روح المعاني - ج ١٥

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٥

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٤

الآية لأنها لما عملتها في الدنيا فكأنها أحضرتها في الموقف ومعنى علمها بها على التقدير الأول اطلاعها عليها مفصلة في الصحف بحيث لا يشذ عنها منها شيء كما ينبئ عنه قولهم (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩]. وعلى التقدير الثاني أنها تشاهدها على ما هي عليه في الحقيقة فإن كانت صالحة تشاهدها على صور أحسن مما كانت تدركها في الدنيا لأن الطاعات لا تخلو فيها عن نوع مشقة ، وإن كانت سيئة تشاهدها على خلاف ما كانت عندها في الدنيا كانت مزينة لها موافقة لهواها ، وتنكير نفس المفيد لثبوت العلم لفرد من النفوس أو لبعض منها للإيذان بأن ثبوته لجميع أفرادها قاطبة من الظهور والوضوح بحيث لا يكاد يحوم حوله شائبة قطعا يعرفه كل أحد ، ولو جيء بعبارة تدل على خلافه وللرمز إلى أن تلك النفوس العالمة بما ذكر مع توفر أفرادها وتكثر أعدادها مما تستقل بالنسبة إلى جناب الكبرياء والعظمة الذي أشير إلى بعض بدائع شئونه المنبئة عن عظم سلطانه عزوجل. وفي الكشاف إن هذا من عكس كلامهم الذي يقصدون فيه الإفراط فيما يعكس عنه ومنه قوله تعالى (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر : ٢] ومعناه كم وأبلغ وقول القائل :

قد أترك القرم مصفرا أنامله

كأن أثوابه مجّت بفرصاد

وتقول لبعض قواد العساكر كم عندك من الفرسان فيقول : رب فارس عندي ، أو لا تعدم عندي فارسا وعنده المقانب وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه ولكنه أراد إظهار براءته من التزيد وإنه ممن يقلل كثير ما عنده فضلا أن يتزيد فجاء بلفظ التقليل ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين وبين بالكشف أنه يفيد ذلك مع ما في خصوص كل موقف من فائدة خاصة ، وذكر أن من الفوائد هاهنا تهويل اليوم بتقليل الأنفس العالمة وإن كن جميعها وإظهار أنه كلام من غاية العظمة والكبرياء وأن من يغير هذه الأجرام العظام ويبدلها صفات وذوات تستقل الأنفس الإنسانية في جنب قدرته سبحانه أيما استقلال وتعقب ذلك أبو السعود بما لا يخلو عن نظر كما لا يخفى على ذي نظر جليل فضلا عن ذي نظر دقيق. وجوز أن يكون ذلك للإشعار بأنه إذا علمت حينئذ نفس من النفوس ما أحضرت وجب على كل نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي تلك التي عملت ما أحضرت فكيف وكل نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه لعلك ستندم على ما فعلت وربما ندم الإنسان على ما فعل فإنك لا تقصد بذلك أن ندمه مرجو الوجود لا متيقن به أو نادر الوجود بل تريد أن العاقل يجب عليه أن يجتنب أمرا يرجى منه الندم أو قل ما يقع فيه فكيف إذا كان قطعي الوجود كثير الوقوع ، واشتهر أن النكرة هنا في معنى العموم وهي قد تعم في الإثبات إذا اقتضى المقام أو نحوه ذلك ومنه قول ابن عمر لبعض أهل الشام وقد سأله عن المحرم إذا قتل جرادة أيتصدق بتمرة فدية لها تمرة خير من جرادة ، قيل : ولهذا العموم ساغ الابتداء بالنكرة فيه وقول بعض إنه لا عموم فيها بل العموم جاء من تساوي نسبة الجزء إلى أفراد الجنس قيل مبني على ظن منافاة العموم للوحدة والإفراد وأنت تعلم أن ذلك إنما ينافي العموم الشمولي دون البدلي وقال بعض : لا يبعد أن يقال استفيد العموم بجعلها في حيز النفي معنى لأن (عَلِمَتْ نَفْسٌ) في معنى لم تجهل نفس لأن الحكم بالشيء يستلزم نفي ضده ليس بشيء وإلّا لعمت كل نكرة في الإثبات بنحو هذا التأويل. وعن عبد الله بن مسعود أن قارئا قرأ هذه السورة عنده فلما بلغ (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) قال وانقطاع ظهرياه.

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) جمع خانس من الخنوس وهو الانقباض والاستخفاء (الْجَوارِ) جمع جارية من الجري وهو المر السريع وأصله لمر الماء ولما يجري بجريه (الْكُنَّسِ) جمع كانس وكانسة من كنس الوحش إذا دخل كناسه وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر والمراد بها على ما أخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن

٢٦١

حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طريق عن علي كرم الله تعالى وجهه الكواكب أي جميعها ، فقيل لأنها تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل أي تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها. وفي تفسير تكنس بتطلع خفاء وقيل لأنها تخنس نهارا وتخفى عن العيون مع طلوعها وكونها فوق الأفق وتكنس بعد طلوعها في المغيب وتدخل فيه كما تكنس الظباء في الكنس فتكون تحت الأفق بعد أن كانت فوقه. وروي تفسيرها بالكواكب عن الحسن وقتادة أيضا. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال : هي خمسة أنجم زحل وعطارد والمشتري وبهرام يعني المريخ والزهرة والخنس الرواجع من خنس إذا تأخر ، ووصفت بما ذكر في الآية لأنها تجري مع الشمس والقمر وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس فخنوسها رجوعها بحسب الرؤية وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها ، وتسمى المتحيرة لاختلاف أحوالها في سيرها فيما يشاهد فلها استقامة ورجعة وإقامة فبينما تراها تجري إلى جهة إذا بها راجعة تجري إلى خلاف تلك الجهة ، وبينما تراها تجري إذا بها مقيمة لا تجري وسبب ذلك على ما قال المتقدمون من أهل الهيئة كونها في تداوير في حوامل مختلفة الحركات على ما بيّن في موضعه وللمحدثين منهم النافين لما ذكر غير ذلك مما هو مذكور في كتبهم وهي مع الشمس والقمر يقال لها السيارات السبع لأن سيرها بالحركة الخاصة مما لا يكاد يخفى على أحد بخلاف غيرها من الثوابت. وأخرج الخطيب في كتاب النجوم وابن مردويه عن ابن عباس أنها المرادة هنا ووصفها (بِالْخُنَّسِ) بمعنى الرواجع قيل من باب التغليب إذ لا رجعة للشمس ولا للقمر وبالخنس لاختفائها في مغيبها. وقيل : الوصفان باعتبار أنها تغيب عن العيون وتطلع في أماكنها على نحو ما تقدم على تقدير أن يكون المراد بها الكواكب جميعها وكون السيارات هي هذه السبع هو المعروف عند المتقدمين من المنجمين. وأما اليوم فقد ضموا إليها كواكب أخرى يقال لها وستا وزونو وبالاس وسرس وأورنوس ويسمى هرسل وهو اسم المنجم الذي ظفر به بالرصد ، وبينوا مقدار أقطارها وأبعادها وحركاتها ولو لا مخافة التطويل لذكرت ذلك. وعدوا من جملة السيارات الأرض بناء على زعمهم أن لها حركة حول الشمس واشتهر أنهم لم يعدوا القمر منها لكونه من توابع الأرض بزعمهم. وأخرج الحاكم وصححه وجماعة من طرق عن ابن مسعود أنها بقر الوحش ، وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعبد بن حميد عن مجاهد وأبي ميسرة والحسن وحكاه في البحر عن النخعي وجابر بن زيد وجماعة. وأخرج ابن جرير عن الحبر أنها الظباء وروي ذلك أيضا عن ابن جبير والضحاك قالوا : و «الخنس» تأخر الأنف عن الشفة مع ارتفاع قليل من الأرنبة وتوصف به بقر الوحش والظباء ومنه قول بعض المولدين :

ما سلم الظبي على حسنه

كلا ولا البدر الذي يوصف

فالظبي فيه خنس بيّن

والبدر فيه كلف يعرف

(وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) أي أدبر ظلامه أو أقبل وكلاهما مأثوران عن ابن عباس وغيره وهو من الأضداد عند المبرد. وقال الراغب : العسعسة والعساس رقة الظلام وذلك في طرفي الليل فهو من المشترك المعنوي عنده وليس من الأضداد. وفسر (عَسْعَسَ) هنا بأقبل وأدبر معا وقال ذلك في مبدأ الليل ومنتهاه. وقال الفراء : أجمع المفسرون على أن معنى (عَسْعَسَ) أدبر وعليه العجاج يصف الخمر أو المفازة :

حتى إذا الصبح لها تنفسا

وانجاب عنها ليلها وعسعسا

وقيل : هي لغة قريش خاصة وقيل كونه بمعنى أقبل ظلامه أوفق بقوله تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) فإنه أول النهار فيناسب أول الليل ، وقيل : كونه بمعنى أدبر أنسب بهذا لما بين إدبار الليل وتنفس الصبح من الملاصقة فيكون بينهما مناسبة الجوار. والمراد من تنفس الصبح على ما ذكر غير واحد إضاءته وتبلجه وفي

٢٦٢

الكشاف أن إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم فجعل ذلك نفسا له على المجاز وقيل : تنفس الصبح وعنى بالمجاز الاستعارة لأنه لما كان النفس ريحا خاصا يفرج عن القلب انبساطا وانقباضا شبه ذلك النسيم بالنفس وأطلق عليه الاسم استعارة وجعل الصبح متنفسا لمقارنته له ففي الكلام استعارة مصرحة وتجوز في الإسناد. وظاهر كلام بعضهم أنه بعد الاستعارة يكون ذلك كناية عن الإضاءة وجوز أن يكون هناك مكنية وتخييلية بأن يشبه الصبح بماش وآت من مسافة بعيدة ويثبت له التنفس المراد به هبوب نسيمه مجازا على طريق التخييل كما في ينقضون عهد الله. وقال الإمام : النهار يغشيان الليل المظلم كالمكروب وكما أنه يجد راحة بالتنفس كذلك تخلص الصبح من الظلام وطلوعه كأنه تخلص من كرب إلى راحة وهذا أدق مما عنى الكشاف كما لا يخفى ، وجوز أن يقال : إن الليل لما غشى النهار ودفع به إلى تحت الأرض فكأنه أماته ودفنه فجعل ظهور ضوئه كالتنفس الدال على الحياة وهو نحو مما نقل عن الإمام. وقيل : تنفس أي توسع وامتد حتى صار نهارا ، والظاهر أن التنفس في الآية إشارة إلى الفجر الثاني الصادق وهو المنتشر ضوؤه معترضا بالأفق بخلاف الأول الكاذب وهو ما يبدو مستطيلا وأعلاه أضوأ من باقيه ثم يعدم وتعقبه ظلمة أو يتناقص حتى ينغمر في الثاني على زعم بعض أهل الهيئة أو يختلف حاله في ذلك تارة وتارة بحسب الأزمنة والعروض على ما قيل ، وسمي هذا الكاذب عارضا ففي خبر مسلم : «لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير» أي ينتشر ذلك العموم في نواحي الأفق. وكلام بعض الأجلة يشعر بأنه فيها إشارة إلى الكاذب حيث قال : يؤخذ من تسمية الفجر الأول عارضا للثاني أنه يعرض للشعاع الناشئ عنه الفجر الثاني انحباس قرب ظهوره كما يشعر به التنفس في قوله تعالى (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) فعند ذلك الانحباس يتنفس منه شيء من شبه كوة. والمشاهد في المنحبس إذا خرج بعضه دفعه أن يكون أوله أكثر من آخره ، ويعلم من ذلك سبب طول العمود وإضاءة أعلاه إلى آخر ما قال وفيه بحث. ثم الظاهر أن تنفس الصبح وضياءه بواسطة قرب الشمس إلى الأفق الشرقي بمقدار معين وهو في المشهور ثمانية عشر جزءا. وقول الإمام إنه يلزم على ذلك بناء على كريّة الأرض واستضاءة أكثر من نصفها من الشمس دائما ظهور الضياء وتنفس الصبح إذا فارقت الشمس سمت القدم من دائرة نصف النهار وذلك بعيد نصف الليل والواقع خلافه تشكيك فيما يقرب أن يكون بديهيا وفيه غفلة عن أحوال ظل الأرض وانعكاس الأشعة من أبصار سكنة أقطارها فتأمل. ولا تغفل. والواو في قوله تعالى (وَالصُّبْحِ وَاللَّيْلِ) على ما نقل عن ابن جني للعطف و (إِذا) ليس معمولا لفعل القسم لفساد المغني إذا التقييد بالزمان غير مراد حالا كان أو استقبالا وإنما هو على ما اختاره غير واحد معمول مضاف مقدر من نحو العظمة لأن الإقسام بالشيء إعظام له كأنه قيل : ولا أقسم بعظمة الليل زمان عسعس وبعظمة النهار زمان تنفس على نحو قولهم عجبا من الليث إذا سطا فإنه ليس المعنى على تقييد التعجب من هوله وعظمته في ذلك الزمان وقال عصام الدين : ينبغي أن يجعل تقييدا للمقسم به أي أقسم بالليل كائنا إذا عسعس والحال مقدرة أي مقدرا كونه في ذلك الوقت. وصرح العلامة التفتازاني في التلويح في مثله أن (إِذا) بدل من (اللَّيْلِ) إذ ليس المراد تعليق القسم وتقييده بذلك الوقت ولهذا منع المحققون كونه حالا من الليل لأنه أيضا يفيد تقييد القسم بذلك الوقت وسيأتي إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الشمس ما يتعلق بهذا المقام أيضا.

(إِنَّهُ) أي القرآن الجليل الناطق بما ذكر من الدواهي الهائلة وجعل الضمير للإخبار عن الحشر والنشر تعسف (لَقَوْلُ رَسُولٍ) هو كما قال ابن عباس وقتادة والجمهور جبريل عليه‌السلام ونسبته إليه عليه‌السلام

٢٦٣

لأنه واسطة فيه وناقل له عن مرسله وهو الله عزوجل (كَرِيمٍ) أي عزيز على الله سبحانه وتعالى وقيل متعطف على المؤمنين (ذِي قُوَّةٍ) أي شديد كما قال سبحانه (شَدِيدُ الْقُوى) [النجم : ٥] وجاء في قوته أنه عليه‌السلام بعث إلى مدائن لوط وهي أربع مدائن وفي كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري فحملها بمن فيها من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب ثم هوى بها فأهلكها. وقيل : المراد القوة في أداء طاعة الله تعالى وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف. وقيل : لا يبعد أن يكون المراد قوة الحفظ والبعد عن النسيان والخلط (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أي ذي مكانة رفيعة وشرف عند الله العظيم جل جلاله عندية إكرام وتشريف لا عندية مكان فالظرف متعلق بمكين وهو فعيل من المكانة وقد كثر استعمالها كما في الصحاح حتى ظن أن الميم من أصل الكلمة واشتق منه تمكن كما اشتق من المسكنة تمسكن. وجوز أن يكون مصدرا ميميا من الكون وأصله مكون بكسر الواو فصار بالنقل والقلب مكينا وأريد بالكون الوجود كأنه من كمال الوجود صار عين الوجود والأول هو الظاهر. وقيل : إن الظرف متعلق بمحذوف وقع صفة أخرى لرسول أي كائن عند ذي العرش الكينونة اللائقة وهو كما ترى (مُطاعٍ) فيما بين الملائكة المقربين عليهم‌السلام يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه (ثَمَ) ظرف مكان للبعيد وهو يحتمل أن يكون ظرفا لما قبله وجعل إشارة إلى (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) والمراد بكونه مطاعا هناك كونه مطاعا في ملائكته تعالى المقربين كما سمعت ويحتمل أن يكون ظرفا لما بعده أعني قوله سبحانه (أَمِينٍ) والإشارة بحالها وأمانته على الوحي وفي رواية عنه عليه‌السلام أنه قال : «أمانتي أني لم أومر بشيء فعدوته إلى غيره» ولأمانته أنه عليه‌السلام يدخل الحجب كما في بعض الآثار بغير إذن. وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وأبو البرهسم وابن مقسم «ثمّ» بضم الثاء حرف عطف تعظيما للأمانة وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة. وقال صاحب اللوامح هي بمعنى الواو لأن جبريل عليه‌السلام كان بالصفتين معا في حال واحدة ولو ذهب ذاهب إلى الترتيب والمهلة في هذا العطف بمعنى مطاع في الملأ الأعلى عليّ ثم أمين عند انفصاله عنهم حال وحيه إلى الأنبياء عليهم‌السلام لجاز أن ورد به أثر انتهى. والمعول عليه ما سمعت والمقام يقتضي تعظيم الأمانة لأن دفع كون القرآن افتراء منوط بأمانة الرسول.

(وَما صاحِبُكُمْ) هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِمَجْنُونٍ) كما تبهته الكفرة قاتلهم الله تعالى. وفي التعرض لعنوان الصحبة مضافة إلى ضميرهم على ما هو الحق تكذيب لهم بألطف وجه إذ هو إيماء إلى أنه عليه الصلاة والسلام نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن فأنتم أعرف به وبأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتم الخلق عقلا وأرجحهم قيلا وأكملهم وصفا وأصفاهم ذهنا فلا يسند إليه الجنون إلّا من هو مركب من الحمق والجنون. واستدل الزمخشري بالمبالغة في ذكر جبريل عليه‌السلام وتركها في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أفضليته عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجابوا بما بحث فيه والوجه في الجواب على ما في الكشف أن الكلام مسوق لحقية المنزل دلالة على صدق ما ذكر فيه من أهوال القيامة وقد علمت أن من شأن البليغ أن يجرد الكلام لما ساق له لئلا يعد الزيادة لكنة وفضولا ولا خفاء أن وصف الآتي بالقول يشدّ من عضد ذلك أبلغ شد ، وأما وصف من أنزل عليه فلا مدخل له في البين إلّا إذا كان الغرض الحث على اتباعه فلهذا لم تدل المبالغة في شأن جبريل عليه‌السلام وعد صفاته الكوامل وترك ذلك في شأن نبينا عليه أفضل الصلوات والتسليمات على تفضيله بوجه. وقال بعضهم : إن المبالغة في وصف جبريل عليه‌السلام مدح بليغ في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الملك إذا أرسل لأحد من هو معزز معظم مقرب لديه دل على أن المرسل إليه بمكانه عنده ليس فوقها

٢٦٤

مكانة ، وقد علمت أن المقام ليس للمبالغة في مدح المنزل عليه وقيل المراد بالرسول هو نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلم كالمراد بالصاحب وهو خلاف الظاهر الذي عليه الجمهور.

(وَلَقَدْ رَآهُ) أي وبالله تعالى لقد رأى صاحبكم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الرسول الكريم جبريل عليه‌السلام على كرسي بين السماء والأرض بالصورة التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق كما روي عن الحسن وقتادة ومجاهد وسفيان وفي رواية عن مجاهد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رآه عليه‌السلام نحو جياد وهو مشرق مكة وقيل : إن المراد به مطلع رأس السرطان فإنه أعلى المطالع لأهل مكة ، وهذه الرؤية كانت فيها بعد أمر غار حراء. وحكى ابن شجرة أنه أفق السماء الغربي وليس بشيء. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في الآية رآه في صورته عند سدرة المنتهى والأفق على هذا قيل بمعنى الناحية وقيل سمّي ذلك أفقا مجازا (وَما هُوَ) أي رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم (عَلَى الْغَيْبِ) على ما يخبر به من الوحي إليه وغيره من الغيوب (بِضَنِينٍ) من الضنّ بكسر الضاد وفتحها بمعنى البخل أي ببخيل لا يبخل بالوحي ولا يقصر في التبليغ والتعليم ومنح كل ما هو مستعد له من العلوم على خلاف الكهنة فإنهم لا يطلعون على ما يزعمون معرفته إلّا بإعطاء حلوان. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن جبير وعروة وهشام بن جندب ومجاهد وغيرهم ومن السبعة النحويان وابن كثير «بظنين» بالظاء أي بمتهم من الظنّة بالكسر بمعنى التهمة وهو نظير الوصف السابق ب (أَمِينٍ). وقيل معناه بضعيف القوة على تبليغ الوحي من قولهم : بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء والأول أشهر. ورجحت هذه القراءة عليه بأنها أنسب بالمقام لاتهام الكفرة له صلّى الله تعالى عليه وسلم ونفي التهمة أول من نفي البخل وبأن التهمة تتعدى بعلى دون البخل فإنه لا يتعدى بها إلّا باعتبار تضمينه معنى الحرص ونحوه لكن قال الطبري بالضاد خطوط المصاحف كلها ولعله أراد المصاحف المتداولة فإنهم قالوا بالظاء خط مصحف ابن مسعود ثم إن هذا لا ينافي قول أبي عبيدة أن الظاء والضاد في الخط القديم لا يختلفان إلّا بزيادة رأس إحداهما على الأخرى زيادة يسيرة قد تشتبه كما لا يخفى. والفرق بين الضاد والظاء مخرجا أن الضاد مخرجها من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره ومنهم من يتمكن من إخراجها منهما ، والظاء مخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا. واختلفوا في إبدال إحداهما بالأخرى هل يمتنع وتفسد به الصلاة أم لا؟ فقيل : تفسد قياسا ونقله في المحيط البرهاني عن عامة المشايخ ونقله في الخلاصة عن أبي حنيفة ومحمد ، وقيل : لا استحسانا ونقله فيها عن عامة المشايخ كأبي مطيع البلخي ومحمد بن سلمة وقال جمع : إنه إذا أمكن الفرق بينهما فتعمد ذلك وكان مما لم يقرأ به كما هنا وغير المعنى فسدت صلاته وإلّا فلا لعسر التمييز بينهما خصوصا على العجم وقد أسلم كثير منهم في الصدر الأول ولم ينقل حثهم على الفرق وتعليمه من الصحابة ولو كان لازما لفعلوه ونقل وهذا هو الذي ينبغي أن يعود عليه ويفتى به وقد جمع بعضهم الألفاظ التي لا يختلف معناها ضادا وظاء في رسالة صغيرة ولقد أحسن بذلك فليراجع فإنه مهم.

(وَما هُوَ) أي القرآن (بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي بقول بعض المسترقة للسمع لأنها هي التي ترجم وهو نفي لقولهم إنه كهانة (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) استضلال لهم فيما يسلكونه في أمر القرآن العظيم كقولك لتارك الجادة الذاهب في بنيات الطريق أين تذهب والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ظهور أنه وحي (إِنْ هُوَ) أي ما هو (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) موعظة وتذكير عظيم لمن يعلم وضمير (هُوَ) للقرآن أيضا وجوز كون الضميرين للرسول عليه الصلاة والسلام أي وما هو ملتبس بقول شيطان رجيم كما هو شأن الكهنة إن هو إلّا مذكر

٢٦٥

للعالمين وقوله تعالى (فَأَيْنَ) إلخ استضلال لهم فيما يسلكونه في أمره صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو كما ترى قوله سبحانه (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) بدل من العالمين بدل بعض من كل والبدل هو المجرور وأعيد معه العامل على المشهور ، وقيل : هو الجار والمجرور وجوز أن يكون بدل كل من كل لإلحاق من لم يشأ بالبهائم ادعاء وهو تكلف. وقوله تعالى (أَنْ يَسْتَقِيمَ) مفعول (شاءَ) أي لمن شاء منكم الاستقامة بتحري الحق وملازمة الصواب وإبداله من العالمين لأنهم المنتفعون بالتذكير (وَما تَشاؤُنَ) أي الاستقامة بسبب من الأسباب (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي إلا بأن يشاء الله تعالى مشيئتكم فمشيئتكم بسبب مشيئة الله تعالى (رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ملك الخلق ومربيهم أجمعين أو ما تشاءون الاستقامة مشيئة نافعة مستتبعة لها إلّا بأن يشاءها الله تعالى فله سبحانه الفضل والحق عليم باستقامتكم إن استقمتم. روي عن سليمان بن موسى والقاسم بن مخيمرة أنه لما نزلت (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قال أبو جهل : جعل الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم ، فأنزل الله تعالى (وَما تَشاؤُنَ) الآية وأن وما معها هنا على ما ذكرنا في موضع خفض بإضمار باء السببية ، وجوز أن تكون للمصاحبة وذهب غير واحد إلى أن الاستثناء مفرغ من أعم الأوقات أي وما تشاءون الاستقامة في وقت من الأوقات إلّا وقت أن يشاء الله تعالى شأنه استقامتكم وهو مبني على ما نقل عن الكوفيين من جواز نيابة المصدر المؤول من (أَنْ) والفعل عن الظرف وفي الباب الثامن من المعنى أن (أَنْ) وصلتها لا يعطيان حكم المصدر في النيابة عن ظرف الزمان تقول : جئتك صلاة العصر ولا يجوز جئتك أن تصلي العصر فالأولى ما ذكرنا أولا وإليه ذهب مكي وذهب القاضي إلى الثاني. وقد اعترض عليه أيضا بأن (ما) لنفي الحال و (أَنْ) خاصة للاستقبال فيلزم أن يكون وقت مشيئته تعالى المستقبل ظرفا لمشيئة العبد الحالية وأجيب بأنا لا نسلم أن (ما) مختصة بنفي الحال ومن ادعى اختصاصها بذلك اشترط انتفاء القرينة على خلافه ولم تنتف هاهنا لمكان (أَنْ) في حيزها أو بأن كون (أَنْ) للاستقبال مشروط بانتفاء قرينة خلافه وهاهنا قد وجدت لمكان ما قبلها فهي لمجرد المصدرية. وقيل : يندفع الاعتراض بجعل الاستثناء منقطعا فليجعل كذلك وإن كان الأصل فيه الاتصال وليس بشيء وقد أورد على وجه السببية الذي ذكرناه نحو ذلك وهو أنه يلزم من كون (ما) لنفي الحال وللاستقبال سببية المتأخر للمتقدم ومما ذكر يعلم الجواب كما لا يخفى فتأمل جميع ذلك والله تعالى الهادي لأوضح المسالك.

وقال بعض أهل التأويل : الشمس شمس الروح ، والنجوم نجوم الحواس ، والجبال جبال القوالب وهي تسير كل وقت إلّا أنه يظهر ذلك للمحجوب إذا كشف له الغطاء والعشار عشار القوى القالبية ، والوحوش وحوش الأخلاق الذميمة النفسانية ، والبحار بحار العناصر الطبيعية والنفوس القوى النفسانية وتزويجها قرن كل قوة بعملها ، والموءودة الخواطر الإلهامية التي ترد على السالك فيئدها في قبر القالب ويظلمها والصحف على ظاهرها ، والسماء سماء الصدر ، والجحيم جحيم النفس وتسعيرها بنيران الهوى والجنة جنة القلب والخنس الأنوار المودعة في القوى القلبية ، والليل الأنوار الجلالية ، والصبح الأنوار الجمالية إلى آخر ما قال. ويستدل بحال البعض على البعض وقد حكى أبو حيان شيئا من نحو ذلك وعقبه بتشنيع فظيع وهو لا يتم إلّا إذا أنكر إرادة الظاهر وأما إذا لم تنكر وجعل ما ذكره ونحوه من باب الإشارة فلا يتم أمر التشنيع كما حقق ذلك في موضعه.

٢٦٦

سورة الانفطار

وتسمى سورة انفطرت وسورة المنفطرة ولا خلاف في أنها مكية ولا في أنها تسع عشرة آية ومناسبتها لما قبلها معلومة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ(٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ(١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(١٩)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي انشقت لنزول الملائكة كقوله تعالى (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥] والكلام في ارتفاع السماء كما مر في ارتفاع الشمس (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي تساقطت متفرقة وهو استعارة لإزالتها حيث شبهت بجواهر قطع سلكها وهي مصرحة أو مكنية (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) فتحت وشققت جوانبها فزال ما بينها من البرزخ واختلط العذاب بالأجاج وصارت بحرا واحدا. وروي أن الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار فتصير مستوية أي في أن لا ماء وأريد أن البحار تصير واحدة أولا ثم تنشف الأرض جميعا فتصير بلا ماء ، ويحتمل أن يراد بالاستواء بعد النضوب عدم بقاء مغايض الماء لقول تعالى (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٧] وقرأ مجاهد والربيع بن خيثم والزعفراني والثوري «فجرت» بالتخفيف مبنيا للمفعول وعن مجاهد أيضا «فجرت» به مبنيا للفاعل بمعنى نبعت لزوال البرزخ من الفجور نظرا إلى قوله تعالى (لا يَبْغِيانِ) [الرحمن : ٢٠] لأن البغي والفجور أخوان (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) قلب ترابها الذي حثي على موتاها وأزيل وأخرج من دفن فيها على ما فسر به غير

٢٦٧

واحد. وأصل البعثرة على ما قيل تبديد التراب ونحوه وهو إنما يكون لإخراج شيء تحته فقد يذكر ويراد معناه ولازمه معا وعليه ما سمعت. وقد يتجوز به عن البعث والإخراج كما في العاديات حيث أسند فيها لما في القبور دونها كما هنا وزعم بعض أنه مشترك بين النبش والإخراج وذهب بعض الأئمة كالزمخشري والسهيلي إلى أنه مركب من كلمتين اختصارا ويسمى ذلك نحتا وأصل بعثر بعث وأثير ونظيره بسمل وحمدل وحوقل ودمعز أي قال بسم الله والحمد لله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى وأدام لله تعالى عزه إلى غير ذلك من النظائر وهي كثيرة في لغة العرب ، وعليه يكون معناه النبش والإخراج معا واعترضه أبو حيان بأن الراء ليست من أحرف الزيادة وهو توهم منه فإنه فرق بين التركيب والنحت من كلمتين والزيادة على بعض الحروف الأصول من كلمة واحدة كما فصل في الزهر نقلا عن أئمة اللغة. نعم الأصل عدم التركيب. (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) جواب (إِذَا) لكن لا على أنها تعلمه عند البعث بل عند نشر الصحف لما عرفت أن المراد بها زمان واحد مبدؤه قبيل النفخة الأولى أو هي ومنتهاه الفصل بين الخلائق لا أزمنة متعددة بحسب كلمة إذا وإنما كررت لتهويل ما في حيزها من الدواهي والكلام فيه كالذي مر في نظيره. ومعنى «ما قدم وأخر» ما أسلف من عمل خير أو شر وأخّر من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعده قاله ابن عباس وابن مسعود. وعن ابن عباس أيضا ما قدم معصية وأخر من طاعة وهو قول قتادة. وقيل : ما عمل ما كلف به وما لم يعمل منه وقيل ما قدم من أمواله لنفسه وما أخر لورثته وقيل : أول عمله وآخره ومعنى علمها بهما علمها التفصيلي حسبما ذكر فيما قدم (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) أي أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه تعالى وارتكاب ما لا يليق بشأنه عز شأنه وقد علمت ما بين يديك وما سيظهر من أعمالك عليك والتعرض لعنوان كرمه تعالى دون قهره سبحانه من صفات الجلال المانعة ملاحظتها عن الاغترار للإيذان بأنه ليس مما يصلح أن يكون مدارا لاغتراره حسبما يغويه الشيطان ويقول له افعل ما شئت فإن ربك كريم قد تفضل عليك في الدنيا وسيفعل مثله في الآخرة ، أو يقول له نحو ذلك مما مبناه الكرم كقول بعض شياطين الإنس :

تكثّر ما استطعت من الخطايا

ستلقى في غد ربّا غفورا

تعض ندامة كفيك مما

تركت مخافة الذنب السرورا

فإنه قياس عقيم وتمنية باطلة بل هو مما يوجب المبالغة في الإقبال على الإيمان والطاعة والاجتناب عن الكفر والعصيان دون العكس ، ولذا قال بعض العارفين : لو لم أخف الله تعالى لم أعصه ، فكأنه قيل : ما حملك على عصيان ربك الموصوف بما يزجر عنه وتدعو إلى خلافه؟ وقيل إن هذا تلقين للحجة وهو من الكرم أيضا فإنه إذا قيل له ما غرك إلخ. يتفطن للجواب الذي لقنه ويقول كرمه كما قيل يعرف حسن الخلق والإحسان بقلة الآداب في الغلمان ولم يرتض ذلك الزمخشري وكان الاغترار بذلك في النظر الجليل وإلّا فهو في النظر الدقيق كما سمعت. وعن الفضيل أنه قال : غره ستره تعالى المرخي وقال محمد بن السماك :

يا كاتم الذنب أما تستحي

والله في الخلوة رائيكا

غرك من ربك إمهاله

وستره طول مساويكا

وقال بعضهم :

يقول مولاي ألا تستحي

مما أرى من سوء أفعالك

فقلت يا مولاي رفقا فقد

جرّأني كثرة أفضالك

٢٦٨

وقال قتادة : غره عدوه المسلط عليه. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ الآية فقال : «الجهل» وقاله عمر رضي الله تعالى عنه وقرأ (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب : ٧٢] والفرق بين هذا وبين ما ذكروا لا يخفى على ذي علم. واختلف في (الْإِنْسانُ) المنادى فقيل الكافر ، بل عن عكرمة أنه أبيّ بن خلف وقيل الأعم الشامل للعصاة وهو الوجه لعموم اللفظ ، ولوقوعه بين المجمل ومفصله أعني (عَلِمَتْ نَفْسٌ) و (إِنَّ الْأَبْرارَ) و (إِنَّ الْفُجَّارَ) وأما قوله تعالى (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) [الانفطار : ٩] ففي الكشف إما أن يكون ترشيحا لقوة اغترارهم بإيهام أنهم أسوأ حالا من المكذبين تغليظا ، وإما لصحة خطاب الكل بما وجد فيما بينهم. وقرأ ابن جبير والأعمش : «ما أغرك» بهمزة فاحتمل أن يكون تعجبا وأن تكون (ما) استفهامية كما في قراءة الجمهور و «أغرك» بمعنى أدخلك في الغرة. وقوله سبحانه (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) صفة ثانية مقررة للربوبية مبينة للكرم مومية إلى صحة ما كذب من البعث والجزاء موطئة لما بعد حيث نبهت على أن من قدر على ذلك بدأ أقدر عليه إعادة ، والتسوية جعل الأعضاء سوية سليمة معدة لمنافعها وهي في الأصل جعل الأشياء على سواء فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها بإعطائها ما تتم به وعدلها بعضها ببعض بحيث اعتدلت من عدل فلانا بفلان إذا ساوى بينهما أو صرفها عن خلقة غير ملائمة لها من عدل بمعنى صرف. وذهب إلى الأول الفارسي وإلى الثاني الفراء. وقرأ غير واحد من السبعة «عدّلك» بالتشديد أي صيرك معتدلا متناسب الخلق من غير تفاوت فيه ونقل القفال عن بعضهم أن عدل وعدّل بمعنى واحد (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أي ركبك ووضعك في أي صورة اقتضتها مشيئته تعالى وحكمته جل وعلا من الصور المختلفة في الصور المختلفة في الطول والقصر ومراتب الحسن ونحوها ، فالجار والمجرور متعلق ب (رَكَّبَكَ) و (أَيِ) للصفة مثلها في قوله :

أرأيت أي سوالف وخدود

برزت لنا بين اللّوى وزرود

ولما أريد التعميم لم يذكر موصوفها وجملة (شاءَ) صفة لها والعائد محذوف و (ما) مزيدة وإنما لم تعطف الجملة على ما قبلها لأنها بيان لعدلك. وجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال أي ركبك كائنا في أي صورة شاءها ، وقيل (أَيِ) موصولة صلتها جملة شاءها كأنه قيل ركبك في الصورة التي شاءها. وفيه أنه صرح أبو علي في التذكرة بأن أيا الموصولة لا تضاف إلى نكرة وقال ابن مالك في الألفية :

واخصصن بالمعرفة موصولة أيا

وفي شرحها للسيوطي مع اشتراط ما سبق يعني كون المعرفة غير مفردة فلا تضفها إلى نكرة خلافا لابن عصفور ، ويجوز أن تجعل (أَيِ) شرطية والماضي في جوابها في معنى المستقبل إذا نظر إلى تعلق المشيئة وترتب التركيب عليه فجيء بصورة إلى الماضي نظر إلى المشيئة وأداة الشرط نظرا إلى المتعلق والترتب ، ويجوز أن يكون الجار متعلقا «بعدلك» وحينئذ يتعين في أي الصفة كأنه قيل (فَعَدَلَكَ) في صورة أي صورة في صورة عجيبة ثم حذف الموصوف زيادة للتفخيم والتعجيب و (أَيِ) هذه منقولة من الاستفهامية لكنها لانسلاخ معناها عنها بالكلية عمل فيها ما قبلها ، ويكون (ما شاءَ رَكَّبَكَ) كلاما مستأنفا و (ما) إما موصولة أو موصوفة مبتدأ أو مفعولا مطلقا لركبك ، أي ما شاء من التركيب ركبك فيه أو تركيبا شاء ركبك. وجوز أن تكون شرطية و (شاءَ) فعل الشرط و (رَكَّبَكَ) جزاؤه أي إن شاء تركيبك في أي صورة غير هذه الصورة ركبك فيها والجملة الشرطية في موضع الصفة لصورة والعائد محذوف ، ولم يجوزوا على هذا الوجه تعلق الظرف بركبك لأن معمول ما في حيز الشرط لا يجوز تقديمه عليه (كَلَّا) ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى

٢٦٩

وجعله ذريعة إلى الكفر والمعاصي مع كونه موجبا للشكر والطاعة. وقوله تعالى (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) إضراب عن جملة مقدرة ينساق إليها الكلام كأنه قيل بعد الردع بطريق الاعتراض وأنتم لا ترتدعون عن ذلك بل تجترءون على أعظم منه حيث تكذبون بالجزاء والبعث رأسا أو بدين الإسلام اللذين هما من جملة أحكامه فلا تصدقون سؤالا ولا جوابا ولا ثوابا ولا عقابا وفيه ترقّ من الأهون إلى الأغلظ. وعن الراغب بل هنا لتصحيح الثاني وإبطال الأول كأنه قيل : ليس هنا مقتض لغرورهم ولكن تكذيبهم حملهم على ما ارتكبوه ، وقيل تقدير الكلام أنكم لا تستقيمون على ما توجبه نعمي عليكم وإرشادي لكم بل تكذبون إلخ. وقيل إن (كَلَّا) ردع عما دل عليه هذه الجملة من نفيهم البعث و (بَلْ) إضراب عن مقدر كأنه قيل ليس الأمر كما تزعمون من نفي البعث والنشور ثم قيل : لا تتبينون بهذا البيان بل تكذبون إلخ. وأدغم خارجة عن نافع (رَكَّبَكَ كَلَّا) كأبي عمرو في ادغامه الكبر وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وأبو بشر «يكذبون» بياء الغيبة وقوله تعالى (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) حال من فاعل (تُكَذِّبُونَ) مفيدة لبطلان تكذيبهم وتحقيق ما يكذبون به من الجزاء على الوجهين في الدين أي تكذبون بالجزاء والحال أن عليكم من قبلنا لحافظين لأعمالكم (كِراماً) لدينا (كاتِبِينَ) لها (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) من الأفعال قليلا كان أو كثيرا ويضبطونه نقيرا أو قطميرا وليس ذلك للجزاء وإقامة الحجة وإلّا لكان عبثا ينزه عنه الحكيم العليم. وقيل : جيء بهذه الحال استبعادا للتكذيب معها وليس بذاك. وفي تعظيم الكاتبين بالثناء عليهم تفخيم لأمر الجزاء وأنه عند الله عزوجل من جلائل الأمور حيث استعمل سبحانه فيه هؤلاء الكرام لديه تعالى ثم إن هؤلاء الحافظين غير المعقبات في قوله تعالى (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١]. فمع الإنسان عدة ملائكة. روي عن عثمان أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كم من ملك على الإنسان؟ فذكر عليه الصلاة والسلام عشرين ملكا. قال المهدوي في الفيصل : وقيل إن كل آدمي يوكل به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك ومن يكتب الأعمال ملكان كاتب الحسنات وهو في المشهور على العاتق الأيمن وكاتب ما سواها وهو على العاتق الأيسر والأول أمين على الثاني فلا يمكنه من كتابة السيئة إلّا بعد مضي ست ساعات من غير مكفر لها ، ويكتبان كل شيء حتى الاعتقاد والعزم والتقرير وحتى الأنين في المرض وكذا يكتبان حسنات الصبي على الصحيح ويفارقان المكلف عند الجماع ولا يدخلان مع العبد الخلاء. وأخرج البزار عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى ينهاكم عن التعري فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حاجات الغائط والجنابة والغسل». ولا يمنع ذلك من كتبهما ما يصدر عنه ويجعل الله تعالى لهما أمارة على الاعتقاد القلبي ونحوه ويلزمان العبد إلى مماته فيقومان على قبره يسبحان ويهللان ويكبران ويكتب ثوابه للميت إلى يوم القيامة إن كان آمنا ويلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافرا. واستظهر بعضهم أنهما اثنان بالشخص وقيل بالنوع وقيل : كاتب الحسنات يتغير دون كاتب السيئات ونصوا على أن المجنون لا حفظة عليه وورد في بعض الآثار ما يدل على أن بعض الحسنات ما يكتبها غير هذين الملكين والظواهر تدل على أن الكتب حقيقي وعلم الآلة وما يكتب فيه مفوض إلى الله عزوجل.

وقوله سبحانه (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) استئناف مسوق لبيان نتيجة الحفظ والكتب من الثواب والعقاب. وفي تنكير النعيم والجحيم ما لا يخفى من التفخيم والتهويل. وقوله تعالى (يَصْلَوْنَها) إما صفة للجحيم أو حال من ضمير (الْفُجَّارَ) في الخبر أو استئناف مبني على سؤال نشأ من

٢٧٠

تهويلها كأنه قيل : ما حالهم فيها؟ فقيل : يقاسون حرّها. وقرأ ابن مقسم «يصلونها» مشددا مبنيا للمفعول (يَوْمَ الدِّينِ) يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به استقلالا أو في ضمن تكذيبهم بالإسلام (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) طرفة عين فإن المراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار وهو كقوله تعالى (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) [المائدة : ٣٧] في الدلالة على سرمدية العذاب وأنهم لا يزالون محسين بالنار. وقيل معناه وما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية بل كانوا يجدون سمومها في قبورهم حسبما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القبر روضة من رياض الجنة ـ أو ـ حفرة من حفر النار» على أن غائبين من حكاية الحال الماضية والجملة قيل على الوجهين في موضع الحال لكنها على الأول حال مقدرة وعلى الثاني من باب (جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء : ٩٠] وقيل إنها على الأول حالية دون الثاني لانفصال ما بين صلي النار وعذاب القبر بالبعث وما في موقف الحساب بل هي عليه معطوفة على ما قبلها ، ويحتمل اسم الفاعل فيها أعني غائبين على الحال أي (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) الآن لتغاير المعطوف عليه الذي أريد به الاستقبال. والكلام على ما عرف في أخباره تعالى من التعبير عن المستقبل بغيره لتحققه فلا يرد أن بعض الفجار في زمرة الأحياء بعد وبعضهم لم يخلق كذلك وعذاب القبر بعد الموت فكيف يحمل غائبين على الحال. وقوله تعالى (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) تفخيم لشأن يوم الدين الذي يكذبون به إثر تفخيم وتعجيب منه بعد تعجيب والخطاب فيه عام ، والمراد أن كنه أمره بحيث يدركه دراية داري وقيل الخطاب لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل للكافر والإظهار في موضع الإضمار تأكيد لهول يوم الدين وفخامته وقد تقدم الكلام في تحقيق كون الاستفهام في مثل ذلك مبتدأ أو خبرا مقدما فلا تغفل. وقوله سبحانه (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) بيان إجمالي لشأن يوم الدين أثر إبهامه وإفادة خروجه عن الدائرة الدراية قيل بطريق إنجاز الوعد فإن نفي الإدراء مشعر بالوعد الكريم بالإدراء على ما روي عن ابن عباس من أنه قال : كل ما في القرآن من قوله تعالى (ما أَدْراكَ) فقد أدراه وكل ما فيه من قوله عزوجل (ما يُدْرِيكَ) [الأحزاب : ٦٣ ، الشورى : ١٧ ، عبس : ٣] فقد طوى عنه. و (يَوْمَ) منصوب بإضمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيم أمر يوم الدين وتشويقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى معرفته اذكر يوم لا تملك نفس من النفوس لنفس من النفوس مطلقا لا للكفارة فقط كما روي عن مقاتل شيئا من الأشياء إلخ فإنه يدريك ما هو أو مبني ، على الفتح محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف على رأي من يرى جواز بناء الظرف إذا أضيف إلى غير متمكن وهم الكوفيون أي هو يوم لا تملك إلخ. وقيل هو نصب على الظرفية بإضمار يدانون أو يشتد الهول أو نحوه مما يدل عليه السياق ، أو هو مبني على الفتح محله الرفع على أنه بدل من (يَوْمُ الدِّينِ) وكلاهما ليسا بذاك لخلوهما عن إفادة ما أفاده ما قبل.

وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى وابن جندب وابن كثير وأبو عمرو «يوم» بالرفع بلا تنوين على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو يوم لا بدل لما سمعت آنفا. وقرأ محبوب عن أبي عمرو «يوم» بالرفع والتنوين فجملة (لا تَمْلِكُ) إلخ في موضع الصفة له والعائد محذوف أي فيه والأمر كما قال في الكشف واحد الأوامر لقوله تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر : ١٦] فإن الأمر من شأن الملك المطاع واللام للاختصاص أي الأمر له تعالى لا لغيره سبحانه لا شركة ولا استقلالا أي إن التصرف جميعه في قبضة قدرته عزوجل لا غير. وفي تحقيق قوله تعالى (لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) لدلالته على أن الكل مسوسون مطيعون مشتغلون بحال أنفسهم مقهورون بعبوديتهم لسطوات الربوبية ، وقيل واحد الأمور أعني الشأن وليس بذاك. وقول قتادة فيما أخرجه عند عبد بن

٢٧١

حميد وابن المنذر أي ليس ثم أحد يقضي شيئا ولا يصنع شيئا غير رب العالمين تفسير الحاصل المعنى لا إيثار لذلك هذا وقوله وحده ليس بحجة يترك له الظاهر والمنازعة في الظهور مكابرة وأيّا ما كان فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة يوم القيامة كما لا يخفى والله تعالى أعلم.

٢٧٢

سورة المطفّفين

ويقال لها سورة المطففين ، واختلف في كونها مكية أو مدنية فعن ابن مسعود والضحاك أنها مكية ، وعن الحسن وعكرمة أنها مدنية وعليه السدّي ، قال : كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة له مكيالان يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص فنزلت. وعن ابن عباس روايات فأخرج ابن الضريس عنه أنه قال : آخر ما نزل بمكة سورة المطففين ، وأخرج ابن مردويه والبيهقي عنه أنه قال : أول ما نزل بالمدينة (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) ويؤيد هذه الرواية ما أخرجه النسائي وابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح وغيرهم عنه قال : لما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فأحسنوا الكيل بعد ذلك وفي رواية عنه أيضا وعن قتادة أنها مكية إلّا ثمان آيات من آخرها (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) [المطففين : ٢٩] إلخ وقيل : إنها مدنية إلّا ست آيات من أولها وبعض من يثبت الواسطة بين المكي والمدني يقول إنها ليست أحدهما بل نزلت بين مكة والمدينة ليصلح الله تعالى أمر أهل المدينة قبل ورود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، وآيها ست وثلاثون بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها أنه سبحانه لما ذكر فيما قبل السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأنه ذكر عزوجل هنا ما أعد جل وعلا لبعض العصاة وذكر سبحانه بأخس ما يقع من المعصية وهو التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئا في تثمير المال وتنميته ، مع اشتمال هذه السورة من شرح حال المكذبين المذكورين هناك على زيادة تفصيل كما لا يخفى. وقال الجلال السيوطي : الفصل بهذه السورة بين الانفطار والانشقاق التي هي نظيرتها من أوجه لنكتة لطيفة ألهمنيها الله تعالى وذلك أن السور الأربع هذه والسورتان قبلها والانشقاق لما كانت في صفة حال يوم القيامة ذكرت على ترتيب ما يقع فيه فغالب ما وقع في التكوير وجميع ما وقع في الانفطار يقع في صدر يوم القيامة ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل ومقاساة الأهوال فذكره في هذه السورة بقوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين : ٦] ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى فتنشر الصحف فآخذ باليمين وآخذ بالشمال وآخذ ما وراء ظهره ثم بعد ذلك يقع الحساب كما ورد بذلك الآثار فناسب تأخر سورة الانشقاق التي فيها إيتاء الكتب والحساب عن السورة التي فيها ذكر الموقف والسورة التي فيها ذكره عن السورة التي فيها ذكر مبادئ أحوال اليوم ووجه آخر وهو أنه جل جلاله لما قال في الانفطار (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ) [الانفطار : ١٠ ، ١١] وذلك في الدنيا ذكر سبحانه في هذه الحال ما يكتبه الحافظون وهو مرقوم يجعل في عليين أو سجين وذلك أيضا في الدنيا كما تدل عليه الآثار فهذه حالة ثانية للكتاب ذكرت في السورة الثانية وله حالة ثالثة متأخرة عنهما وهي إيتاؤه صاحبه باليمين أو غيرها وذلك يوم القيامة فناسب تأخير السورة التي فيها ذلك عن السورة التي فيها الحالة الثانية انتهى. وهو وإن لم يخل عن لطافة للبحث فيه مجال فتذكر.

٢٧٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) (١٦)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) قيل الويل شدة الشر ، وقيل : الحزن والهلاك ، وقيل العذاب الأليم ، وقيل جبل في جهنم وأخرج ذلك عن عثمان مرفوعا ابن جرير بسند فيه نظر. وذهب كثير إلى أنه واد في جهنم. فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره». وفي صحيحي ابن حبان والحاكم بلفظ : «واد بين جبلين يهوي فيه الكافر» إلخ وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله أنه واد في جهنم من قبح. وفي كتاب المفردات للراغب قال الأصمعي : ويل قبوح وقد يستعمل للتحسر ، ومن قال : ويل واد في جهنم لم يرد أن ويلا في اللغة موضوع لهذا ، وإنما أراد من قال الله تعالى فيه ذلك فقد استحق مقرا من النار وثبت ذلك له انتهى. والظاهر أن إطلاقه على ذلك كإطلاقه جهنم على ما هو المعروف فيها فلينظر من أي نوع ذلك الإطلاق وأيّا ما كان فهو مبتدأ وإن كان نكرة لوقوعه في موقع الدعاء ، و (لِلْمُطَفِّفِينَ) خبره ، والتطفيف البخس في الكيل والوزن لما أن ما يبخس في كيل أو وزن واحد شيء طفيف أي نزر حقير ، والتفعيل فيه للتعدية أو للتكثير ولا ينافي كونه من الطفيف بالمعنى المذكور لأن كثرة الفعل بكثرة وقوعه وهو بتكراره لا بكثرة متعلقه. وعن الزجاج أنه من طف الشيء جانبه.

وقوله تعالى (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) إلخ صفة مخصصة للمطففين الذين نزلت فيهم الآية ، أو صفة كاشفة لحالهم شارحة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل أي إذا أخذوا من الناس ما أخذوا بحكم الشراء ونحوه كيلا يأخذونه وافيا وافرا ، وتبديل كلمة على هنا بمن قيل لتضمين (الاكتيال) معنى الاستيلاء ، أو للإشارة إلى أنه اكتيال مضر للناس لا على اعتبار الضرر من حيث الشرط الذي يتضمنه إذا لإخلاله بالمعنى بل في نفس الأمر بموجب الجواب بناء على أن المراد بالاستيفاء ليس أخذ الحق وافيا من غير نقص بل مجرد الأخذ الوافي الوافر حسبما أرادوا بأي وجه يتيسر من وجوه الحيل ، وكانوا يفعلونه بكبس المكيل ودعدعة المكيال إلى غير ذلك. وقيل : إن ذلك لاعتبار أن اكتيالهم لما لهم من الحق على الناس فعن الفراء أن من وعلى يعتقبان في هذا الموضع ، فيقال : اكتلت عليه أي أخذت ما عليه كيلا واكتلت منه أي استوفيت منه كيلا وتعقب بأنه مع اقتضائه لعدم شمول الحكم لاكتيالهم قبل أن يكون لهم على الناس شيء بطريق الشراء ونحوه مع أنه الشائع فيما بينهم يقتضي أن يكون معنى الاستيفاء أخذ ما لهم على الناس وافيا من غير نقص إذ

٢٧٤

هو المتبادر منه عند الإطلاق في معرض الحق فلا يكون مدارا لذمهم والدعاء عليهم ، وحمل ما لهم عليهم على معنى ما سيكون لهم عليهم مع كونه بعيدا جدا مما لا يجدي نفعا فإن اعتبار كون المكيل لهم حالا كان أو مآلا يستدعي كون الاستيفاء بالمعنى المذكور حتما انتهى. وأقول : إن قطع النظر عن كون الآية نازلة في مطففين صفتهم أخذ مكيل الناس إذا اكتالوا وافرا حسبما يريدون فلا بأس بحملها على ما يدل على أن المأخوذ حق حالا أو مآلا وكون المتبادر حينئذ من الاستيفاء أخذ مالهم وافيا من غير نقص مسلم لكنه لا يضر قوله فلا يكون مدارا لذمهم والدعاء عليهم. قلنا : مدار الذم ما تضمنه مجموع المتعاطفين والكلام كقولك : فلان يأخذ حقه من الناس تاما ويعطيهم حقهم ناقصا وهي عبارة شائعة في الذم بل الذم بها أشد من الذم بنحو يأخذ ناقصا ويعطي ناقصا وكونه دون الذم بنحو قولك يأخذ زائدا ويعطي ناقصا لا يضر كما لا يخفى. ثم قد يقال : إن الأغلب في اكتيال الشخص من شخص كون المكيل حقا له بوجه من الوجوه ، ولعل مبنى كلام الفراء على ذلك فتأمل. وجوز على أن تكون (عَلَى) متعلقة ب (يَسْتَوْفُونَ) ويكون تقديمها على الفعل لإفادة الخصوصية أي يستوفون على الناس خاصة ، فأما أنفسهم فيستوفون لها. وتعقب بأن القصر بتقديم الجار والمجرور إنما يكون فيما يمكن تعلق الفعل بغير المجرور أيضا حسب تعلقه به فيقصد بالتقديم قصره عليه بطريق القلب أو الإفراد أو التعيين حسبما يقتضيه المقام. ولا ريب في أن الاستيفاء الذي هو عبارة عن الأخذ الوافي مما لا يتصور أن يكون على أنفسهم حتى يقصد بتقديم الجار والمجرور قصره على الناس على أن الحديث واقع في الفعل لا فيما وقع عليه انتهى. وأجيب المراد بالاستيفاء المعدى بعلى على ذلك الإضرار ، فكأنه قيل : إذا اكتالوا يضرون الناس خاصة ولا يضرون أنفسهم بل ينفعونها. والقصر بطريق القلب والإضرار مما يمكن أن يكون لأنفسهم كما يمكن أن يكون للناس وإن كان ما به الإضرار مختلفا حيث إن إضرارهم أنفسهم بأخذ الناقص وإضرارهم الناس بأخذ الزائد ثم إن خصوصية ما وقع عليه الفعل هو مدار الذم والدعاء بالويل وبه يجاب عما في حيّز العلاوة انتهى ولا يخفى ما فيه فتدبر.

والضمير المنفصل في قوله تعالى (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) للناس وما تقدم في الأخذ من الناس وهذا في الإعطاء ، فالمعنى وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم للبيع ينقصون. وكال تستعمل مع المكيل باللام وبدونه فقد جاء في اللغة على ما قيل كال له وكاله بمعنى كال له وجعل غير واحد كاله من باب الحذف والإيصال على أن الأصل كال له فحذف الجار وأوصل الفعل كما في قوله :

ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا

ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

وقولهم في المثل : الحريص يصيدك لا الجواد ، أي جنيت لك ويصيد لك وجوز أن يكون الكلام على حذف المضاف وهو مكيل وموزون وإقامة المضاف مقامه والأصل وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوهم (١) وعن عيسى بن عمر وحمزة : إن المكيل له والموزون له محذوف ، وهم ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع وهو الواو وكانا يقفان على الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادوا. وقال الزمخشري : لا يصح كون الضمير مرفوعا للمطففين لأنه يكون المعنى عليه إذا أخذوا من الناس استوفوا وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص اخسروا وهو كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر وذلك على ما في الكشف لأن التأكيد اللفظي يدفعه

__________________

(١) قوله وإقامة المضاف إلى قوله أو وزنوهم هكذا بخط المؤلف ولعل فيه سقطا من قلمه اه.

٢٧٥

المقام فليس المراد أن يحقق أن الكيل صدر منهم لا من عبيدهم مثلا والتقوى وحده يدفعه ترك الفاء في جواب (إِذا) لأن الفصيح إذ ذاك فهم يخسرون فيتعين الحمل على التخصيص ويظهر العذر في ترك الفاء إذ المعنى لا يخسر الأهم ويلزم التنافر وفوات المقابلة هذا وهم أولا في (كالُوهُمْ) مانع من هذا التقدير أشد المنع والحمل على حذف الخبر من أحدهما وهو شطر الجزاء لا نظير له ، وقيل إنه يبعد كون الضمير مرفوعا عدم إثبات الألف بعد الواو. وقد تقرر في علم الخط إثباتها بعدها في مثل ذلك وجرى عليه رسم المصحف العثماني في نظائره وكونه هنا بالخصوص مخالفا لما تقرر ولما سلك في النظائر بعيد كما لا يخفى. ولعل الاقتصار على الاكتيال في صورة الاستيفاء وذكر الكيل والوزن في صورة الإخسار أن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلّا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة ، وإذا أعطوا كالوا ووزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعا ، والحاصل أنه إنما جاء النظم الجليل هكذا ليطابق من نزل فيهم فالصفة تنعى عليهم ما كانوا عليه من زيادة البخس والظلم ، وهذا صحيح جعلت الصفة مخصصة لهؤلاء المطففين كما هو الأظهر أو كاشفة لحالهم فقد أريد بالأول معهود ذهني. وقال شيخ مشايخنا العلامة السيد صبغة الله الحيدري في ذلك : إن التطفيف في الكيل يكون بشيء قليل لا يعبأ به في الأغلب دون التطفيف في الوزن ، فإن أدنى حيلة فيه يفضي إلى شيء كثير وأيضا الغالب فيما يوزن ما هو أكثر قيمة مما يكال ، فإذا أخبرت الآية بأنهم لا يبقون على الناس ما هو قليل مهين من حقوقهم علم أنهم لا يبقون عليهم الكثير الذي لا يتسامح به أكثر الناس بل أهل المروءات أيضا إلا نادرا بالطريق الأولى بخلاف ما إذا ذكر أنهم يخسرون الناس بالأشياء الجزئية كما يفهم من ذكر الإخسار في الكيل فإنه لا يعلم منه أنهم يخسرونهم بالشيء الكثير أيضا بل ربما يتوهم من تخصيص الجزئية بالذكر أنهم لا يتجرءون على إخسارهم بكليات الأموال فلا بد في الشق الثاني من ذكر الإخسار في الوزن أيضا فتكون الآية منادية على ذميم أفعالهم ناعية عليهم بشنيع أحوالهم انتهى. وتعقب بأنه لا يحسم السؤال لجواز أن يقال لم لم يقل (إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) ليعلم من القرينتين أنهم يستوفون الكثير ويخسرون بالنزر الحقير بالطريق الأولى ويكون في الكلام ما هو من قبيل الاحتباك. وقال الزجاج : المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل وكذلك إذا اتزنوا استوفوا الوزن ، ولم يذكر إذا اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن ومراده على ما نص عليه الطيبي أنه استغنى بذكر إحدى القرينتين عن الأخرى لدلالة القرينة الآتية عليها وهو كما ترى. وقيل : إن المطففين باعة وهم في الغالب يشترون الشيء الكثير دفعة ثم يبيعونه متفرقا في دفعات وكم قد رأينا منهم من يشتري من الزراعين مقدارا كثيرا من الحبوب مثلا في يوم واحد فيدخره ثم يبيعه شيئا فشيئا في أيام عديدة ، ولما كانت العادة الغالبة أخذ الكثير بالكيل ذكر الاكتيال فقط في صورة الاستيفاء ولما كان ما يبيعونه مختلفا كثرة وقلة ذكر الكيل والوزن في صورة الإعطاء أو لما كان اختيار ما به تعيين المقدار مفوضا إلى رأي من يشتري منهم ذكرا معا في تلك الصورة إذ منهم من يختار الكيل ومنهم من يختار الوزن ، وأنت تعلم أن كون العادة الغالبة أخذ الكثير في الكيل غير مسلم على الإطلاق ولعله في بعض المواضع دون بعض ، وأهل بلدنا مدينة السلام اليوم لا يكتالون ولا يكيلون أصلا وإنما عادتهم الوزن والاتزان مطلقا وعدم التعرض للمكيل والموزون في الصورتين على ما قال غير واحد لأن مساق الكلام لبيان سوء معاملة المطففين في الأخذ والإعطاء لا في خصوصية المأخوذ والمعطى.

٢٧٦

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) استئناف وارد لتهويل ما ارتكبوه من التطفيف والهمزة للإنكار والتعجيب و (لا) نافية ، فليست (أَلا) هذه الاستفتاحية أو التنبيهية بل مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية ، والظن على معناه المعروف ، و (أُولئِكَ) إشارة إلى المطففين ووضعه موضع ضميرهم للإشعار بمناط الحكم الذي هو وصفهم فإن الإشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه ، وأما الضمير فلا يتعرض للوصف وللإيذان بأنهم ممتازون بذلك الوصف القبيح عن سائر الناس أكمل امتياز نازلون منزلة الأمور المشار إليها إشارة حسية وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد درجتهم في الشرارة والفساد. أي لا يظن أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع الهائل أنهم مبعوثون (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) لا يقادر قدر عظمه فإن من يظن ذلك وإن كان ظنا ضعيفا لا يكاد يتجاسر على أمثال هذه القبائح فكيف بمن يتيقنه. ووصف اليوم بالعظم لعظم ما فيه كما أن جعله علة للبعث باعتبار ما فيه وقدر بعضهم مضافا أي لحساب يوم وقيل : الظن هنا بمعنى اليقين والأول أولى وأبلغ. وعن الزمخشري أنه سبحانه جعلهم أسوأ حالا من الكفار لأنه أثبت جل شأنه للكفار ظنا حيث حكى سبحانه عنهم (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) [الجاثية : ٣٢] ولم يثبته عزوجل لهم. والمراد أنه تعالى نزلهم منزلة من لا يظن ليصح الإنكار وقوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي لحكمه تعالى وقضائه عزوجل منصوب بإضمار أعني ، وجوز أن يكون معمولا لمبعوثون أو مرفوع المحل خبرا لمبتدإ مضمر أي هو أو ذلك يوم ، أو مجرور كما قال الفراء بدلا من يوم (عَظِيمٍ) وهو على الوجهين مبني على الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين وقد مر غير مرة. ويؤيد الوجهين قراءة زيد بن علي «يوم» بالرفع قراءة بعضهم كما حكى أبو معاذ «يوم» بالجر وفي هذا الإنكار والتعجيب وإيراد الظن والإتيان باسم الإشارة ووصف يوم قيامهم بالعظمة وإبدال (يَوْمَ يَقُومُ) إلخ منه على القول به ووصفه تعالى بربوبية العالمين من البيان البليغ لعظم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف ما لا يخفى وليس ذلك نظرا إلى التطفيف من حيث هو تطفيف بل من حيث إن الميزان قانون العدل الذي قامت به السماوات والأرض فيعم الحكم التطفيف على الوجه الواقع من أولئك المطففين وغيره. وصح من رواية الحاكم والطبراني وغيرهما عن ابن عباس وغيره مرفوعا خمس بخمس ، قيل : «يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال : ما نقض قوم العهد إلّا سلط الله تعالى عليهم عدوهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله تعالى إلّا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلّا فشا فيهم الموت ، ولا ظففوا الكيل إلّا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائعة فيقول : اتق الله تعالى وأوف الكيل فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إن العرق ليلجمهم. وعن عكرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار فقيل له : إن ابنك كيال ووزان فقال : أشهد أنه في النار ، وكأنه أراد المبالغة لما علم أن الغالب فيهم التطفيف. ومن هذا القبيل ما روي عن أبيّ رضي الله تعالى عنه : لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رءوس المكاييل وألسن الموازين والله تعالى أعلم. واستدل بقوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ) إلخ على منع القيام للناس لاختصاصه بالله تعالى ، وأجاب عنه الجلال السيوطي بأنه خاص بالقيام للمرء بين يديه أما القيام له إذا قدم ثم الجلوس فلا. وأنت تعلم أن الآية بمعزل عن أن يستدل بها على ما ذكر ليحتاج إلى هذا الجواب وأرى الاستدلال بها على ذلك من العجب العجاب.

وقوله تعالى (كَلَّا) ردع عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) إلخ تعليل للردع أو وجوب الارتداع بطريق التحقيق و (كِتابَ) قيل بمعنى مكتوب أي ما

٢٧٧

يكتب من أعمال الفجار (لَفِي) إلخ وقيل مصدر بمعنى الكتابة وفي الكلام مضاف مقدر أي كتابة عمل الفجار لفي إلخ ، والمراد ب (الفُجَّارِ) هنا على ما قال أبو حيان الكفار ، وعلى ما قال غير واحد ما يعمهم والفسقة فيدخل فيهم المطففون و (سِجِّينٍ) قيل صفة كسكير واختار غير واحد أنه علم لكتاب جامع وهو ديوان الشر دوّن فيه أعمال الفجرة من الثقلين كما قال تعالى : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ) فإن الظاهر أن (كِتابٌ) بدل من (سِجِّينٌ) أو خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إليه أي هو كتاب ، وأصله وصف من السّجن بفتح السين لقب به الكتاب لأنه سبب الحبس فهو في الأصل فعيل بمعنى فاعل ، أو لأنه ملقى كما قيل تحت الأرضين في مكان وحش كأنه مسجون فهو بمعنى مفعول ولا يلزم على جعله علما لما ذكر كون الكتاب ظرفا للكتاب لما سمعت من تفسير كتاب الفجار ، وعليه يكون الكتاب المذكور ظرفا للعمل المكتوب فيه أو ظرفا للكتابة. وقيل : الكتاب على ظاهره والكلام نظير أن تقول : إن كتاب حساب القرية الفلانية في الدستور الفلاني لما يشتمل على حسابها وحساب أمثالها في أن الظرفية فيه من ظرفية الكل للجزء. وعن الإمام لا استبعاد في أن يوضع أحدهما في الآخر حقيقة أو ينقل ما في أحدهما للآخر. وعن أبيّ على أن قوله تعالى (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي موضع كتاب ، فكتاب على ظاهره و (سِجِّينٌ) موضع عنده ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا : «إن الفلق جب في جهنم مغطى ، وسجين جب فيها مفتوح» وعليه يكون سجين لشر موضع في جهنم. وجاء في آثار عدة أنه موضع تحت الأرض السابعة ولا منافاة بين ذلك وبين الخبر المذكور بناء على القول بأن جهنم تحت الأرض. وفي الكشف لا يبعد أن يكون سجين علم الكتاب وعلم الموضع أيضا جمعا بين ظاهر الآية وظواهر الأخبار وبعض من ذهب إلى أنه في الآية علم الموضع قال «وما أدراك سجين» على حذف مضاف أي وما أدراك ما كتاب سجين. وقال ابن عطية : من قال بذلك فكتاب عنده مرفوع على أنه خبر (إِنَ) والظرف الذي هو (لَفِي سِجِّينٍ) ملغى ، وتعقب بأن إلغاءه لا يتسنى إلّا إذا كان معمولا للخبر أعني (كِتابٌ) أو لصفته أعني (مَرْقُومٌ) وذلك لا يجوز لأن (كِتابٌ) موصوف فلا يعمل ، ولأن (مَرْقُومٌ) الذي هو صفته لا يجوز أن تدخل اللام في معموله ولا يجوز أن يتقدم معموله على الموصوف وفيه نظر. وقيل : (كِتابٌ) خبر ثان لإن ، وقيل : خبر كمبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى (كِتابَ الفُجَّارِ) ومناط الفائدة الوصف ، والجملة في البين اعتراضية وكلا القولين خلاف الظاهر. وعن عكرمة إن (سِجِّينٌ) عبارة عن الخسار والهوان كما تقول : بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول. والكلام في (وَما أَدْراكَ) إلخ عليه يعلم مما ذكرنا وهذا خلاف المشهور. وزعم بعض اللغويين أن نونه بدل من لام وأصله سجيل فهو كجبرين في جبريل فليس مشتقا من السجن أصلا. و (مَرْقُومٌ) من رقم الكتاب إذا أعجمه وبيّنه لئلا يلغو أي كتاب بيّن الكتابة أو من رقم الكتاب إذا جعل له رقما أي علامة أي كتاب معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه. وقال ابن عباس والضحاك (مَرْقُومٌ) مختوم بلغة حمير وذكر بعضهم أنه يقال : رقم الكتاب بمعنى ختمه ولم يخصه بلغة دون لغة. وفي البحر (مَرْقُومٌ) أي مثبت كالرقم لا يبلى ولا يمحى وهو كما ترى. وشاع الرقم في الكتابة قال أبو حيان : وهو أصل معناه ، ومنه قول الشاعر :

سأرقم في الماء القراح إليكم

على بعدكم إن كان للماء راقم

وأما الرقم المعروف عند أهل الحساب فالظاهر أنه بمعنى العلامة وخص بعلامة العدد فيما بينهم وقوله تعالى (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) متصل بقوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) وما بينهما اعتراض والمراد

٢٧٨

للمكذبين بذلك اليوم فقوله تعالى (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) إما مجرور على أنه صفة ذامة للمكذبين أو بدل منه أو مرفوع أو منصوب على الذم وجوز أن يكون صفة كاشفة موضحة ، وقيل : هو صفة مخصصة فارقة على أن المراد المكذبين بالحق والأول أظهر لأن قوله تعالى (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) إلخ يدل على أن القصد إلى المذمة أي وما يكذب بيوم الدين إلّا كل متجاوز حدود النظر والاعتبار غال في التقليد حتى جعل قدرة الله تعالى قاصرة عن الإعادة وعلمه سبحانه قاصرا عن معرفة الأجزاء المتفرقة التي لا بد في الإعادة منها فعدّ الإعادة محالة عليه عزوجل (أَثِيمٍ) أي كثير الآثام منهمك في الشهوات المخدجة الفانية بحيث شغلته عما وراءها من اللذات التامة الباقية وحملته على إنكارها (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) الناطقة بذلك (قالَ) من فرط جهله وإعراضه عن الحق الذي لا محيد عنه (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي هي حكايات الأولين يعني هي أباطيل جاء بها الأولون وطال أمد الإخبار بها ولم يظهر صدقها ، أو أباطيل ألقيت على آبائنا الأولين وكذبوها ولسنا أول مكذب بها حتى يكون التكذيب منا عجلة وخروجا عن طريق الحزم والاحتياط والأول أظهر. والآية قيل نزلت في النضر بن الحارث وعن الكلبي أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأيا ما كان فالكلام على العموم. وقرأ أبو حيوة وابن مقسم «إذا يتلى» بتذكير الفعل وقرئ إذا تتلى على الاستفهام الإنكاري (كَلَّا) ردع للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له فيه وقوله عزوجل (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) بيان لما أدى بهم إلى التفوه بتلك العظيمة أي ليس في آياتنا ما يصحح أن يقال في شأنها مثل تلك المقالة الباطلة بل ركب قلوبهم وغلب عليها ما استمروا على اكتسابه من الكفر والمعاصي حتى صار كالصدإ في المرآة فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق فلذلك قالوا ما قالوا والرين في الأصل الصدأ يقال : ران عليه الذنب وغان عليه رينا وغينا ويقال : ران فيه النوم أي رسخ فيه وفي البحر أصل الرين الغلبة يقال : رانت الخمر على عقل شاربها أي غلبت ، وران الغشي على عقل المريض أي غلب. وقال أبو زيد : يقال رين بالرجل يران به رينا إذا وقع فيما لا يستطيع منه الخروج ، وأريد به حب المعاصي الراسخ بجامع أنه كالصدإ المسود للمرآة والفضة مثلا المغيّر عن الحالة الأصلية. وأخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححاه والنسائي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال: «إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه» فذلك الران الذي ذكر الله تعالى في القرآن (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا) يكسبون وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال : كانوا يرون أن الرين هو الطبع وذكروا له أسبابا وفي حديث أخرجه عبد بن حميد من طريق خليد بن الحكم عن أبي المجبر أنه عليه الصلاة والسلام قال : «أربع خصال مفسدة للقلوب مجاراة الأحمق فإن جاريته كنت مثله وإن سكت عنه سلمت منه ، وكثرة الذنوب مفسدة للقلوب وقد قال الله تعالى (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، والخلوة بالنساء والاستمتاع بهن والعمل برأيهن ، ومجالسة الموتى» قيل : يا رسول الله من هم؟ قال : «كل غني قد أبطره غناه». وقرئ بإدغام اللام في الراء وقال أبو جعفر بن الباذش أجمعوا يعني القرّاء على إدغام اللام في الراء إلّا ما كان من وقف حفص على بل وقفا خفيفا يسيرا لتبيين الإظهار وليس كما قال من الإجماع ففي اللوامح عن قالون من جميع طرقه إظهار اللام عند الراء نحو قوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النساء : ١٥٨] (بَلْ رَبُّكُمْ) [الأنبياء : ٥٦] وفي كتاب ابن عطية وقرأ نافع (بَلْ رانَ) غير مدغم وفيه أيضا وقرأ نافع أيضا بالإدغام والإمالة وقال سيبويه في اللام مع الراء نحو أشغل رحمه البيان ، والإدغام حسنان وقال أيضا : فإذا كانت يعني اللام غير لام التعريف نحو لام هل وبل فإن الإدغام أحسن فإن لم تدغم فهي لغة لأهل الحجاز وهي

٢٧٩

عربية جائزة وفي الكشاف قرئ بإدغام اللام في الراء وبالإظهار والإدغام أجود وأميلت الألف وفخمت فليحفظ.

(كَلَّا) ردع وزجر عن الكسب الرائن أو بمعنى حقا (إِنَّهُمْ) أي هؤلاء المكذبين (عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) لا يرونه سبحانه وهو عزوجل حاضر ناظر لهم بخلاف المؤمنين فالحجاب مجاز عن عدم الرؤية لأن المحجوب لا يرى ما حجب أو الحجب المنع والكلام على حذف مضاف أي عن رؤية ربهم لممنوعون فلا يرونه سبحانه. واحتج بالآية مالك على رؤية المؤمنين له تعالى من جهة دليل الخطاب وإلّا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص. وقال الشافعي : لما حجب سبحانه قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا. وقال أنس بن مالك : لما حجب عزوجل أعداءه سبحانه فلم يروه تجلى جل شأنه لأوليائه حتى رأوه عزوجل ، ومن أنكر رؤيته تعالى كالمعتزلة قال : إن الكلام تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم ، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم كما قال :

إذا اعتروا باب ذي عبية رجبوا

والناس من بين مرجوب ومحجوب

أو هو بتقدير مضاف أي عن رحمة ربهم مثلا لمحجوبون. وعن ابن عباس وقتادة ومجاهد تقدير ذلك وعن ابن كيسان تقدير الكرامة لكنهم أرادوا عموم المقدر للرؤية وغيرها من ألطافه تعالى. والجار والمجرور متعلق «بمحجوبون» وهو العالم في (يَوْمَئِذٍ) والتنوين فيه تنوين عوض والمعوض عنه هنا يقوم الناس السابق كأنه قيل إنهم لمحجوبون عن ربهم يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) مقاسو حرها على ما قال الخليل. وقيل : داخلون فيها و (ثُمَ) قيل لتراخي الرتبة لكن بناء على ما عندهم فإن صلي الجحيم عندهم أشد من حجابهم عن ربهم عزوجل ، وأما عند المؤمنين لا سيما الوالهين به سبحانه منهم فإن الحجاب عذاب لا يدانيه عذاب.

(ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ(٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ)(٣٦)

(ثُمَّ يُقالُ) لهم تقريعا وتوبيخا من جهة الخزنة أو أهل الجنة (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) فذوقوا عذابه (كَلَّا) تكرير للردع السابق في قوله تعالى (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) إلخ ليعقب بوعد الأبرار كما عقب ذاك بوعيد الفجار إشعارا بأن التطفيف فجور والإيفاء بر ، وقيل ردع عن التكذيب فلا تكرار (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ) الكلام نحو ما مر في نظيره بيد أنهم اختلفوا في (عِلِّيِّينَ)

٢٨٠