روح المعاني - ج ١٥

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٥

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٤

وقرأ ابن عباس وعكرمة والكلبي «من كل امرئ» بهمز في آخره أي تنزل من أجل كل إنسان أي من أجل ما يتعلق به مما قدر في تلك الليلة ، ويرجع إلى نحو ما تقدم أو من أجل مصلحته من الاستغفار له ونحوه على أن المراد بذلك كل امرئ مؤمن على ما قيل. وقيل الجار متعلق ب (سَلامٌ) والمراد «بكل امرئ» الملائكة عليهم‌السلام أي سلام وتحية هي على المؤمنين من كل ملك ، وأنكر كما قال ابن جني هذه القراءة أبو حاتم وقرأ أبو رجاء والأعمش وابن وثاب وطلحة وابن محيصن والكسائي وأبو عمرو بخلاف عنه «مطلع» بكسر اللام على أنه مصدر كالمرجع ويقدر مضاف كما سمعت أو اسم زمان على غير قياس كالمشرق فإن مفعلا بالكسر قياس يفعل مكسور العين. وفي البحر قيل «مطلع ومطلع» بالفتح والكسر مصدران في لغة تميم. وقيل : المصدر بالفتح وموضع الطلوع بالكسر عند أهل الحجاز انتهى. وإرادة الموضع هاهنا لا موضع لها كما لا يخفى هذا. واعلم أنه يسن الدعاء في هذه الليلة المباركة وهي أحد أوقات الإجابة. وأخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قلت : يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أقول؟ قال : «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني». ويجتهد فيها بأنواع العبادات من صلاة وغيرها. وقال سفيان الثوري : الدعاء في تلك الليلة أحبّ من الصلاة ، ثم أفاد أنه إذا قرأ ودعا كان حسنا وكانصلى‌الله‌عليه‌وسلم يجتهد في ليالي شهر رمضان ويقرأ فيها قراءة مرتلة لا يمر بآية رحمة إلّا سأل ولا بآية عذاب إلّا تعوذ. وذكر ابن رجب أن الأكمل الجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك كله لا سيما في العشر الأواخر ويحصل قيامها على ما قال البعض بصلاة التراويح. وأخرج البيهقي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلى المغرب والعشاء في جماعة حتى ينقضي شهر رمضان فقد أصاب من ليلة القدر بحظ وافر». وأخرج مالك وابن شيبة وابن زنجويه والبيهقي عن سعيد بن المسيب قال : «من شهد العشاء ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظه منها. وفي تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي عليه الرحمة يسن لرائيها كتمها ولا ينال فضلها أي كماله إلا من أطلعه الله تعالى عليها انتهى. والظاهر أنه عنى برؤيتها رؤية ما يحصل به العلم له بها مما خصت به من الأنوار وتنزل الملائكة عليهم‌السلام أو نحوا من الكشف المفيد للعلم مما لا يعرف حقيقته إلّا أهله وهو كالنص في أنها يراها من شاء الله تعالى من عباده. وقال أبو حفص بن شاهين على ما حكاه ابن رجب : إن الله تعالى لم يكشفها لأحد من الأولين والآخرين ولا النبيين والمرسلين في يوم ولا ليلة إلّا نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه لما أنزلها عليه وعرفه قدرها أراه عليه الصلاة والسلام إياها في منامه وعرفه في أي ليلة تكون فأصبح عالما بها ، وأراد أن يخبر بها الناس لسروره فتلاحى بين يديه رجلان فأنساها صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر بطلبها في ليالي العشر الأواخر لأنهم لا يرونها مكاشفة أبدا ولا يراها أحد بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصلا فأمروا بذلك ليلتمس فضلها في الليالي المسماة انتهى. وحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآها ونسيها قد رواه الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم وهو مما لا تردد في صحته ، لكن في دلالته على أنه لم يعلم عليه الصلاة والسلام بها ولم يرها بعد ولا يراها أحد من أمتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أبدا ترددا ، ولعل الأمر بالتماسه في العشر الأواخر مثلا يشير إلى رجاء رؤيتها فيها إذا ما لا يرجى في زمان أو مكان لا يحسن أن يؤمر أحد بالتماسها فيه عادة وفي بعض الأخبار ما يدل على أن رؤيتها مناما وقعت لغيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجالا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» وحكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضا وغلط. ففي شرح الصحيح للنووي :

٤٢١

اعلم أن ليلة القدر موجودة وأنها ترى ويتحققها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة في رمضان كما تظاهرت عليه الأحاديث وأخبار الصالحين بها ، ورؤيتهم لها أكثر من أن تحصى. وأما قول القاضي عياض عن المهلب بن أبي صفرة لا يمكن رؤيتها حقيقة فغلط فاحش نبهت عليه لئلا يغتر به انتهى.

بقي في الكلام على هذه الليلة بحث مهم وهو أنه على قول المعتبرين لاختلاف المطالع يلزم القول بتعددها في رمضان وكونها وترا من لياليه عند قوم وشفعا عند آخرين فلا يصح إطلاق القول بأحدهما وكذا لا يصح إطلاق القول بأنها ليلة كذا كليلة السابع والعشرين أو الحادي والعشرين مثلا من الشهر على ذلك أيضا. بل لا يصح إطلاق القول بأن وقت التقدير وتنزل الملائكة ليلة فالليلة عند قوم نهار في الجهة المسامتة لأقدامهم وهي قد تكون مسكونة ولو بواسطة سفينة تمر فيها ، وربما يكون زمان الليل عند قوم بعضه ليلا وبعضه نهارا عند آخرين كأهل بعض العروض البعيدة عن خط الاستواء ، بل قد تنقضي أشهر بليل ونهار على قوم ولم ينقض يوم واحد في بعض العروض بل لا يصح أيضا إطلاق القول بأنها في رمضان وأنها الليلة الأولى أو الأخيرة منه إذ الشهر دخولا وخروجا مختلف بالنسبة إلى سكان البسيطة وأجاب بعض بالتزام أن ما أطلق من القول فيها ليس على إطلاقه فيكون القول بوتريتها بالنسبة إلى قوم وبشفعيتها بالنسبة إلى آخرين وهكذا القول بأنها ليلة كذا من الشهر وبالتزام أنها ليلة بالنسبة إلى قوم نهار بالنسبة إلى آخرين ، وإن التعبير بالليلة لرعاية مكان المنزل عليه القرآن عليه الصلاة والسلام وغالب المؤمنين به كأن ما هو سمت أقدامهم مما ليلهم نهاره لم يعمر بالمسلمين بل لا يكاد يعمر بهم حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. وقال : إنها حيث كانت نهارا عند قوم لا يبعد أن يعطي الله تعالى أجرها من اجتهد من غيرهم في ليلة ذلك النهار وأن يعطي سبحانه ذلك أيضا من اجتهد منهم ليلا وهي عندهم نهار وعلى نحو هذا يقال في الصور التي ذكرت في البحث. وادعى أن هذا نوع من الجمع بين الأحاديث المتعارضة وأن في قولهم يسن الاجتهاد في يومها رمز إما لشيء من ذلك وهو كما ترى. وأجاب آخر بما يستحي القلم من ذكره ويرى تركه هو الحري بقدره. وسمعت من بعض أحبابي أن الشيخ إسماعيل العجلوني عليه الرحمة تعرض فيما شرح من صحيح البخاري لشيء من هذا البحث والجواب عنه ولم أقف عليه ، وعندي أن البحث قوي والأمر مما لا مجال لعقلي فيه ومثل ليل القدر فيما ذكر وقت نزوله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا من الليل كما صحت به الأخبار وكذا ساعة الإجابة من يوم الجمعة إلى أمثال أخر. وللشيخ ابن تيمية رحمه‌الله تعالى كلام طويل في الأول لم يحضرني منه الآن ما يروي الغليل ، ولغيره كابن حجر كلام مختصر في الثاني وهو مشهور وربما يقال إنها لكل قوم ليلتهم وإن اختلفت دخولا وخروجا بالنسبة إلى آفاقهم كسائر لياليهم فتدخل الليلة مطلقا في بغداد مثلا عند غروب الشمس فيها وبعد نصف ساعة منه تدخل في إستامبول مثلا وذلك أول وقت الغروب فيها وهكذا ، والخروج على عكس ذلك فكأن الليلة راكب يسير إلى جهة فيصل إلى كل منزل في وقت ويلتزم أن تنزل الملائكة حسب سيرها ولا يبعد أن يتنزل عند كل قوم ما شاء الله تعالى منهم عند أول دخولها عندهم ويعرجون عند مطلع فجرها عندهم أيضا أو يبقى المتنزل منهم هناك إلى أن تنقضي الليلة في جميع المعمورة فيعرجون معا عند انقضائها ويلتزم القول بتعدد التقدير حسب السير أيضا بأن يقدر الله تعالى في أي جزء شاء سبحانه منها بالنسبة إلى من هي عندهم أمورا تتعلق بهم ، ومناط الفضل لكل قوم تحققها بالنسبة إليهم وقيامهم فيها ومثل هذه الليلة فيما ذكر سائر أوقات العبادة كوقت الظهر والعصر وغيرهما وهذا غاية ما يخطر بالبال فيما يتعلق

٤٢٢

بهذا الإشكال وأمر ما يعكر عليه من أخبار الآحاد سهل على أن الكثير منها في صحته مقال فتأمل في ذاك والله عزوجل يتولى هداك. ثم إن ليلة القدر عند السادة الصوفية ليلة يختص فيها السالك بتجل خاص يعرف به قدره ورتبته بالنسبة إلى محبوبه وهي وقت ابتداء وصول السالك إلى عين الجمع ومقام البالغين في المعرفة ، وما ألطف قول الشيخ عمر بن الفارض قدس‌سره :

وكل الليالي ليلة القدر إن دنت

كما كل أيام اللقا يوم جمعة

هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

٤٢٣

سورة البيّنة

وتسمى سورة القيامة وسورة البلد وسورة المنفكين وسورة البرية وسورة لم يكن. قال في البحر : مكية في قول الجمهور. وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار : مدنية قاله ابن عطية ، وفي كتاب التحرير مدنية وهو قول الجمهور ، وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية واختاره يحيى بن سلام انتهى. وقال ابن الفرس : الأشهر أنها مكية ورواه ابن مردويه عن عائشة وجزم ابن كثير بأنها مدنية ، واستدل على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني وابن مردويه عن أبي خيثمة البدري قال : لما نزلت (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) إلى آخرها قال جبريل عليه‌السلام : يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي رضي الله تعالى عنه : «إن جبريل عليه‌السلام أمرني أن أقرئك هذه السورة» فقال أبي : أو قد ذكرت ثم يا رسول الله؟ قال: «نعم» فبكى وهذا هو الأصح. وآيها تسع في البصري وثمان في غيره. وجاء في فضلها ما أخرجه أبو موسى المديني في المعرفة عن إسماعيل بن أبي حكيم عن مطر المزني أو المدني عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى يسمع قراءة (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيقول : أبشر عبدي فوعزتي لا أسألك على حال من أحوال الدنيا والآخرة ولأمكنن لك في الجنة حتى ترضى». ووجه مناسبتها لما قبلها أن قوله تعالى فيها (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ) إلخ كالتعليل لإنزال القرآن كأنه قيل : إنّا أنزلناه لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأتيهم رسول يتلو صحفا مطهرة وهي ذلك المنزل فلا تغفل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ(٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)(٨)

٤٢٤

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي اليهود والنصارى وإيرادهم بذلك العنوان قيل لإعظام شناعة كفرهم ، وقيل : للإشعار بعلة ما نسب إليهم من الوعد باتباع الحق فإن مناط ذلك وجدانهم له في كتابهم وهو مبني على وجه يأتي إن شاء الله تعالى في الآية بعد. وإيراد الصلة فعلا لما أن كفرهم حادث بعد أنبيائهم عليهم‌السلام بالآحاد في صفات الله عزوجل ومن للتبعيض كما قال علم الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي في التأويلات لا للتبيين لأن منهم من لم يكفر بعد نبيه وكان على الاعتقاد الحق حتى توفاه الله تعالى ، وعد من ذلك الملكانية من النصارى فقيل إنهم كانوا على الحق قبل بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتبيين يقتضي كفر جميعهم قبل البعث والظاهر خلافه. وأيد إرادة التبعيض بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بأهل الكتاب اليهود الذين كانوا بأطراف المدينة من بني قريظة والنضير وبني قينقاع ، وقال بعض : لا نسلم أن التبيين يقتضي كفر جميعهم قبل البعث لجواز أن يكون التعبير عنهم بالذين كفروا باعتبار حالهم بعد البعثة كأنه قيل لم يكن هؤلاء الكفرة وبينوا بأهل الكتاب. (وَالْمُشْرِكِينَ) وهم من اعتقدوا لله سبحانه شريكا صنما أو غيره ، وخصهم بعض بعبدة الأصنام لأن مشركي العرب الذين بمكة والمدينة وما حولهما كانوا كذلك وهم المقصودون هنا على ما روي عن الحبر. وأيّا ما كان فالعطف على أهل الكتاب ولا يلزم على التبعيض أن لا يكون بعضهم كافرين ليجب العدول عنه للتبيين لأنهم بعض من المجموع كما أفاده بعض الأجلّة. واحتمال أن يراد بالمشركين أهل الكتاب وشركهم لقولهم المسيح ابن الله وعزير ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. والعطف لمغايرة العنوان ليس بشيء. وقرئ «والمشركون» بالرفع عطفا على الموصول وحمل قراءة الجمهور على ذلك واعتبار أو الجر للجوار لا يخفى حاله. والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير (كَفَرُوا) وقوله تعالى (مُنْفَكِّينَ) خبر يكن والانفكاك في الأصل افتراق الأمور الملتحمة بنوع مزايلة وأريد به المفارقة لما كانوا عليه مما ستعرفه إن شاء الله تعالى فالوصف اسم فاعل من انفك التامة دون الناقصة الداخلة على المبتدأ والخبر. وزعم بعض النحاة أنه وصف منها والخبر محذوف أي واعدين اتباع الحق أو نحوه. وتعقب مع كونه خلاف الظاهر بأن خبر كان وأخواتها لا يجوز حذفه في السعة لا اقتصارا وحين ليس مجير أي في الدنيا ضرورة. وقوله تعالى (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) متعلق بمنفكين والبينة صفة بمعنى اسم الفاعل أي المبين للحق أو هي بمعناها المعروف وهو الحجة المثبتة للمدعي ويراد بها المعجز وعلى الوجهين. فقوله تعالى (رَسُولٌ) بدل منها بدل كل من كل أو خبر لمقدر أي هي رسول وتنوينه للتفخيم والمراد به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله سبحانه (مِنَ اللهِ) في موضع الصفة له مفيد للفخامة الإضافية فهو مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية. وقوله تعالى (يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) صفة أخرى له أو حال من الضمير في صفته الأولى كما أن قوله سبحانه (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) صفة ثانية ل (صُحُفاً) أو حال من الضمير في صفتها الأولى أعني (مُطَهَّرَةً) ويجوز أن يكون الصفة أو الحال هنا الجار والمجرور فقط وكتب مرتفعا على الفاعلية وإطلاق البينة عليه عليه الصلاة والسلام على المعنى الأول ظاهر ، وعلى المعنى الأخير باعتبار أن أخلاقه وصفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت بالغة حد الإعجاز كما قال الغزالي في المنقذ من الضلال. وأشار إليه البوصيري بقوله :

كفاك بالعلم في الأمي معجزة

في الجاهلية والتأديب في اليتم

ويعلم منه حكمة جعله عليه الصلاة والسلام يتيما أو باعتبار كثرة معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير ما ذكر وظهورها. وجوز أن يراد بالبينة القرآن لأنه مبين للحق أو معجز مثبت للمدعى ، وروي ذلك عن قتادة وابن زيد ، و

٤٢٥

(رَسُولٌ) عليه قيل بدل اشتمال أو بدل كل من كل أيضا بتقدير مضاف أي بينة أو وحي أو معجز أو كتاب رسول أو هو خبر مبتدأ مقدر أي هي رسول ويقدر معه مضاف كما سمعت ، وجوز أن يكون (رَسُولٌ) مبتدأ لوصفه وخبره جملة (يَتْلُوا) إلخ. وجملة المبتدأ وخبره مفسرة للبينة. وقيل اعتراض لمدحها وقيل صفة لها مرادا بها القرآن ويراد بالصحف المطهرة البينة وقد وضعت موضع ضميرها فكانت الرابط. وقرأ أبي وعبد الله «رسولا» بالنصب على الحالية من البينة ، والصحف جمع صحيفة وكذا الصحاف القراطيس التي يكتب فيها وأصلها المبسوط من الشيء ، والمراد بتطهيرها تنزيهها عن الباطل على سبيل الاستعارة المصرحة. ويجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية أو تطهير من يمسها على التجوز في النسبة فكأنه قيل صحفا لا يمسها إلّا المطهرون والمراد بالكتب المكتوبات وبالقيمة المستقيمة واستقامتها نطقة بالحق. وفي التيسير هي كتب الأنبياء عليهم‌السلام والقرآن مصدق لها فكأنها فيه ووصفه عليه الصلاة والسلام بتلاوة الصحف المذكورة بناء على المشهور من أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقرأ الكتاب كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يكتب من باب التجوز في النسبة إلى المفعول لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قرأ ما فيها فكأنه قرأها. وقيل على تقدير مضاف أي مثل صحف وقيل في ضمير استعارة مكنية بتشبيهه عليه الصلاة والسلام لتلاوته مثل ما فيها بتاليها أو الصحف مجاز عما فيها بعلاقة الحلول. ففي ضمير (فِيها) استخدام لعوده على الصحف بالمعنى الحقيقي. وقيل المراد بالرسول جبريل عليه‌السلام ، وبالصحف صحف الملائكةعليهم‌السلام المنتسخة من اللوح المحفوظ ، وبتطهيرها ما سبق ، والمراد بتلاوته عليه الصلاة والسلام إياها ظاهر وجعلها مجازا عن وحيه إياها غير وجيه والأولى حمل الرسول على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو المروي عن ابن عباس ومقاتل وغيرهما. وقد اختلفوا في المعنى المراد بالآية اختلافا كثيرا حتى قال الواحدي في كتاب البسيط : إنها من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا وبيّن ذلك بناء على أن الكفر وصف لكل من الفريقين قبل البعثة بأن الظاهر أن المعنى لم يكن الذين كفروا من الفريقين منفكين عما هم عليه من الكفر حتى يأتيهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (حَتَّى) لانتهاء الغاية فتقتضي أنهم انفكوا عن كفرهم عند إتيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو خلاف الواقع ويناقضه قوله تعالى (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) فإنه ظاهر في أن كفرهم قد زاد عند ذلك فقال جار الله : كان الكفار من الفريقين يقولون قبل المبعث لا ننفك عما نحن فيه من ديننا حتى يبعث الله تعالى النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه ، ثم قال سبحانه (وَما تَفَرَّقَ) إلخ يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ثم ما فرقهم عن الحق وأقرهم على الكفر إلّا مجيئه ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه : لست بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني الله تعالى الغنى فيرزقه الله عزوجل ذلك فيزداد فسقا ، فيقول واعظه : لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلّا بعد اليسار يذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما. وحاصله أن الأول من باب الحكاية لزعمهم وقوله سبحانه (وَما تَفَرَّقَ) إلخ إلزام عليهم حكى الله تعالى كلامهم على سبيل التوبيخ والتعيير فقال : هذا هو الثمرة. وظاهره أنه أراد بتفرقهم عن الحق وحمل على الكفر والباطل لاستلزامه إياه وعدم التعرض للمشركين في قوله تعالى (وَما تَفَرَّقَ) إلخ لعلم حالهم من حال الذين أوتوا الكتاب بالأولى. وقيل وهو قريب من ذاك من وجه وفيه إيضاح له من وجه أي لم يكونوا منفكين عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق والإيمان بالرسول المبعوث في آخر الزمان إلى أن أتاهم ما جعلوه ميقاتا للاجتماع والاتفاق فاجعلوه ميقاتا للانفكاك والافتراق كما قال سبحانه (وَما تَفَرَّقَ) إلخ. وفي التعبير ب (مُنْفَكِّينَ) إشارة إلى وكادة وعدهم وهو

٤٢٦

من أهل الكتاب مشهور حتى أنهم كانوا يستفتحون ويقولون : اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان ، ويقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. ومن المشركين لعله وقع من متأخريهم بعد ما شاع من أهل الكتاب واعتقدوا صحته مما شاهدوا مثلا من بعض من يوثق به بينهم من قومهم كزيد بن عمرو بن نفيل فقد كان يتطلب نبيا من العرب ويقول : قد أظل زمانه وإنه من قريش بل من بني هاشم بل من بني عبد المطلب ، ويشهد لذلك أنهم قبيل بعثته عليه الصلاة والسلام سمى منهم غير واحد ولده بمحمد رجاء أن يكون النبي المبعوث والله أعلم حيث يجعل رسالته. والتعبير عن إتيانه بصيغة المضارع باعتبار حال المحكي لا باعتبار حال الحكاية كما في قوله تعالى (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) [البقرة : ١٠٢] أي تلت. وقوله تعالى (وَما تَفَرَّقَ) إلخ كلام مسوق لمزيد التشنيع على أهل الكتاب خاصة ببيان أن ما نسب إليهم من الانفكاك لم يكن لاشتباه في الأمر بل بعد وضوح الحق وتبين الحال وانقطاع الأعذار بالكلية وهو السر في وصفهم بإيتاء الكتاب المنبئ عن كمال تمكنهم من مطالعته والإحاطة بما في تضاعيفه من الأحكام والأخبار التي من جملتها ما يتعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام وصحة بعثته بعد ذكرهم فيما سبق بما هو جار مجرى اسم الجنس للطائفتين.

ولما كان هؤلاء والمشركون باعتبار اتفاقهم على الرأي المذكور في حكم فريق واحد عبّر عما صدر منهم عقيب الاتفاق عند الإخبار بوقوعه بالانفكاك ، وعند بيان كيفية وقوعه بالتفرق اعتبار الاستقلال كل من فريقي أهل الكتاب وإيذانا بأن انفكاكهم عن الرأي المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأي آخر بل بطريق الاختلاف القديم. وتعقب التقريران بأنه ليس في الكلام ما يدل على أنه حكاية إلّا على إرادة منفكين عن الوعد باتباع الحق. وقال القاضي عبد الجبار : المعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة وتعقبه الإمام بأن تفسير لفظ حتى بما ذكر ليس من اللغة في شيء ، ولعله أراد أن المراد استمرار النفي وأن في الكلام حذفا أي لم يكونوا منفكين عن كفرهم في وقت من الأوقات حتى وقت أن تأتيهم البينة إلّا أنه عبّر بما ذكر لأنه أخصر ، وفيه أيضا ما لا يخفى. وقيل : المعنى لم يكونوا منفكين عن ذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمناقب والفضائل إلى أن أتاهم فحينئذ تفرقوا فيه وقال كل منهم فيه عليه الصلاة والسلام قولا زورا ، وتعقب بأنه لا دلالة على إرادة ما قدر متعلق الانفكاك. وقيل المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما جاءهم تفرقوا فمنهم من آمن ومنهم من أصرّ على كفره ويكفي ذلك في العمل بموجب حتى. وتعقب بأن ظاهر (وَما تَفَرَّقَ) إلخ ذمّ لجميعهم وتشنيع عليهم ويؤيده قوله سبحانه بعد (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) إلخ ويبعد ذلك على حمل التفرق على إيمان بعض وإصرار بعض. وقيل : المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم بأن يترددوا فيه بل كانوا جازمين به معتقدين حقيته إلى أن أتاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعند ذلك اضطربت خواطرهم وأفكارهم وتشكك كل في دينه ومقالته وفيه ما لا يخفى. وقيل : معنى (مُنْفَكِّينَ) هالكين من قولهم انفك صلا المرأة عند الولادة وهو أن ينفصل فلا يلتئم ، والمعنى لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلّا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وقريب منه معنى ما قيل لم يكونوا منفكين عن الحياة بأن يموتوا ويهلكوا حتى تأتيهم البينة وهو كما ترى. وقيل المراد أنهم لم ينفكوا عن دينهم حقيقة إلى مجيء الرسول التالي للصحف المبينة نسخه وبطلانه ولما جاء وتبين ذلك انفكوا عنه حقيقة وإن بقوا عليه صورة وفيه ما فيه. وقال أبو حيان : الظاهر أن المعنى لم يكونوا منفكين أي منفصلا بعضهم عن بعض بل كان كل منهم

٤٢٧

مقرا الآخر على ما هو عليه مما اختاره لنفسه هذا من اعتقاده بشريعته وهذا من اعتقاده بأصنامه ، وحاصله أنه اتصلت مودتهم واجتمعت كلمتهم إلى أن أتتهم البينة (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا) أي من المشركين وانفصل بعضهم من بعض فقال كل ما يدل عنده على صحة قوله (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) وكان يقتضي عند مجيئها أن يجتمعوا على اتباعها ولا يخفى أن قوله (بل كان كل منهم) إلخ في حيّز المنع. وأيضا حمل (وَما تَفَرَّقَ) على ما حمله عليه غير ظاهر. وقال ابن عطية : هاهنا وجه بارع المعنى وذلك أن يكون المراد لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره سبحانه حتى يبعث عزوجل إليهم رسولا منذرا يقيم تعالى عليهم به الحجة ويتم على من آمن به النعمة فكأنه قال : ما كانوا ليتركوا سدى ولهذا نظائر في كتاب الله جل جلاله هذا ما ظفرنا به سؤالا وجوابا وجرحا وتعديلا. ثم إني أقول ما تقدم في تقرير الإشكال مبني على مذهب القائلين بمفهوم الغاية وهم أكثر الفقهاء وجماعة من المتكلمين كالقاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وغيرهم دون مذهب الغير القائلين به وهم أصحاب الإمام أبي حنيفة وجماعة من الفقهاء والمتكلمين ، واختاره الآمدي واستدل عليه بما استدل ورد ما يعارضه من أدلة المخالف وعليه يمكن أن يقال إنه سبحانه وتعالى بيّن أولا حال الذين كفروا من الفريقين إلى وقت إتيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله عزوجل (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ) أي عما هم عليه من الدين حسب اعتقادهم فيه إلى أن يأتيهم الرسول ، ولما لم يتعرض في ذلك على ذلك المذهب لحالهم بعد إتيان الرسول عليه الصلاة والسلام بيّنه سبحانه بقوله جل وعلا (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) إلخ أي وما تفرقوا فعرف بعض منهم الحق وآمن وعرفه بعض آخر منهم وعاند فلم يؤمن في وقت من الأوقات إلّا من بعد ما جاءتهم البينة. وطوى سبحانه ذكر حال المشركين لعلمه بالأولى من حالهم ثم إنه تعالى ذكر بعد حال كل من الفريقين المؤمن والكافر وما له في الآخرة بقوله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلخ وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ والذي أميل إليه مما تقدم كون الانفكاك عن الوعد باتباع الحق ، ولعل القرينة على اعتباره حالية ويحتمل نحوا آخر من التوجيه وذلك بأن يجعل الكلام من باب الأعمال فيقال : إن (مُنْفَكِّينَ) يقتضي متعلقا هو المنفك عنه و (تَأْتِيَهُمُ) يقتضي فاعلا وليس في الكلام سوى البينة فكل منهما يقتضيه فأعمل فيه (تَأْتِيَهُمُ) وحذف معمول (مُنْفَكِّينَ) لدلالته عليه فكأنه قيل : لم يكن الذين كفروا من الفريقين منفكين عن البينة حتى تأتيهم البينة ، وحيث كان المراد بالبينة الرسول كان الكلام في قوة لم يكونوا منفكين عن الرسول حتى يأتيهم. ويراد بعدم الانفكاك عن الرسول حيث لم يكن موجودا إذ ذاك عدم الانفكاك عن ذكره والوعد باتباعه ويكون باقي الكلام في الآية على نحو ما سبق على تقدير إرادة (مُنْفَكِّينَ) عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق وإن شئت قلت في قوله تعالى (وَما تَفَرَّقَ) إلخ أنه على معنى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب عن الرسول وما انفكوا عنه بالإصرار على الكفر إلّا من بعد ما جاءهم فتأمل جميع ما أتيناك به والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.

وقوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) جملة حالية مفيدة لغاية قبح ما فعلوا والمراد بالأمر مطلق التكليف ومتعلقه محذوف واللام للتعليل ، والكلام في تعليل أفعاله تعالى شهير والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي والحال أنهم ما كلفوا في كتابهم بما كلفوا به لشيء من الأشياء إلا لأجل عبادة الله تعالى. وقال الفرّاء : العرب تجعل اللام موضع أن في الأمر كأمرنا لنسلم وكذا في الإرادة كيريد الله ليبين لكم فهي هنا بمعنى أن

٤٢٨

أي إلّا بأن يعبدوا الله وأيّد بقراءة عبد الله إلّا أن يعبدوا فيكون عبادة الله تعالى هي المأمور بها والأمر على ظاهره والأول هو الأظهر وعليه قال علم الهدى أبو منصور الماتريدي : هذه الآية علم منها معنى قوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] أي إلا لأمرهم بالعبادة فيعلم المطيع من العاصي وهو كما قال الشهاب كلام حسن دقيق. (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي جاعلين دينهم خالصا له تعالى فلا يشركون به عزوجل فالدين مفعول لمخلصين ، وجوز أن يكون نصبا على إسقاط الخافض ومفعول (مُخْلِصِينَ) محذوف أي جاعلين أنفسهم خالصة له تعالى في الدين. وقرأ الحسن «مخلصين» بفتح اللام وحينئذ يتعين هذا الوجه في الدين ولا يتسنى الأول. نعم جوز أن يكون نصبا على المصدر والعامل (لِيَعْبُدُوا) أي ليدينوا الله تعالى بالعبادة الدين (حُنَفاءَ) أي مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام وفيه من تأكيد الإخلاص ما فيه ، فالحنف الميل إلى الاستقامة وسمي مائل الرجل إلى الاعوجاج أحنف للتفاؤل أو مجاز مرسل بمرتبتين. وعن ابن عباس تفسير حنفاء هنا بحجاجا. وعن قتادة بمختتنين محرمين لنكاح الأم والمحارم وعن أبي قلابة بمؤمنين بجميع الرسل عليهم‌السلام. وعن مجاهد بمتبعين دين إبراهيم عليه‌السلام ، وعن الربيع بن أنس بمستقبلين القبلة بالصلاة وعن بعض بجامعين كل الدين وحال الأقوال لا يخفى (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة فالأمر بهما ظاهر وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في كتابهم أن أمرهم باتباع شريعتنا أمر لهم بجميع أحكامها التي هما من جملتها (وَذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من عبادة الله تعالى بالإخلاص وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وما فيه من البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته في الشرف (دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي الكتب القيمة فأل للعهد إشارة إلى ما تقدم في قوله تعالى (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) وإليه ذهب محمد بن الأشعث الطالقاني. وقال الزجاج : أي الأمة القيمة أي المستقيمة. وقال غير واحد : أي الملة القيمة والتغاير الاعتباري بين الدين والملة يصحح الإضافة ، وبعضهم لم يقدر موصوفا ويجعل (الْقَيِّمَةِ) بمعنى الملة وقيل أي الحجج القيمة. وقرأ عبد الله رضي الله تعالى عنه «الدين القيمة» فقيل التأنيث على تأويل الدين بالملة وقيل الهاء للمبالغة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ) قيل بيان لحال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا ، وذكر المشركين لئلا يتوهم اختصاص الحكم بأهل الكتاب حسب اختصاص مشاهدة شواهد النبوة في الكتاب بهم ، فالمراد بهؤلاء الذين كفروا هم المتقدمون في صدر السورة وفي ذلك احتمال أشرنا إليه فلا تغفل. ومعنى كونهم في نار جهنم أنهم يصيرون إليها يوم القيامة لكن لتحقق ذلك لم يصرح به. وجيء بالجملة اسمية أو يقدر متعلق الجار بمعنى المستقبل أو أنهم فيها الآن على إطلاق نار جهنم على ما يوجبها من الكفر مجازا مرسلا بإطلاق اسم المسبب على السبب. وجوزت الاستعارة وقيل إن ما هم فيه من الكفر والمعاصي عين النار إلّا أنها ظهرت في هذه النشأة بصورة عرضية وستخلعها في النشأة الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقية وقد مر نظيره غير مرة (خالِدِينَ فِيها) حال من المستكن في الخبر واشتراك الفريقين في دخول النار بطريق الخلود لا ينافي تفاوت عذابهما في الكيفية فإن جهنم والعياذ بالله تعالى دركات وعذابها ألوان ، فيعذب أهل الكتاب في درك منها نوعا من العذاب ، والمشركون في درك أسفل منه بعذاب أشد لأن كفرهم أشد من كفر أهل الكتاب ، وكون أهل الكتاب كفروا بالرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع علمهم بنعوته الشريفة وصحة رسالته من كتابهم ولم يكن للمشركين علم بذلك كعلمهم لا يوجب كون عذابهم أشد من عذاب

٤٢٩

المشركين ولا مساويا له فإن الشرك ظلم عظيم. وقد انضم إليه من أنواع الكفر في المشركين مما ليس عند أهل الكتاب وقد استدل بالآية على خلود الكفار مطلقا في النار (أُولئِكَ) إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما هم فيه من القبائح المذكورة وما فيه من معنى البعد لبعد منزلتهم في الشر أي أولئك البعداء المذكورون (هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أي الخلقية وقيل أي البشر ، والمراد قيل هم شر البرية أعمالا فتكون الجملة في حيّز التعليل لخلودهم في النار. وقيل شرها مقاما ومصيرا فتكون تأكيدا لفظاعة حالهم ، ورجح الأول بأنه الموافق لما سيأتي إن شاء الله تعالى في حق المؤمنين. وأيّا ما كان فالعموم على ما قيل مشكل فإن إبليس وجنوده شر منهم أعمالا ومقاما وكذا المشركون والمنافقون حيث ضموا إلى الشرك النفاق وقد قال سبحانه (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [لنساء: ١٤٥] وقال بعض : لا يبعد أن يكون في كفار الأمم من هو شر منهم كفرعون وعاقر الناقة. وأجاب بأن المراد بالبرية المعاصرون لهم ولا يخفى أنه يبقى معه الإشكال بإبليس ونحوه. وأجيب بأن ذلك إذا كان الحصر حقيقيا وأما إذا كان إضافيا بالنسبة إلى المؤمنين بحسب زعمهم فلا إشكال إذ يكون المعنى أولئك هم شر البرية لا غيرهم من المؤمنين كما يزعمون مآلا أو حالا. وقيل : يراد بالبرية البشر. ويراد بشريتهم شريتهم بحسب الأعمال ولا يبعد أن يكونوا بحسب ذلك هم شر جميع البرية لما أن كفرهم مع العلم بصحة رسالته عليه الصلاة والسلام ومشاهدة معجزاته الذاتية والخارجية ووعد الإيمان به عليه الصلاة والسلام ومع إدخالهم به الشبهة في قلوب من يأتي بعدهم وتسببهم به ضلال كثير من الناس إلى غير ذلك مما تضمنه واستلزمه من القبائح شر كفر وأقبحه لا يتسنى مثله لأحد من البشر إلى يوم القيامة ، وكذا سائر أعمالهم من تحريف الكلم عن مواضعه وصد الناس عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومحاربتهم إياه عليه الصلاة والسلام ، وكون كفر فرعون وعاقر الناقة وفعلهما بتلك المثابة غير مسلم ويلتزم دخول المنافقين في عموم الذين كفروا أو كون كفرهم وأعمالهم دون كفر وأعمال المذكورين وفيه شيء لا يخفى فتأمل. وقيل : ليس المراد بأولئك الذين كفروا أقواما مخصوصين وهم المحدث عنهم أولا بل الأعم الشامل لهم ولغيرهم من سالف الدهر إلى آخره وهو على ما فيه لا يتم بدون حمل البرية على البشر فلا تغفل. وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع «البريئة» هنا وفيما بعد بالهمزة فقيل هو الأصل من برأهم الله تعالى بمعنى ابتدأهم واخترع خلقهم فهي فعيلة بمعنى مفعولة ، لكن عامة العرب إلّا أهل مكة التزموا تسهيل الهمزة بالإبدال والإدغام فقالوا : البرية كما قالوا الذرية والخابية. وقيل : ليس بالأصل وإنما البرية بغير همز من البرى المقصور يعني التراب فهو أصل برأسه والقراءتان مختلفتان أصلا ومادة ومتفقتان معنى في رأي وهو أن يكون المراد عليهما البشر ، ومختلفان فيه أيضا في رأي آخر وهو أن يكون المراد بالمهموز الخليفة الشاملة للملائكة والجن كالبشر ، وبغير المهموز البشر المخلوقون من التراب فقط وأيّا ما كان فليست القراءة بالهمز خطأ كيف وقد نقلت عمن ثبتت عصمته مع أن الهمز لغة قوم من أنزل عليه الكتاب صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بيان لمحاسن أحوال المؤمنين إثر بيان سوء حال الكفرة جريا على السنة القرآنية من شفع الترهيب بالترغيب أو هو على ما أشرنا إليه سابقا. وقال عصام الدين : إن قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلخ كالتأكيد لقوله تعالى (ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) إذا لا تحقيق لكونها الملة القيمة فوق أن يكون جزاء المعرض هذا وجزاء الممتثل ذلك إلّا أن ذلك اقتضى قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ وكأنه فصل لتخييل عدم المناسبة بين الجملتين لا في المسند إليه ولا في المسند (أُولئِكَ) أي المنعوتون بما هو

٤٣٠

الغاية القاصية من الشرف والفضيلة من الإيمان والطاعة (هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) وقرأ حميد وعامر بن عبد الواحد «هم خيار البرية» وهو جمع خير كجياد وجيد (جَزاؤُهُمْ) بمقابلة ما لهم من الإيمان والطاعات (عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) تقدمت نظائره. وفي تقديم مدحهم بخير البرية وذكر الجزاء المؤذن يكون ما منح في مقابلة ما وصفوا به وبيان كونه من عنده تعالى والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم وجمع الجنات وتقييدها بالإضافة وبما يزيدها نعيما ، وتأكيد الخلود بالأبد من الدلالة على غاية حسن حالهم ما لا يخفى. والظاهر أن جملة (هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) خبر اسم الإشارة وكذا ما بعد وزعم بعض الأجلّة أن الأنسب بالعديل السابق أن تجعل معترضة ويكون الخبر ما بعدها وفيه نظر. وقوله تعالى (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) استئناف نحوي وإخبار عمل تفضل عزوجل به زيادة على ما ذكر من أجزية أعمالهم ، ويجوز أن يكون بيانيا جوابا لمن يقول ألهم فوق ذلك أمر آخر وجوز أن يكون خبرا بعد خبر أو حالا بتقدير قد أو بدونه ، وجوز أن يكون دعاء لهم من ربهم وهو مجاز عن الإيجاد مع زيادة التكريم وهو خلاف الظاهر ويبعده عطف قوله تعالى (وَرَضُوا عَنْهُ) عليه وعلل رضاهم بأنهم بلغوا من المطالب قاصيتها ومن المآرب ناصيتها ، وأتيح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (ذلِكَ) أي ما ذكره من الجزاء والرضوان (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية والفوز بالمراتب العلية إذ لولاها لم تترك المناهي والمعاصي ولا استعد ليوم يؤخذ فيه بالأقدام والنواصي. وفيه إشارة إلى أن مجرد الإيمان والعمل الصالح ليس موصلا إلى أقصى المراتب ورضوان من الله أكبر ، بل الموصل له خشية الله تعالى و (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] ولذا قال الجنيد قدس‌سره : الرضا على قدر قوة العلم والرسوخ في المعرفة وقال عصام الدين : الأظهر أن ذلك إشارة إلى ما يترتب عليه الجزاء والرضوان من الإيمان والعمل الصالح ، وتعقب بأن فيه غفلة عما ذكر وعن أنه لا يكون حينئذ لقوله تعالى (ذلِكَ) إلخ كبير فائدة والتعرض لعنوان الربوبية المعربة عن المالكية والتربية للإشعار بعلة الخشية والتحذير من الاغترار بالتربية. واستدل بقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ على أن البشر أفضل من الملك لظهور أن المراد بالذين آمنوا المؤمنون من البشر ، وفي الآثار ما يدل على ذلك. أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعا : «أتعجبون لمنزلة الملائكة من الله تعالى والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله تعالى يوم القيامة أعظم من منزلة الملك واقرءوا إن شئتم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).

وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله من أكرم الخلق على الله تعالى؟ قال : يا عائشة أما تقرئين (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)» وأنت تعلم أن هذا ظاهر في أن المراد بالبرية الخليقة مطلقا ليتم الاستدلال ثم إنه يحتاج أيضا إلى إدخال الأنبياء عليهم‌السلام في عموم الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لا يراد بهم قوم بخصوصهم إذ لو لم يدخلوا لزم تفضيل عوام البشر أي الذين ليسوا بأنبياء منهم على خواص الملائكة أعني رسلهم عليهم‌السلام وذلك مما لم يذهب إليه أحد من أهل السنة بل هم يكفرون من يقول به فليتفطن. والإمام قد ضعف الاستدلال في تفسيره بما لا يخلو عن بحث ، ولعل الأبعد عن القيل والقال جعل الحصر إضافيا بالنسبة إلى ما يزعمه أهل الكتاب والمشركون قالا أو حالا من أنهم هم خير البرية وكذا يجعل الحصر السابق بالنسبة إلى ما يزعمونه من أن المؤمنين هم شر البرية وصحة ما سبق من الآثار في حيّز المنع. ثم الظاهر أن المراد ب (الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ مقابل (الَّذِينَ كَفَرُوا) والأقوم من الذين

٤٣١

أنصفوا بما في حيّز الصلة بخصوصهم وزعم بعضهم أنهم مخصوصون. فقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألم تسمع قول الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)؟ هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جثت الأمم للحساب يدعون غرا محجلين» وروى نحوه الإمامية عن يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب الأمير كرم الله تعالى وجهه. وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك له عند الوفاة ورأسه الشريف على صدره رضي الله تعالى عنه. وأخرج ابن مردويه أيضا عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه : «هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين». وذلك ظاهر في التخصيص وكذا ما ذكره الطبرسي الإمامي في مجمع البيان عن مقاتل ابن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال في الآية : نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه وأهل بيته. وهذا إن سلمت صحته لا محذور فيه إذ لا يستدعي التخصيص بل الدخول في العموم وهم بلا شبهة داخلون فيه دخولا أوليا وأما ما تقدم فلا تسلم صحته فإنه يلزم عليه أن يكون علي كرم الله تعالى وجهه خيرا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإمامية وإن قالوا إنه رضي الله تعالى عنه خير من الأنبياء حتى أولي العزم عليهم‌السلام ومن الملائكة حتى المقربين عليهم‌السلام لا يقولون بخيريته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن قالوا بأن البرية على ذلك مخصوصة بمن عداه عليه الصلاة والسلام للدليل الدال على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير منه كرم الله تعالى وجهه قيل إنها مخصوصة أيضا بمن عدا الأنبياء والملائكة ومن قال أهل السنة بخيريته للدليل الدال على خيريتهم. وبالجملة لا ينبغي أن يرتاب في عدم تخصيص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالأمير كرم الله تعالى وجهه وشيعته ولا به رضي الله تعالى عنه وأهل بيته وإن دون إثبات صحة تلك الأخبار خرط القتاد والله تعالى أعلم.

ثم إن الروايات في أن هذه السورة قد نسخ منها كثير كثيرة منها أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه عن أبيّ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك القرآن» فقرأ عليه الصلاة والسلام (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) فقرأ فيها : «ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه يسأل ثانيا ، ولو سأل ثانيا فأعطيه يسأل ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب وإن الدين عند الله الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل ذلك فلن يكفره». وفي بعض الآثار أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اقرأه هكذا ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة إن أقوم الدين الحنيفية مسلمة غير مشركة ولا يهودية ولا نصرانية ومن يعمل صالحا فلن يكفره وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلّا من بعد ما جاءتهم البينة إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وفارقوا الكتاب لما جاءهم أولئك عند الله شر البرية ما كان الناس إلّا أمة واحدة ثم أرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين يأمرون الناس يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويعبدون الله وحده أولئك عند الله خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه. أخرج ذلك ابن مردويه عن أبيّ رضي الله تعالى عنه وهو مخالف لما صح عنه فلا يعول عليه كما لا يخفى على العارف بعلم الحديث.

٤٣٢

سورة الزّلزلة

ويقال سورة إذا زلزلت وهي مكية في قول ابن عباس ومجاهد وعطاء ، ومدنية في قول قتادة ومقاتل. واستدل له في الإتقان بما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه ، قال : لما نزلت (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [الزلزلة : ٧] إلخ قلت : يا رسول الله إني لراء عملي؟ قال : «نعم» قلت : تلك الكبار الكبار؟ قال : «نعم» قلت : الصغار الصغار؟ قال : «نعم». قلت : وا تكل أمي؟ قال : «أبشر يا أبا سعيد فإن الحسنة بعشر أمثالها» الحديث. وأبو سعيد لم يكن إلّا بالمدينة ولم يبلغ إلا بعد أحد. وآيها ثمان في الكوفي والمدني الأول وتسع في الباقية وصح في حديث الترمذي والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس مرفوعا : «إذا زلزلت تعدل نصف القرآن». وجاء في حديث آخر تسميتها ربعا ووجه ما في الأول بأن أحكام القرآن تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة وهذه السورة تشتمل على أحكام الآخرة إجمالا وزادت على القارعة بإخراج الأثقال وبحديث الأخبار وما في الآخر بأن الإيمان بالبعث الذي قررته هذه السورة ربع الإيمان في الحديث الذي رواه الترمذي : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر». وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بهذا المقام ، وكأنه لما ذكر عزوجل في السورة السابقة جزاء الفريقين المؤمنين والكافرين كان ذلك كالمحرك للسؤال عن وقته فبينه جل شأنه في هذه السورة فقال عزّ من قائل :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٨)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) أي حركت تحريكا عنيفا متداركا متكررا (زِلْزالَها) أي الزلزال المخصوص بها الذي تقتضيه بحسب المشيئة الإلهية للبنية على الحكم البالغة وهو الزلزال الشديد الذي ليس بعده زلزال فكأن ما سواه ليس زلزالا بالنسبة إليه أو زلزالها العجيب الذي لا يقادر قدره ، فالاضافة على الوجهين للعهد ،. ويجوز أن يراد الاستغراق لأن زلزالا مصدر مضاف فيعم أي زلزالها كله وهو استغراق

٤٣٣

عرفي قصد به المبالغة وهو مراد من قال أي زلزالها الداخل في حيّز الإمكان أو عنى بذلك العهد أيضا. وقرأ الجحدري وعيسى «زلزالها» بفتح الزاي وهو عند ابن عطية مصدر كالزلزال بالكسر. وقال الزمخشري المكسور مصدر والمفتوح اسم للحركة المعروفة ، وانتصب هاهنا على المصدر تجوزا لسده مسد المصدر. وقال أيضا : ليس في الأبنية فعلال بالفتح إلّا في المضاعف وذكروا أنه يجوز في ذلك الفتح والكسر إلّا أن الأغلب فيه إذا فتح أن يكون بمعنى اسم الفاعل كصلصال بمعنى مصلصل وقضقاض بمعنى مقضقض ووسواس بمعنى موسوس وليس مصدرا عند ابن مالك ، وأما في غير المضاعف فلم يسمع إلّا نادرا سواء كان صفة أو اسما جامدا ، وبهرام وبسطام معربان إن قيل بصحة الفتح فيهما ومن النادر خزعال بمعجمتين وهو الناقة التي بها ظلع ولم يثبت بعضهم غيره. وزاد ثعلب قهقازا وهو الحجر الصلب ، وقيل : هو جمع وقيل هو لغة ضعيفة والفصيحة قهقر بتشديد الراء. وزاد آخر قسطالا وهو الغبار وهذا الزلزال على ما ذهب إليه جمع عند النفخة الثانية لقوله تعالى : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) فقد قال ابن عباس : أي موتاها. وقال النقاش والزجاج ومنذر بن سعيد : أي كنوزها وموتاها. وروي عن ابن عباس أيضا : وهذه الكنوز على هذا القول غير الكنوز التي تخرج أيام الدجال على ما وردت به الأخبار وذلك بأن تخرج بعضا في أيامه وبعضا عند النفخة الثانية ولا بعد في أن تكون بعد الدجال كنوز أيضا فتخرجها مع ما كان قد بقي يومئذ. وقيل : هو عند النفخة الأولى وأثقالها ما في جوفها من الكنوز أو منها ومن الأموات ويعتبر الوقت ممتدا وقيل : يحتمل أن يكون إخراج الموتى كالكنوز عند النفخة الأولى وإحياؤها في النفخة الثانية وتكون على وجه الأرض بين النفختين ، وأنت تعلم أنه خلاف ما تدل عليه النصوص وقيل إنها تزلزل عند النفخة الأولى فتخرج كنوزها وتزلزل عند الثانية فتخرج موتاها. وأريد هنا بوقت الزلزال ما يعم الوقتين. واقتصر بعضهم على تفسير الأثقال بالكنوز مع كون المراد بالوقت وقت النفخة الثانية وقال : تخرج الأرض كنوزها يوم القيامة ليراها أهل الموقف فيتحسر العصاة إذا نظروا إليها حيث عصوا الله تعالى فيها ثم تركوها لا تغني عنهم شيئا. وفي الحديث تلقي الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوانات من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول : في هذا قتلت ويجيء القاطع فيقول : في هذا قطعت رحمي ويجيء السارق فيقول : في هذا قطعت يدي ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا وقيل إن ذلك لتكوى بها جباه الذين كنزوا وجنوبهم وظهورهم. وأيّا ما كان فالأثقال جمع ثقل بالتحريك وهو على ما في القاموس متاع المسافر وكل نفيس مصون ، وتجوز به هاهنا على سبيل الاستعارة عن الثاني ويجوز أن يكون جمع ثقل بكسر فسكون بمعنى حمل البطن على التشبيه والاستعارة أيضا كما قال الشريف المرتضى في الدرر ، وأشار إلى أنه لا يطلق على ما ذكر إلّا بطريق الاستعارة ومنهم من فسر الأثقال هاهنا بالأسرار وهو مع مخالفته للمأثور بعيد وإظهار الأرض في موقع الإضمار لزيادة التقرير وقيل للإيماء إلى تبديل الأرض غير الأرض ، أو لأن إخراج الأرض حال بعض أجزائها. والظاهر أن إخراجها ذلك مسبب عن الزلزال كما ينفض البساط ليخرج ما فيه من الغبار ونحوه وإنما اختيرت الواو على الفاء تفويضا لذهن السامع كذا قيل. ولعل الظاهر أنه لم ترد السببية والمسببية بل ذكر كل مما ذكر من الحوادث من غير تعرض لتسبب شيء منها على الآخر.

(وَقالَ الْإِنْسانُ) أي كل فرد من أفراد الإنسان لما يبهرهم من الطامة التامة ويدهمهم من الداهية العامة (ما لَها) وزلزلت هذه المرتبة من الزلزال وأخرجت ما فيها من الأثقال استعظاما لما شاهدوه من الأمر الهائل وقد سيرت الجبال في الجو وصيرت هباء. وذهب غير واحد إلى أن المراد بالإنسان الكافر غير المؤمن بالبعث

٤٣٤

والأظهر هو الأول على أن المؤمن يقول ذلك بطريق الاستعظام والكافر بطريق التعجب (يَوْمَئِذٍ) بدل من إذا وقوله تعالى (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) أي الأرض واحتمال كون الفاعل المخاطب كما زعم الطبرسي لا وجه له عامل فيهما. وقيل : العامل مضمر يدل عليه مضمون الجمل بعد والتقدير يحشرون إذا زلزلت و (يَوْمَئِذٍ) متعلق ب (تُحَدِّثُ) و (إِذا) عليه لمجرد الظرفية. وقيل هي نصب على المفعولية لا ذكر محذوفا أي اذكر ذلك الوقت فليست ظرفية ولا شرطية ، وجوز أن تكون شرطية منصوب بجواب مقدر أي يكون ما لا يدرك كنهه أو نحوه والمراد يوم إذا زلزلت زلزالها وأخرجت أثقالها وقال الإنسان ما لها تحدث الخلق ما عندها من الأخبار وذلك بأن يخلق الله تعالى فيها حياة وإدراكا وتتكلم حقيقة فتشهد بما عمل عليها من طاعة أو معصية وهو قول ابن مسعود والثوري وغيرهما ويشهد له الحديث الحسن الصحيح الغريب. أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) ثم قال : «أتدرون ما أخبارها»؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول عمل يوم كذا كذا فهذه أخبارها» والباء في قوله تعالى (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) للسببية أي تحدث بسبب إيحاء ربك لها وأمره سبحانه إياها بالتحديث واللام بمعنى إلى أي أوحى إليها لأن المعروف تعدي الوحي بها كقوله تعالى (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨] لكن قد يتعدى باللام كما في قول العجاج يصف الأرض :

أوحى لها القرار فاستقرّت

وشدها بالراسيات الثّبّت

ولعل اختيارها لمراعاة الفواصل. وجوز أن تكون اللام للتعليل أو المنفعة لأن الأرض بتحديثها بعمل العصاة يحصل لها تشف منهم بفضحها إياهم بذكر قبائحهم والموحى إليه هي أيضا ، والوحي يحتمل أن يكون وحي إلهام وأن يكون وحي إرسال بأن يرسل سبحانه إليها رسولا من الملائكة بذلك. وقال الطبري وقوم : التحديث استعارة أو مجاز مرسل لمطلق دلالة حالها والإيحاء إحداث ما تدل به فيحدث عزوجل فيها من الأحوال ما يكون به دلالة تقوم مقام التحديث باللسان حتى ينظر من يقول ما لها إلى تلك الأحوال فيعلم لم زلزلت ولم لفظت الأموات وإن هذا ما كانت الأنبياء عليهم‌السلام ينذرونه ويحذرون منه وما يعلم هو أخبارها. وقيل : الإيحاء على تقدير كون التحديث حقيقيا أيضا مجاز عن إحداث حالة ينطقها سبحانه بها كإيجاد الحياة وقوة التكلم والإخبار على ما سمعت آنفا. وقال يحيى بن سلام : تحدث بما أخرجت من أثقالها ويشهد له ما في حديث ابن ماجة في سننه : «تقول الأرض يوم القيامة يا رب هذا ما استودعتني». وعن ابن مسعود تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى وأمر الآخرة قد أتى فيكون ذلك جوابا لهم عند سؤالهم. وقال الزمخشري : يجوز أن يكون المعنى تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها تحديث بإخبارها كما تقول نصحتني كل نصيحة بأن نصحتني في الدين فأخبارها عليه هو أن ربك أوحى لها والباء تجريدية مثلها في قولك لئن لقيت فلانا لتلقين به رجلا متناهيا في الخير. وكان الظاهر تحدث بخبرها بالإفراد وكذا على ما قبله من الوجهين لكن جمع للمبالغة كما يشير إليه المثال ونحوه قول الشاعر :

فأنالني كلّ المنى بزيارة

كانت مخالسة كخطفة طائر

فلو استطعت خلعت على الدّجى

لتطول ليلتنا ـ سواد الناظر

ولا يخفى بعده. وبالغ أبو حيان في الحط عليه ، فقال : هو عفش ينزه القرآن عنه. وأراد بالعفش ـ بعين

٤٣٥

مهملة وفاء وشين معجمة ـ ما يدنس المنزل من الكناسة وهي كلمة تستعملها في ذلك عوام أهل المغرب وليس كما قال. وجوز أيضا أن يكون (بِأَنَّ رَبَّكَ) إلخ بدلا من (أَخْبارَها) كأنه قيل يومئذ تحدث بأن ربك أوحى لها لأنك تقول حدثته كذا وحدثته بكذا فيصح إبدال (بِأَنَ) إلخ من (أَخْبارَها) وأن أحدهما مجرور والآخر منصوب لأنه يحل محله في بعض الاستعمالات وليس ذلك في الامتناع خلافا لأبي حيان كاستغفرت الذنب العظيم بنصب الذنب وجر العظيم على أنه نعت له باعتبار قولهم : استغفرت من الذنب لأن البدل هو المقصود فهو في قوة عامل آخر بخلاف النعت. نعم هو أيضا خلاف الظاهر وبعد كل ذلك اللائق أن لا يعدل عن المأثور لا سيما إذا صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقي هاهنا بحث وهو أنهم اختلفوا في نحو : حدثت هل هو متعد إلى مفعول واحد أو إلى أكثر؟ فذهب الزمخشري وغيره ونقل عن سيبويه إلى الثاني وهو عندهم ملحق بأفعال القلوب فينصب مفعولين كحدثت زيدا الخبر ، أو ثلاثة كحدثته عمرا قائما فأخبارها عليه هو المفعول الثاني والمفعول الأول محذوف كما أشرنا إليه ولم يذكر لأنه لا يتعلق بذكره غرض إذا الغرض تهويل اليوم وأنه مما ينطق فيه الجماد بقطع النظر عن المحدث كائنا من كان. وقال الشيخ ابن الحاجب : إنما هو متعدّ لواحد وما جاء بعده لتعين المفعول المطلق فعمرا قائما في حدثت زيدا عمرا قائما منصوب لوقوعه موقع المصدر لا لكونه مفعولا ثانيا وثالثا ولا يقال كيف يصح أن يقع ما ليس بفعل في المعنى أعني عمرا قائما مصدرا لأنه لم يكن مصدرا باعتبار كونه عمرا قائما ولكن باعتبار كونه حديثا مخصوصا فالوجه الذي صحح الإخبار به عن الحديث إذا قلت : حديث زيد عمرو قائم هو الذي صحح وقوعه مصدرا فإخبارها عليه في موقع المفعول والمفعول به محذوف لما تقدم ، بل قال بعضهم : إنك إذا قلت حدثته حديثا أو خبرا فلا نزاع في أنه مفعول مطلق ، والظاهر أن الإخبار في زعمه كذلك وتعقب ذلك في الكشف بأن ما ذكره الشيخ غير مسلم فإنه لم يفرق بين التحديث والحديث والأول هو المفعول المطلق كيف وهو يجر بالباء فتقول : حدثته الخبر وبالخبر ومعلوم أن ما دخل عليه الباء لا يجوز أن يكون مفعولا مطلقا وقد يقال كون الشيخ لم يفرق في حيّز المنع وكيف يخفى مثل ذلك على مثله لكنه قائل بأن أثر المصدر ومتعلقه قد سدّ مسده فيما ذكر كما سد مسده آلته في نحو ضربته سوطا ولعل ما قرره في غير ما دخلته الباء. وقال الطيبي : يمكن أن يقال إن حدث وأخواتها متعديات إلى مفعول واحد حقيقة وجعلها متعديات إلى ثلاثة أو إلى اثنين تجوز أو تضمين لمعنى الإعلام واستأنس له بكلام نقله عن المفصل وكلام نقله عن صاحب الإقليد فتأمل. وقرأ ابن مسعود «تنبئ أخبارها» وسعيد بن جبير «تنبئ» بالتخفيف.

(يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ ما ذكر وهو يقع ظرفا لقوله تعالى (يَصْدُرُ النَّاسُ) يخرجون من قبورهم بعد أن دفنوا فيها إلى موقف الحساب (أَشْتاتاً) متفرقين بحسب طبقاتهم بيض الوجوه آمنين وسود الوجود فزعين وراكبين وماشين ومقيدين بالسلاسل وغير مقيدين. وعن بعض السلف متفرقين إلى سعيد وأسعد وشقي وأشقى.

وقيل : إلى مؤمن وكافر وعن ابن عباس : أهل الإيمان على حدة وأهل كل دين على حدة وجوز أن يكون المراد كل واحد وحده لا ناصر له ولا عاضد كقوله تعالى (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) [الأنعام : ٩٤] وقيل متفرقين بحسب الأقطار (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) أي ليبصروا جزاء أعمالهم خيرا كان أو شرا فالرؤية بصيرية والكلام على حذف مضاف أو على أنه تجوز بالأعمال عما يتسبب عنها من الجزاء وقدر بعضهم كتب أو صحائف وقال آخر : لا حاجة إلى التأويل والأعمال تجسم نورانية وظلمانية بل يجوز رؤيتها مع عرضيتها وهو كما ترى. وقيل المراد ليعرفوا أعمالهم ويوقفوا عليها تفصيلا عند الحساب فلا يحتاج إلى ما ذكر أيضا. وقال النقاش

٤٣٦

الصدور مقابل الورود فيردون المحشر ويصدرون منه متفرقين فقوم إلى الجنة وقوم إلى النار ليروا جزاء أعمالهم من الجنة والنار وليس بذاك. وأيّا ما كان فقوله تعالى (لِيُرَوْا) متعلق ب (يَصْدُرُ) وقيل : هو متعلق ب (أَوْحى لَها) وما بينهما اعتراض. وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة وعيسى ونافع في رواية «ليروا» بفتح الياء. وقوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) تفصيل ليروا والذرة نملة صغيرة حمراء رقيقة ويقال إنها تجري إذا مضى لها حول وهي علم في القلة. قال امرؤ القيس.

من القاصرات الطرف لو دب محول

من الذر فوق الإتب منها لأثرا

وقيل : الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء. وأخرج هناد عن ابن عباس أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها. وقال : كل واحدة من هؤلاء مثقال ذرة وانتصاب (خَيْراً) و (شَرًّا) على التمييز لأن مثقال ذرة مقدار. وقيل على البدلية من (مِثْقالَ) والظاهر أن (مَنْ) في الموضعين عامة للمؤمن والكافر وأن المراد من رؤية ما يعادل مثقال ذرة من خير أو شر مشاهدة جزائه بأن يحصل له ذلك. واستشكل بأن ذلك يقتضي إثابة الكافر بحسناته وما يفعله من الخير مع أنهم قالوا : أعمال الكفرة محبطة وادعى في شرح المقاصد الإجماع على ذلك كيف وقد قال سبحانه (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] وقال عزوجل (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [هود : ١٦] وقال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) الآية. [إبراهيم : ١٨] وكون خيرهم الذي يرونه تخفيف العذاب يدفعه قوله تعالى (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) [البقرة : ٨٦ ، النحل : ٨٥] وقوله سبحانه (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل : ٨٨] ويقتضي أيضا عقاب المؤمن بصغائره إذا اجتنب الكبائر مع أنهم قالوا إنها مكفرة حينئذ لقوله تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١] وقول ابن المنير : إن الاجتناب لا يوجب التكفير عند الجماعة بل التوبة أو مشيئة الله تعالى ليس بشيء لأن التوبة والاجتناب سواء في حكم النص ومشيئة الله تعالى هي السبب الأصيل فالتزم بعضهم كون المراد بمن الأولى السعداء ، وبمن الثانية الأشقياء بناء على أن (فَمَنْ يَعْمَلْ) إلخ تفصيل ل (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) وكان مفسرا بما حاصله (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧٠] فالمناسب أن يرجع كل فقرة إلى فرقة لتطابق المفصل المجمل ولأن الظاهر قوله سبحانه (فَمَنْ يَعْمَلْ وَمَنْ يَعْمَلْ) بتكرير أداة الشرط يقتضي التغاير بين العاملين وقال آخرون بالعموم إلّا أن منهم من قال : في الكلام قيد مقدر ترك لظهوره والعلم به من آيات أخر. فالتقدير : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره إن لم يحبط ومن يعلم مثقال ذرة شرا يره إن لم يكفر. ومنهم من جعل الرؤية أعم مما تكون في الدنيا وما تكون في الآخرة ، فالكافر يرى جزاء خيره في الدنيا وجزاء شره في الآخرة والمؤمن يرى جزاء شره في الدنيا وجزاء خيره في الآخرة فقد روى البغوي وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : فمن يعمل مثقال ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا في نفسه وأهله وماله حتى يبلغ الآخرة وليس عليه فيها خير ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر وهو مؤمن كوفئ ذلك في الدنيا في نفسه وأهله وماله حتى يبلغ الآخرة وليس عليه فيها شر.

وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب وابن أبي حاتم وجماعة عن أنس قال : بينما أبو بكر

٤٣٧

الصديق رضي الله تعالى عنه يأكل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ نزلت عليه (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) الآية فرفع أبو بكر يده وقال : يا رسول الله إني لراء ما عملت من مثقال ذرة من شر؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر لك مثاقيل ذر الخير حتى توفاه يوم القيامة». وفي رواية ابن مردويه عن أبي أيوب أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له إذ رفع يده : «من عمل منكم خيرا فجزاؤه في الآخرة ، ومن عمل منكم شرا يره في الدنيا مصيبات وأمراضا ، ومن يكن فيه مثقال ذرة من خير دخل الجنة». ومنهم من قال: المراد من رؤية ما يعادل ذلك من الخير والشر مشاهدة نفسه عن غير أن يعتبر معه الجزاء ولا عدمه بل يفوض كل منهما إلى سائر الدلائل الناطقة بعفو صغائر المؤمن المجتذب عن الكبائر وإثباته بجميع حسناته وبحبوط حسنات الكافر ومعاقبته بجميع معاصيه وبه يشعر ما أخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث عن ابن عباس من قوله في الآية ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرا وشرا في الدنيا إلّا أراه الله تعالى إياه فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته فيغفر له من سيئاته ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر فيريه حسناته وسيئاته فيردّ حسناته ويعذبه بسيئاته. واختار هذا الطيبي فقال إنه يساعده النظم والمعنى والأسلوب أما النظم فإن قوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ) إلخ تفصيل لما عقب به من قوله سبحانه (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) فيجب التوافق والأعمال جمع مضاف يفيد الشمول والاستغراق ويصدر الناس مقيد بقوله عزوجل (أَشْتاتاً) فيفيد أنهم على طرائق شتى للنزول في منازلهم من الجنة والنار بحسب أعمالهم المختلفة ومن ثم كانت الجنة ذات درجات والنار ذات دركات. وأما المعنى فإنها وردت لبيان الاستقصاء في عرض الأعمال والجزاء عليها كقوله تعالى (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧] وأما الأسلوب فإنها من الجوامع الحاوية لفوائد الدين أصلا وفرعا روينا عن البخاري ومسلم عن أبي هريرة سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحمر أي عن صدقتها قال : «لم ينزل عليّ فيها شيء إلّا هذه الآية الجامعة الفاذة» أي المتفردة في معناها فتلاها عليه الصلاة والسلام. وروى الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق أنه أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ عليه الآية فقال : «حسبي لا أبالي أن لا أسمع من القرآن غيرها» انتهى. وأقول الظاهر عموم من وكون المراد رؤية الجزاء كما تقدم وكذا الظاهر كون ذلك في الآخرة ولا إشكال وذلك لأن الفقرة الأولى وعد والثانية وعيد ، ومذهبنا أن الوعد لازم الوقوع تفضلا وكرما والوعيد ليس كذلك فيفوض أمر الشر في الثانية على الدلائل وهي ناطقة بأنه إن كان كفرا لا يغفر وإن كان صغيرة من مؤمن مجتنب الكبائر يكفر ، وإن كان كبيرة من مؤمن أو صغيرة منه وهو غير مجتنب الكبائر فتحت المشيئة. وخبرا أنس وأبي أيوب السابقان لا يأبيان ذلك بعد التأمل ولا يبعد فيما أرى أن يكون ما عدا الكفر من الكافر كذلك. وأما أمر الخير فباق على ما يقتضيه الظاهر وهو بالنسبة إلى المؤمن ظاهر ، وأما بالنسبة إلى الكافر فتخفيف العذاب للأحاديث الصحيحة فقد ورد أن حاتما يخفف الله تعالى عنه لكرمه ، وأن أبا لهب كذلك لسروره بولادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإعتاقه لجاريته ثويبة حين بشرته بذلك ، والحديث في تخفيف عذاب أبي طالب مشهور وما يدل على عدم تخفيف العذاب فالعذاب فيه محمول على عذاب الكفر بحسب مراتبه فهو الذي لا يخفف ، والعذاب الذي دلت الأخبار على تخفيفه غير ذلك ، ومعنى إحباط أعمال الكفار أنها لا تنجيهم من العذاب المخلد كأعمال غيرهم وهو معنى كونها سرابا وهباء. ودعوى الإجماع على إحباطها بالكلية غير تامة كيف وهم مخاطبون بالتكاليف في المعاملات والجنايات اتفاقا. والخلاف إنما هو في خطابهم في غيرها من الفروع ولا شك أنه لا معنى للخطاب بها إلا عقاب تاركها وثواب فاعلها. وأقله التخفيف وإلى هذا ذهب العلامة شهاب الدين

٤٣٨

الخفاجي عليه الرحمة ثم قال : وما في التبصرة وشرح المشارق وتفسير الثعلبي من أن أعمال الكفرة الحسنة التي لا يشترط فيها الإيمان كإنجاء الغريق وإطفاء الحريق وإطعام ابن السبيل يجزون عليها في الدنيا ولا تدخر لهم في الآخرة كالمؤمنين بالإجماع للتصريح به في الأحاديث ، فإن عمل أحدهم في كفره حسنات ثم أسلم اختلف فيه هل يثاب عليها في الآخرة أم لا بناء على أن اشتراط الإيمان في الاعتداد بالأعمال وعدم إحباطها هل هو بمعنى وجود الإيمان عند العمل أو وجوده ولو بعد لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث : «أسلمت على ما سلف لك من خير» غير مسلم ودعوى الإجماع فيه غير صحيحة لأن كون وقوع جزائهم في الدنيا دون الآخرة كالمؤمنين مذهب لبعضهم ، وذهب آخرون إلى الجزاء بالتخفيف وقال الكرماني : إن التخفيف واقع لكنه ليس بسبب عملهم بل لأمر آخر كشفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجائه ومنه ما يكون لأبي لهب كما قال الزركشي انتهى. ولقائل أن يقول إن الشفاعة من آثار عمل المشفوع الخير أيضا فتأمل.

وسبب نزول الآية على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه لما نزل (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) [الإنسان : ٨] كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه فيجيء المسكين إلى أبوابهم فيستقلون أن يعطوه التمرة والبسرة فيردونه ويقولون : ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه ، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك ويقولون إنما وعد الله تعالى النار على الكبائر فنزلت الآية ترغبهم في القليل من الخير أن يعملوه ، وتحذرهم اليسير من الشر أن يعملوه. وفيها من دلالة الخطاب ما لا يخفى وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعدها يتصدقون بما قل وكثر. فقد روي أن عائشة رضي الله تعالى عنها بعث إليها ابن الزبير بمائة ألف وثمانين ألف درهم في غرارتين فدعت بطبق وجعلت تقسمها بين الناس فلما أمست قالت جاريتها : هلمي وكانت صائمة ، فجاءت بخبز وزيت فقالت : ما أمسكت لنا درهما نشتري به لحما نفطر عليه. فقالت : لو ذكرتيني لفعلت. وجاء في عدة روايات أنها أعطت سائلا يوما حبة من عنب ، فقيل لها في ذلك. فقالت : هذه أثقل من ذر كثير ثم قرأت الآية. وروي نحو هذا عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن مالك رضي الله تعالى عنهم وكان غرضهم تعليم الناس أنه لا بأس بالتصدق بالقليل ولهم بذلك أسوة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقد أخرج الزجاجي في أماليه عن أنس بن مالك أن سائلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعطاه تمرة ، فقال السائل : نبي من الأنبياء تصدق بتمرة. فقال عليه الصلاة والسلام : «أما علمت فيها مثاقيل ذر كثيرة» وجاء أنه عليه الصلاة والسلام قال : «اتقوا النار ولو بشق تمرة» ثم قرأ الآية. وتقديم عمل الخير لأنه أشرف القسمين والمقصود بالأصالة لا يخفى حسن موقعه ويعلم منه أن هذا الإحصاء لا ينافي كرمه عزوجل المطلق وما يحكى من أن أعرابيا أخر خيرا يره فقيل له قدمت وأخرت فقال :

خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه

كلا جانبي هرشى لهن طريق

فغفل عن اللطائف القرآنية أو لعله أراد أنه فيما يتعلق بالعمل لا بأس به قدم أو أخر لا أن القراءة به جائزة. وقرأ الحسين بن علي على جده وعليهما الصلاة والسلام وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعبد الله بن مسلم وزيد بن علي وأبو حيوة والكلبي وخليد بن نشيط وأبان عن عاصم والكسائي في رواية حميد بن الربيع عنه «يره» بضم الياء في الموضعين. وقرأ هشام وأبو بكر «يره» بسكون الهاء فيها وأبو عمرو بضمها مشبعة وباقي السبعة بالإشباع في الأول والسكون في الثاني والإسكان في الوصل لغة حكاها الأخفش ولم يحكها سيبويه وحكاها الكسائي أيضا عن بني كلاب وبني عقيل. وقرأ عكرمة «يراه» بالألف فيهما وذلك على لغة من

٤٣٩

يرى الجزم بحذف الحركة المقدرة على حرف العلة كما حكى الأخفش أو على ما يقال في غير القرآن من توهم أن من موصولة لا شرطية كما قيل في قوله تعالى (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) [يوسف : ٩] في قراءة من أثبت ياء يتق وجزم يصبر. وجوز أن تكون الألف للإشباع والوجه الأول أولى والله تعالى أعلم.

٤٤٠