روح المعاني - ج ١٥

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٥

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٤

وبالنحر التضحية. أخرج ابن جرير وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال : كانت هذه الآية يوم الحديبية أتاه جبريل عليهما الصلاة والسلام فقال انحر وارجع ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخطب خطبة الأضحى ثم ركع ركعتين ثم انصرف إلى البدن فنحرها فذلك قوله تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) واستدل به على وجوب تقديم الصلاة على التضحية وليس بشيء وأخرج عبد الرزاق وغيره عن مجاهد وعطاء وعكرمة أنهم قالوا : المراد صلاة الصبح بمزدلفة والنحر بمنى والأكثرون على أن المراد بالنحر نحر الأضاحي واستدل به بعضهم على وجوب الأضحية لمكان الأمر مع قوله تعالى (فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣ ، ١٥٥] وأجيب بالتخصص بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث كتبت عليّ ولم تكتب عليكم : الضحى والأضحية والوتر» وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الأحوص أنه قال (وَانْحَرْ) أي استقبل القبلة بنحرك وإليه ذهب الفرّاء وقال : يقال منازلهم تتناحر أي تتقابل ، وأنشد قوله :

أبا حكم هل أنت عم مجالد

وسيد أهل الأبطح المتناحر

وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : لما نزلت هذه السورة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّا أَعْطَيْناكَ) إلخ قال رسول الله عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه‌السلام : «ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي»؟ فقال : إنها ليست بنحيرة ولكن يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السماوات السبع ، وإن لكل شيء زينة وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة. وأخرج ابن جرير عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه قال في ذلك : ترفع يديك أول ما تكبر في الافتتاح. وأخرج البخاري في تاريخه والدار قطني في الافراد وآخرون عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال : ضع يدك اليمنى على ساعد اليسرى ثم ضعهما على صدرك في الصلاة. وأخرج نحوه أبو الشيخ والبيهقي في سننه عن أنس مرفوعا ورواه جماعة عن ابن عباس ـ وروي عباس ـ وروي عن عطاء أن معناه : اقعد بين السجدتين حتى يبدو نحرك. وعن الضحاك وسليمان التيمي أنهما قالا : معناه ارفع يديك عقيب الصلاة عند الدعاء إلى نحرك ولعل في صحة الأحاديث عند الأكثرين مقالا وإلّا فما قالوا الذي قالوا وقد قال الجلال السيوطي في حديث عليّ كرم الله تعالى وجهه الأول أنه أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك بسند ضعيف وقال فيه ابن كثير إنه حديث منكر جدا بل أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات. وقال الجلال في الحديث الآخر عن الأمير كرم الله تعالى وجهه : أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم بسند لا بأس به ، ويرجع قول الأكثرين إن لم يصح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يخالفه أن الأشهر استعمال النحر في نحر الإبل دون تلك المعاني وأن سنة القرآن ذكر الزكاة بعد الصلاة وما ذكر بذلك المعنى قريب منها بخلافه على تلك المعاني ، وأن ما ذكروه من المعاني يرجع إلى آداب الصلاة أو أبعاضها فيدخل تحت (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) ويبعد عطفه عليه دون ما عليه الأكثر مع أن القوم كانوا يصلون وينحرون للأوثان فالأنسب أن يؤمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مقابلتهم بالصلاة والنحر له عزوجل ، هذا واعتبار الخلوص في فصل إلخ كما أشرنا إليه لدلالة السياق عليه ، وقيل لدلالة لام الاختصاص. وفي الالتفات عن ضمير العظمة إلى خصوص الرب مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تأكيد لترغيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أداء ما أمر به على الوجه الأكمل.

(إِنَّ شانِئَكَ) أي مبغضك كائنا من كان (هُوَ الْأَبْتَرُ) الذي لا عقب له حيث لا يبقى منه نسل ولا حسن ذكر ، وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان. وأصل البتر القطع وشاع في قطع الذنب وقيل لمن لا عقب له أبتر على الاستعارة شبه الولد

٤٨١

والأثر الباقي بالذنب لكونه خلفه فكأنه بعده وعدمه بعدمه وفسره قتادة بالحقير الذليل وليس بذاك كما يفصح عنه سبب النزول وفيها عليه دلالة على أن أولاد البنات من الذرية كما قال غير واحد ، واسم الفاعل أعني شانئ هاهنا قيل بمعنى الماضي ليكون معرفة بالإضافة فيكون الأبتر خبره ولا يشكل بمن كان يبغضه عليه الصلاة والسلام قبل الإيمان من أكابر الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثم هداه الله تعالى للإيمان وذاق حلاوته فكانصلى‌الله‌عليه‌وسلم أحب إليه من نفسه وأعز عليه من روحه ولم يكن أبتر لما أن الحكم على المشتق يفيد علية مأخذه فيفيد الكلام أن الأبترية معللة بالبغض فتدور معه ، وقد زال في أولئك الأكابر رضي الله تعالى عنهم. واختار بعضهم في دفع ذلك حمل اسم الفاعل على الاستمرار فهم لم يستمروا على البغض والظاهر أنه انقطع نسل كل من كان مبغضا له عليه الصلاة والسلام حقيقة وقيل انقطع حقيقة أو حكما لأن من أسلم من نسل المبغضين انقطع انتفاع أبيه منه بالدعاء ونحوه لأنه لا عصمة بين مسلم وكافر. وما أشرنا إليه من أن هو ضمير فصل هو الأظهر وجوز أن يكون مبتدأ خبره (الْأَبْتَرُ) والجملة خبر (شانِئَكَ) وحينئذ يجوز صناعة أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال وحمل (شانِئَكَ) على الجنس هو الظاهر وخصه بعضهم بمن جاء في سبب النزول واحدا أو متعددا وفيه روايات أخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان أكبر ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القاسم ثم زينب ثم عبد الله ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية ، فمات القاسم عليه‌السلام وهو أول ميت من ولده عليه الصلاة والسلام بمكة ، ثم مات عبد الله عليه‌السلام فقال العاص بن وائل السهمي : قد انقطع نسله فهو ابتر فأنزل الله تعالى (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن شمر بن عطية قال : كان عقبة بن أبي معيط يقول إنه لا يبقى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقب وهو أبتر ، فأنزل الله تعالى فيه (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب قال : لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشى المشركون بعضهم إلى بعض فقالوا : إن هذا الصابئ قد بتر الليلة ، فأنزل الله تعالى (إِنَّا أَعْطَيْناكَ) السورة. وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس أنه قال في الآية هو أبو جهل أي لأنها نزلت فيه وهذا المقدار في الرواية عن ابن عباس لا بأس به ، وحكاية عنه أنه لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال : بتر محمد عليه الصلاة والسلام ، فأنزل الله تعالى (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) لا تكاد تصح لأن هلاك اللعين أبي جهل على التحقيق قبل وفاة إبراهيم عليه‌السلام. وعن عطاء أنها نزلت في أبي لهب والجمهور على نزولها في العاصي بن وائل وأيّا ما كان فلا ريب في ظهور عموم الحكم والجملة كالتعليل لما يفهمه الكلام فكأنه قيل : إنا أعطيناك ما لا يدخل تحت الحصر من النعم فصل وانحر خالصا لوجه ربك ولا تكترث بقول الشانئ الكريه فإنه هو الأبتر لا أنت. وتأكيدها قيل للاعتناء بشأن مضمونها وقيل هو مثله في نحو قوله تعالى (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) [المؤمنون : ٢٧] وذلك لمكان فلا تكترث إلخ المفهوم من السياق. وفي التعبير بالأبتر دون المبتور على ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ما لا يخفى من المبالغة وعمم هذا الشيخ عليه الرحمة كلا من جزأي الجملة ، فقال : إنه سبحانه يبتر شانئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كل خير فيبتر أهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة ، ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحا لمعاده ، ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته تعالى ومحبته والإيمان برسله عليهم‌السلام ، ويبتر أعماله فلا يستعمله سبحانه في طاعته ، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرا ولا عونا ، ويبتره من جميع القرب فلا يذوق لها طعما ولا يجد لها حلاوة وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها وهذا جزاء كل من شنأ ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجل هواه كمن تأول آيات الصفات أو أحاديثها على غير مراد الله تعالى ومراد رسوله عليه

٤٨٢

الصلاة والسلام أو تمنى أن لا تكون نزلت أو قيلت. ومن أقوى العلامات على شنآنه نفرته عنها إذا سمعها حين يستدل بها السلفي على ما دلت عليه من الحق وأي شنآن للرسول عليه الصلاة والسلام أعظم من ذلك ، وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغناء والدفوف والشبابات فإذا سمعوا القرآن يتلى أو قرئ في مجلسهم استطالوه واستثقلوه ، وكذلك من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة إلى غير ذلك ولكل نصيب من الانتبار على قدر شنآنه انتهى وفي بعضه نظر لا يخفى. وقرأ ابن عباس «شنئك» بغير ألف فقيل مقصور من شاني كما قالوا برد في بارد وبر في بار ، وجوز أن يكون بناء على فعل. هذا وأعلم أن هذه السورة الكريمة على قصرها وإيجازها قد اشتملت على ما ينادى على عظيم إعجازها ، وقد أطال الإمام فيها الكلام وأتى بكثير مما يستحسنه ذو والأفهام وذكر أن قوله تعالى (وَانْحَرْ) متضمن الاخبار بالغيب وهو سعة ذات يده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته وقيل مثله في ذلك (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ). وذكر أنه روي أن مسيلمة الكذاب عارضها بقوله إنا أعطيناك الزماجر فصل لربك وهاجر إن مبغضك رجل كافر. ثم بيّن الفرق من عدة أوجه وهو لعمري مثل الصبح ظاهر ، ومن أراد الاطلاع على أزيد مما ذكر فليرجع إلى تفسير الإمام والله تعالى ولي التوفيق والإنعام.

٤٨٣

سورة الكافرون

وتسمى المقشقشة كما أخرجه ابن أبي حاتم على زرارة بن أوفى وهو من قشقش المريض إذا صح وبرأ أي المبرئة من الشرك والنفاق. وتسمى أيضا كما في جمال القراء سورة العبادة وكذا تسمى سورة الإخلاص وهي عند ابن عباس والجمهور مكية. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير أنها مدنية وحكاه في البحر عن قتادة على خلاف ما في مجمع البيان من أنه قائل بمكيتها وأيّا ما كان فقول الدواني إنها مكية بالاتفاق ليس في محله. وآيها ست بلا خلاف وفيها إعلان ما فهم مما قبلها من الأمر بإخلاص العبادة له عزوجل ويكفي ذلك في المناسبة بينهما. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبلة بن حارثة وهو أخو زيد بن حارثة وقد قال له عليه الصلاة والسلام علمني شيئا أقوله عند منامي نحو ذلك كما في حديث أخرجه الإمام أحمد والطبراني في الأوسط ، وأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنسا بأن يقرأها عند منامه أيضا معللا لذلك بما ذكر كما أخرجه البيهقي في الشعب وأمر عليه الصلاة والسلام خبابا بذلك أيضا كما في حديث أخرجه البزار وابن مردويه. وأخرج أبو يعلى والطبراني عن ابن عباس مرفوعا «ألا أدلكم على كلمة تنجيكم من الإشراك بالله تعالى تقرءون (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون : ١] عند منامكم». وروى الديلمي عن عبد الله بن جراد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المنافق لا يصلي الضحى ولا يقرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ويسن قراءتها أيضا مع سورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] في ركعتي سنة الفجر التي هي عند الأكثرين أفضل السنن الرواتب وكذا في الركعتين بعد المغرب (١) وهي حجة على من قال من الأئمة إنه لا يسن في سنة الفجر ضم سورة إلى الفاتحة. وجاء في حديث أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر مرفوعا وفي آخر أخرجه في الصغير عن سعد بن أبي وقاص كذلك أنها تعدل ربع القرآن ووجه ذلك الإمام بأن القرآن مشتمل على الأمر بالمأمورات والنهي عن المحرمات وكل منهما إما أن يتعلق بالقلب أو بالجوارح فيكون أربعة أقسام وهذه السورة مشتملة على النهي عن المحرمات المتعلقة بالقلب فتكون كربع

__________________

(١) قوله وهي حجة الضمير عائد على مضروب عليه في نسخة المؤلف نصه ، فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : رمقت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسا وعشرين مرة ـ وفي لفظ شهرا ـ فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب ب (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وفي حديث أخرجه ابن ماجة وابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول : «نعم السورتان مما يقرآن في الركعتين قبل الفجر (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) إلى غير ذلك من الأخبار وهي حجة إلخ اه منه.

٤٨٤

القرآن ، وتعقب بأن العبادة أعم من القلبية والقالبية والأمر والنهي المتعلقان بها لا يختصان بالمأمورات والمنهيات القلبية والقالبية ، وأن مقاصد القرآن العظيم لا تنحصر في الأمر والنهي المذكورين بل هو مشتمل على مقاصد أخرى كأحوال المبدأ والمعاد ومن هنا قيل لعل الأقرب أن يقال إن مقاصد القرآن التوحيد والأحكام الشرعية وأحوال المعاد والتوحيد عبارة عن تخصيص الله تعالى بالعبادة وهو الذي دعا إليه الأنبياء عليهم‌السلام أولا بالذات والتخصيص إنما يحصل بنفي عبادة غيره تعالى وعبادة الله عزوجل إذ التخصيص له جزءان النفي عن الغير والإثبات للمخصص به ، فصارت المقاصد بهذا الاعتبار أربعة. وهذه السورة تشتمل على ترك عبادة غيره سبحانه والتبري منها فصارت بهذا الاعتبار ربع القرآن ولكونها ليس فيها التصريح بالأمر بعبادة الله عزوجل كما أن فيها التصريح بترك عبادة غيره تعالى لم تكن كنصف القرآن وقيل : إن مقاصد القرآن صفاته تعالى والنبوات والأحكام والمواعظ وهي مشتملة على أساس الأول وهو التوحيد ولذا عدلت ربعه ، وذكر بعض أجلّة أحبابي المعاصرين أوجها في ذلك أحسنها فيما أرى أن الدين الذي تضمنه القرآن أربعة أنواع : عبادات ومعاملات وجنايات ومناكحات ، والسورة متضمنة للنوع الأول فكانت ربعا. وتعقب بأنه أراد فكانت ربعا من القرآن فلا نسلم صحة تفريعه على كون الدين الذي تضمنه القرآن أربعة أنواع وإن أراد فكانت ربعا من الدين فليس الكلام فيه إنما الكلام في كونها تعدل ربعا من القرآن إذ هو الذي تشعر به الأخبار على اختلاف ألفاظها والتلازم بينهما غير مسلم على أن المقابلة الحقيقية بين ما ذكر من الأنواع غير تامة. وأجيب باحتمال أنه أراد أن مقاصد القرآن هي تلك الأربعة التي هي الدين ولا يبعد أن يكون ما تضمن واحدا منها عدل القرآن كله مقاصده وغيرها. ولا يرد على الحصر أن من مقاصده أحوال المبدأ والمعاد فبدخول ذلك في العبادات بنوع عناية وعدم التقابل الحقيقي لا يضر إذ يكفي في الغرض عدّ أهل العرف تلك الأمور متقابلة ولو بالاعتبار فتأمل جميع ذلك والله تعالى الهادي لأقوم المسالك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(٦)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) قال أجلة المفسرين : المراد بهم كفرة من قريش مخصوصون قد علم الله تعالى أنهم لا يتأتى منهم الإيمان أبدا. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال : لقي الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا محمد هلم فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله ، فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظا ، وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظا ، فأنزل الله تعالى (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) حتى انقضت السورة. وفي رواية أن رهطا من عتاة قريش قالوا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة. فقال عليه الصلاة والسلام : «معاذ الله تعالى أن أشرك بالله سبحانه غيره». فقالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك ، فنزلت فعدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام عليه الصلاة والسلام على رءوسهم فقرأها عليهم فأيسوا. ولعل نداءهم «بيا

٤٨٥

أيها» للمبالغة في طلب إقبالهم لئلا يفوتهم شيء مما يلقى إليهم ، «وبالكافرون» دون الذين كفروا لأن الكفر كان دينهم القديم ولم يتجدد لهم ، أو لأن الخطاب مع الذين يعلم استمرارهم على الكفر فهو كاللازم لهم أو للمسارعة إلى ذكر ما يقال لهم لشدة الاعتناء به وبه دون المشركين مع أنهم عبدة أصنام والأكثر التعبير عنهم بذلك لأن ما ذكر أنكى لهم فيكون أبلغ في قطع رجائهم الفارغ. وقيل : هذا للإشارة إلى أن الكفر كله ملة واحدة ولا يبعد أن يكون في هذه الإشارة إنكاء لهم أيضا وفي ندائه عليه الصلاة والسلام بذلك في ناديهم ومكان بسطة أيديهم دليل على عدم اكتراثه عليه الصلاة والسلام بهم إذ المعنى قل يا محمد ، والمراد حقيقة الأمر خلافا لصاحب التأويلات للكافرين يا أيها الكافرون (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) يتراءى أن فيه تكرارا للتأكيد ، فالجملة الثالثة المنفية على ما في البحر توكيد للأولى على وجهه أبلغ لاسمية المؤكدة ، والرابعة توكيد للثانية وهو الذي اختاره الطيبي وذهب إليه الفرّاء وقال : إن القرآن نزل بلغة العرب ومن عادتهم تكرار الكلام للتأكيد والإفهام ، فيقول المجيب : بلى بلى والممتنع لا لا. وعليه قوله تعالى (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [التكاثر : ٣] وأنشد قوله :

كائن وكم عندي لهم من صنيعة

أيادي سنوها عليّ وأوجبوا

وقوله :

نعق الغراب ببين ليلى غدوة

كم كم وكم بفراق ليلى ينعق

وقوله :

هلا سألت جموع كن

دة يوم ولوا أين أينا

وهو كثير نظما ونثرا ، وفائدة التأكيد هاهنا قطع أطماع الكفار وتحقيق أنهم باقون على الكفر أبدا. واعترض بأن تأكيد الجمل لا يكون مع العاطف إلّا بثم وكأن القائل بذاك قاس الواو على ثم ، والظاهر أن من قال بالتأكيد جعل الجملة الرابعة معطوفة على الثالثة ، وجعل المجموع معطوفا على مجموع الجملتين الأوليين فهناك مجموعان متعاطفان يؤكد ثانيهما أولهما ولمغايرة الثاني للأول بما فيه من الاستمرار عطف عليه بالواو فلا يرد ما ذكر ، ويتضمن ذلك معنى تأكيد الجزء الأول من الثاني للجزء الأول من الأول وتأكيد الجزء الثاني من الثاني للجزء الثاني من الأول ، وإلّا فظاهر ما في البحر مما لا يكاد يجوز كما لا يخفى والذي عليه الجمهور أنه لا تكرار فيه لكنهم اختلفوا فقال الزمخشري (لا أَعْبُدُ) أريد به نفي العبادة فيما يستقبل لأن لا لا تدخل إلّا على مضارع في معنى الاستقبال كما أن ما لا تدخل إلّا على مضارع في معنى الحال ، والمعنى لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي ، وما كنت عابدا قط فيما سلف ما عبدتم فيه ، وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته. والظاهر أنه اعتبر في الجملة الأخيرة استمرار النفي وأنه حمل المضارع فيها على إفادة الاستمرار والتصوير ، وفي الثانية استغرق النفي للأزمنة الماضية. وقال الطيبي : إنه جعل القرينتين للأوليين للاستقبال والأخريين للماضي ، واعترض عليه بأن الحصرين اللذين ذكرهما في (لا) و (ما) غير صحيح وإن كانا يشعر بهما ظاهر كلام سيبويه. وقال الخفاجي : ما ذكر أغلبي أو مقيد بعدم القرينة القائمة على ما يخالفه ، أو هو كلي ولا حجر في التجوز والحمل على غيره لمقتض كدفع التكرار هنا وإن قيل بتحقق الاستغراب على القول باشتراطه في الحكاية في عابد الأول وعدم ضرر فقده في الثاني لأن النصب به للمشاكلة وقيل : القرينتان الأوليان للاستقبال كما مر ،

٤٨٦

والأخريان للحال واختاره أبو حيان أي ولست في الحال بعابد معبوديكم ، ولا أنتم في الحال بعابدي معبودي. وقيل بالعكس وعليه كلام الزجاج ومحيي السنة. وقيل الأوليان للماضي والأخريان للمستقبل نقله ابن كثير عن حكاية البخاري وغيره ، ونقل أيضا عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن المراد بقوله سبحانه (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) نفي الفعل لأنها جملة فعلية وبقوله تعالى (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) نفي قبوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك بالكلية لأن النفي بالجملة الاسمية آكد فكأنه نفى الفعل وكونه عليه الصلاة والسلام قابلا لذلك ومعناه نفي الوقوع ونفي إمكانه الشرعي ، ونوقش في إفادة الجملة الاسمية نفي القبول ولا يبعد أن يقال إن معنى الجملة الفعلية نفي الفعل في زمان معين ، والجملة الاسمية معناها نفي الدخول تحت هذا المفهوم مطلقا من غير تعرض للزمان كأنه قيل : أنا ممن لا يصدق عليه هذا المفهوم أصلا وأنتم ممن لا يصدق عليه ذلك المفهوم فتدبر. وقيل : الأوليان لنفي الاعتبار الذي ذكره الكافرون ، والأخريان للنفي على العموم أي لا أعبد ما تعبدون رجاء أن تعبدوا الله تعالى ، ولا أنتم عابدون رجاء أن أعبد صنمكم. ثم قيل : ولا أنا عابد صنمكم لغرض من الأغراض بوجه من الوجوه ، وكذا أنتم لا تعبدون الله تعالى لغرض من الأغراض وإيثار ما في ما أعبد قيل على جميع الأقوال السابقة على من لأن المراد الصفة كأنه قيل ما أعبد من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته ، وجوز أن يقال لما أطلقت ما على الأصنام أولا وهو إطلاق في محزه أطلقت على المعبود بحق للمشاكلة ومن يقول إن ما يجوز أن تقع على من يعلم ونسب إلى سيبويه لا يحتاج إلى ما ذكر وقال أبو مسلم : ما في الأوليين بمعنى الذي مفعول به ، والمقصود المعبود أي لا أعبد الأصنام ولا تعبدون الله تعالى. وفي الأخريين مصدرية أي ولا أنا عابد مثل عبادتكم المبنية على الشك وإن شئت قلت على الشرك المخرج لها عن كونها عبادة حقيقة ولا أنتم عابدون مثل عبادتي المبنية على اليقين وإن شئت قلت على التوحيد والإخلاص ، وعليه لا يكون تكرار أيضا. وقال بعض الأجلّة في هذا المقام إن قوله تعالى (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) وقوله سبحانه (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) إما كلاهما نفي الحال أو كلاهما نفي الاستقبال ، أو أحدهما للحال والآخر للاستقبال ، وعلى التقادير فلفظ (ما) إما مصدرية في الموضعين وإما موصولة أو موصوفة فيهما ، وإما مصدرية في أحدهما وموصولة أو موصوفة في الآخر وهذه ستة احتمالات حاصلة من ضرب الثلاثة في الاثنين. ولم يلتفت إلى تقسيم صورة الاختلاف إلى الفرق بين الأولى والأخرى ، ولا إلى الفرق بين الموصولة والموصوفة لتكثر الأقسام لأن صور الاختلاف متساوية الاقدام في دفع التكرار ، ومؤدى الموصولة والموصوفة متقاربان فيكتفى بإحداهما وكذا الحال في قوله تعالى (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) في الموضعين ومعلوم أنه لا تكرار في صورة الاختلاف سواء كان باعتبار الحال والاستقبال أو باعتبار كون ما في أحدهما موصولة أو موصوفة وفي الآخر مصدرية ونفي عبادتهم في الحال أو الاستقبال معبوده عليه الصلاة والسلام بناء على عدم الاعتداد بعبادتهم لله تعالى مع الإشراك المحبط لها وجعلها هباء منثورا كما قيل :

إذا صافى صديقك من تعادي

فقد عاداك وانقطع الكلام

ومن هنا قال بعض الأفاضل في إخراج الآية عن التكرار : يحتمل أن يكون المراد من قوله تعالى (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) نفي عبادة الأصنام ، ومن قوله تعالى (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) نفي عبادة الله تعالى من غير تعرض لشيء آخر ، ولما كان مظنة أن يقولوا لغفلة عن المراد أو نحوها كيف يسوغ لك أن تنفي عنك عبادة ما نعبد وعنا عبادة ما تعبد ونحن أيضا نعبد الله تعالى غاية ما في الباب أنا نعبد معه غيره ، أردف ذلك

٤٨٧

بقوله سبحانه (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) إلخ للإشارة إلى أنهم ما عبدوا الله حقيقة وإنما عبدوا شيئا قالوا إنه الله ، والله عزوجل وراء ذلك أي ولا أنا عابد في وقت من الأوقات الإله الذي عبدتم لأنكم عبدتم شيئا تخيلتموه وذلك بعنوان ما تخيلتم ليس بالإله الذي أعبده ، ولا أنتم عابدون في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته لأني إنما أعبد الإله المتصف بالصفات التي قام البرهان على أنها صفات الإله. النفس الأمري ويعلم منه وجه غير ما تقدم للتعبير بالكافرون دون المشركون وكأنه لم يؤت بالقرينتين الأوليين بهذا المعنى ويكتفى بهما عن الأخريين لأنهما أوفق بجوابهم مع أن هذا الأسلوب أنكى لهم فلا تغفل. ومن الناس من اختار كون ما في القرينتين الأوليين موصولة مفعولا به لما قبلها والمراد بها أولا آلهتهم وثانيا إلهه عليه الصلاة والسلام ، والمراد نفي العبادة ملاحظا معها التعلق بما تعلقت به من المفعول بل هو المقصود ومحط النظر كما يقتضي ذلك وقوع القرينتين في الجواب ، ويعتبر الاستقبال رعاية للغالب في استعمال لا داخلة على المضارع مع كونه أوفق بالجواب أيضا ، ويكون قد تم بهم فكأنه قيل لا أعبد في المستقبل ما تعبدون في الحال من الآلهة أي لا أحدث ذلك حسبما تطلبونه مني وتدعوني إليه ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد في الحال وكونها في الأخريين مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر وقع مفعولا مطلقا لما قبل كما فعل أبو مسلم ليتضمن الكلام الإشارة إلى بيان حال العبادة في نفسها من غير نظر إلى تعلقها بالمفعول وإن كانت لا تخلو عنه في الواقع إثر الإشارة إلى بيان حالها مع ملاحظة تعلقها بالمفعول ، ويراد استمرار النفي في كلتيهما كما في قول تعالى (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٦٢ وغيرها] وفي ذلك من إنكائهم ما ليس في الاقتصار على ما تم به الجواب ، فكأنه قيل : ولا أنا عابد على الاستمرار عبادة مثل عبادتكم التي أذهبتم بها أعماركم لأن عبادتي مأمور بها وعبادتكم منهي عنها ، ولا أنتم عابدون على الاستمرار عبادة مثل عبادتي التي أنا مستمر عليها لأنكم الذين خذلهم الله تعالى وختم على قلوبهم وإني الحبيب المبعوث بالحق ، فلا زلتم في عبادة منهي عنها ولا زلت في عبادة مأمور بها ولك أن تعتبر الفرق بين العبادتين بوجه آخر ، واعتبار الاستمرار في (ما أَعْبُدُ) يشعر به العدول عن ما عبدت الذي يقتضيه ما عبدتم قبله إليه ، وعن العدول في الثانية إلى ذلك لأن أنواع عبادته عليه الصلاة والسلام لم تكن تامة بعد بل كانت تتجدد لها أنواع أخر فأتى بما يفيد الاستمرار التجددي للإشارة إلى حقية جميع ما يأتي به صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك. وقال الزمخشري : لم يقل ما عبدت كما قيل ما عبدتم لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل البعث وهو عليه الصلاة والسلام لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت ، وتعقب بأن فيه نظرا لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان يتحنث في غار حراء قبل البعثة. ونص أبو الوفاء على ابن عقيل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان متدينا قبل بعثه بما يصح عنه أنه من شريعة إبراهيم عليه‌السلام ، وأما بعد البعث فقال ابن الجوزي في كتاب الوفاء : فيه روايتان عن الإمام أحمد إحداهما أنه كان متعبدا بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي لا من جهتهم ولا نقلهم ولا كتبهم المبدلة ، واختارها أبو الحسن التميمي وهو قول أصحاب أبي حنيفة الثانية إن لم يكن متعبد إلّا بما يوحى إليه من شريعته وهو قول المعتزلة والأشعرية ، ولأصحاب الشافعي وجهان كالروايتين ، والقائلون بأنه عليه الصلاة والسلام متعبد بشرع من قبله اختلفوا في التعيين فقيل : كان متعبدا بشريعة إبراهيم عليه‌السلام وعليه أصحاب الشافعي ، وقيل بشريعة موسى عليه‌السلام إلا ما نسخ في شرعنا. وظاهر كلام أحمد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان متعبدا بكل ما صح أنه شريعة لنبي قبله ما لم يثبت نسخه لقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] وقال ابن قتيبة : لم تزل العرب على بقايا دين إسماعيل عليه‌السلام كالحج والختان وإيقاع الطلاق الثلاث والدية والغسل من

٤٨٨

الجنابة وتحريم المحرم بالقرابة والصهر ، وكان عليه الصلاة والسلام على ما كانوا عليه من الإيمان بالله تعالى والعمل بشرائعهم انتهى. والمعتزلة لم يجوزوا ذلك لزعمهم أن فيه مفسدة وهو إيجاب النفرة. نعم من أصولهم وجوب التعبد العقلي بالنظر في آيات الله تعالى وأدلة توحيده سبحانه ومعرفته عزوجل ولا يمكن أن يخلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك. وفي الكشف العبادة قد تطلق على أعمال الجوارح الواقعة على سبيل القربة فالإيمان والنية والإخلاص شروط ومنه لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. واختلف أنه عليه الصلاة والسلام كان متعبدا بهذا المعنى قبل نبوته بشر أو لا فميل الإمام فخر الدين وجماعة من الشافعية وأبي الحسين البصري وأتباعه إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن متعبدا ، وأجابوا عن الطواف والتحنث وغيرهما من المكارم أنها لا تحرم من غير شرع حتى يقال الآتي بها لا بد أن يكون متعبدا بل هي من اقتضاء العادات المستمرة والمكارم الغريزية دون نظر إلى قربة ، والزمخشري اختار ذلك القول وعليه بنى تفسيره. وقد ظهر أنه لم يخالف أصله في وجوب التعبد العقلي بالنظر في الآيات وأدلة التوحيد والمعرفة ، ثم قال : والظاهر حمل (ما أَعْبُدُ) على إفادة الاستمرار والتصوير على أنهم ما كانوا ينكرون ما كان عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما مضى عبادة كانت أو لا ، بل كانوا يعظمونه ويلقبونه بالأمين إنما كان المنكر ما كان عليه بعد النبوة فلذلك قيل ثانيا (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) إذ لو قيل ما عبدت لم يطابق المقام ، وفيه أن ما كانوا يتوهمونه من موافقته عليه الصلاة والسلام قبل النبوة لم يكن صحيحا بل إنما كان ذلك لأنه لم يكن صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمورا بالدعوة انتهى. فتدبره. وزعم بعضهم أن تغاير الأساليب في هذه السورة لتغاير أحوال الفريقين وليس بشيء ، وفي تكليف مثل هؤلاء المخاطبين بما ذكر على القول بإفادته الاستمرار على الكفر بالإيمان بحث مذكور في كتب الأصول إن أردته فارجع إليه وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة تبت إشارة ما إلى ذلك.

وقوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ) هو عند الأكثرين تقرير لقوله تعالى (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) وقوله تعالى (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) كما أن قوله تعالى (وَلِيَ دِينِ) عندهم تقرير لقوله تعالى (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) والمعنى أن دينكم وهو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول كما تطمعون فيه فلا تعلقوا به أمانيكم الفارغة فإن ذلك من المحالات ، وأن ديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوزه إلى الحصول لكم أيضا لأن الله تعالى قد ختم على قلوبكم لسوء استعدادكم أو لأنكم علقتموه بالمحال الذي هو عبادتي لآلهتكم أو استلامي لها ، أو لأن ما وعدتموه عين الإشراك وحيث إن مقصودهم شركة الفريقين في كلتا العبادتين كان القصر المستفاد من تقديم المسند قصر إفراد حتما. وجوز أن يكون هذا تقريرا لقوله تعالى (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) والآية على ما ذكر محكمة غير منسوخة كما لا يخفى أو المراد المتاركة على معنى إني نبي مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة ، فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني فدعوني كفافا ولا تدعوني إلى الشرك فهي على هذا كما قال غير واحد منسوخة بآية السيف. وفسر الدين بالحساب أي لكم حسابكم ولي حسابي لا يرجع إلى كل منا من عمل صاحبه أثر. وبالجزاء أي لكم جزاؤكم ولي جزائي. قيل : والكلام على الوجهين استئناف بياني كأنه قيل فما يكون إذا بقينا على عبادة آلهتنا وإذا بقيت على عبادة إلهك؟ فقيل (لَكُمْ) إلخ. والمراد يكون لهم الشر ويكون له عليه الصلاة والسلام الخير ، لكن أتى باللام في (لَكُمْ) للمشاكلة وعليه لا نسخ أيضا ، ويحتمل أن يكون المراد غير ذلك مما تكون عليه الآية منسوخة ولعله لا يخفى. وقد يفسر الدين بالحال كما هو أحد معانيه حسبما ذكره القالي في أماليه وغيره

٤٨٩

أي لكم حالكم اللائق بكم الذي يقتضيه سوء استعدادكم ، ولي حالي اللائق بي الذي يقتضيه حسن استعدادي والجملة عليه كالتعليل لما تضمنه الكلام السابق فلا نسخ. والأولى أن تفسر بما لا تكون عليه منسوخة لأن النسخ خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلّا عند الضرورة وللإمام الرازي أوجه في تفسيرها لا يخلو بعضها عن نظر. وذكر عليه الرحمة أنه جرت العادة بأن الناس يتمثلون بهذه الآية عند المتاركة وذلك لا يجوز لأن القرآن ما أنزل ليتمثل به بل ليهتدى به ، وفيه ميل إلى سد باب الاقتباس والصحيح جوازه فقد وقع في كلامه عليه الصلاة والسلام وكلام كثير من الصحابة والأئمة والتابعين ، وللجلال السيوطي رسالة وافية كافية في إزالة الالتباس عن وجه جواز الاقتباس وما ذكر من الدليل فأظهر من أن ينبه على ضعفه. وقرأ سلام ويعقوب «ديني» بياء وصلا ووقفا وحذفها القراء السبعة والله تعالى أعلم.

٤٩٠

سورة النّصر

وتسمى سورة إذا جاء. وعن ابن مسعود أنها تسمى سورة التوديع لما فيها من الإيماء إلى وفاته عليه الصلاة والسلام وتوديعه الدنيا وما فيها. وجاء في عدة روايات عن ابن عباس وغيره أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين نزلت : «نعيت إليّ نفسي» وفي رواية للبيهقي عنه أنه لما نزلت دعا عليه الصلاة والسلام فاطمة رضي الله تعالى عنها وقال : «إنه قد نعيت إليّ نفسي» فبكت ثم ضحكت ، فقيل لها فقالت : أخبرني أنه نعيت إليه بنفسه فبكيت ، ثم أخبرني بأنك أول أهلي لحاقا بي فضحكت. وقد فهم ذلك منها عمر رضي الله تعالى عنه وكان يفعل عليه الصلاة والسلام بعدها فعل مودع. وهي مدنية على القول الأصح في تعريف المدني ، فقد أخرج الترمذي في مسنده والبيهقي من حديث موسى بن عبيدة وعبد الله بن دينار وصدقة بن بشار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : هذه السورة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوسط أيام التشريق بمنى وهو في حجة الوداع (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [النصر : ١] حتى ختمها الخبر ، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وغيرهما ، لكن قال الحافظ ابن رجب بعد أن أخرجه عن الأولين إن إسناده ضعيف جدا ، وموسى بن عبيدة قال أحمد لا تحل الرواية عنه وعليه إن صح يكون نزولها قريبا جدا من زمان وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن ما بين حجة الوداع وإجابته عليه الصلاة والسلام داع الحق ثلاثة أشهر ونيف. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال : والله ما عاش صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) قليلا سنتين ثم توفي عليه الصلاة والسلام. وفي البحر إن نزولها عند منصرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خيبر ، وأنت تعلم أن غزوة خيبر كانت في سنة سبع أواخر المحرم فيكون ما في البين أكثر من سنتين ويدل على مدنيتها أيضا ما أخرجه مسلم وابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : آخر سورة نزلت في القرآن جميعا (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) وآيها ثلاث بالاتفاق ، وفيها إشارة إلى اضمحلال ملة الأصنام وظهور دين الله عزوجل على أتم وجه وهو وجه مناسبتها لما قبلها. ويحتمل غير ذلك وهي على ما أخرج الترمذي وغيره من حديث أنس (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) ربع القرآن ولم أظفر بوجه ذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق به.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً)(٣)

٤٩١

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) أي إعانته تعالى وإظهاره إياك على عدوك وهذا معنى النصر المعدى بعلى ، وفسر به لأنه أوفق بقوله تعالى (وَالْفَتْحُ) وجوز أن يراد به المعدى بمن ومعناه الحفظ والفتح يتضمن النصر بالمعنى الأول فحينئذ يكون الكلام مشتملا على إفادة النصرين والأول هو الظاهر. و (إِذا) منصوب بسبح والفاء غير مانعة على ما عليه الجمهور في مثل ذلك وأبو حيان على أنها معمولة للفعل بعدها وليست مضافة إليه وسيأتي إن شاء الله تعالى قول آخر. والمراد بهذا النصر ما كان في أمر مكة من غلبته عليه الصلاة والسلام على قريش ، وذكر النقاش عن ابن عباس أن النصر هو صلح الحديبية وكان في آخر سنة ست ، وأما الفتح فقد أخرج جماعة عنه وعن عائشة أن المراد به فتح مكة وروي ذلك عن مجاهد وغيره وصححه الجمهور وكان في السنة الثامنة ، وقال ابن شهاب : لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان على رأس ثمان سنين ونصف من الهجرة. وخرج عليه الصلاة والسلام على ما أخرجه أحمد بسند صحيح عن أبي سعيد لليلتين خلتا من شهر رمضان ، وفي رواية أخرى عن أحمد لثمان عشرة ، وفي أخرى لثنتي عشرة وعند مسلم لست عشرة. وقال الواقدي خرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان بعد العصر ، وضعفه القسطلاني وكان المسلمون في تلك الغزوة عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف من العرب. وفي الإكليل اثني عشر ألفا وجمع بأن العشرة خرج بها عليه الصلاة والسلام من المدينة ثم تلاحق الألفان ، والأولى أن يحمل النصر على ما كان مع الفتح المذكور فإن كانت السورة الكريمة نازلة قبل ذلك فالأمر ظاهر وتتضمن الإعلام بذلك قبل كونه وهو من أعلام النبوة ، وإذا كانت نازلة بعده فقال الماتريدي في التأويلات : إن (إِذا) بمعنى إذ التي للماضي ، ومجيئها بهذا المعنى كثير في القرآن وعليه تكون متعلقة بمقدر ككمل الأمر أو أتم النعمة على العباد أو نحو ذلك لا بسبح لأن الكلام حينئذ نحو أضرب زيدا أمس. وقال بعض الأجلّة : هي لما يستقبل كما هو الأكثر في استعمالها ، وحينئذ لم يكن بد من أن يجعل شيء من ذلك مستقبلا مترقيا باعتبار أن فتح مكة كان أم الفتوح والدستور لما يكون من بعده فهو مترقب باعتبار ما يدل عليه ، وإن كان متحققا باعتباره في نفسه وجوز أن يكون الاستقبال باعتبار مجموع ما في حيّز (إِذا) فمنه ما هو مستقبل وهو ما تضمنه قوله سبحانه (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) ولو باعتبار آخر داخل وهو مما لا بأس به إن لم يكن النزول بعد تمام الدخول. وقيل : المراد جنس نصر الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين وجنس الفتح فيعم ما كان في أمر مكة زادها الله تعالى شرفا وغيره وأمر الاستقبال عليه ظاهر ، وأيّا ما كان فالمراد بالمجيء الحصول وهو حقيقة فيه على ما يقتضيه ظاهر كلام الراغب. وقال القاضي : مجاز ، والظاهر أن الخطاب في (رَأَيْتَ) للنبيّ عليه الصلاة والسلام والرؤية بصرية أو علمية متعدية لمفعولين ، و (النَّاسَ) العرب و (دِينِ اللهِ) ملة الإسلام التي لا دين له تعالى يضاف إليه غيرها ، والأفواج جمع فوج وهو على ما قال الراغب : الجماعة المارة المسرعة ويراد به مطلق الجماعة. قال الحوفي : وقياس جمعه أفوج ولكن استثقلت الضمة على الواو فعدل إلى أفواج. وفي البحر قياس فعل صحيح العين أن يجمع على أفعل لا على أفعال ومعتل العين بالعكس فالقياس فيه أفعال كحوض وأحواض ، وشذ فيه أفعل كثوب وأثوب. ونصب (أَفْواجاً) على الحال من ضمير (يَدْخُلُونَ) وأما جملة (يَدْخُلُونَ) فهي حال من الناس على الاحتمال الأول في الرؤية ومفعول ثان على الاحتمال الثاني فيها ، وكونها حالا أيضا بجعل رأيت بمعنى عرفت كما قال الزمخشري تعقبه أبو حيان بقوله : لا نعلم أن رأيت جاءت بمعنى عرفت ، فيحتاج في ذلك إلى استثبات والمراد بدخول الناس في دينه تعالى أفواجا أي جماعات كثيرة إسلامهم من غير قتال وقد كان ذلك بين فتح مكة وموته عليه الصلاة والسلام ، وكانوا قبل الفتح يدخلون فيه واحدا واحدا واثنين اثنين. أخرج البخاري عن عمرو بن سلمة قال : لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة فيقولون دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي.

٤٩٢

وعن الحسن قال : لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة قالت الأعراب : أما إذا ظفر بأهل مكة وقد أجارهم الله تعالى من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان ، فدخلوا في دين الله تعالى أفواجا. وقال أبو عمر بن عبد البر : لم يتوقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي العرب رجل كافر بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين والطائف منهم من قدم ، ومنهم من قد وافده وتأول ذلك ابن عطية فقال : المراد والله تعالى أعلم العرب عبدة الأوثان فإن نصارى بني تغلب ما أراهم أسلموا في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن أعطوا الجزية. ونص بعضهم على أنهم لم يسلموا إذ ذاك فالمراد بالناس عبدة الأوثان من العرب كأهل مكة والطائف واليمن وهوازن ونحوهم. وقال عكرمة ومقاتل : المراد بالناس أهل اليمن وفد منهم سبعمائة رجل وأسلموا واحتج له بما أخرجه ابن جرير من طريق الحصين بن عيسى عن معمر عن الزهري عن أبي حازم عن ابن عباس قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة إذ قال : «الله أكبر الله أكبر جاء نصر الله والفتح وجاء أهل اليمن» قيل : يا رسول الله وما أهل اليمن؟ قال «قوم رقيقة قلوبهم لينة طاعتهم الإيمان والفقه يمان والحكمة يمانية» وأخرج أيضا من طريق عبد الأعلى عن معمر عن عكرمة مرسلا. وقوله عليه الصلاة والسلام «الايمان يمان» جاء في حديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ «أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا ، الإيمان يمان والحكمة يمانية» فقيل : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك لأن مكة يمانية ومنها بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفشا الإيمان. وقيل أراد عليه الصلاة والسلام مدح الأنصار لأنهم يمانون وقد تبوءوا الدار والإيمان. وقول ابن عباس في الخبر في المدينة يعارض قول من قال إن ذلك إنما قاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتبوك وكان بينه وبين اليمن مكة والمدينة وهما دارا الإيمان ومظهراه ويحتمل تكرار القول ، والظاهر أنه ثناء على أهل اليمن لإسراعهم إلى الإيمان وقبولهم له بلا سيف ، ويشمل الأنصار من أهل اليمن وغيرهم ، فكأن الإيمان كان في سنخ قلوبهم فقبلوه كما أنهى إليهم كمن يجد ضالته ومثله في الثناء عليهم قوله عليه الصلاة والسلام : «أجد نفس ربكم من قبل اليمن». وقال عصام الدين : يحتمل أن يكون الخطاب في (رَأَيْتَ النَّاسَ) عاما لكل مؤمن ثم قال : وما يختلج في القلب أن المناسب بقوله تعالى (يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) أن يحمل قوله سبحانه (وَالْفَتْحُ) على فتح باب الدين عليهم انتهى. وكلا الأمرين كما ترى. وقرأ ابن عباس كما أخرج أبو عبيدة وابن المنذر عنه «إذا جاء فتح الله والنصر» وقرأ ابن كثير في رواية (يَدْخُلُونَ) بالبناء للمفعول.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي فنزهه تعالى بكل ذكر يدل على التنزيه حامدا له جل وعلا زيادة في عبادته والثناء عليه سبحانه لزيادة إنعامه سبحانه عليك ، فالتسبيح التنزيه لا التلفظ بكلمة سبحان الله ، والباء للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال والحمد مضاف إلى المفعول. والمعنى على الجمع بين تسبيحه تعالى وهو تنزيهه سبحانه عما لا يليق به عزوجل من النقائص وتحميده وهو إثبات ما يليق به تعالى من المحامد له لعظم ما أنعم سبحانه به عليه عليه الصلاة والسلام. وقيل : أي نزهه تعالى عن العجز في تأخير ظهور الفتح وأحمده على التأخير ، وصفه تعالى بأن توقيت الأمور من عنده ليس إلا لحكمة لا يعرفها إلّا هو عزوجل وهو كما ترى ، وأيّد ذلك بما في الصحيحين عن مسروق عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» يتأول القرآن تعني هذا مع قوله تعالى (وَاسْتَغْفِرْهُ) أي اطلب منه أن يغفر لك وكذا بما في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم عن عائشة أيضا قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر في آخر أمره من قول : «سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه» وقال : «إن ربي أخبرني أن سأرى علامة في أمتي وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره» إلخ. وروى ابن جرير من طريق حفص بن عاصم عن الشعبي عن أم سلمة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلّا قال : «سبحان الله وبحمده» قال : «إني أمرت بها» وقرأ السورة وهو غريب. وفي المسند عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) كان

٤٩٣

يكثر إذا قرأها وركع أن يقول : «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم» ثلاثا. وجوز أن تكون الباء للاستعانة والحمد مضاف إلى الفاعل أي سبحانه بما حمد سبحانه به نفسه. قال ابن رجب : إذ ليس كل تسبيح بمحمود ، فتسبيح المعتزلة يقتضي تعطيل كثير من الصفات وقد كان بشر المريسي يقول : سبحان ربي الأسفل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. والظاهر الملابسة وجوز أن يكون التسبيح مجازا عن التعجب بعلاقة السببية فإن من رأى أمرا عجيبا قال : سبحان الله ، أي فتعجب لتيسير الله تعالى ما لم يخطر ببالك وبال أحد من أن يغلب أحد على أهل الحرم ، وأحمده تعالى على صنعه وهذا التعجب تعجب متأمل شاكر يصح أن يؤمر به وليس الأمر بمعنى الخبر بأن هذه القصة من شأنها أن يتعجب منها كما زعم ابن المنير. والتعليل بأن الأمر في صيغة التعجب ليس أمرا بين السقوط. نعم هذا الوجه ليس بشيء والأخبار دالة على أن ذلك أمر لهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستعداد للتوجه إلى ربه تعالى والاستعداد للقائه بعد ما أكمل دينه وأدى ما عليه من البلاغ. وأيضا ما ذكرناه من الآثار آنفا لا يساعد عليه. وقيل : المراد بالتسبيح الصلاة لاشتمالها عليه ونقله ابن الجوزي عن ابن عباس أي فصل له تعالى حامدا على نعمه. وقد روى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل مكة صلى في بيت أم هانئ ثمان ركعات ، وزعم بعضهم أنه صلاها داخل الكعبة وليس بالصحيح. وأيّا ما كان فهي صلاة الفتح وهي سنّة وقد صلاها سعد يوم فتح المدائن وقيل : الضحى ، وقيل أربع منها للفتح وأربع للضحى وعلى كل ليس فيها دليل على أن المراد بالتسبيح الصلاة والأخبار أيضا تساعد على خلافه واستغفاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل لأنه كان دائما في الترقي فإذا ترقى إلى مرتبة استغفر لما قبلها. وقيل مما هو في نظره الشريف خلاف الأولى بمنصبه المنيف. وقيل : عما كان من سهو ولو قيل النبوة وقيل لتعليم أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل هو استغفار لأمته عليه الصلاة والسلام أي واستغفره لأمتك وجوز بعضهم كون الخطاب في (رَأَيْتَ) عاما وقال : هاهنا يجوز حينئذ أن يكون الأمر بالاستغفار لمن سواه عليه الصلاة والسلام وإدخاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأمر تغليب وهذا خلاف الظاهر جدا ، وأنت تعلم أن كل أحد مقصر عن القيام بحقوق الله تعالى كما ينبغي وأدائها على الوجه اللائق بجلاله جل جلاله وعظمته سبحانه وإنما يؤديها على قدر ما يعرف ، والعارف يعرف أن قدر الله عزوجل أعلى وأجلّ من ذلك فهو يستحي من عمله ويرى أنه مقصر ، وكلما كان الشخص بالله تعالى أعرف كان له سبحانه أخوف وبرؤية تقصيره أبصر وقد كان كهمس يصلي كل يوم ألف ركعة ، فإذا صلى أخذ بلحيته ثم يقول لنفسه : قومي يا مأوى كل سوء فو الله ما رضيتك لله عزوجل طرفة عين. وعن مالك بن دينار : لقد هممت أن أوصي إذا متّ أن ينطلق بي كما ينطلق بالعبد الآبق إلى سيده فإذا سألني قلت : يا رب إني لم أرض لك نفسي طرفة عين فيمكن أن يكون استغفاره عليه الصلاة والسلام لما يعرف من عظيم جلال الله تعالى وعظمته سبحانه فيرى أن عبادته وإن كانت أجل من عبادة جميع العابدين دون ما يليق بذلك الجلال وتلك العظمة التي هي وراء ما يخطر بالبال فيستحيي ويهرع إلى الاستغفار. وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام كان يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة ، وللإشارة إلى قصور العابد عن الإتيان بما يليق بجلال المعبود وأن بذل المجهود شرع الاستغفار بعد كثير من الطاعات فذكروا أنه يشرع لمصلي المكتوبة أن يستغفر عقبها ثلاثا وللمتهجد في الأسحار أن يستغفر ما شاء الله تعالى ، وللحاج أن يستغفر بعد الحج فقد قال تعالى (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ١٩٩] وروي أنه يشرع لختم الوضوء ، وقالوا : يشرع لختم كل مجلس وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إذا قام من المجلس : «سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك» ففي الأمر بالاستغفار رمز من هذا الوجه على ما قيل إلى ما فهم من النعي ، والمشهور أن ذلك للدلالة على مشارفة تمام أمر الدعوة وتكامل أمر الدين والكلام وإن كان مشتملا على التعليق وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار قيل على طريقة النزول من الخالق إلى الخلق كما قيل : ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله تعالى قبله

٤٩٤

لأن جميع الأشياء مرايا لتجليه جل جلاله وذلك لأن في التسبيح والحمد توجها بالذات لجلال الخالق وكماله ، وفي الاستغفار توجها بالذات لحال العبد وتقصيراته ويجوز أن يكون تأخير الاستغفار عنهما لما أشرنا إليه في مشروعية تعقيب العبادة بالاستغفار وقيل في تقديمها عليه تعليم أدب الدعاء وهو أن لا يسأل فجأة من غير تقديم الثناء على المسئول منه.

(إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) أي منذ خلق المكلفين أي مبالغا في قبول توبتهم فليكن المستغفر التائب متوقعا للقبول فالجملة في موضع التعليل لما قبلها ، واختيار (تَوَّاباً) على غفارا مع أنه الذي يستدعيه استغفره ظاهرا للتنبيه كما قال بعض الأجلّة على أن الاستغفار إنما ينفع إذا كان مع التوبة. وذكر ابن رجب أن الاستغفار المجرد هو التوبة مع طلب المغفرة بالدعاء والمقرون بالتوبة فأستغفر الله تعالى وأتوب إليه سبحانه هو طلب المغفرة بالدعاء فقط. وقال أيضا : إن المجرد طلب وقاية شر الذنب الماضي بالدعاء والندم عليه ووقاية شر الذنب المتوقع بالعزم على الإقلاع عنه وهذا الذي يمنع الإصرار كما جاء : «ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة ، ولا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار». والمقرون بالتوبة مختص بالنوع الأول فإن لم يصحبه الندم على الذنب الماضي فهو دعاء محض ، وإن صحبه ندم فهو توبة انتهى. والظاهر أن ذلك الدعاء المحض غير مقبول وفيه من سوء الأدب مع الله تعالى ما فيه. وقال بعض الأفاضل إن في الآية احتباكا والأصل واستغفره إنه كان غفارا وتب إليه إنه كان توابا وأيّد بما قدمناه من حديث الإمام أحمد ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها وحمل الزمان الماضي على زمان خلق المكلفين هو ما ارتضاه غير واحد. وقال الماتريدي في التأويلات : أي لم يزل توابا لا أنه سبحانه تواب بأمر اكتسبه وأحدثه على ما يقوله المعتزلة من أنه سبحانه صار توابا إذ أنشأ الخلق فتابوا فقبل توبتهم ، فأما قبل ذلك فلم يكن توابا. وردّ عليه بأن قبول التوبة من الصفات الإضافية ولا نزاع في حدوثها. واختار بعضهم ما ذهب إليه الماتريدي على أن المراد أنه تعالى لم يزل بحيث يقبل التوبة ومآله قدم منشأ قبولها من الصفات اللائقة به جل شأنه وفي ذلك مما يقوي الرجاء به عزوجل ما فيه. وصح «لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم. وفي الاستغفار خير الدنيا والآخرة» أخرج الإمام أحمد من حديث عطية عن أبي سعيد مرفوعا : «من قال حين يأوي إلى فراشه أستغفر الله الذي لا إله إلّا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر ، وإن كانت مثل رمل عالج ، وإن كانت عدد ورق الشجر». وأخرج أيضا من حديث ابن عباس : «من أكثر من الاستغفار جعل الله تعالى له من كل هم فرجا». وأنا أقول سبحان الله وبحمده أستغفر الله تعالى وأتوب إليه وأسأله أن يجعل لي من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا بحرمة كتابه وسيد أحبابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤٩٥

سورة المسد

وتسمى سورة المسد ، وهي مكية وآيها خمس بلا خلاف في الأمرين. ولما ذكر سبحانه فيما قبل دخول الناس في ملة الإسلام عقبه سبحانه بذكر هلاك بعض ممن لم يدخل فيها وخسرانه.

على نفسه فليبك من ضاع عمره

وليس له منها نصيب ولا سهم

كذا قيل في وجه الاتصال ، وقيل هو من اتصال الوعيد بالوعد وفي كل مسرة له عليه الصلاة والسلام وقال الإمام في ذلك إنه تعالى لما قال (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦] فكأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إلهي فما جزائي» فقال الله تعالى : لك النصر والفتح فقال : «فما جزاء عمي الذي دعاني إلى عبادة الأصنام» فقال : تبت يداه. وقدم الوعد على الوعيد ليكون النصر متصلا بقوله تعالى (وَلِيَ دِينِ) والوعيد راجعا إلى قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ) على حد (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦] الآية. فتأمل هذه المجانسة الحاصلة بين هذه السور مع أن سورة النصر من آخر ما نزل بالمدينة ، وتبت من أوائل ما نزل بمكة لتعلم أن ترتيبها من الله تعالى وبأمره عزوجل ثم قال : ووجه آخر وهو أنه لما قال (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) فكأنه قيل : إلهي ما جزاء المطيع؟ قال : حصول النصر والفتح. ثم قيل : فما جزاء العاصي؟ قال : الخسار في الدنيا والعقاب في العقبى كما دلت عليه سورة تبت انتهى وهو كما ترى.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)(٥)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* تَبَّتْ) أي هلكت كما قال ابن جبير وغيره ومنه قولهم أشابة أم تابة يريدون أم هالكة من الهرم والتعجيز أي خسرت كما قال ابن عباس وابن عمر وقتادة ، وعن الأول أيضا خابت ، وعن يمان بن وثاب صفرت من كل خير وهي على ما في البحر أقوال متقاربة. وقال الشهاب : إن مادة التباب تدور على القطع وهو مؤد إلى الهلاك ولذا فسر به. وقال الراغب : هو الاستمرار في الخسران ولتضمنه الاستمرار قيل استتب لفلان كذا أي استمر ويرجع هذا المعنى إلى الهلاك (يَدا أَبِي لَهَبٍ) هو عبد العزّى بن عبد المطلب عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان شديد المعاداة والمناصبة له عليه الصلاة والسلام ومن ذلك ما في

٤٩٦

المجمع عن طارق المحاربي قال : بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا برجل حديث السن يقول : أيها الناس قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا ، وإذا رجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول : يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه ، فقلت : من هذا؟ فقالوا : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزعم أنه نبي ، وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب وأخرج الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عباس قال : لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] صعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصفا فجعل ينادي : «يا بني فهر يا بني عدي» لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش فقال : «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي»؟ قالوا : نعم ما جربنا عليك إلّا صدقا. قال : «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب : تبا لك سائر الأيام ألهذا جمعتنا؟ فنزلت. ويروى أنه مع ذلك القول أخذ بيديه حجرا ليرمي بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن هذا يعلم وجه إيثار التباب على الهلاك ونحوه مما تقدم وإسناده إلى يديه وكذا مما روى البيهقي في الدلائل عن ابن عباس أيضا أن أبا لهب قال لما خرج من الشعب وظاهر قريشا : إن محمدا يعدنا أشياء لا نراها كائنة يزعم أنها كائنة بعد الموت ، فما ذا وضع في يديه ثم نفخ في يديه ثم قال تبا لكما ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) ومما روي عن طارق يعلم وجه الثاني فقط فاليدان على المعنى المعروف والكلام دعاء بهلاكهما. وقوله سبحانه (وَتَبَ) دعاء بهلاك كله وجوز أن يكونا إخبارين بهلاك ذينك الأمرين والتعبير بالماضي في الموضعين لتحقق الوقوع. وقال الفرّاء : الأول دعاء بهلاك جملته على أن اليدين إما كناية عن الذات والنفس لما بينهما من اللزوم في الجملة ، أو مجاز من إطلاق الجزء على الكل كما قال محيي السنة والقول في رده أنه يشترط أن يكون الكل يعدم بعدمه كالرأس والرقبة واليد ليست كذلك غير مسلم لتصريح فحول بخلافه هنا ، وفي قوله تعالى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] أو المراد على ما قيل بذلك الشرط يعدم حقيقة أو حكما كما في إطلاق العين على الربيئة واليد على المعطي أو المتعاطي لبعض الأفعال فإن الذات من حيث اتصافها بما قصد اتصافها به تعدم يعدم ذلك العضو ، والثاني إخبار بالحصول أي وكان ذلك وحصل كقول النابغة :

جزاني جزاه الله شر جزائه

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

واستظهر أن هذه الجملة حالية وقد مقدرة على المشهور كما قرأ به ابن مسعود. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس في سبب النزول فنزلت هذه السورة «تبت يدا أبي لهب وقد تب» وعلى هذه القراءة يمتنع أن يكون ذلك دعاء لأن «قد» لا تدخل على أفعال الدعاء. وقيل : الأول إخبار عن هلاك عمله حيث لم يفده ولم ينفعه لأن الأعمال تزاول بالأيدي غالبا. والثاني إخبار عن هلاك نفسه. وفي التأويلات اليد بمعنى النعمة وكان يحسن إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى قريش ويقول إن كان الأمر لمحمد فلي عنده يد ، وإن كان لقريش فكذلك ، فأخبر أنه خسرت يده التي كانت عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعناده له ويده التي عند قريش أيضا بخسران قريش وهلاكهم في يد النبي عليه الصلاة والسلام فهذا معنى (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) والمراد بالثاني الإخبار بهلاكه نفسه وذكر بكنيته لاشتهاره بها وقد أريد تشهيره بدعوة السوء وأن تبقى سمة له وذكره بأشهر علميه أوفق بذلك. ويؤيد ذلك قراءة من قرأ «يدا أبو لهب» كما قيل عليّ بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع ، أو لكراهة ذكر اسمه القبيح أو لأنه كما روي عن مقاتل كان يكنى بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما فذكر بذلك تهكما به وبافتخاره بذلك ، أو لتجانس ذات لهب ويوافقه لفظا ومعنى.

٤٩٧

والقول بأنه ليس بتجنيس لفظي لأنه ليس في الفاصلة وهم فإنهم لم يشترطوه فيه أو لجعله كناية عن الجهنمي فكأنه قيل : تبت يدا جهنمي ، وذلك لأن انتسابه إلى اللهب كانتساب الأب إلى الولد يدل على ملابسته له وملازمته إياه كما يقال : هو أبو الخير وأبو الشر وأخو الفضل وأخو الحرب لمن يلابس هذه الأمور ويلازمها ، وملازمته لذلك تستلزم كونه جهنميا لزما عرفيا فإن اللهب الحقيقي هو لهب جهنم ، فالانتقال من أبي لهب إلى جهنمي انتقال من الملزوم إلى اللازم أو بالعكس على اختلاف الرأيين في الكناية فإن التلازم بينهما في الجملة متحقق في الخارج والذهن إلّا أن هذا اللزوم إنما هو بحسب الوضع الأول أعني الإضافي دون الثاني أعني العلمي ، وهم يعتبرون في الكنى المعاني الأصلية. فأبو لهب باعتبار الوضع العلمي مستعمل في الشخص المعين وينتقل منه باعتبار وضعه الأصلي إلى ملابس اللهب وملازمه لينتقل منه إلى أنه جهنمي فهو كناية عن الصفة بالواسطة وهذا ما اختاره العلامة الثاني فعنده كناية بلا واسطة لأن معناه الأصلي أعني ملابس اللهب ملحوظ مع معناه العلمي وأحق مع العلامة لأن أبا لهب يستعمل في الشخص المعين والمتكلم بناء على اعتبارهم المعاني الأصلية في الكنى ينتقل منه إلى المعنى الأصلي ثم ينتقل منه إلى الجهنمي ولا يلاحظ معه معناه الأصلي وإلّا لكان لفظ أبي لهب في الآية مجازا سواء لوحظ معه معناه الأصلي بطريق الجزئية أو التقييد لكونه غير موضوع للمجموع ، وما قيل إن المعنى الحقيقي لا يكون مقصودا في الكناية وأن مناط الفائدة والصدق والكذب فيها هو المعنى الثاني. وهاهنا قصد الذات المعين فليس بشيء لأن الكناية لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه فيجوز هاهنا أن يكون كلا المعنيين مرادا. وفي المفتاح تصريح بأن المراد في الكناية هو المعنى الحقيقي ولازمه جميعا وزعم السيد أيضا أن الكناية في أبي لهب لأنه اشتهر بهذا الاسم وبكونه جهنميا فدل اسمه على كونه جهنميا دلالة حاتم على أنه جواد فإذا أطلق وقصد به الانتقال إلى هذا المعنى يكون كناية عنه ، وفيه أنه يلزم منه أن تكون الكناية في مثله موقوفة على اشتهار الشخص بذلك العلم وليس كذلك فإنهم ينتقلون من الكنية إلى ما يلزم مسماها باعتبار الأصل من غير توقف على الشهرة قال الشاعر :

قصدت أنا المحاسن كي أراه

لشوق كاد يجذبني إليه

فلما أن رأيت رأيت فردا

ولم أر من بنيه ابنا لديه

على أن فيه بعد ما فيه. وقرأ ابن محيصن وابن كثير «أبي لهب» بسكون الهاء وهو من تغيير الاعلام على ما في الكشاف. وقال أبو البقاء : الفتح والسكون لغتان وهو قياس على المذهب الكوفي (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ) أي لم يغن عنه ماله حين حل به التباب على أن ما نافية ، ويجوز أن تكون استفهامية في محل نصب بما بعدها على أنها مفعول به أو مفعول مطلق أي أي إغناء أو أي شيء أغنى عنه ماله (وَما كَسَبَ) أي والذي كسبه على أن (ما) موصولة ، وجوز أن تكون مصدرية أي وكسبه وقال أبو حيان : إذا كان (ما) الأولى استفهامية فيجوز أن تكون هذه كذلك أي وأي شيء كسب أي لم يكسب شيئا. وقال عصام الدين : يحتمل أن تكون نافية ، والمعنى ما أغنى عنه ماله مضرة وما كسب منفعة ، وظاهره أنه جعل فاعل (كَسَبَ) ضمير المال وهو كما ترى. واستظهر في البحر موصوليتها فالعائد محذوف أي ولذي كسبه به من الأرباح والنتائج والمنافع والوجاهة والاتباع ، أو ما أغنى عنه ماله الموروث من أبيه والذي كسبه بنفسه أو ماله والذي كسبه من عمله الخبيث الذي هو كيده في عداوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال الضحاك ، أو من عمله الذي يظن أنه منه على

٤٩٨

شيء كقوله تعالى (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] كما قال قتادة ، وعن ابن عباس ومجاهد ما كسب من الولد أخرج أبو داود عن عائشة مرفوعا : «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه» وروي أنه كان يقول : إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي وكان له ثلاثة أبناء عتبة ومعتب وقد أسلما يوم الفتح ، وسرّ النبي عليه الصلاة والسلام بإسلامهما ودعا لهما ، وشهدا حنينا والطائف وعتيبة بالتصغير ولم يسلم. وفي ذلك يقول صاحب كتاب الألباء :

كرهت عتيبة إذ أجرما

وأحببت عتبة إذ أسلما

كذا معتب مسلم فاحترز

وخف أن تسب فتى مسلما

وكانت أم كلثوم بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند عتيبة ورقية أختها عند أخيه عتبة ، فلما نزلت السورة قال أبو لهب لهما : رأسي ورأسكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطلقاهما إلا أن عتيبة المصغر كان قد أراد الخروج إلى الشام مع أبيه فقال : لآتين محمدا عليه الصلاة والسلام وأوذينه فأتاه فقال : يا محمد إني كافر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى ، ثم تفل تجاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يصبه عليه الصلاة والسلام شيء وطلق ابنته أم كلثوم فأغضبه عليه الصلاة والسلام بما قال وفعل. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك». وكان أبو طالب حاضرا فكره ذلك وقال له : ما أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة. فرجع إلى أبيه ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من دير وقال لهم : إن هذه أرض مسبعة فقال أبو لهب : أغيثوني يا معشر قريش في هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم خوفا من الأسد ، فجاء أسد يتشمم وجوههم حتى أتى عتيبة فقتله وفي ذلك يقول حسان :

من يرجع العام إلى أهله

فما أكيل السبع بالراجع

وهلك أبو لهب نفسه بالعدسة بعد وقعة بدر لسبع ليال فاجتنبه أهله مخافة العدوي وكانت قريش تتقيها كالطاعون ، فبقي ثلاثا حتى أنتن فلما خافوا العار استأجروا بعض السودان فاحتملوه ودفنوه ، وفي رواية حفروا له حفرة ودفعوه بعود حتى وقع فيها فقذفوه بالحجارة حتى واروه وفي أخرى أنهم لم يحفروا له وإنما أسندوه لحائط وقذفوا عليه الحجارة من خلفه حتى توارى فكان الأمر كما أخبر به القرآن. وقرأ عبد الله «وما اكتسب» بناء الافتعال (سَيَصْلى ناراً) سيدخلها لا محالة في الآخرة ويقاسي حرها والسين لتأكيد الوعيد والتنوين للتعظيم أي نارا عظيمة (ذاتَ لَهَبٍ) ذات اشتعال وتوقد عظيم وهي نار جهنم ، وجملة (ما أَغْنى) إلخ قال في الكشف : استئناف جوابا عما كان يقول أنا أفتدي بمالي ، ويتوهم من صدقه وفيه تحسير له وتهكم بما كان يفتخر به من المال والبنين ، وهذه الجملة تصوير للهلاك بما يظهر معه عدم إغناء المال والولد وهو ظاهر على تفسير ما كسب بالولد. وقال بعض الأفاضل : الأولى إشارة لهلاك عمله وهذه إشارة لهلاك نفسه ، وهو أيضا على بعض الأوجه السابقة فتذكر ولا تغفل. وقوله تعالى (وَامْرَأَتُهُ) عطف على المستكن في (سَيَصْلى) لمكان الفصل بالمفعول. وقوله تعالى (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) نصب على الشتم والذم وقيل على الحالية بناء على أن الإضافة غير حقيقية للاستقبال على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان. أخرج ابن عساكر عن جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر رضي الله تعالى عنهما أن عقيل بن أبي طالب دخل على معاوية فقال معاوية له : أين ترى عمك أبا لهب من النار؟ فقال له عقيل : إذا دخلتها فهو على يسارك مفترش عمتك حمالة الحطب والراكب خير من المركوب ولا أظن صحة هذا الخبر

٤٩٩

عن الصادق لأن فيه ما فيه وكانت على ما في البحر عوراء ، ووسمت بذلك لأنها على ما أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن زيد كانت تأتي بأغصان الشوك تطرحها بالليل في طريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ، وقيل : كانت تحمل حزمة الشوك والحسك والسعدان فتنشرها بالليل في طريقه عليه الصلاة والسلام ، وكان رسول الله يطؤه كما يطأ الحرير. وروي عن قتادة أنها مع كثرة مالها كانت تحمل الحطب على ظهرها لشدة بخلها فعيرت بالبخل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه وعن مجاهد أنها كانت تمشي بالنميمة. وأخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن أيضا. وروي عن ابن عباس والسدي ويقال لمن يمشي بها يحمل الحطب بين الناس أي يوقد بينهم النائرة ويورث الشر ، فالحطب مستعار للنميمة وهي استعارة مشهورة ومن ذلك قوله :

من البيض لم تصطد على ظهر لامة

ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب

وجعله رطبا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر ففيه إيغال حسن وكذا قول الراجز :

إن بني الأدرم حمالو الحطب

هم الوشاة في الرضاء والغضب

وقال ابن جرير : حمالة الخطايا والذنوب من قولهم فلان يحطب على ظهره إذا كان يكتسب الآثام والخطايا ، والظاهر أن الحطب عليه مستعار للخطايا بجامع أن كلّا منهما مبدأ للإحراق. وقيل : الحطب جمع حاطب كحارس وحرس أي تحمل الجناة على الجنايات وهو محمل بعيد. وقرأ أبو حيوة وابن مقسم : «سيصلّى» بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام «ومريئته» بالتصغير والهمز وقرئ «ومريته» بالتصغير وقلب الهمزة ياء وإدغامها. وقرأ الحسن وابن إسحاق «سيصلى» بضم الياء وسكون الصاد واختلس حركة الهاء في «امرأته» أبو عمر. وفي رواية وقرأ أبو قلابة «حاملة الحطب» على وزن فاعلة مضافا. وقرأ الأكثرون (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) بالرفع والإضافة وقرئ «حمالة للحطب» بالتنوين رفعا ونصبا وبلام الجر في الحطب وقوله تعالى (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) جملة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر في موضع الحال من الضمير في (حَمَّالَةَ) وقيل من (امْرَأَتُهُ) المعطوف على الضمير. وقيل : الظرف حال منها و (حَبْلٌ) مرتفع به على الفاعلية. وقيل له خبر لامرأته وهي مبتدأ لا معطوفة على الضمير ، و (حَبْلٌ) فاعل. وعلى قراءة (حَمَّالَةَ) بالرفع قيل (امْرَأَتُهُ) مبتدأ و (حَمَّالَةَ) خبر. و (فِي جِيدِها حَبْلٌ) خبر ثان أو حال من ضمير (حَمَّالَةَ) أو الظرف كذلك و (حَبْلٌ) مرتفع به على الفاعلية أو (امْرَأَتُهُ) مبتدأ و (حَمَّالَةَ) صفته لأنه للماضي فيتعرف بالإضافة والخبر على ما سمعت أو (امْرَأَتُهُ) عطف على الضمير و (حَمَّالَةَ) خبر مبتدأ محذوف أي هي حمالة وما بعد خبر ثان أو حال من ضمير حمالة على نظير ما مر. وفي التركيب غير ذلك من أوجه الاعراب سيذكر إن شاء الله تعالى وبعض ما ذكرناه هاهنا غير مطرد على جميع الأوجه في معنى الآية كما لا يخفى عند الاطلاع عليها على المتأمل. والمسد ما مسد أي فتل من الحبال فتلا شديدا من ليف المقل على ما قال أبو الفتح ومن أي ليف على ما قيل ، وقيل من لحاء شجر باليمن يسمى المسد وروي ذلك عن ابن زيد وقد يكون كما في البحر من جلود الإبل أو أوبارها ومنه قوله :

ومسد أمر من أيانق

ليست بأنياب ولا حقائق

أي في عنقها حبل مما مسد من الحبال ، والمراد تصويرها بصور الحطابة التي تحمل الحزمة وتربطها في جيدها تخسيسا لحالها وتحقيرا لها لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها إذ كانا في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة. ولقد عيّر بغض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب فقال :

٥٠٠