تفسير الصّافي - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

تفسير الصّافي - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مكتبة الصدر
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٣
ISBN الدورة:
964-6847-51-X

الصفحات: ٤٧٩

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ وافتراؤهم قولهم هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى.

في الكافي عن الباقر عليه السلام : أنّه تلا هذه الآية فقال فلا ترى صاحب بدعة إلّا ذليلاً ولا مفترياً على الله وعلى رسوله وأهل بيته إلّا ذليلاً.

(١٥٣) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ من الكفر والمعاصي ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها من بعد السيئات وَآمَنُوا وعملوا بمقتضى الإِيمان إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد التوبة لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.

(١٥٤) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ عبّر عن سكون الغضب واطفائه بالسكوت تنبيهاً على أنّ الغضب كان هو الحامل له على ما فعل والأمر له به والمغرى عليه وهذا من البلاغة في الكلام أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقيها وَفِي نُسْخَتِها هُدىً دلالة وبيان لما يحتاج إليه من أمر الدين وَرَحْمَةٌ نعمة ومنفعة لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ معاصي الله.

(١٥٥) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ من قومه من باب الحذف والإِيصال سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا سبقت قصتهم عند ذكر سؤال الرؤية فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ تمنّى هلاكهم وهلاكه قبل أن يرى ما رأى أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا من التجاسر على طلب الرّؤية في التوحيد عن الرضا عليه السلام : أنّ السبعين لما صاروا معه الى الجبل قالوا له إنّك قد رأيت الله سبحانه فأرناه كما رأيته فقال إنّي لم أره فقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ واحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيداً فقال يا ربّ اخترت سبعين رجلاً من بني إسرائيل فجئت بهم وارجع وحدي فكيف يصدقني قومي بما أخبرتهم به ف لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا فأحياهم الله بعد موتهم.

وفي العيون : ما يقرب منه كما مرّ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ابتلاؤك حين اسمعتهم كلامك حتى طمعوا في الرّؤية تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا القائم بأمرنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة.

(١٥٦) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً حسن معيشة وتوفيق طاعة وَفِي الْآخِرَةِ

٢٤١

الجنة إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ تعذيبه وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ في الدنيا فما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص الا وهو متقلّب في نعمتي أو في الدنيا والآخرة الا أن قوماً لم يدخلوها لضلالهم فَسَأَكْتُبُها فسأثبتها وأوحيها في الآخرة لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الشرك والمعاصي وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ فلا يكفرون بشيء منها.

(١٥٧) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَ.

في الكافي عنهما عليهما السلام : الرَّسُولَ الذي يظهر له الملك فيكلمه والنَّبِيَ هو الذي يرى في منامه وربّما اجتمعت النبوّة والرسالة لواحد الْأُمِّيَ المنسوب الى أم القرى وهي مكّة كذا في المجمع.

وعن الباقر والعيّاشيّ عنه عليه السلام : أنّه سئل لم سمي النَّبِيَّ الْأُمِّيَ قال نسب إلى مكّة وذلك من قول الله لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها* وأمّ القرى مكّة فقيل أمّي لذلك.

وفي العلل عن الجواد عليه السلام : أنّه سئل عن ذلك فقال ما يقول الناس قيل يزعمون أنّه انّما سمي الْأُمِّيَ لأنّه لم يحسن أن يكتب فقال كذبوا عليهم لعنة الله انّى ذلك والله يقول هو الذي بعثني فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ فكيف كان يعلمهم ما لا يحسن والله لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقرأ ويكتب باثنين وسبعين أو قال بثلاث وسبعين لساناً وانّما سمِّي الْأُمِّيَ لأنّه كان من أهل مكّة ومكّة من أمّهات القرى وذلك قول الله عزّ وجلّ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ باسمه ونعته العيّاشيّ عن الباقر عليه السلام : يعني اليهود والنصارى صفة محمّد واسمه صلّى الله عليه وآله وسلم.

وفي المجالس عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث : قال يهوديّ لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إنِّي قرأت نعتك في التوراة محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلم مولده بمكّة ومهاجره بطيبة ليس بفظّ ولا غليظ ولا سخاب (١) ولا مترنّن بالفحش

__________________

(١) في الحديث : ايّاك أن تكون سخّاباً هو بالسّين المفتوحة والباء الموحّدة صيغة مبالغة من السّخَبَ بالتحريك وهو شدّة الصوت والخنا مرادف الفحش.

٢٤٢

ولا قول الخنا وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم هذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله.

وفي الكافي عن الباقر عليه السلام : لما نزلت التورية على موسى بشر بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلم قال : فلم تزل الأنبياء تبشر به حتّى بعث الله المسيح عيسى بن مريم فبشر بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلم وذلك قوله يَجِدُونَهُ يعني اليهود والنصارى مَكْتُوباً يعني صفة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم عِنْدَهُمْ يعني في التوراة والإِنجيل وهو قول الله عزّ وجلّ يخبر عن عيسى عليه السلام وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ.

وفيه مرفوعاً : أنّ موسى ناجاه ربّه تعالى فقال له في مناجاته أوصيك يا موسى وصية الشفيق المشفق بابن البتول عيسى بن مريم ومن بعده بصاحب الجمل الأحمر الطيب الطاهر المطهر فمثله في كتابك انه مهيمن على الكتب كلها وانه راكع ساجد راغب راهب إخوانه المساكين وأنصاره قوم آخرون يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ يستفاد من بعض الروايات تأويل الطيبات بأخذ العلم من أهله والخبائث بقول من خالف وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة وأصل الأصر الثقل وقد مضى حديث وضع الأصر عن هذه الأمة في آخر سورة البقرة وقرء أصارهم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وعظّموه بالتقوية والذّبّ عنه وأصل التعزير المنع وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ قيل النُّورَ القرآن.

والعيّاشيّ عن الباقر عليه السلام : النُّورَ عليّ عليه السلام.

وفي الكافي عن الصادق عليه السلام : النُّورَ في هذا الموضع عليّ والأئمة عليهم السلام أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

(١٥٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً في المجالس عن الحسن المجتبى عليه السلام قال : جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقالوا يا محمّد أنت الذي تزعم أنّك رسول الله وأنّك الذي يوحى إليك كما يوحى إلى موسى بن عمران فسكت النبيّ ساعة ثمّ قال نعم أنا سيّد ولد آدم ولا فخر وأنا خاتم

٢٤٣

النبيينّ وإمام المتّقين ورسول ربّ العالمين قالوا إلى من إلى العرب أم إلى العجم أم إلينا فأنزل الله هذه الآية الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ يريد بها ما أنزل الله عليه وعلى من تقدمه من الرسل وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.

أقول : يعني إلى العلم اللّدنّي الموصل الى محبّة الله وولايته فانّه لا يحصل إلا بالإِيمان واتباع النبيّ ومن أمر النبيّ باتباعه (١).

(١٥٩) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ بكلمة الحق وَبِهِ وبالحق يَعْدِلُونَ بينهم في الحكم.

العيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : في هذه الآية قَوْمِ مُوسى هم أهل الإسلام.

وفي المجمع عن الباقر عليه السلام : أنّ هذه الامّة قوم من وراء الصين بينهم وبين الصين واد حارّ من الرمل لم يغيروا ولم يبدلوا ليس لأحدهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل ويضحون (٢) بالنهار ويزرعون لا يصل إليهم منّا أحد ولا منهم إلينا وهم على الحق قال وقيل أنّ جبرئيل انطلق بالنبيّ صلّى الله عليه وآله ليلة المعراج إليهم فقرأ عليهم من القرآن عشر سور نزلت بمكّة فآمنوا به وصدّقوا وأمرهم أن يقيموا مكانهم ويتركوا السبت وأمرهم بالصلاة والزكاة ولم يكن نزلت فريضة غيرهما ففعلوا قال وروى أصحابنا أنّهم يخرجون مع قائم آل محمّد عليهم السلام.

وروي أنّ ذا القرنين رآهم وقال لو أمرت بالمقام لسرّني أن اقيم بين أظهركم.

(١٦٠) وَقَطَّعْناهُمُ وصيرناهم قطعاً متميزاً بعضهم عن بعض اثْنَتَيْ عَشْرَةَ

__________________

(١) العيّاشي عن الصّادق عليه السلام قال : إذا قام قائم آل محمّد عليهم السلام استخرج من ظهر الكعبة سبعة وعشرين رجلاً خمسة عشر يَعْدِلُونَ وسبعة من أصحاب الكهف ويوشع وصّى موسى ومؤمن آل فرعون وسلمان الفارسيّ وأبا دجّانة الأنصاري ومالك الأشتر. وعن أمير المؤمنين عليه السلام : انّ بني إسرائيل بعد موسى افترقت على أحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلّا واحدة فانّ الله يقول وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فهذه التي تنجو «منه رحمه الله» أقول ولا يبعد أن يكونوا هم المقصودون بالآخرين في الرّواية المتقدّمة.

(٢) ضحى ضحواً وضحيّاً اصابته الشّمس وارض مضحاة لا تكاد تغيب عنها الشّمس ويضحون مبني للمفعول امّا من باب نصر أو من باب الأفعال.

٢٤٤

أَسْباطاً أُمَماً والأسباط ولد الأولاد والأسباط في ولد يعقوب بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ في التيه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ أي فضرب فانبجست وفي حذفه إشارة إلى أنّه لم يتوقف في الامتثال مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كلّ سبط مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ ليقيهم حرّ الشمس وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا أي وقلنا لهم كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ مضى تفسيره في سورة البقرة.

(١٦١) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ بإضمار اذكر والْقَرْيَةَ بيت المقدس وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ.

(١٦٢) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ مضى تفسيره فيها وقرء تغفر بالتاء والبناء للمفعول وخطيئتكم بالتوحيد وخطاياكم.

(١٦٣) وَسْئَلْهُمْ واسأل اليهود وهو سؤال تقريع بقديم كفرهم وتجاوزهم حدود الله عَنِ الْقَرْيَةِ عن خبرها وما وقع بأهلها الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة منه إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يتجاوزون حدود الله تعالى بالصيد يوم السبت وقد نهوا عنه إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ يوم تعظيمهم أمر يوم السبت مصدر سبت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة شُرَّعاً ظاهرة على وجه الماء من شرع عليه إذا دنا منه وأشرف وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ.

(١٦٤) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ جماعة من أهل القرية لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ مخترمهم أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً لتماديهم في العصيان قالُوا مَعْذِرَةً وقرء معذرة بالرفع إِلى رَبِّكُمْ يعني موعظتنا أنّها عذراً إلى الله حتّى لا تنسب إلى تفريط في النهي عن المنكر وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ إذ اليأس لا يحصل إلّا بالهلاك.

(١٦٥) فَلَمَّا نَسُوا تركوا ترك الناسي ما ذُكِّرُوا بِهِ ما ذكرهم به الواعظون أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ شديد من بَؤُسَ يَبْؤُس

٢٤٥

بأساً إذا اشتدّ وقرء على وزن ضيغم وبكسر الباء وسكون الهمزة وبكسرها وقلب الهمزة باءً بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب فسقهم.

(١٦٦) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ تكبّروا عن النهي أو عن ترك ما نهوا عنه وهذا مثل قوله تعالى وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ مطرودين مبعدين من كل خير كقوله إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

في تفسير الإِمام عليه السلام : في سورة البقرة عند قوله وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ قال عليّ بن الحسين عليهما السلام : كان هؤلاء قوماً يسكنون على شاطئ بحر نهاهم الله وأنبياؤه عن اصطياد السمك في يوم السبت فتوصلوا إلى حيلة ليحلّوا بها لأنفسهم ما حرّم الله فخدّوا أخاديد (١) وعملوا طرقاً تؤدي إلى حياض تتهيّأ للحيتان الدخول فيها من تلك الطرق ولا يتهيأ لها الخروج إذ همّت بالرجوع فجاءت الحيتان يوم السبت جارية على أمان لها فدخلت الأخاديد وحصلت في الحياض والغُدران فلما كانت عشية اليوم همّت بالرجوع منها إلى اللّجُجَ لتأمن من صايدها فرامت الرجوع فلم تقدر وبقيت ليلها في مكان يتهيّؤ أخذها بلا اصطياد لإِسترسالها فيه وعجزها عن الامتناع لمنع المكان لها وكانوا يأخذون يوم الأحد ويقولون ما اصطدنا في السبت إنّما اصطدنا في الأحد وكذب أعداء الله بل كانوا آخذين لها بأخاديدهم التي عملوها يوم السبت حتّى كثر من ذلك ما لهم وثراهم وتنعموا بالنساء وغيرهم لإِتساع أيديهم به.

وكانوا في المدينة نيفاً وثمانين ألفاً فعل هذا منهم سبعون ألفاً وأنكر عليهم الباقون كما قص الله وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ الآية وذلك أنّ طائفة منهم وعظوهم وزجروهم ومن عذاب الله خوفوهم ومن انتقامه وشدائد بأسه حذروهم فأجابوهم من وعظهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ بذنوبهم هلاك الاصطلام (٢) أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً أجاب القائلين هذا لهم مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ هذا القول منا لهم

__________________

(١) الأخدود شق في الأرض مستطيل جمعه أخاديد وخدّ الأرض من باب مدّ شقّها.

(٢) الاصطلام الاستيصال وهو افتعال من الصّلم وهو القطع المستأصل وصلمت الأذن من باب ضرب استأصلتها قطعاً م.

٢٤٦

مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ إذ كلفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربّنا مخالفتنا لهم وكراهتنا لفعلهم قالوا وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ونعظهم أيضاً لعلّهم ينجع فيهم المواعظ فيتّقوا هذه الموبقة (١) ويحذروا عقوبتها.

قال الله تعالى فَلَمَّا عَتَوْا حادوا واعرضوا وتكبّروا عن قبول الزّجر عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ مبعدين من الخير مبغضين فلما نظر العشرة الآلاف والنيف انّ السبعين ألفاً لا يقبلون مواعظهم ولا يخافون بتخويفهم إيّاهم وتحذيرهم لهم اعتزلوهم إلى قرية اخرى وانتقلوا الى قرية من قريتهم وقالوا نكره أن ينزل بهم عذاب الله ونحن في خلالهم فأمسوا ليلة فمسخهم الله كلهم قردة وبقي باب المدينة مغلقاً لا يخرج منه أحد ولا يدخله أحد وتسامع بذلك أهل القرى فقصدوهم وَسَمَوا حيطان البلد فاطّلعوا عليهم فإذا هم كلّهم رجالهم ونساؤهم قردةً يموج بعضهم في بعض يعرف هؤلاء الناظرين معارفهم وقراباتهم وخلطائهم فيقول المطلع لبعضهم أنت فلان وأنت فلانة فتدمع عينه ويؤمي برأسه أو بفمه بلى أو نعم فما زالوا كذلك ثلاثة أيّام ثمّ بعث الله تعالى مطراً وريحاً فجرفهم الى البحر وما بقي مسخ بعد ثلاثة أيّام وإنّما الذين ترون من هذه المصورات بصورها فإنما هي أشباهها لا هي بأعيانها ولا من نسلها.

والقمّيّ والعيّاشيّ عن الباقر عليه السلام قال : وجدنا في كتاب عليّ عليه السلام : أن قوماً من أهل أيْلَة من قوم ثمود وانّ الحيتان كانت سبقت إليهم يوم السبت ليختبر الله طاعتهم في ذلك فشرعت إليهم يوم سبتهم في ناديهم وقدام أبوابهم في أنّهارهم وسواقيهم فبادروا إليها فأخذوا يصطادونها فلبثوا في ذلك ما شاء الله لا ينهاهم عنها الأحبار ولا يمنعهم العلماء من صيدها ثمّ ان الشيطان أوحى الى طائفة منهم انما نهيتم عن أكلها يوم السبت ولم تنهوا عن صيدها فاصطادوها يوم السبت وكلوها فيما سوى ذلك من الأيّام فقالت طائفة منهم الآن نصطادها فعتت وانحازت طائفة اخرى منها ذات اليمين فقالوا ننهاكم عن عقوبة الله أن تتعرضوا بخلاف أمره واعتزلت طائفة منهم ذات الشمال وسكتت فلم يتعظهم فقالت للطائفة التي وعظتهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فقالت الطائفة التي وعظتهم مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

__________________

(١) وَبَق كوعد ووجل وورث وبوقاً وموبقاً هلك كاستوبق وكمجلس المهلك.

٢٤٧

قال فقال الله تعالى فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ يعني لما تركوا ما وعظوا به مضوا على الخطيئة فقالت الطائفة التي وعظتهم لا والله لا نجامعكم ولا نبايتكم الليلة في مدينتكم هذه التي عصيتم الله فيها مخافة أن ينزل بكم البلاء فيعمنا معكم قال فخرجوا عنهم من المدينة مخافة أن يصيبهم البلاء فنزلوا قريباً من المدينة فباتوا تحت السماء فلما أصبح أولياء الله المطيعون لأمر الله تعالى غدوا (١) لينظروا ما حال أهل المعصية فأتوا باب المدينة فإذا هو مصمت فدقّوه فلم يجابوا ولم يسمعوا منها حس أحد فوضعوا سلّماً على سور المدينة ثمّ أصعدوا رجلاً منهم فأشرف على المدينة فنظر فإذا هو بالقوم قردةً يتعاوون فقال الرجل لأصحابه يا قوم أرى والله عجباً قالوا وما ترى قال أرى القوم قد صاروا قردةً يتعاوون لها أذناب فكسروا الباب ودخلوا المدينة قال فعرفت القردة أنسابها من الإِنس ولم يعرف الإِنس أنسابها من القردة فقال القوم للقردة ألم ننهَكم.

قال فقال عليّ عليه السلام : والله الذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنّي لأعرف أنسابهم من هذه الأمة لا ينكرون ولا يغيّرون بل تركوا ما أمروا به فتفرقوا وقد قال الله فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فقال الله أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ.

وفي الكافي عن الصادق عليه السلام : في هذه الآية كانوا ثلاثة أصناف صنف ائتمروا وأمروا فنجوا وصنف ائتمروا ولم يأمروا فمسخوا ذرّاً وصنف لم يأتمروا ولم يأمروا فهلكوا والعيّاشيّ عن الباقر عليه السلام : ما في معناه.

وفي المجمع عن الصادق عليه السلام : هلكت الفرقتان ونجت الفرقة الثالثة.

(١٦٧) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ تفعل من الإِيذان بمعنى الاعلام أو العزم والإِقسام معناه واذكر إذا علم أو عزم رَبُّكَ وأقسم لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ ليسلّطِنَّ على اليهود إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ يكلفهم سُوءَ الْعَذابِ شدته بالقتل والإِذلال وضرب الجزية قيل بعث الله عليهم من بعد سليمان بخت نصر فخرّب ديارهم وقتل مقاتليهم وسبى نساءهم

__________________

(١) غدا غدوّا من باب قعد ذهب غدوة وجمع الغدوة غدى كمدية ومدى هذا أصله ثمّ كثر حتّى استعمل في الذهاب والانطلاق أي وقت كان.

٢٤٨

وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم وكانوا يؤدّونها إلى المجوس حتّى بعث الله محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلم ففعل ما فعل وضرب عليهم الجزية فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر.

وفي المجمع عن الباقر عليه السلام : أنّ المعنى بهم أمّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ عاقبهم في الدنيا وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب وآمن.

(١٦٨) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً وفرّقناهم فيها بحيث لا يكاد يخلو بلد من فرقة منهم مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ هم الذين آمنوا بالله ورسوله وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ ناس دون ذلك أي منحطّون عن الصلاح وهم كفرتهم وفسقتهم وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ بالنعم والنقم والمسخ والمحن لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يتنبهون فينيبون.

(١٦٩) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ بدل سوء وهو بالتسكين شائع في الشرّ وبالتحريك في الخير وقيل المراد به الذين كانوا في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم وَرِثُوا الْكِتابَ التوراة من أسلافهم يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى حطام هذا الشيء الأدنى يعني الدنيا قيل هو ما كانوا يأخذون من الرشاء في الحكم وعلى تحريف الكلم للتسهيل على العامّة وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أي يرجون المغفرة وهم مصرون وعائدون إلى مثل فعلهم غير تائبين عنه أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ الميثاق في التوراة أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ بأن لا يكذبوا على الله ولا يضيفوا إليه إلّا ما أنزله وَدَرَسُوا ما فِيهِ وقرءوا ما فيه فهم ذاكرون لذلك.

في الكافي عن الصادق عليه السلام : أن الله خصّ عباده بآيتين (١) من كتابه أَنْ لا يَقُولُوا حتى يعلموا ولا يردوا ما لم يعلموا وقال عزّ وجلّ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ

__________________

(١) قيل يعني عباده الذين هم من أهل الكتاب والكلام كأنّ من سواهم ليسوا مضافاً إليه بالعبودية بآيتين أي مضمونهما والّا فالآيات في ذلك فوق اثنتين كقوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* الى غير ذلك ولا يردّوا ما لم يعلّموا يعني لا يكذّبوا به بل يكلوا علمه الى قائله فانّ التصديق بالشيء كما هو محتاج الى تصوره اثباتاً فكذلك هو مفتقر إليه نفياً وهذا في غاية الظهور ولكن أكثر النّاس لا يعلمون.

٢٤٩

لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ وقال بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ.

والعيّاشيّ عنه وعن الكاظم عليهما السلام : ما يقرب منه وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ محارم الله ممّا يأخذ هؤلاء أَفَلا يَعْقِلُونَ فيعلمون ذلك وقرء بالخطاب.

(١٧٠) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ أما عطف على الَّذِينَ يَتَّقُونَ وما بينهما اعتراض واما استيناف ووضع الظاهر موضع المضمر لأنّه في معناه وللتنبيه على أنّ الإصلاح مانع عن الإِضاعة وقرء يمسكون بالتخفيف من الإِمساك.

القمّيّ عن الباقر عليه السلام : نزلت في آل محمّد صلوات الله عليهم وأشياعهم.

(١٧١) وَإِذْ (١) نَتَقْنَا الْجَبَلَ قلعناه ورفعناه وأصله الجذب فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ سقيفة وهي كل ما أظلّ وَظَنُّوا وتيقنوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ ساقط عليهم لأنّ الجبل لا يثبت في الجوّ ولأنّهم كانوا يوعدون به.

قيل إنّما أطلق الظنّ لأنّه لم يقع متعلقة خُذُوا (٢) ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ بعزم من قلوبكم وأبدانكم.

العيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : أنّه سئل عن هذه الآية أقوّة في الأبدان أم قوّة في القلوب قال فيهما جميعاً وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الأوامر والنّواهي لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.

القمّيّ عن الصادق عليه السلام : لما أنزل الله التوراة على بني إسرائيل لم يقبلوه فرفع الله عليهم جبل طور سيناء فقال لهم موسى إن لم تقبلوا وقع عليكم الجبل فقبلوه وطأطئوا رؤوسهم وقد مضى تفسيره في سورة البقرة بأبسط من هذا.

(١٧٢) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وقرء ذرّياتهم أخرج من

__________________

(١) معناه واذكر يا محمّد إذ قلعنا الجبل من أصله فرفعناه فوق بني إسرائيل وكان عسكر موسى فرسخاً في فرسخ فرفع الله الجبل فوق جميعهم.

(٢) قوله تعالى خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أي خذوا ما ألزمناكم من أحكام كتابنا وفرائضه فاقبلوه بجدّ واجتهاد منكم في كل أوان من غير تقصير ولا توان.

٢٥٠

أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرناً بعد قرن يعني نثر حقائقهم بين يدي علمه فاستنطق الحقايق بأسنة قابليّات جواهرها وألسن استعدادات ذواتها وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أي ونصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإِقرار بها حتّى صاروا بمنزلة الإِشهاد على طريقة التمثيل نظير ذلك قوله عزّ وجلّ إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وقوله جلّ وعلا فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ومعلوم أنّه لا قول ثمّة وإنّما هو تمثيل وتصوير للمعنى وذلك حين كانت أنفسهم في أصلاب آبائهم العقليّة ومعادنهم الأصلية يعني شاهدهم وهم دقايق في تلك الحقايق وعبر عن تلك الآباء بالظهور لأنّ كل واحد منهم ظهر أو مظهر لطائفة من النفوس أو ظاهر عنده لكونه صورة عقلية نوريّة ظاهرة بذاتها وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أي أعطاهم في تلك النشأة الإِدراكية العقليّة شهود ذواتهم العقليّة وهوّياتهم النورية فكانوا بتلك القوى العقليّة يسمعون خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ كما يسمعون الخطاب في دار الدنيا بهذه القوى البدنية وقالُوا بألسنة تلك العقول بَلى أنت ربّنا الذي أعطيتنا وجوداً قدسيّاً ربّانياً سمعنا كلامك وأجبنا خطابك ولا يبعد أيضاً أن يكون ذلك النطق باللسان الملكوتي في عالم المثالي الذي دون عالم العقل فان لكل شيء ملكوتاً في ذلك العالم كما أشار إليه بقوله سبحانه فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ والملكوت باطن الملك وهو كله حياة ولكل ذرة لسان ملكوتي ناطق بالتسبيح والتمجيد والتوحيد والتحميد وبهذا اللسان نطق الحصى في كف النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم وبه تنطق الأرض يوم القيامة يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها وبه تنطق الجوارح أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَقُولُوا أي كراهة أَنْ تَقُولُوا وقرء بالياء يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ لم ننبّه عليه.

(١٧٣) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فاقتدينا بهم لأنّ التقليد عند قيام الحجّة والتمكن من العلم بها لا يصلح عذراً أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ يعني آباءَهم المبطلين بتأسيس الشرك.

(١٧٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن التقليد واتباع الباطل.

٢٥١

في الكافي والتوحيد والعيّاشيّ عن الباقر عليه السلام : أنّه سئل عن هذه الآية فقال أخرج من ظهر آدَم ذرّيته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذّرّ فعرفهم نفسه وأراهم صنعه ولو لا ذلك لم يعرف أحد ربّه.

وفي الكافي عنه والعيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : أنّه سئل عن هذه الآية فقال وأبوه يسمع حدّثني أبي أنّ الله عزّ وجلّ قبض قبضة من تراب التّربة التي خلق آدم منها فصبّ عليها الماء العذب الفرات ثمّ تركها أربعين صباحاً ثمّ صبّ عليها المالح والأجاج (١) فتركها أربعين صباحاً فلما اختمرت الطينة أخذها فعركها (٢) عركاً شديداً فخرجوا كالذّرّ من يمينه وشماله وأمرهم جميعاً أن يقعوا في النار فدخل أصحاب اليمين فصارت عليهم برداً وسلاماً وأبى أصحاب الشمال أن يدخلوها.

وعن الصادق عليه السلام : أنّه سئل كيف أجابوا وهم ذرّ فقال جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه وزاد العيّاشيّ : يعني في الميثاق.

أقول : وهذا بعينه ما قلناه أنّه عزّ وجلّ ركّب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإِقرار.

وعنه عليه السلام : لما أراد الله أن يخلق الخلق نثرهم بين يَدَيه فقال لهم من ربّكم فأوّل من نطق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام والأئمة عليهم السلام فقالوا أنت ربّنا فحملهم العلم والدين ثمّ قال للملائكة هؤلاء حملة ديني وعلمي وأمنائي في خلقي وهم المسئولون ثمّ قال لبني آدم أقروا لله بالرّبوبيّة ولهؤلاء النفر بالولاية والطاعة فقالوا نعم ربّنا أقررنا فقال الله للملائكة اشهدوا فقال الملائكة شَهِدْنا على أن لا تقولوا غداً إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا الآية.

والقمّيّ عنه عليه السلام : في هذه الآية أنّه سئل معاينة كان هذا قال نعم فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه ولو لا ذلك لم يدر أحد مَنْ خالقه ورازقه فمنهم من أقرّ بلسانه في الذرّ ولم يؤمن بقلبه فقال الله فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ والعيّاشيّ عنه عن أبيه عليهما السلام : ما في معناه إلى قوله ورازقه ، وفي رواية أخرى له : وأسرّ

__________________

(١) الأجاج المالح والمرّ الشديد الملوحة يقال أجّ الماء اجوجاً إذا ملح واشتدّت ملوحته.

(٢) يقال عرك البعير جنبه بمرفقه إذا دلكه فأثّر فيه.

٢٥٢

بعضهم خلاف ما أظهر وفي معنى هذه الأخبار أخبار كثيرة منها ما هو أبسط ممّا ذكر وقد شرحنا بعضها بما لا مزيد عليه في كتابنا الوافي.

(١٧٥) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا القمّيّ نزلت في بلعم بن باعورا وكان من بني إسرائيل أوتي علم بعض كتب الله.

وفي المجمع عن الباقر عليه السلام : الأصل فيه بلعم ثمّ ضربه الله مثلاً لكل مؤثر هواه على هدى الله من أهل القبلة.

والعيّاشيّ عنه عليه السلام : مَثَل المغيرة بن سعيد مثل بلعم الذي أوتي الاسم الأعظم الذي قال الله آتَيْناهُ آياتِنا الآية فَانْسَلَخَ مِنْها بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فلحقه الشيطان وأدركه وصار قريناً له فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ من الضالين.

القمّيّ عن الرضا عليه السلام : أنّه أعطى بلعم بن باعورا الاسم الأعظم وكان يدعو به فيستجيب له فمال إلى فرعون فلما مر فرعون في طلب موسى وأصحابه قال فرعون لبلعم ادع الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا فركب حمارته ليمر في طلب موسى فامتنعت عليه حمارته فأقبل يضربها فأنطقها الله عزّ وجلّ فقالت ويلك على ما ذا تضربني أتريدني أن أجيء معك لتدعو على نبي الله وقوم مؤمنين فلم يزل يضربها حتّى قتلها وانسلخ الاسم من لسانه وهو قوله تعالى فَانْسَلَخَ مِنْها الآية.

(١٧٦) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ الى منازل الأبرار من العلماء بِها بتلك الآيات وملازمتها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ مال إلى الدنيا وَاتَّبَعَ هَواهُ في إيثار الدنيا واسترضاء قومه واعرض عن مقتضى الآيات فحططناه فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ فصفته كصفة الكلب في أخسّ أحواله إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ بالزجر والطرد من الحملة لا من الحمل يَلْهَثْ يخرج لسانه بالتنفس الشديد أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ دائم اللهف بخلاف سائر الحيوان فانّه إذا هيّج وحرّك لهث والا لم يلهث والمعنى ان وعظته فهو ضال وان لم تعظه فهو ضال ، ضال في كل حال ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ المذكورة لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيتعظون ويحذرون مثل عاقبته.

٢٥٣

(١٧٧) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي مثلهم وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ لا غيرهم.

(١٧٨) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قيل الإِفراد في الأول والجمع في الثاني لإِعتبار اللفظ والمعنى تنبيه على أنّ المهتدين كواحد لإِتحاد طريقتهم بخلاف الضّالين.

(١٧٩) وَلَقَدْ ذَرَأْنا خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها.

القمّيّ عن الباقر عليه السلام : لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها يقول طبع الله عليها فلا تعقل وَلَهُمْ أَعْيُنٌ عليها غطاء عن الهدى لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها جعل في آذانهم وقراً فلم يسمعوا الهدى أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ في عدم الفقه والإِبصار للِاعتبار والاستماع للتّدبّر وفي أنّ مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها بَلْ هُمْ أَضَلُ فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع والمضار وتجتهد في جذبها ودفعها غاية جهدها وهم ليسوا كذلك بل أكثرهم يعلم أنّه معاند فيقدم على النار أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة.

في العلل عن أمير المؤمنين عليه السلام : أنّ الله ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة وركّب في البهائم شهوة بلا عقل وركّب في بني آدم كلتيهما فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة ومن غلب شهوته عقله فهو شرّ من البهائم.

(١٨٠) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التي هي أحسن الأسماء لتضمنها معاني هي أحسن المعاني.

القمّيّ قال الرحمن الرحيم فَادْعُوهُ بِها فسمّوه بتلك الأسماء.

في الكافي عن الرضا عليه السلام : أنّه سئل عن الاسم فقال صفة موصوف.

والعيّاشيّ عنه عليه السلام قال : إذا نزلت بكم شدّة فاستعينوا بنا على الله وهو قول

٢٥٤

الله وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها.

قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : نحن والله الْأَسْماءُ الْحُسْنى الذي لا يقبل من أحد طاعة الا بمعرفتنا قال فادعوه بها وقد مضى تمام تحقيق معنى الاسم في أوائل سورة البقرة وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ وقرء بفتح الياء والحاء وهو بمعناه أي واتركوا الذين يعدلون بأسمائه عمّا هي عليه فيسمون بها أصنامهم أو يصفونه بما لا يليق به ويسمونه بما لا يجوز تسميته به.

في الكافي عن الرضا عليه السلام : أن الخالق لا يوصف الا بما وصف به نفسه وانّى يوصف الذي تعجز الحواسّ أن تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن تحدّه والأبصار عن الإِحاطة به جلّ عمّا يصفه الواصفون وتعالى عمّا ينعته الناعتون الحديث.

وفي التوحيد عن الصادق عليه السلام في حديث طويل : وله الْأَسْماءُ الْحُسْنى التي لا يسمى بها غيره وهي التي وصفها في الكتاب فقال فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ جهلاً بغير علم فالذي يلحد في أسمائه بغير علم يشرك وهو لا يعلم ويكفر به وهو يظنّ أنّه يحسن ولذلك قال وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ فهم الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ بغير علمٍ فيضعونها غير مواضعها سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.

(١٨١) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ.

في الكافي عن الصادق والعيّاشيّ عن الباقر عليهما السلام : في هذه الآية هم الأئمة عليهم السلام.

وفي المجمع عنهما عليهما السلام : قالا نحن هم.

والقمّيّ هذه الْآيَةَ لآل محمّد عليهم السلام وأتباعهم.

والعيّاشيّ عن أمير المؤمنين عليه السلام : والذي نفسي بيده لتفرّقنّ هذه الامّة على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلّا فرقة وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فهذه التي تنجو من هذه الأمّة.

٢٥٥

وعنه عليه السلام : يعني أمّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم.

وفي المجمع عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم : هذه لكم وقد أعطى قوم موسى مثلها.

وعنه صلّى الله عليه وآله وسلم : هي لأمّتي بالحق يأخذون وبالحق يعطون وقد أعطى لقوم بين أيديكم مثلها وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ.

أقول : أريد بهذه الأخبار الثلاثة بعض الأمّة كما يدلّ عليه قوله مثلها وما رواه في المجمع : أنّ من أمّتي قوماً على الحق حتّى ينزل عيسى بن مريم.

(١٨٢) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ سنستدنيهم قليلاً قليلاً إلى الهلاك حتّى يقعوا فيه بغتةً وأصل الاستدراج الاستصعاد والاستنزال درجةً بعد درجةٍ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ما يراد بهم وذلك أن تتواتر عليهم النعم فيظنّوا انه لطف من الله بهم فيزدادوا بطراً وانهماكاً في الغيّ حتّى يحق عليهم كلمة العذاب.

القمّيّ قال : تجديد النعم عند المعاصي.

وفي الكافي عن الصادق عليه السلام : أنّه سئل عن هذه الآية فقال هو العبد يذنب الذنب فتجدد له النعمة تلهيه تلك النعمة عن الاستغفار من ذلك الذنب.

وعنه عليه السلام : إذا أراد الله بعبد خيراً فأذنب ذنباً اتبعه بنقمة ويذكره الاستغفار وإذا أراد بعبد شرّاً فأذنب ذنباً فاتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها وهو قول الله عزّ وجلّ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ بالنعم عند المعاصي.

(١٨٣) وَأُمْلِي لَهُمْ وامهلهم إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١) لا يدفع بشيء إنّما سماه كيداً لأنّ ظاهره إحسان وباطنه خذلان.

__________________

(١) المتين من أسمائه وهو الشّديد القوي الذي لا يعتريه وهن ولا يمسّه لغوب والمعنى في وصفه بالقوّة والمتانة انّه قادر بليغ الاقتدار على كل شيء ومتن الشّيء بالضمّ متانة اشتدّ وصلب فهو متين.

٢٥٦

(١٨٤) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ يعني محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم مِنْ جِنَّةٍ أي جنون روي أنّه علا الصفا فدعاهم فخذاً (١) يحذرهم بأسَ الله فقال قائلهم انّ صاحبكم لمجنون بات يهوت (٢) إلى الصباح فنزلت إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ موضح إنذاره بحيث لا يخفى على ناظر.

(١٨٥) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا نظر اعتبار فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في باطنها وأرواحها وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ مما يقع عليه اسم الشيء من أجناس خلقه التي لا يمكن حصرها لتدلهم على كمال قدرة صانعها ووحدة مبدعها وعظم شأن مالكها ومتولي أمرها ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه وَأَنْ عَسى وانه عسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ يعني في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مغافصة (٣) الموت ونزول العذاب فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ بعد القرآن يُؤْمِنُونَ إذا لم يؤمنوا به والمعنى ولعلّ أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الإِيمان بالقرآن وما ذا ينتظرون بعد وضوحه فان لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا.

(١٨٦) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٤) القمّيّ قال كان يكله إلى نفسه وقرء يذرهم بالياء وبه وبالجزم كأنّه قيل لا يهْدِه أحد غيره ويذرهم.

(١٨٧) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أي القيامة وهي من الأسماء الغالبة أَيَّانَ مُرْساها متى ارساؤها أي إثباتها واستقرارها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي استأثر (٥) به لم يطلع عليه

__________________

(١) الفخذ بالكسر فالسّكون للتخفيف دون القبيلة وفوق البطن والجمع أفخاذ.

(٢) هَوّت به تهويتاً صاح.

(٣) غافصه فاجأه وأخذه على غرّة.

(٤) العَمَه في القلب العمى في العين.

(٥) استأثر بالشيء استبدّ به وخصّ به نفسه.

٢٥٧

ملكاً مقرّباً ولا نبيّاً مرسلاً لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها لا يظهرها في وقتها إِلَّا هُوَ يعني ان الخفاء بها مستمر على غيره إلى وقت وقوعها واللام للتوقيت ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهو لها وشدّتها لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً فجأة على غفلة.

في الجوامع عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم : أنّ السَّاعَةِ تهيج بالناس والرّجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها (١) قيل أي عالم بها وأصله كأنّك حفيت بالسؤال حتّى علمتها أي استقصيت والحفت (٢) قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ لم يؤته أحداً من خلقه لأنّه من علم الغيب الذي استأثر الله به وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ انه المختص بالعلم بها.

القمّيّ : إنَّ قريشاً بعثت العاص بن وائل السهمي والنضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط إلى نجران ليتعلّموا من علماء اليهود مسائل يسألونها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وكان فيها سألوا محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلم متى تقوم الساعة فان ادّعى علم ذلك فهو كاذب فانّ قيام الساعة لم يطّلع الله عليه ملكاً مقرّباً ولا نبيّاً مرسلاً فلمّا سألوه نزلت.

(١٨٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا جلب نفع ولا دفع ضرر وهو إظهار للعبودية والتبري عن ادّعاء العلم بالغيوب إِلَّا ما شاءَ اللهُ من ذلك فيلهمني إيّاه ويوفّقني له وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ.

في المعاني والعيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : يعني الفقر والقمّيّ قال كنت أختار

__________________

(١) أي كأنّك استحفيت بالسؤال عنها حتّى علمتها والحفيّ المستقصي بالسؤال عن الشّيء وأعفى فلان في المسألة إذا ألحّ فيها وبالغ.

(٢) قوله تعالى لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي الحاحاً وهو أن يلازم المسئول حتّي يعطيه من قولهم لحفني من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده والمعنى على ما قيل لا يسألون وإن سألوا عن ضرورة لم يلحفوا.

٢٥٨

لنفسي الصحّة والسلامة إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فانّهم المنتفعون.

(١٨٩) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي نفس آدم وَجَعَلَ مِنْها من فضل طينتها زَوْجَها حوّاء لِيَسْكُنَ إِلَيْها ليأنس بها ويطمئن إليها فَلَمَّا تَغَشَّاها جامعها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً خف عليها فَمَرَّتْ بِهِ أي استمرت بالحمل فَلَمَّا أَثْقَلَتْ صارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً ولداً سويّاً بريئاً من الآفة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.

(١٩٠) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما وقرء شركاً بالمصدر فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.

والقمّيّ والعيّاشيّ عن الباقر عليه السلام : هما آدم وحوّاء وانّما كان شركهما شرك طاعة وليس شرك عبادة ، وزاد القمّيّ قال : جعلا للحارث نصيباً في خلق الله ولم يكن أشركا إبليس في عبادة الله بعد أن ذكر في ذلك حديثاً مبسوطاً رواه عن الباقر عليه السلام موافقاً لما روته العامّة فيه ممّا لا يليق بالأنبياء والمستفاد من ذلك الحديث أنّ معنى اشراكهما فِيما آتاهُما الله تسميتهما أولادهما بعبد الحارث والحارث اسم إبليس وإبليس قد حملهما على ذلك بتغريره وقيل معناه التسمية بعبد عزّى وعبد مناة وعبد يغوث وما أشبه ذلك من أسماء الأصنام ومعنى جَعَلا لَهُ جعل أولادهما شُرَكاءَ فيما أتى أولادهما على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه في الموضعين.

وفي العيون عن الرضا عليه السلام : أنّه قال له المأمون يا ابن رسول الله أليس من قولك أنّ الأنبياء معصومون قال بلى قال فما معنى قول الله عزّ وجلّ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فقال له الرضا عليه السلام : إنّ حوّاء ولدت لآدم عليه السلام خمسمائة بطن في كلّ بطن ذكراً وأنثى وانّ آدم وحوّاء عاهدا الله تعالى ودعواه وقالا لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً من النسل خلقاً سويّاً بريئاً من الزمانة والعاهة كان ما آتيهما صنفين صنفاً ذكراناً وصنفاً اناثاً فجعل الصنفان لله سبحانه شُرَكاءَ فِيما آتاهُما ولم يشكراه كشكر أبويهما له عزّ وجلّ فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ فقال المأمون أشهد أنّك ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حقّاً.

٢٥٩

(١٩١) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ يعني الأصنام.

(١٩٢) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ لعبدتهم نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فيدفعون عنها ما يعتريها.

(١٩٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ يحتمل معنيين أحدهما أن يكون الخطاب للمسلمين وهُم ضمير المشركين يعني أن تدعو المشركين إلى الإِسلام لا يجيبوكم والثاني أن يكون الخطاب للمشركين وهم ضمير الأصنام يعني أن تدعو الأصنام إلى أن يهدوكم لا يتّبعوكم إلى مرادكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله وقرء يتبعوكم بالتخفيف سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ.

(١٩٤) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أي تعبدونهم وتسمّونهم آلهةً من دونه سبحانه عِبادٌ أَمْثالُكُمْ مملوكون مسخّرون فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ في مهماتكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنَّهم آلهة.

(١٩٥) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ واستعينوا بهم في عدأوتي ثُمَّ كِيدُونِ فبالغوا فيما تقدرون عليه من مكروهي أنتم وشركاؤكم فَلا تُنْظِرُونِ فلا تمهلوني فانّي لا ابالي بكم لوثوقي على ولاية الله وحفظه.

(١٩٦) إِنَّ وَلِيِّيَ ناصري وحافظي اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ القرآن وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ينصرهم ويحفظهم.

(١٩٧) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ.

(١٩٨) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ يشبهون الناظرين إليك لأنّهم صوّروا بصورة من ينظر إلى من يواجهه.

(١٩٩) خُذِ الْعَفْوَ أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما تأتي منهم

٢٦٠