد الله والكسائي وابن مقسم وزائدة عن الأعمش «يعرج» بالياء التحتية (إِلَيْهِ) قيل أي إلى عرشه تعالى وحيث يهبط منه أو أمره سبحانه وقيل هو من قبيل قول إبراهيم عليه‌السلام (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات : ٩٩] أي إلى حيث أمرني عزوجل به. وقيل المراد إلى محل بره وكرامته جل وعلا على أن الكلام على حذف مضاف وقيل إلى المكان المنتهى إليه الدال عليه السياق وفسر بمحل الملائكة عليهم‌السلام من السماء ومعظم السلف يعدون ذلك من المتشابه مع تنزيهه عزوجل عن المكان والجسمية واللوازم التي لا تليق بشأن الالوهية وقوله تعالى (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي من سنينكم الظاهر تعلقه بتعرج ، واليوم بمعنى الوقت والمراد به مقدار ما يقوم الناس فيه لرب العالمين إلى أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار من اليوم الآخر والذي لا نهاية له. ويشير إلى هذا ما أخرج الإمام أحمد وابن حبان وأبو يعلى وابن جرير والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم فقال عليه الصلاة والسلام : «والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة مكتوبة يصليها في الدنيا». واختلف في المراد بهذا التقدير على هذا الوجه فقيل الإشارة إلى استطالة ذلك اليوم لشدته لا أنه بهذا المقدار من العدد حقيقة وروي هذا عن ابن عباس والعرب تصف أوقات الشدة والحزن بالطول وأوقات الرخاء والفرح بالقصر ومن ذلك قول الشاعر :

من قصر الليل إذا زرتني

أشكو وتشكين من الطول

وقوله :

ليلي وليلى نفى نومي اختلافهما

بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا

يجود بالطول ليلي كلما بخلت

بالطول ليلى وإن جادت به بخلا

وقوله :

ويوم كظل الرمح قصر طوله

دم الزق عنا واصطفاق المزاهر

إلى ما لا يكاد يحصى وفي قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر السابق «إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة» إشارة إلى هذا وكذا ما روي عن عبد الله بن عمر من قوله : «يوضع للمؤمنين يومئذ كراسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام ويقصر عليهم ذلك اليوم ويهون حتى يكون كيوم من أيامكم هذه» ولينظر على هذا القول ما حكمة التنصيص على العدد المذكور وقيل هو على ظاهره وحقيقته وإن

٦٤

في ذلك اليوم خمسين موطنا كل موطن ألف سنة من سني الدنيا أي حقيقة. وقيل الخمسون على حقيقتها إلّا أن المعنى مقدار ما يقضي فيه من الحساب قدر ما يقضي بالعدل في خمسين ألف سنة من أيام الدنيا وهو مروي عن عكرمة. وأشار بعضهم إلى أن المقدار المذكور عليه مجاز عما يلزمه من كثرة ما يقع فيه من المحاسبات أو كناية فكأنه قيل في يوم يكثر فيه الحساب ويطول بحيث لو وقع من غير أسرع الحاسبين وفي الدنيا طال إلى خمسين ألف سنة وتخصيص عروج الملائكة والروح بذلك اليوم مع أن عروجهم متحقق في غيره أيضا للإشارة إلى عظم هوله وانقطاع الخلق فيه إلى الله عزوجل وانتظارهم أمره سبحانه فيهم أو للإشارة إلى عظم الهول على وجه آخر وأيّا ما كان فالجملة استئناف مؤكد لما سيق له الكلام. وقيل هو متعلق بواقع وقيل بدافع وقيل بسال إذا جعل من السيلان لا به من السؤال لأنه لم يقع فيه. والمراد باليوم على هذه الأقوال ما أريد به فيما سبق و (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) إليه مستطرد عند وصفه عزوجل بذي المعارج وقيل هو متعلق بتعرج كما هو الظاهر إلا أن العروج في الدنيا والمعنى تعرج الملائكة والروح إلى عرشه تعالى ويقطعون في يوم من أيامكم ما يقطعه الإنسان في خمسين ألف سنة لو فرض سيره فيه. وروي عن ابن إسحاق ومنذر بن سعيد ومجاهد وجماعة وهو رواية عن ابن عباس أيضا واختلف في تحديد المسافة فقيل هي من وجه الأرض إلى منتهى العرش. وقيل من قعر الأرض السابعة السفلى إلى العرش وفصل بأن ثخن كل أرض خمسمائة عام وبين كل أرضين خمسمائة عام وبين الأرض العليا والسماء الدنيا خمسمائة عام وثخن كل سماء كذلك وما بين كل سماءين كذلك وما بين السماء العليا ومقعر الكرسي كذلك ، ومجموع ذلك أربعة عشر ألف عام ومن مقعر الكرسي إلى العرش مسيرة ست وثلاثين ألف عام فالمجموع خمسون ألف سنة. وفي خبر أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه ولعله لا يصح وإن لم تبعد هذه السرعة من الملائكة عليهم‌السلام عند من وقف على سرعة حركة الأضواء وعلم أن الله عزوجل على كل شيء قدير. ومن الناس من اعتبر هذه المدة من الأرض إلى العرش عروجا وهبوطا واعتبرها كذلك من الأرض إلى مقعر السماء الدنيا في قوله سبحانه (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) [السجدة : ٥] ومن يعتبر أحد الأمرين يعتبر هنا محدب السماء الدنيا والأرض وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للمتصوفة في ذلك. وقيل الكلام بيان لغاية ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها على سبيل التمثيل والتخييل. والمراد أنها في غاية البعد والارتفاع المعنوي على بعض الأوجه في المعارج أو الحسي كما في بعض آخر. وليس المراد التحديد وعن عكرمة أن تلك المدة هي مدة الدنيا منذ خلقت إلى أن تقوم الساعة إلى أنه لا يدري أحد ما مضى منها وما بقي أي تعرج الملائكة إليه في مدة الدنيا وبقاء هذه البنية وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. والظاهر أنه أراد بالدنيا ما يقابل الأخرى ويشمل العرش ونحوه ويرد عليه أن ما ورد عن علي كرم الله تعالى وجهه جوابا لمن سأله متى خلق الله تعالى العرش يكذبه فإنه يدل على أن ما مضى من أول زمن خلقه إلى اليوم يزيد على خمسين ألف سنة بألوف ألوف سنين لا يحصيها إلا الله عزوجل ولعله أولى بالقبول مما قاله عكرمة. والحق أنه لا يعلم مبدأ الخلق ولا مدة بقاء هذه البنية إلا الله عزوجل بيد أنّا نعلم بتوفيق الله تعالى أن هذا العالم حادث حدوثا زمانيا وأنه ستبدل الأرض غير الأرض والسماوات وتبرز الخلائق لله تعالى الواحد القهار (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) متفرع على قوله تعالى (سَأَلَ سائِلٌ) ومتعلق به تعلقا معنويا لأن السؤال كان عن استهزاء وتعنت وتكذيب بناء على أن السائل النضر وأضرابه وذلك مما يضجره عليه الصلاة والسلام ، أو كان عن تضجر واستبطاء للنصر بناء على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو السائل فكأنه قيل : فاصبر ولا تستعجل فإن الموعود كائن لا محالة. والمعنى على هذا أيضا

٦٥

على قراءة من قرأ «سال سائل» من السيلان كقراءة «سال سيل» ولا يظهر تفرعه على سأل من السؤال إن كان السائل نوحا عليه‌السلام والصبر الجميل على ما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس ما لا شكوى فيه إلى أحد غير الله تعالى. وأخرج عن عبد الأعلى بن الحجاج أنه ما يكون معه صاحب المصيبة في القوم بحيث لا يدري من هو (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ) أي العذاب الواقع أو اليوم المذكور في قوله تعالى (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ) إلخ بناء على أن المراد به يوم الحساب متعلقا بتعرج على ما سمعت أولا أو بدافع أو بواقع أو بسال من السيلان أو يوم القيامة المدلول عليه بواقع على وجه فما يدل عليه كلام الكشاف من تخصيص عود الضمير إلى يوم القيامة بما إذا كان (فِي يَوْمٍ) متعلقا بواقع فيه بحث ومعنى (يَرَوْنَهُ) يعتقدونه (بَعِيداً) أي من الإمكان والمراد أنهم يعتقدون أنه محال أو من الوقوع والمراد أنهم يعتقدون أنه لا يقع أصلا وإن كان ممكنا ذاتا وكلام كفار أهل مكة بالنسبة إلى يوم القيامة والحساب محتمل للأمرين بل ربما تسمعهم يتكلمون بما يكاد يشعر بوقوعه حيث يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم فهم متلونون في أمره تلون الحرباء والعذاب إن أريد به عذاب يوم القيامة فهو كيوم القيامة عندهم أو أنه لا يقع بالنسبة إليهم مطلقا لزعمهم دفع آلهتهم إياه عنهم وإن أريد به عذاب الدنيا فالظاهر أنهم لا ينفون إمكانه وإنما ينفون وقوعه ولا تكاد تتم دعوى أنهم ينفون إمكانه الذاتي (وَنَراهُ قَرِيباً) أي من الإمكان والتعبير به للمشاكلة كما قيل بها في (نَراهُ) إذ هو ممكن ولا معنى لوصف الممكن بالقرب من الإمكان لدخوله في حيزه والمراد وصفه بالإمكان أي ونراه ممكنا وهذا على التقدير الأول في (يَرَوْنَهُ بَعِيداً) أو (نَراهُ قَرِيباً) من الوقوع وهذا على التقدير الثاني فيه وقد يقال كذلك على الأول أيضا على معنى أنهم (يَرَوْنَهُ بَعِيداً) من الإمكان ونحن نراه قريبا من الوقوع فضلا عن الإمكان ولعله أولى من تقدير الإمكان في الجملتين وجملة (إِنَّهُمْ) إلخ تعليل للأمر بالصبر وقيل إن كان المستعجل هو النضر وأضرابه فهي مستأنفة بيانا لشبهة استهزائهم وجوابا عنه وإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهي تعليل لما ضمن الأمر بالصبر من ترك الاستعجال بأن رؤيتنا ذلك قريبا توجب الوثوق وترك الاستعجال وقوله سبحانه (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) قيل متعلق بقريبا أو بمضمر يدل عليه (واقِعٍ) وهو يقع أو بدل عن (فِي يَوْمٍ) إن علل به دون (تَعْرُجُ) والنصب باعتبار أن محل الجار والمجرور ذلك إذ ليس بدلا عن المجرور وحده فاشتراط أبي حيان لمراعاة المحل كون الجار زائدا أو شبهه كرب غير صحيح ولا يحتاج تصحيح البدلية إلى التزام كون حركة يوم بنائية بناء على مذهب الكوفيين المجوزين لذلك وإن أضيف لمعرب وذكر أنه على هذه التقادير الثلاث المراد بالعذاب عذاب القيامة وأما إذا أريد عذاب الدنيا فيتعين أن يكون التقدير يوم تكون السماء يكون كيت وكيت وكأنهم لما استعجلوا العذاب أجيبوا بأزف الوقوع ثم قيل ليهن ذلك في جنب ما أعد لكم (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) فحينئذ يكون العذاب الذي هو العذاب ثم لا يخفى أن البداية ممكنة على تقدير تعلق (فِي يَوْمٍ) بتعرج أيضا بناء على أن المراد به يوم القيامة أيضا كما قدمنا وأن الأولى عند تعلقه بقريبا أن لا يراد من القرب من الإمكان الإمكان الذاتي لما في تقييده باليوم نوع إيهام. وأن ضميري (يَرَوْنَهُ) و (نَراهُ) إذا كانا ليوم القيامة يلزم وقوع الزمان في الزمان في قولنا يقع يوم القيامة يوم تكون كالمهل ويجاب بما لا يخفى. وجوز في البحر كونه بدلا من ضمير (نَراهُ) إذا كان عائدا على يوم القيامة وفي الإرشاد كونه متعلقا بليس له دافع وبعضهم كونه مفعولا به لا ذكر محذوفا وتعلقه بنراه كما قاله مكي لا نراه وكذا تعلقه بيبصرونهم كما حكاه ومثله ما عسى أن يقال متعلقه بيود الآتي بعد فتأمل والمهل أخرج أحمد والضياء في المختارة وغيرهما عن ابن عباس أنه دردي الزيت وهو ما يكون في قعره. وقال غير واحد : المهل ما أذيب على

٦٦

مهل من الفلزات والمراد يوم تكون السماء واهية وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية أن السماء الآن خضراء وأنها تحول يوم القيامة لونا آخر إلى الحمرة (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) كالصوف دون تقييد أو الأحمر أو المصبوغ ألوانا أقوال واختار جمع الأخير وذلك لاختلاف ألوان الجبال فمنها جدد بيض وحمر وغرابيب سود فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن أي المنفوش كما في القارعة إذا طيرته الريح وعن الحسن تسير الجبال مع الرياح ثم ينهد ثم تصير كالعهن ثم تنسف فتصير هباء (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) أي لا يسأل قريب مشفق قريبا مشفقا عن حاله ولا يكلمه لابتلاء كل منهم بما يشغله عن ذلك أخرجه ابن المنذر وعبد بن حميد عن قتادة وفي رواية أخرى عنه لا يسأله عن حاله لأنها ظاهرة وقيل لا يسأله أن يحمل عنه أوزاره شيئا ليأسه عن ذلك وقيل لا يسأله شفاعة وفي البحر لا يسأله نصره ولا منفعته لعلمه أنه لا يجد ذلك عنده. ولعل الأول أبلغ في التهويل وأيّا ما كان فمفعول (يَسْئَلُ) الثاني محذوف وقيل (حَمِيماً) منصوب بنزع الخافض أي لا يسأل حميم عن حميم وقرأ أبو حيوة وشيبة وأبو جعفر والبزي بخلاف عن ثلاثتهم «ولا يسأل» مبنيا للمفعول أي لا يطلب من حميم حميم ولا يكلف إحضاره أو لا يسأل منه حاله وقيل لا يسأل ذنوب حميمه ليؤخذ بها (يُبَصَّرُونَهُمْ) أي يبصر الأحماء الأحماء فلا يخفون عليهم وما يمنعهم من التساؤل إلا اشتغالهم بحال أنفسهم وقيل ما يغني عنه من مشاهدة الحال كبياض الوجه وسواده ولا يخفى حاله ويبصرونهم قيل من بصرته بالشيء إذا أوضحته له حتى يبصره ثم ضمن معنى التعريف أو حذف الصلة إيصالا وجمع الضميرين لعموم الحميم والجملة استئناف كأنه لما قيل (لا يَسْئَلُ) إلخ قيل لعله لا يبصره فقيل (يُبَصَّرُونَهُمْ) وجوز أن تكون صفة أي (حَمِيماً) مبصرين معرفين إياهم وأن تكون حالا إما من الفاعل أو من المفعول أو من كليهما ولا يضر التنكير لمكان العموم وهو مسوغ للحالية ورجحت على الوصفية بأن التقييد بالوصف في مقام الإطلاق والتعميم غير مناسب وليس فيها ذلك فلا تغفل. وقرأ قتادة «يبصرونهم» مخففا مع كسر الصاد أي يشاهدونهم (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) أي يتمنى الكافر وقيل كل مذنب وقوله تعالى (لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) أي العذاب الذي ابتلي به يومئذ (بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ) حكاية لودادتهم و (لَوْ) في معنى التمني وقيل هي بمنزلة أن الناصبة فلا يكون لها جواب ، وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا ليود والتقدير (يَوَدُّ) افتداءه ببنيه إلخ والجملة استئناف لبيان أن اشتغال كل مجرم بنفسه بلغ إلى حيث يتمنى أن يفتدى بأقرب الناس إليه وأعلقهم بقلبه فضلا أن يهتم بحاله ويسأل عنها وجوز أن تكون حالا من ضمير الفاعل على فرض أن يكون هو السائل فإن فرض أن السائل المفعول فهي حال من ضميره وقيل الظاهر جعلها حالا من ضمير الفاعل لأنه المتمني وأيّا ما كان فالمراد (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) منهم وقرأ نافع والكسائي كما في أنوار التنزيل والأعرج «يومئذ» بالفتح على البناء للإضافة إلى غير متمكن وقرأ أبو حيوة كذلك وبتنوين «عذاب» فيومئذ حينئذ منصوب بعذاب لأنه في معنى تعذيب (وَفَصِيلَتِهِ) أي عشيرته الأقربين الذين فصل عنهم كما ذكره غير واحد ولعله أولى من قول الراغب عشيرته المنفصلة عنه وقال ثعلب (فَصِيلَتِهِ) آباؤه الأدنون وفسر أبو عبيدة الفصيلة بالفخذ (الَّتِي تُؤْوِيهِ) أي تضمنه انتماء إليها لياذا بها في النوائب (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من الثقلين الإنس والجن أو الخلائق الشاملة لهم ولغيرهم ومن للتغليب (ثُمَّ يُنْجِيهِ) عطف على (يَفْتَدِي) والضمير المرفوع للمصدر الذي في ضمن الفعل أي يود لو يفتدي ثم لو ينجيه الافتداء ، وجوز أبو حيان عود الضمير إلى المذكور والزمخشري عوده إلى (مَنْ فِي الْأَرْضِ) وثم الاستبعاد الإنجاء يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك وهيهات وقرأ الزهري «تؤويه» و «ينجيه»

٦٧

بضم الهاءين (كَلَّا) ردع للمجرم عن الودادة وتصريح بامتناع الإنجاء وضمير (إِنَّها) للنار المدلول عليها بذكر العذاب وقوله تعالى (لَظى) خبر إن وهي علم لجهنم أو للدركة الثانية من دركاتها منقول من اللظى بمعنى اللهب الخالص ومنع الصرف للعلمية والتأنيث وجوز أن يراد اللهب على المبالغة كأن كلها لهب خالص وحذف التنوين إما لإجراء الوصل مجرى الوقف أو لأنه علم جنس معدول عما فيه اللام كسحر إذا أردت سحرا بعينه وقوله تعالى (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) أي الأطراف كاليد والرجل كما أخرجه ابن المنذر وابن حميد عن مجاهد وأبي صالح وقاله الراغب وغيره وقيل الأعضاء التي ليست بمقتل ولذا يقال رمى فأشوى إذا لم يقتل أو جمع شواة وهي جلدة الرأس وأنشدوا قول الأعشى :

قالت قتيلة ما له

قد جللت شيبا شواته

وروي هذا عن ابن عباس وقتادة وقرة بن خالد وابن جبير وأخرجه ابن أبي شيبة عن مجاهد وأخرج هو عن أبي صالح والسدي تفسيرها بلحم الساقين وعن ابن جبير العصب والعقب وعن أبي العالية محاسن الوجه وفسر نزعها لذلك بأكلها له فتأكله ثم يعود وهكذا نصب بتقدير أعني أو أخص وهو مراد من قال نصب على الاختصاص للتهويل وجوز أن يكون حالا والعامل فيها (لَظى) وإن كان علما لما فيه من معنى التلظي كما عمل العلم في الظرف في قوله :

أنا أبو المنهال بعض الأحيان

أي المشهور بعض الأحيان قاله أبو حيان وإليه يشير كلام الكشف وقال الخفاجي (لَظى) بمعنى متلظية والحال من الضمير المستتر فيها لا منها بالمعنى السابق لأنها نكرة أو خبر. وفي مجيء الحال من مثله ما فيه وقيل هو حال مؤكدة كما في قوله :

أنا ابن دارة معروفا بها نسبي

وهل بدارة يا للناس من عار

والعامل أحقه أو الخبر لتأويله بمسمى أو المبتدأ لتضمنه معنى التنبيه أو معنى الجملة وارتضاء الرضى وقيل حال من ضمير تدعو قدم عليه وجوز الزمخشري أن يكون ضمير إنها مبهما ترجم عنه الخبر أعني (لَظى) وبحث فيه بما رده المحققون وقرأ الأكثرون «نزّاعة» بالرفع على أنه خبر ثان لأن أو صفة للظى وهو ظاهر على اعتبار كونها نكرة وكذا على كونها علم جلس لأنه كالمعرف بلام الجنس في إجرائه مجرى النكرة أو هو الخبر و (لَظى) بدل من الضمير وإن اعتبرت نكرة بناء على أن إبدال النكرة غير منعوتة من المعرفة قد أجازه أبو علي وغيره من النحاة إذا تضمن فائدة كما هنا. وجوز على هذه القراءة أن يكون ضمير (إِنَّها) للقصة و (لَظى) مبتدأ بناء على أنه معرفة و (نَزَّاعَةً) خبره وقوله تعالى (تَدْعُوا) خبر مبتدأ مقدر أو حال متداخلة أو مترادفة أو مفردة أو خبر بعد خبر على قراءة الرفع فلا تغفل والدعاء على حقيقته وذلك كما روي عن ابن عباس وغيره يخلق الله تعالى فيها القدرة على الكلام كما يخلقه في جلودهم وأيديهم وأرجلهم فتناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وروي أنها تقول لهم إليّ إليّ يا كافر يا منافق. وجوز أن يراد به الجذب والإحضار كما في قول ذي الرمة يصف الثور الوحشي :

أمسى بوهبين مجتازا لمرتعه

من ذي الفوارس تدعو أنفه الربب

ونحوه قوله أيضا :

ليالي اللهو يطبيني فأتبعه

كأنني ضارب في غمرة لعب

٦٨

ولا يبعد أن يقال شبه لياقتها لهم أو استحقاقهم لها على ما قيل بدعائها لهم فعبر عن ذلك بالدعاء على سبيل الاستعارة. وقال ثعلب تدعو تهلك من قول العرب دعاك الله تعالى أي أهلكك وحكاه الخليل عنهم. وفي الأساس دعاه الله تعالى بما يكره أنزله به وأصابتهم دواعي الدهر صروفه ومن ذلك قوله :

دعاك الله من رجل بأفعى

إذا نام العيون سرت عليكا

واستظهر أنه معنى حقيقي للدعاء لكنه غير مشهور وفيه تردد وجوز أن يكون الدعاء لزبانيتها وأسند إليها مجازا أو الكلام على تقدير مضاف أي تدعو زبانيتها (مَنْ أَدْبَرَ) في الدنيا عن الحق (وَتَوَلَّى) أعرض عن الطاعة (وَجَمَعَ فَأَوْعى) أي جمع المال فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤد حقوقه وتشاغل به عن الدين زها باقتنائه حرصا وتأميلا وهذا إشارة إلى كفار أغنياء وما أخوف عبد الله بن عكيم فقد أخرج ابن سعيد عن الحكم أنه قال كان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله تعالى يقول (وَجَمَعَ فَأَوْعى).

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥) فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) الهلع سرعة الجزع عند مس المكروه وسرعة المنع عند مس الخير من قولهم ناقة هلوع سريعة السير وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وغيرهما عن عكرمة قال سئل ابن عباس عن الهلوع فقال هو كما قال الله تعالى (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) إلخ وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه سئل عن ذلك أيضا فقرأ الآية وحكي نحوه عن ثعلب قال قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر : ما الهلع؟ فقلت : قد فسره الله تعالى ولا يكون تفسير أبين من تفسيره سبحانه يعني قوله تعالى (إِذا مَسَّهُ) الآية ونظير ذلك قوله :

الألمعي الذي يظن بك الظن

كأن قد رأى وقد سمعا

والجملة المؤكدة في موضع التعليل لما قبلها و (الْإِنْسانَ) الجنس أو الكافر قولان أيد ثانيهما بما روى الطستي عن ابن عباس أن الآية في أبي جهل بن هشام ولا يأبى ذاك إرادة الجنس والشر الفقر والمرض ونحوهما وأل للجنس أي إذا مسه جنس الشر (جَزُوعاً) أي مبالغا في الجزع مكثرا منه. والجزع قال الراغب أبلغ من الحزن فإن الحزن عام والجزع حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه. وأصله قطع الحبل من نصفه يقال : جزعه فانجزع ولتصور الانقطاع فيه قيل جزع الوادي لمنقطعه والانقطاع اللون بتغيره قيل للخرز المتلون جزع وعنه استعير قولهم لحم مجزع إذ كان ذا لونين وقيل للبسرة إذا بلغ الإرطاب نصفها

٦٩

مجزعة (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ) المال والغنى أو الصحة (مَنُوعاً) مبالغا في المنع والإمساك و (إِذا) الأولى ظرف لجزوعا والثانية ظرف لمنوعا والوصفان على ما اختاره بعض الأجلة صفتان كاشفتان لهلوعا الواقع حالا كما هو الأنسب بما سمعت عن ابن عباس وغيره. وقال غير واحد الأوصاف الثلاثة أحوال فقيل مقدرة إن أريد اتصاف الإنسان بذلك بالفعل فإنه في حال الخلق لم يكن كذلك وإنما حصل له ذلك بعد تمام عقله ودخوله تحت التكليف ، ومحققة إن أريد اتصافه بمبدإ هذه الأمور من الأمور الجبلية والطبائع الكلية المندرجة فيها تلك الصفات بالقوة ولا مانع عند أهل الحق من خلقه تعالى الإنسان وطبعه سبحانه إياه على ذلك وفي زوالها بعد خلاف فقيل إنها تزول بالمعالجة ولولاه لم يكن للمنع منها والنهي عنها فائدة وهي ليست من لوازم الماهية فالله تعالى كما خلقها يزيلها وقيل : إنها لا تزول وإنما تستر ويمنع المرء عن آثارها الظاهرة كما قيل :

والطبع في الإنسان لا يتغير

وهذا الخلاف جار في جميع الأمور الطبيعية وقال بعضهم : الأمور التابعة منها لأصل المزاج لا تتغير والتابعة لعرضه قد تتغير. وذهب الزمخشري إلى أن في الكلام استعارة فقال : المعنى أن الإنسان لإيثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه ورسوخهما فيه كأنه مجبول عليهما مطبوع وكأنه أمر خلقي وضروري غير اختياري كقوله تعالى (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء : ٣٧] لأنه في البطن والمهد لم يكن به هلع ولأنه ذم والله تعالى لا يذم فعله سبحانه والدليل عليه استثناء المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم وحملوها على المكاره وطلقوها من الشهوات حتى لم يكونوا جازعين ولا مانعين. وتعقب بأنه في المهد أهلع وأهلع فيسرع إلى الثدي ويحرص على الرضاع وإن مسه ألم جزع وبكى وإن تمسك بشيء فزوحم عليه منع بما في قدرته من اضطراب وبكاء وفي البطن لا يعلم حاله وأيضا الاسم يقع عليه بعد الوضع فما بعده هو المعتبر وإن الذم من حيث القيام بالعبد كما حقق في موضعه وإن الاستثناء إما منقطع لأنه لما وصف سبحانه من أدبر وتولى معللا بهلعه وجزعه قال تعالى لكن المصلين في مقابلتهم (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ) [المعارج : ٣٥] ثم كر على السابق وقال (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [المعارج : ٣٦] بالفاء تخصيصا بعد تعميم ورجعا إلى بدء لأنهم من المستهزئين الذين افتتح السورة بذكر سؤالهم أو متصل على أنهم لم يستمر خلقهم على الهلع فإن الأول لما كان تعليلا كان معناه خلقا مستمرا على الهلع والجزع (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) فإنهم لم يستمر خلقهم على ذلك فلا يرد أن الهلع الذي في المهد لو كان مرادا لما صح استثناء المصلين لأنهم كغيرهم في حال الطفولية انتهى وهذا الاستثناء هو ما تضمنه قوله تعالى (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) إلخ وقد وصفهم سبحانه بما ينبئ عن كمال تنزههم عن الهلع من الاستغراق في طاعة الحق عزوجل والإشفاق على الخلق والإيمان بالجزاء والخوف من العقوبة وكسر الشهوة وإيثار الآجل على العاجل فقال عزّ من قائل (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أي مواظبون على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل وفيه إشارة إلى فضل المداومة على العبادة وقد أخرج ابن حبان عن أبي سلمة قال حدثتني عائشة قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا» قالت فكان أحب الأعمال إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما دام عليه وإن قل ، وكان إذا صلى صلاة دام عليها وقرأ أبو سلمة (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) وأخرج أحمد في مسنده عنها أنها قالت : كان عمله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ديمة قال جار الله أي ما فعل من أفعال الخير إلّا وقد اعتاد ذلك ويفعله كلما جاء وقته ووجه بأن الفعلة للحال التي يستمر عليها الشخص ثم في جعله نفس الحالة ما لا يخفى من المبالغة والدلالة على أنه

٧٠

كان ملكة له عليه الصلاة والسلام وقيل (دائِمُونَ) أي لا يلتفتون فيها ومنه الماء الدائم وروي ذلك عن عمران بن حصين وكذا عن عقبة بن عامر أخرج ابن المنذر عن أبي الخير أن عقبة قال لهم : من الذين هم على صلاتهم دائمون؟ قال : قلنا الذين لا يزالون يصلون ، فقال : لا ولكن الذين إذا صلوا لم يلتفتوا عن يمين ولا شمال وإليه ذهب الزجاج فتشعر الآية بذم الالتفات في الصلاة وقد نطقت الأخبار بذلك واستدل بعضهم بها على أنه كبيرة وتحقيقه في الزواجر. وعن ابن مسعود ومسروق أن دوامها أداؤها في مواقيتها وهو كما ترى ولعل ترك الالتفات والأداء في الوقت يتضمنه ما يأتي من المحافظة إن شاء الله تعالى والمراد بالصلاة على ما أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي الصلاة المكتوبة وعن الإمام أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن المراد بها النافلة وقيل ما أمروا به مطلقا منها وقرأ الحسن «صلواتهم» بالجمع (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) أي نصيب معين يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله تعالى وإشفاقا على الناس وهو على ما روي عن الإمام أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما يوظفه الرجل على نفسه يؤديه في كل جمعة أو كل شهر مثلا وقيل هو الزكاة لأنها مقدرة معلومة وتعقب بأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت وعيّن مقدارها في المدينة وقبل ذلك كانت مفروضة من غير تعيين (لِلسَّائِلِ) الذي يسأل (وَالْمَحْرُومِ) الذي لا يسأل فيظن أنه غني فيحرم واستعماله في ذلك على سبيل الكناية ولا يصح أن تراد به من يحرمونه بأنفسهم للزوم التناقض كما لا يخفى (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) المراد التصديق به بالأعمال حيث يتعبون أنفسهم في الطاعات البدنية طمعا في المثوبة الأخروية لأن التصديق القلبي عام لجميع المسلمين لا امتياز فيه لأحد منهم وفي التعبير بالمضارع دلالة على أن التصديق والأعمال تتجدد منهم آنا فآنا (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) خائفون على أنفسهم مع ما لهم من الأعمال الفاضلة استقصارا لها واستعظاما لجنابه عزوجل كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) [المؤمنون : ٦٠] وقوله سبحانه (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) اعتراض مؤذن بأنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذابه عزوجل وإن بالغ في الطاعة كهؤلاء ولذا كان السلف الصالح وهم هم خائفين وجلين حتى قال بعضهم يا ليتني كنت شجرة تعضد وآخر ليت أمي لم تلدني إلى غير ذلك (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) سبق تفسيره في سورة المؤمنين على وجه مستوفى فتذكره (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) لا يخلّون بشيء من حقوقها وكأنه لكثرة الأمانة جمعت ولم يجمع العهد قبل إيذانا بأنه ليس كالأمانة كثرة وقيل لأنه مصدر ويدل على كثرة الأمانة ما روى الكلبي : كل أحد مؤتمن على ما افترض عليه من العقائد والأقوال والأحوال والأفعال ومن الحقوق في الأموال وحقوق الأهل والعيال وسائر الأقارب والمملوكين والجار وسائر المسلمين. وقال السدي إن حقوق الشرع كلها أمانات قد قبلها المؤمن وضمن أداءها بقبول الإيمان وقيل كل ما أعطاه الله تعالى للعبد من الأعضاء وغيرها أمانة عنده فمن استعمل ذلك في غير ما أعطاه لأجله وأذن سبحانه له به فقد خان الأمانة والخيانة فيها وكذا الغدر بالعهد من الكبائر على ما نص غير واحد. وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر مرفوعا : «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر». وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال : ما خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا قال : «لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له». وقرأ ابن كثير «لأمانتهم» بالإفراد على إرادة الجنس (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) مقيمون لها بالعدل غير منكرين لها أو لشيء منها ولا مخفين إحياء لحقوق الناس فيما

٧١

يتعلق بها وتعظيما لأمر الله عزوجل فيما يتعلق بحقوقه سبحانه ، وخص بعضهم الشهادة بما يتعلق بحقوق العباد وذكر أنها مندرجة في الأمانات إلّا أنها خصت بالذكر لإبانة فضلها وجمعها لاختلاف الأنواع ولو لم يعتبر ذلك أفرد على ما قيل لأنها مصدر شامل للقليل والكثير. وقرأ الجمهور بالإفراد على ما سمعت آنفا (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي يراعون شرائطها ويكملون فرائضها وسننها ومستحباتها باستعارة الحفظ من الضياع للإتمام والتكميل وهذا غير الدوام فإنه يرجع إلى أنفس الصلوات وهذا يرجع إلى أحوالها فلا يتكرر مع ما سبق من قوله تعالى (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) وكأنه لما كان ما يراعى في إتمام الصلاة وتكميلها مما يتفاوت بحسب الأوقات جيء بالمضارع الدال على التجدد كذا قيل. وقيل إن الإتيان به مع تقديم هم لمزيد الاعتناء بهذا الحكم لما أن أمر التقوى في مثل ذلك أقوى منه في مثل هم محافظون واعتبر هذا هنا دون ما في الصدر لأن المراعاة المذكورة كثيرا ما يفعل عنها. وفي افتتاح الأوصاف بما يتعلق بالصلاة واختتامها به دلالة على شرفها وعلو قدرها لأنها معراج المؤمنين ومناجاة رب العالمين ولذا جعلت قرة عين سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وتكرير الموصولات لتنزيل اختلاف الصفات منزلة اختلاف الذوات إيذانا بأن كان واحد من الأوصاف المذكورة نعت جليل على حياله له شأن خطير مستتبع لأحكام جمة حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل ولا يجعل شيء منها تتمة للآخر (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصوفين بما ذكر من الصفات وما فيه من معنى البعد لبعد المشار إليهم إما في الفضل أو في الذكر باعتبار مبدأ الأوصاف المذكورة وهو مبتدأ خبره (فِي جَنَّاتٍ) أي مستقرون في جنات لا يقادر قدرها ولا يدرك كنهها وقوله تعالى (مُكْرَمُونَ) خبر آخر أو هو الخبر و (فِي جَنَّاتٍ) متعلق به قدم عليه للاهتمام مع مراعاة الفواصل أو بمضمر هو حال من الضمير في الخبر أي مكرمون كائنين في جنات (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ) أي في الجهة التي تليك (مُهْطِعِينَ) مسرعين نحوك مادّي أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك ليظفروا بما يجعلونه هزؤا (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) جماعات في تفرقة كما قال أبو عبيدة وأنشدوا قول عبيد بن الأبرص :

فجاءوا يهرعون إليه حتى

يكونوا حول منبره عزينا

وخص بعضهم كل جماعة بنحو ثلاثة أشخاص أو أربعة جمع عزة وأصلها عزوة من العزو لأن كل فرقة تعتزي وتنتسب إلى غير من تعتزي إليه الأخرى فلامها واو وقيل لامها هاء والأصل عزهة وجمعت بالواو والنون كما جمعت سنة وأخواتها وتكسر العين في الجمع وتضم. وقالوا : عزى على فعل ولم يقولوا عزات ونصب عزين على أنه حال من (الَّذِينَ كَفَرُوا) أو من الضمير في (مُهْطِعِينَ) على التداخل و (عَنِ الْيَمِينِ) إما متعلق به لأنه بمعنى متفرقين أو بمهطعين أي مسرعين عن الجهتين أو هو حال أي كائنين عن اليمين روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي عند الكعبة ويقرأ القرآن فكان المشركين يجتمعون حوله حلقا حلقا وفرقا يستمعون ويستهزءون بكلامه عليه الصلاة والسلام ويقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلندخلها قبلهم فنزلت وفي بعض الآثار ما يشعر بأن الأولى أن لا يجلس المؤمنون عزين لأنه من عادة الجاهلية (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) أي بلا إيمان وهو إنكار لقولهم إن دخل هؤلاء الجنة إلخ وقرأ ابن يعمر والحسن وأبو رجاء وزيد بن علي وطلحة والمفضل عن عاصم «يدخل» بالبناء للفاعل (كَلَّا) ردع لهم عن ذلك الطمع الفارغ (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) قيل هو تعليل للردع والمعنى إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو تكميل النفس بالإيمان والطاعة فمن لم يستكملها بذلك فهو بمعزل من أن يتبوأ متبوأ الكاملين فمن أين لهم أن يطمعوا في دخول الجنة وهم مكبون على الكفر والفسوق وإنكار البعث وكون ذلك

٧٢

معلوما لهم باعتبار سماعهم إياه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل من ابتدائية والمعنى أنهم مخلوقون من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس فمتى لم تستكمل بالإيمان والطاعة ولم تتخلق بأخلاق الملائكة عليهم‌السلام لم تستعد لدخولها وكلا القولين كما ترى وقال مفتي الديار الرومية إن الأقرب كونه كلاما مستأنفا قد سيق تمهيدا لما بعده من بيان قدرته عزوجل على أن يهلكهم لكفرهم بالبعث والجزاء واستهزائهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما نزل عليه عليه الصلاة والسلام من الوحي وادعائهم دخول الجنة بطريق السخرية وينشئ بدلهم قوما آخرين فإن قدرته سبحانه على ما يعلمون من النشأة الأولى حجة بينة على قدرته عزوجل على ذلك كما يفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) أي إذا كان الأمر كما ذكرنا من أن خلقهم مما يعلمون وهو النطفة القذرة فلا أقسم برب المشارق والمغارب (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) أي نهلكهم بالمرة حسبما تقتضيه جناياتهم ونأتي بدلهم بخلق آخرين ليسوا على صفتهم (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي بمغلوبين إن أردنا ذلك لكن مشيئتنا المبينة على الحكم البالغة اقتضت تأخير عقوباتهم وفيه نوع بعد ولعل الأقرب كونه في معنى التعليل لكن على وجه قرر به صاحب الكشف كلام الكشاف فقال أراد أنه ردع عن الطمع معلل بإنكارهم البعث من حيث إن ذكر دليله إنما يكون مع المنكر فأقيم علة العلة مقام العلة مبالغة لما حكي عنهم طمع دخول الجنة. ومن البديهي أنه ينافي حال من لا يثبتها فكأنه قيل إنه ينكر البعث فأنّى يتجه طمعه واحتج عليهم بخلقهم أولا وبقدرته سبحانه على خلق مثلهم ثانيا وفيه تهكم بهم وتنبيه على مكان مناقضتهم فإن الاستهزاء بالساعة والطمع في دخول الجنة مما يتنافيان ووجه أقربيته قوة الارتباط كبما سبق عليه وهو في الحقيقة أبعد مغزى ومنه يعلم أن ما قيل في قوله سبحانه (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ) إلخ أن معناه (إِنَّا لَقادِرُونَ) على أن نعطي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هو خير منهم وهم الأنصار ليس بذاك وفي التعبير عن مادة خلقهم بما يعلمون مما يكسر سورة المتكبرين ما لا يخفى والمراد بالمشارق والمغارب مشارق الشمس المائة والثمانون ومغاربها كذلك أو مشارق ومغارب الشمس والقمر على ما روي عن عكرمة أو مشارق الكواكب ومغاربها مطلقا كما قيل وذهب بعضهم إلى أن المراد رب المخلوقات بأسرها والكلام في (فَلا أُقْسِمُ) قد تقدم وقرأ قوم «فلا قسم» بلاء دون ألف وعبد الله بن مسلم وابن محيصن والجحدري «المشرق والمغرب» مفردين (فَذَرْهُمْ) فخلّهم غير مكترث بهم (يَخُوضُوا) في باطلهم الذي من جملته ما حكي عنهم (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) هو يوم البعث عند النفخة الثانية لقوله سبحانه (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي القبور فإنه بدل من (يَوْمَهُمُ) وهو مفعول به ليلاقوا ، وتفسيره بيوم موتهم أو يوم بدر أو يوم النفخة الأولى وجعل (يَوْمَ) مفعولا به لمحذوف كاذكر أو متعلقا ب (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) مما لا ينبغي أن يذهب إليه وما في الآية من معنى المهادنة منسوخ بآية السيف. وقرأ أبو جعفر وابن محيصن «يلقوا» مضارع لقي وروى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ «يخرجون» على البناء للمفعول من الإخراج (سِراعاً) أي مسرعين وهو حال من مرفوع (يَخْرُجُونَ) وهو جمع سريع كظريف وظراف (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ) وهو ما نصب فعبد من دون الله عزوجل وعده غير واحد مفردا وأنشد قول الأعشى :

وذا النصب المنصوب لا تنسكنه

لعاقبة والله ربك فاعبدا

وقال بعضهم : هو جمع نصاب ككتاب وكتب وقال الأخفش جمع نصب كرهن ورهن والأنصاب جمع الجمع. وقرأ الجمهور «نصب» بفتح النون وسكون الصاد وهو اسم مفرد فقيل الصنم المنصوب للعبادة أو العلم المنصوب على الطريق ليهتدي به السالك. وقال أبو عمرو : هو شبكة يقع فيها الصيد فيسارع إليها

٧٣

صاحبها مخافة أن يتفلت الصيد. وقيل : ما ينصب علامة لنزول الملك وسيره. وقرأ أبو عمران الحوفي ومجاهد «نصب» بفتح النون والصاد فعل بمعنى مفعول وقرأ الحسن وقتادة «نصب» بضم النون وسكون الصاد على أنه تخفيف «نصب» بضمتين أو جمع نصب بفتحتين كولد وولد (يُوفِضُونَ) أي يسرعون وأصل الإيفاض كما قال الراغب أن يعدو من عليه الوفضة وهي الكنانة فتخشخش عليه ثم استعمل في الإسراع وقيل هو مطلق الانطلاق. وروي عن الضحاك والأكثرون على الأول والمراد أنهم يخرجون مسارعين إلى الداعي يسبق بعضهم بعضا. والإسراع في السير إلى المعبودات الباطلة كان عادة للمشركين وقد رأينا كثيرا من إخوانهم الذين يعبدون توابيت الأئمة ونحوهم رضي الله تعالى عنهم كذلك وكذا عادة من ضل الطريق أن يسرع إلى أعلامها وعادة الجند أن يسرعوا نحو منزل الملك (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) لعظم ما تحققوه ووصفت أبصارهم بالخشوع مع أنه وصف الكل لغاية ظهور آثاره فيها (تَرْهَقُهُمْ) تغشاهم (ذِلَّةٌ) شديدة (ذلِكَ) الذي ذكر ما سيقع فيه من الأحوال الهائلة (الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي في الدنيا. واسم الإشارة مبتدأ و (الْيَوْمُ) خبر والموصول صفته والجملة بعده صلته والعائد محذوف أي يوعدونه وقرأ عبد الرحمن بن خلاد عن داود بن سالم عن يعقوب والحسن بن عبد الرحمن عن التمار «ذلّة» بغير تنوين مضافا إلى (ذلِكَ الْيَوْمُ) بالجر هذا واعلم أن بعض المتصوفة في هذا الزمان ذكر في شأن هذا اليوم الذي أخبر الله تعالى أن مقداره خمسون ألف سنة أن المراتب أربع : الملك والملكوت والجبروت واللاهوت وكل مرتبة عليا محيطة بالسفلى وأعلى منها بعشر درجات لأنها تمام المرتبة لأن الله خلق الأشياء من عشر قبضات يعني من سر عشر مراتب الأفلاك التسعة والعناصر في كل عالم بحسبه ولذا ترتبت مراتب الأعداد على الأربع والألف منتهى المراتب وأقصى الغايات ولما كانت النسبة إلى الرب أي إلى وجهة الحق هي الغاية القصوى بالنسبة إلى ما عداها (أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢] كان اليوم الواحد المنسوب إليه ألفا ولذا كان اليوم الربوبي ألف سنة كما قال سبحانه (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : ٤٧] فإذا ترقى الكون واقتضت الحكمة ظهور النشأة الأخرى وبروز آثار الاسم الأعظم في مقام الألوهية في رتبة الجامع ظهر الكون والأكوان والمكونات في محشر واحد على مراتبها في الأعيان فظهر سر النون من كلمة (كُنْ) [البقرة : ١١٧ وغيرها] لظهور فيكون فظهر الخمسون في العود كما نزل في البدء وهو قوله سبحانه (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف : ٢٩] فكان اليوم الواحد عند ظهور الاسم الأعظم في الجهة الجامعة خمسين ألف سنة ، فالألف لترقي الواحد ولما كانت المراتب خمسين كان خمسين ألفا والخمسون تفاصيل ظهور اسم الرب عند ظهور اسم الله في عالم الأمر الذي هو أول مراتب التفصيل في قوله تعالى (كُنْ) وكان أول ظهور التفصيل خمسين لأن التوحيد الظاهر في النقطة والألف والحروف والكلمة التامة والدلالة التي هي تمام الخمسة إنما كانت في عشرة عوالم المراتب التعينات أو لأن الطبائع الأربع مع حصول المزاج بظهور طبيعة خامسة وبها تمام الخمسة إنما كانت في عشرة عوالم يحسبها فكان المجموع خمسين والعوالم العشرة هي عالم الإمكان وعالم الفؤاد وعالم القلب وعالم العقل وعالم الروح وعالم النفس وعالم الطبيعة وعالم المادة وعالم المثال وعالم الأجسام. والخمسون في وجه الرب ووجهة الحق في العالم الأول الذي هو الآخر تكون خمسين ألف سنة انتهى فإن فهمت منه معنى صحيحا تقبله ذوو العقول ولا يأباه المنقول فذاك وإلّا فاحمد الله تعالى على العافية واسأله عزوجل التوفيق للوصول إلى معالم التحقيق وللشيخ الأكبر قدس‌سره أيضا كلام في هذا المقام فمن أراده فليتتبع كتبه وليسأل الله تعالى الفتوحات وهو سبحانه ولي الهبات.

٧٤

سورة نوح

مكية بالاتفاق وهي ثمان وعشرون آية في الكوفي وتسع في البصري والشامي وثلاثون فيما عدا ذلك ووجه اتصالها بما قبلها على ما قال الجلال السيوطي وأشار إليه غيره أنه سبحانه لما قال في سورة المعارج (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) [المعارج : ٤ ، ٤١] عقبه تعالى بقصة قوم نوح عليه‌السلام المشتملة على إغراقهم عن آخرهم بحيث لم يبق منهم في الأرض ديار وبدل خيرا منهم فوقعت موقع الاستدلال والاستظهار لتلك الدعوى كما وقعت قصة أصحاب الجنة في سورة ن موقع الاستظهار لما ختم به تبارك هذا مع تواخي مطلع السورتين في ذلك العذاب الموعد به الكافرون ووجه الاتصال على قول من زعم أن السائل هو نوح عليه‌السلام ظاهر وفي بعض الآثار ما يدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها على قوم نوح عليه‌السلام يوم القيامة أخرج الحاكم عن ابن عباس مرفوعا قال : «إن الله تعالى يدعو نوحا وقومه يوم القيامة أول الناس فيقول : ما ذا أجبتم نوحا؟ فيقولون : ما دعانا وما بلّغنا ولا نصحنا ولا أمرنا ولا نهانا ، فيقول نوح عليه‌السلام : دعوتهم يا رب دعاء فاشيا في الأولين والآخرين أمة بعد أمة حتى انتهى إلى خاتم النبيين أحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانتسخه وقرأه وآمن به وصدقه فيقول الله عزوجل للملائكةعليهم‌السلام : ادعوا أحمد وأمته فيدعونهم فيأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته يسعى نورهم بين أيديهم فيقول نوح عليه‌السلام لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته : هل تعلمون أني بلغت قومي الرسالة واجتهدت لهم بالنصيحة وجهدت أن أستنقذهم من النار سرا وجهارا فلم يزدهم دعائي إلّا فرارا؟ فيقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته : فإنّا نشهد بما أنشدتنا أنك في جميع ما قلت من الصادقين. فيقول قوم نوح عليه‌السلام : وأنى علمت هذا أنت وأمتك ونحن أول الأمم وأنت آخر الأمم ، فيقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [نوح : ١] حتى يختم السورة ، فإذا ختمها قالت أمته نشهد إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم. فيقول الله عزوجل عند ذلك : امتازوا اليوم أيها المجرمون»

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا

٧٥

يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً)(١٦)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) هو اسم أعجمي زاد الجواليقي معرب والكرماني معناه بالسريانية الساكن وصرف لعدم زيادته على الثلاثة مع سكون وسطه وليس بعربي أصلا. وقول الحاكم في المستدرك إنما سمي نوحا لكثرة نوحه وبكائه على نفسه ، واسمه عبد الغفار لا أظنه يصح وكذا ما ينقل في سبب بكائه من أنه عليه‌السلام رأى كلبا أجرب قذرا فبصق عليه فأنطقه الله تعالى فقال أتعيبني أم تعيب خالقي فندم وناح لذلك. والمشهور أنه عليه‌السلام ابن لمك بفتح اللام وسكون الميم بعدها كاف ابن مثوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام والخاء المعجمة ابن خنوخ بفتح الخاء المعجمة وضم النون الخفيفة وبعدها واو ساكنة ثم خاء معجمة وشاع أخنوخ بهمزة أوله وهو إدريس عليه‌السلام بن يرد بمثناة من تحت مفتوحة ثم راء ساكنة مهملة ابن مهلائيل بن قينان بن أنوش بالنون والشين المعجمة ابن شيث بن آدم عليه‌السلام وهذا يدل على أنه عليه‌السلام بعد إدريس عليه‌السلام. وفي المستدرك أن أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم على أنه قبل إدريس وفيه عن ابن عباس كان بين آدم ونوح عليهما‌السلام عشرة قرون وفيه أيضا مرفوعا بعث الله تعالى نوحا لأربعين سنة فلبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا. وذكر ابن جرير أن مولده كان بعد وفاة آدم عليه‌السلام بمائة وستة وعشرين عاما وفي التهذيب للنوي رحمه‌الله تعالى أنه أطول الأنبياء عليهم‌السلام عمرا وقيل إنه أطول الناس مطلقا عمرا فقد عاش على ما قال شداد ألفا وأربعمائة وثمانين سنة ولم يسمع عن أحد أنه عاش كذلك يعني بالاتفاق لئلا يرد الخضر عليه‌السلام وقد يجاب بغير ذلك وهو على ما قيل أول من شرعت له الشرائع وسنت له السنن وأول رسول أنذر على الشرك وأهلكت أمته ، والحق أن آدم عليه‌السلام كان رسولا قبله أرسل إلى زوجته حواء ثم إلى بنيه وكان في شريعته وما نسخ بشريعة نوح في قول وفي آخر لم يكن في شريعته إلّا الدعوة إلى الإيمان ويقال لنوح عليه‌السلام شيخ المرسلين وآدم الثاني وكان دقيق الوجه في رأسه طول عظيم العينين غليظ العضدين كثير لحم الفخذين ضخم السرة طويل اللحية والقامة جسيما. واختلف في مكان قبره فقيل بمسجد الكوفة وقيل بالجبل الأحمر وقيل بذيل جبل لبنان بمدينة الكرك. وفي إسناد الفعل إلى الضمير العظمة مع تأكيد الجملة ما لا يخفى من الاعتناء بأمر إرساله عليه‌السلام (إِلى قَوْمِهِ) قيل هم سكان جزيرة العرب ومن قرب منهم لا أهل الأرض كافة لاختصاص نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعموم البعثة من بين المرسلين عليهم‌السلام ، وما كان لنوح بعد قصة الغرق على القول بعمومه أمر اتفاقي واشتهر أنه عليه الصلاة والسلام كان يسكن أرض الكوفة وهناك أرسل (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) أي أي (أَنْذِرْ

٧٦

قَوْمَكَ) على أن (أَنْ) تفسيرية لما في الإرسال من معنى القول دون حروفه فلا محل للجملة من الإعراب أو بأن أنذرهم أي بإنذارهم أو لإنذارهم على أن (أَنْ) مصدرية وقبلها حرف جر مقدر هو الباء أو اللام وفي المحل بعد الحذف من الجر والنصب قولان مشهوران. ونص أبو حيان على جواز هذا الوجه في بحره هنا ومنعه في موضع آخر. وحكى المنع عنه ابن هشام في المغني وقال : زعم أبو حيان أنها لا توصل بالأمر وإن كل شيء سمع من ذلك فإن فيه تفسيرية واستدل بدليلين أحدهما أنهما إذا قدرا بالمصدر فات معنى الأمر الثاني أنهما لم يقعا فاعلا ولا مفعولا لا يصح أعجبني أن قم ولا كرهت أن قم كما يصح ذلك مع الماضي والمضارع ، والجواب عن الأول أن فوات معنى الأمرية عند التقدير بالمصدر كفوات معنى المضي والاستقبال في الموصولة بالمضارع والماضي عند التقدير المذكور ثم إنه يسلم مصدرية المخففة مع لزوم نحو ذلك فيها في نحو قوله تعالى (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) [النور : ٩] إذ لا يفهم الدعاء من المصدر إلّا إذا كان مفعولا مطلقا نحو سقيا ورعيا. وعن الثاني أنه إنما منع ما ذكره لأنه لا معنى لتعليق الإعجاب والكراهية بالإنشاء لا لما ذكره ثم ينبغي له أن لا يسلم مصدرية كي لأنها لا تقع فاعلا ولا مفعولا وإنما تقع مخفوضة بلام التعليل ، ثم مما يقطع به على قوله بالبطلان حكاية سيبويه كتبت إليه بأن قم واحتمال زيادة الباء كما يقول وهم فاحش لأن حروف الجر مطلقا لا تدخل إلّا على الاسم أو ما في تأويله انتهى. وأجاب بعضهم عن الأول أيضا بأنه عند التقدير يقدر الأمر فيقال فيما نحن فيه مثلا (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) بالأمر بإنذارهم وتعقب بأنه ليس هناك فعل يكون الأمر مصدره كأمرنا أو نأمر ثم إنه يكون المعنى في نحو أمرته بأن قم أمرته بالأمر بالقيام. وأشار الزمخشري إلى جواب ذلك هو أنه إذا لم يسبق لفظ الأمر أو ما في معناه من نحو رسمت فلا بد من تقدير القول لئلا يبطل الطلب فيقال هنا : أرسلناه بأن قلنا له أنذر أي بالأمر بالإنذار وإذا سبقه ذلك لا يحتاج إلى تقديره لأن مآل العبارات أعني أمرته بالقيام وأمرته بأنه قم وأن قم بدون الباء على أنها مفسرة إلى واحد وفي الكشف لو قيل إن التقدير وأرسلناه بالأمر بالإنذار من دون إضمار القول لأن الأمرية ليست مدلول جوهر الكلمة بل من متعلق الأداة فيقدر بالمصدر تبعا وفي أمر المخاطب اكتفى بالصيغة تحقيقا لكان حسنا وهذا كما أن التقدير في أن لا يزني خير له عدم الزنا فيقدر النفي بالمصدر على سبيل التبعية ، وأما إذا صرح بالأمر فلا يحتاج إلى تقدير مصدر للطلب أيضا هذا ولو قدر أمرته بالأمر بالقيام أي بأن يأمر نفسه به مبالغة في الطلب لم يبعد عن الصواب ولما فهم منه ما فهم من الأول وأبلغ استعمل استعماله من غير ملاحظة الأصل وأوعى بعضهم أن تقدير القول هنا ليس لئلا يفوت معنى الطلب بل لأن الباء المحذوفة للملابسة وإرسال نوح عليه‌السلام لم يكن ملتبسا بإنذاره لتأخره عنه وإنما هو ملتبس بقول الله تعالى له عليه‌السلام (أَنْذِرْ) ولما كان هذا القول منه تعالى لطلب الإنذار قيل : المعنى أرسلناه بالأمر بالإنذار ، وكان هذا القائل لا يبالي بفوات معنى الطلب كما يقتضيه كلام ابن هشام المتقدم آنفا. وبحث الخفاجي فيما ذكروه من الفوات فقال : كيف يفوت معنى الطلب وهو مذكور صريحا في (أَنْذِرْ) ونحوه وتأويله بالمصدر المسبوك تأويل لا ينافيه لأنه مفهوم أخذوه من موارد استعماله فكيف يبطل صريح منطوقه فما ذكروه مما لا وجه له وإن اتفقوا عليه فاعرفه انتهى. وأقول : لعلهم أرادوا بفوات معنى الطلب فواته عند ذكر المصدر الحاصل من التأويل بالفعل على معنى أنه إذا ذكر بالفعل لا يتحقق معنى الطلب ولا يتحد الكلامان ولم يريدوا أنه يفوت مطلقا كيف وتحققه في المنطوق الصريح كنار على علم ، ويؤيد هذا منعهم بطلان اللازم المشار إليه بقول ابن هشام أن فوات معنى الأمرية عند التقدير بالمصدر كفوات المضي والاستقبال إلخ فكأنه قيل لا نسلم أن هذا الفوات

٧٧

باطل لم لا يجوز أن يكون كفوات معنى المضي والاستقبال وفوات معنى الدعاء في نحو (أَنَّ غَضَبَ) [النور : ٩] وقد أجمعوا أن ذلك ليس بباطل لأنه فوات عند الذكر بالفعل وليس بلازم ، وليس بفوات مطلقا لظهور أن المنطوق الصريح متكفل به فتدبر. وقرأ ابن مسعود «أنذر» بغير (أَنْ) على إرادة القول أي قائلين أنذر (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) عاجل وهو ما حل بهم من الطوفان كما قال الكلبي أو آجل وهو عذاب النار كما قال ابن عباس. والمراد أنذرهم من قبل ذلك لئلا يبقى لهم عذر ما أصلا (قالَ) استئناف بياني كأنه قيل فما فعل عليه الصلاة والسلام بعد هذا الإرسال فقيل قال لهم (يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) منذر موضح لحقيقة الأمر واللام في (لَكُمْ) للتقوية أو للتعليل أي لأجل نفعكم من غير أن أسألكم أجرا وقوله تعالى (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) متعلق بنذير على مصدرية (أَنِ) وتفسيريتها ومر نظيره في الشعراء وقوله سبحانه (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) مجزوم في جواب الأمر واختلف في (مِنْ) فقيل ابتدائية وإن لم تصلح هنا لمقارنة إلى وابتداء الفعل من جانبه تعالى على معنى أنه سبحانه يبتدئهم بعد إيمانهم بمغفرة ذنوبهم إحسانا منه عزوجل وتفضلا ، وجوز أن يكون من جانبهم على معنى أول ما يحصل لهم بسبب إيمانهم مغفرة ذنوبهم وليس بذاك وقيل بيانية ورجوعها إلى معنى الابتدائية استبعده الرضي ويقدر قبلها مبهم يفسر بمدخولها أي يغفر لكم أفعالكم التي هي الذنوب ، وقيل : زائدة على رأي الأخفش المجوز لزيادتها مطلقا وجزم بذلك هنا وقيل تبعيضية أي يغفر لكم بعض ذنوبكم واختاره بعض. واختلف في البعض المغفور فذهب قوم إلى أنه حقوق الله تعالى فقط السابقة على الإيمان وآخرون إلى أنه ما اقترفوه قبل الإيمان مطلقا الظاهر ما ورد من أن الإيمان يجب ما قبله واستشكل ذلك العز بن عبد السلام في الفوائد المنتشرة وأجاب عنه فقال : كيف يصح هذا على رأي سيبويه الذي لا يرى كالأخفش زيادتها في الموجب بل يقول إنها للتبعيض مع أن الإسلام يجب ما قبله بحيث لا يبقى منه شيء والجواب أن إضافة الذنوب إليهم إنما تصدق حقيقة فيما وقع إذا ما لم يقع لا يكون ذنبا لهم وإضافة ما لم يقع على طريق التجوز كما في (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) [المائدة : ٨٩] إذا المراد بها الأيمان المستقبلة وإذا كانت الإضافة تارة تكون حقيقة وتارة تكون مجازا ، فسيبويه يجمع بين الحقيقة والمجاز فيها وهو جائز يعني عند أصحابه الشافعية ، ويكون المراد من بعض ذنوبكم البعض الذي وقع انتهى ولا يحتاج إلى حديث الجمع من خص الذنوب المغفورة بحقوق الله عزوجل وهاهنا بحث وهو أن الحمل على التبعيض يأباه (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) و (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر : ٥٣] وقد نص البعلي في شرح الجمل على أن ذلك هو الذي دعا الأخفش للجزم بالزيادة هنا وجعله ابن الحاجب حجة له ورده بعض الأجلة بأن الموجبة الجزئية من لوازم الموجبة الكلية ولا تناقض بين اللازم والملزوم ومبناه الغفلة عن كون مدلول من التبعيضية هي البعضية المجردة عن الكلية المنافية لها لا الشاملة لما في ضمنها المجتمعة معها وإلّا لما تحقق الفرق بينها وبين من البيانية من جهة الحكم ولما تيسر تمشية الخلاف بين الإمام أبي حنيفة وصاحبيه فيما إذا قال : طلقي نفسك من ثلاث ما شئت بناء على أن من للتبعيض عنده وللبيان عندهما قال في الهداية وإن قال لها طلقي نفسك من ثلاث ما شئت فلها أن تطلق نفسها واحدة وثنتين ولا تطلق ثلاثا عند أبي حنيفة وقالا تطلق ثلاثا إن شاءت لأن كلمة ما محكمة في التعميم وكلمة من قد تستعمل للتمييز فتحمل على تمييز الجنس ولأبي حنيفة أن كلمة من حقيقة في التبعيض وما للتعميم فيعمل بهما انتهى. ولا خفاء في أن بناء الجواب المذكور على كون من للتبعيض إنما يصح إذا كان مدلولها حينئذ البعضية المجردة المنافية للكلية ومن هنا تعجب من صاحب التوضيح في تقرير الخلاف المذكور حيث استدل على أولوية التبعيض بتيقنه ولم يدر أن

٧٨

البعض المراد قطعا على تقدير البيان البعض العام الشامل لما في ضمن الكل لا البعض المجرد المراد هاهنا. فبالتعليل على الوجه المذكور لا يتم التقريب بل لا انطباق بين التعليل والمعلل على ما قيل. وصوب العلامة التفتازاني حيث قال : علقه على التلويح مستدلا على أن البعضية التي تدل عليها من التبعيضية هي البعضية المجردة المنافية للكلية لا البعضية التي هي أعم من أن تكون في ضمن الكل أو بدونه لاتفاق النحاة على ذلك حيث احتاجوا إلى التوفيق بين قوله تعالى (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) فقالوا لا يبعد أن يغفر سبحانه الذنوب لقوم وبعضها لآخرين أو خطاب البعض لقوم نوح عليه‌السلام وخطاب الكل لهذه الأمة ، ولم يذهب أحد إلى أن التبعيض لا ينافي الكلية ولم يصوب الشريف في رده عليه قائلا وفيه بحث إذ الرضي صرح بعدم المنافاة بينهما حيث قال : ولو كان أيضا خطابا لأمة واحدة فغفران بعض الذنوب لا يناقض غفران كلها بل عدم غفران بعضها يناقض غفران كلها لأن قول الرضي غير مرتضى لما عرفت من أن مدلول التبعيضية البعضية المجردة. واعترض قول النحاة أو خطاب البعض لقوم نوح عليه‌السلام وخطاب الكل لهذه الأمة بأن الإخبار عن مغفرة البعض ورد في مواضع منها قوله تعالى في سورة [إبراهيم : ١٠] (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ومنها في سورة [الأحقاف : ٣١] (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ومنها ما هنا وهو الذي ورد في قوم نوح عليه‌السلام ، وأما ما ذكر في الأحقاف فقد ورد في الجن ، وما ورد في إبراهيم فقد ورد في قوم نوح وعاد وثمود على ما أفصح به السياق فكيف يصح ما ذكروه. وقيل جيء بمن في خطاب الكفرة دون المؤمنين في جميع القرآن تفرقة بين الخطابين ووجه بأن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفار مرتبة على الإيمان وحيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك ، فيتناول الخروج عن المظالم واعترض بأن التفرقة المذكورة إنما تتم لو لم يجىء الخطاب للكفرة على العموم وقد جاء كذلك كما في سورة [الأنفال : ٣٨] (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) وقد أسلفنا ما يتعلق بهذا المقام أيضا فتذكر وتأمل (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو الأمد الأقصى الذي قدره الله تعالى بشرط الإيمان والطاعة وراء ما قدره عزوجل لهم على تقدير بقائهم على الكفر والعصيان فإن وصف الأجل بالمسمى وتعليق تأخيرهم إليه بالإيمان والطاعة صريح في أن لهم أجلا آخر لا يجاوزونه إن لم يؤمنوا وهو المراد بقوله تعالى (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) أي ما قدره عزوجل لكم على تقدير بقائكم على ما أنتم عليه (إِذا جاءَ) وأنتم على ما أنتم (لا يُؤَخَّرُ) فبادروا إلى الإيمان والطاعة قبل مجيئه حتى لا يتحقق شرطه الذي هو بقاؤكم على الكفر والعصيان فلا يجيء ويتحقق شرط التأخير إلى الأجل المسمى فتؤخروا إليه ، وجوز أن يراد به وقت إتيان العذاب المذكور في قوله سبحانه (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فإنه أجل مؤقت له حتما وأيّا ما كان لا تناقض بين (يُؤَخِّرْكُمْ) و (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) كما يتوهم وقال الزمخشري في ذلك ما حاصله أن الأجل أجلان وأجل الله حكمه حكم المعهود والمراد منه الأجل المسمى الذي هو آخر الآجال ، والجملة عنده تعليل لما فهم من تعليقه سبحانه التأخير بالأجل المسمى وهو عدم تجاوز التأخير عنه ، والأول هو المعول عليه فإن الظاهر أن الجملة تعليل للأمر بالعبادة المستتبعة للمغفرة والتأخير إلى الأجل المسمى فلا بد أن يكون المنفي عند مجيء الأجل هو التأخير الموعود فكيف يتصور أن يكون ما فرض مجيئه هو الأجل المسمى الذي هو آخر الآجال (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي لو كنتم من أهل العلم لسارعتم لما آمركم به لكنكم لستم من أهله في شيء فلذا لم تسارعوا فجواب (لَوْ) مما يتعلق بأول الكلام ويجوز أن يكون مما يتعلق بآخره أي لو كنتم من أهل العلم لعلمتم ذلك أي عدم تأخير الأجل إذا

٧٩

جاء وقته المقدر له ، والفعل في الوجهين منزل منزلة اللازم ويجوز أن يكون محذوفا لقصد التعميم أي لو كنتم تعلمون شيئا. ورجح الأول بعدم احتياجه للتقدير والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على استمرار النفي المفهوم من (لَوْ) وجعل العلم المنفي هو العلم النظري لا الضروري ولا ما يعمه فإنه مما لا ينفي اللهم إلّا على سبيل المبالغة (قالَ) أي نوح عليه‌السلام مناجيا ربه عزوجل وحاكيا له سبحانه بقصد الشكوى وهو سبحانه أعلم بحاله ما جرى بينه وبين قومه من القيل والقال في تلك المدد الأطوال بعد ما بذل في الدعوة غاية المجهود وجاز في الإنذار كل حد معهود وضاقت عليه الحيل وعيت به العلل (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي) إلى الإيمان والطاعة (لَيْلاً وَنَهاراً) أي دائما من غير فتور ولا توان (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) مما دعوتهم إليه وإسناد الزيادة إلى الدعاء من باب الإسناد إلى السبب على حد الإسناد في سرتني رؤيتك و (فِراراً) قيل تمييز وقيل مفعول ثان بناء على تعدي الزيادة والنقص إلى مفعولين وقد قيل إنه لم يثبت وإن ذكره بعضهم وفي الآية مبالغات بليغة وكان الأصل فلم يجيبوني ونحوه فعبر عن ذلك بزيادة الفرار المسندة للدعاء وأوقعت عليهم مع الإتيان بالنفي والإثبات (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) أي إلى الإيمان فمتعلق الفعل محذوف وجوز جعله منزلا منزلة اللازم والجملة عطف على ما قبلها وليس ذلك من عطف المفصل على المجمل كما توهم حتى يقال إن الواو من الحكاية لا من المحكي (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) أي بسبب الإيمان (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) أي سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة فهو كناية عما ذكر ولا منع من الحمل على الحقيقة وفي نسبة الجعل إلى الأصابع وهو منسوب إلى بعضها وإيثار الجعل على الإدخال ما لا يخفى (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي بالغوا في التغطي بها كأنهم طلبوا من ثيابهم أن تغشاهم لئلا يروه كراهة النظر إليه من فرط كراهة الدعوة ففي التعبير بصيغة الاستفعال ما لا يخفى من المبالغة وكذا في تعميم آلة الإبصار وغيرها من البدن بالستر مبالغة في إظهار الكراهة ، ففي الآية مبالغة بحسب الكيف والكم. وقيل : بالغوا في ذلك لئلا يعرفهم عليه‌السلام فيدعوهم وفيه ضعف فإنه قيل عليه إنه يأباه ترتبه على قوله (كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) اللهم إلّا أن يجعل مجازا عن إرادة الدعوة وهو تعكيس للأمر وتخريب للنظم (وَأَصَرُّوا) أي أكبوا على الكفر والمعاصي وانهمكوا وجدوا فيها مستعار من أصر الحمار على العانة إذا صر أذنيه أي رفعهما ونصبهما مستويين وأقبل عليها يكدمها ويطردها وفي ذلك غاية الذم لهم. وعن جار الله لو لم يكن في ارتكاب المعاصي إلا التشبيه بالحمار لكفى به مجزرة كيف والتشبيه في أسوأ أحواله وهو حال الكدم والسفاد وما ذكر من الاستعارة قيل في أصل اللغة وقد صار الإصرار حقيقة عرفية في اللازمة والانهماك في الأمر. وقال الراغب : الإصرار التعقد في الذنب والتشديد فيه والامتناع من الإقلاع عنه وأصله من الصر أي الشد ولعله لا يأبى ما تقدم بناء على أن الأصل الأول الشد والأصل الثاني ما سمعت أولا (وَاسْتَكْبَرُوا) من اتباعي وطاعتي (اسْتِكْباراً) عظيما وقيل نوعا من الاستكبار غير معهود والاستكبار طلب الكبر من غير استحقاق له (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي دعوتهم مرة بعد مرة وكرة غب كرة على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة وهو تعميم لوجوه الدعوة بعد تعميم الأوقات وقوله (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) يشعر بمسبوقية الجهر بالسر وهو الأليق بمن همه الإجابة لأنه أقرب إليها لما فيه من اللطف بالمدعو فتم لتفاوت الوجوه وإن الجهار أشد من الإسرار والجمع بينهما أغلظ من الإفراد وقال بعض الأجلة ليس في النظم الجليل ما يقتضي أن الدعوة الأولى كانت سرا فقط فكأنه أخذ ذلك من المقابلة ومن تقديم قوله (لَيْلاً) وذكرهم بعنوان قومه وقوله (فِراراً) فإن القرب ملائم له. وجوز كون (ثُمَ) على معناها الحقيقي وهو التراخي الزماني لكنه باعتبار مبدأ

٨٠