موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

وأولهما يحتوي على ترحّم الإمام على السيّد مكرّراً ممّا ظاهره موت السيّد قبل الصادق عليه‌السلام ممّا يخالف تاريخ وفاتهما ، فهما مردودان.

وقد نقل الكشي الخبر الأسبق عن محمّد بن رشيد الهروي ، وعنه المرزباني ، وعنه الطوسي في «الأمالي» وفيه في موضع آخر عن الحسين بن عون حفيد أبي الأسود الدؤلي قال : دخلت على السيّد الحميري عائداً في علّته التي مات بها ، فوجدته في سكرات الموت ، وعنده «العثمانية» من جيرانه ، وكان السيّد عريض الوجه رحيب الجبهة جميل الصورة ، وبدت في وجهه مثل نقطة المداد من السواد وما زالت تزداد حتّى طبّقت وجهه بالسواد ، فظهر من أُولئك «النواصب» سرور وشماتة ، وعلى من حضره من «الشيعة» غُمّة! ولكنّه لم يلبث إلّا قليلاً حتّى بدت في وجهه لَمعة بيضاء وازدادت حتّى أسفر وجهه بل أشرق ، فافترّ السيّد يضحك ويقول :

كذب الزاعمون أنّ علياً

لن ينجّي محبّه من هَنات

قد وربّي دخلت جنة عدن

وعفا لي الإله عن سيّئاتي

فابشروا اليوم أولياء علي

وتولّوا عليَّ حتّى الممات

ثمّ من بعده تولّوا بنيه

واحداً بعد واحد بالصفات

ثمّ تشهّد بالشهادات الثلاث ثمّ غمّض عينيه وفاضت روحه. وكان اذينة اليماني حاضراً فروى عن الفُضيل بن يسار البصري عن الباقر والصادق عليهما‌السلام قالا : حرام على روح أن تفارق جسدها حتّى ترى الخمسة : محمّداً وعلياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فتقرّ عينها أو تسخن!

وانتشر الخبر هذا بين الناس فشهدوا الجنازة من موافق ومفارق (١).

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٦٢٧ ، الحديث ٦ ، المجلس ٣٠.

٤٨١

وكانت داره بالرُميلة ببغداد بين البصريين بها وهم عثمانيون يومئذٍ (١) وإنّما كان له من الأولاد أربع بنات كلّ واحدة تحفظ من شعره أربعمئة قصيدة (٢) فلمّا اعتلّ كتب شعراً ، وقال لغلامه : إذا أنا متّ فأعلم البصريين بموتي ولا أظن يحضرني منهم إلّارجل أو رجلان! فاذهب إلى الكوفيين وأنشدهم هذا :

يا أهل كوفان ؛ إني وامق لكمُ

مذ كنت طفلاً إلى السبعين والكِبر

كتبت شعري إليكم سائلاً لكم

إذ كنت انقل من داري إلى الحُفر :

أن لا يليني سواكم أهلُ بصرتنا

الجاحدون! أو الحاوون للبِدر

ولا السلاطين ؛ إنّ الظلم حالفهم

فعُرفهم صائر لا شك للنّكُر

وكفّنوني بياضاً لا يخالطه

شيء من الوشي أو من فاخر الحبر

ولا يشيّعني «النُصّاب» إنّهمُ

شرّ البريّة من أُنثى ومن ذكر

عسى الإله ينجّيني برحمته

ومدحي الغرر المنجين من سقر

فلمّا مات فعل الغلام ذلك فأتى منهم خلق عظيم معهم سبعون كفناً ، وكفاهم مؤونته الرشيد بأكفان على يد أخيه علي بن المهدي كفّنه بها ثمّ صلّى عليه ، وهو يعلم بمذهبه فكبّر عليه خمساً! ثمّ أمر بحمله إلى بستان من قطيعة الربيع بن يونس الحاجب بالكرخ فدفن بها ، ووقف ابن المهدي عليه حتّى سُطّح قبره على مذهبه ، كل ذلك بأمر الرشيد (٣) ولعلّه لإرهاب الشيعة بأ نّه يعلم بهم!

وكان الرشيد قد رُفع إليه أنّ السيّد «رافضي» فأحضره وسأله فقال : إن كان «الرافضي» هو الذي يحبّ بني هاشم ويقدّمهم على سائر الخلق

__________________

(١) الأغاني ٧ : ٢٩٧.

(٢) طبقات الشعراء لابن المعتز : ٣٦ ، كما في الغدير ٣ : ٣٤٩.

(٣) انظر الغدير ٣ : ٣٨٦ ـ ٣٨٧ عن الأغاني وأخبار المرزباني الخراساني.

٤٨٢

فما أعتذر منه ولا أزول عنه ؛ وإن كان غير ذلك فما أقول به ، ثمّ استأذن لينشده شعراً في ذلك فأذن له فأنشده :

علي وأبوذر ومقداد وسلمان

وعباس ـ وعمّار ـ وعبد الله ، إخوان

دُعوا فاستودعوا علماً فأدّوه وما خانوا

أُدين الله ذا العزّة بالدين الذي دانوا

وعندي فيه إيضاح عن الحق وبرهان

وما يجحد ما قد قلت في السبطين إنسان

وإن أنكر ذو «النصب» فعندي فيه عرفان

وإن عدّوه لي ذنباً ونال الوصلَ هجران

فلا كان لهذا الذنب عند القوم غفران

وكم عدّت إساءاتٌ لقوم ، وهي إحسان

وسرّي فيه ـ يا داعي دين الله ـ إعلان

فحبّي لك إيمان وميلي عنك كفران

فعدّ القوم ذا «رفضاً» فلا عدوّا ولا كانوا!

فوصله الرشيد ومن حضره من بني العباس. ومدحه مرة اخرى بقصيدة فأمر له ببدرتين ففرّقهما ، وبلغ ذلك إلى الرشيد فقال : أحسب أبا هاشم تورّع عن قبول جوائزنا (١)!

ونقل الأُموي الزيدي : أنّ المنصور أجلس ابنه المهديّ يوماً يعطي قريشاً صلات وهو وليّ عهده ، فبدأ ببني هاشم (بني العباس) ثمّ سائر قريش ،

__________________

(١) أخبار السيد الحميري : ١٦٣ ، وانظر الغدير ٣ : ٣٨٣ ـ ٣٨٤.

٤٨٣

وكان يحجبه الربيع حاجب المنصور فرفع السيّد إليه رقعة مختومة وقال له : إنّ فيها نصيحة للأمير فأوصلها إليه! فأوصلها فإذا فيها :

قل لابن عباسٍ سميّ محمّد

لا تُعطينّ «بني عدي» درهماً!

واحرم «بني تيم بن مرّة» إنّهم

شرّ البرية آخراً ومقدّماً!

إن تعطهم لا يَشكروا لك نعمة

ويكافؤوك بأن تُذمّ وتُشتما!

وإن ائتمنتهمُ أو استعملتهم

خانوك ، واتخذوا خراجك مغنماً!

ولئن منعتهمُ لقد بدؤوكمُ

بالمنع إذ ملكوا ، وكانوا أظلما

منعوا تُراث محمّد أعمامه

وابنيه وابنته عديلة مريما

وتأمّروا من غير أن يُستخلفوا

وكفى بما فعلوا هنالك مأثما

لم يشكروا لمحمد إنعامه

أفيشكرون لغيره إن أنعما

والله منّ عليهم بمحمد

وهداهمُ وكسا الجنوب وأطعما

ثمّ انبروا «لوصيّه» ووليّه

بالمنكرات ، فجرّعوه العلقما

فلمّا قرأها المهدي أمر بوقف العطاء وإدخال السيد إليه ، فلمّا رآه ضحك وقال له : قد قبلنا نصيحتك (١) فلمّا ولي المهدي لم يمدحه بل هجاه فاخذ فاعتذر إليه فرضي عنه فمدحه (٢).

وتعدّدت أخبار السيّد الحميري مع المنصور ، ونرجّح أن نرجع هنا عوداً على بدءٍ : نشأة السيّد بالبصرة :

أبوه محمّد بن يزيد الحِميري ، وأُمه من أزد عُمان (٣) وولد إسماعيل

__________________

(١) الأغاني ٧ : ٢٦٣ ، وعنه في الغدير ٣ : ٣٦٣.

(٢) الغدير ٣ : ٣٨٣.

(٣) الغدير ٣ : ٣٣٢.

٤٨٤

بعُمان (١) ثمّ نزلا بمنازل بني ضبّة بالبصرة (٢) وأصبحا خارجيَّين إباضيَّين لا يُدرى من عُمان أم بالبصرة. ويأبى الإباضية اليوم عن لعن علي عليه‌السلام ولكن من أخباره في قديمهم ما رواه المرزباني بسنده عن العبّاسة بنت السيّد : أنّ أباها قصّ عليها أنّه لمّا كان صبيّاً كان يسمع أبويه يثلبان أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام. وقبله ينقل عن إسماعيل راوية السيّد أنّه قال : كان أبواي إباضيّين ، قلت : فكيف صرت «شيعياً»؟ قال : «غاصت عليَّ الرحمة فاستنقذتني» كذا إجمالاً بلا تفصيل. إلّاأ نّه يقول : كنت أخرج عنهما وأبقى جائعاً حتّى إذا أجهدني الجوع رجعت فأكلت ثمّ خرجت فأبيت في المساجد! لحبّي فراقهما وبغضي إياهما! فإذا بات في البيت كانت أُمه توقظه بالليل وتقول له : إنّي أخاف عليك أن تموت على مذهبك هذا! فتدخل النار! فقد لهجت بعلي وولده! فلا دنيا ولا آخرة! حتّى لقد نغّصت امّي عليَّ مطعمي ومشربي!

قال : فلمّا كبرت قليلاً وبدأت أقول الشعر ، قلت لأبويّ : إنّ لي عليكما حقّاً يصغر عند حقّكما عليَّ (فمن حقّي عليكما) أن إذا حضرتكما تُجنّباني ذكر أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بسوء فإن ذلك يزعجني وأكره عقوقكما بمقابلتكما! فتواعدني أبي بالقتل (٣)!

وكان من وجهاء البصرة عُقبة بن سَلَم الهُنائي حتّى أنّ محمّد بن أبي العباس العباسي والي البصرة استخلف عليها عُقبة بن سَلَم ، وهو بدوره استخلف عليها ابنه نافع بن عُقبة ، في عهد المنصور (٤) فلمّا تهدّد محمّد الحميري ابنه السيّد إسماعيل

__________________

(١) عن لسان الميزان ١ : برقم ١٣٥٩.

(٢) الغدير ٣ : ٣٣٣.

(٣) أخبار السيد الحميري : ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٤) تاريخ خليفة : ٢٨٤.

٤٨٥

قال : أتيت الأمير عُقبة بن سَلَم فأخبرته خبري ، فأعدّ لي منزلاً أمر لي فيه بما أحتاج إليه ، وأجرى عليَّ جراية تفضُل على مؤونتي.

ويظهر من خبر أنّ ذلك كان لأواخر أمر بني امية أو أوائل بني العباس ، فقد نقل الأُموي الإصفهاني : أنّ السيّد أنشد قصيدة تهنئة لأبي العباس السفّاح بالكوفة ، كنّى فيها عن قتل عبد الله بن علي العباسي في الشام لطغام بني أُمية فقال :

دونكموها يا بني هاشم

فجدّدوا من آيها الطامسا

لم يُبقِ «عبد الله» بالشام من

آل أبي العاص امرءاً عاطسا

فلست من أن تملكوها إلى

هبوط عيسى منكم آيسا

في أكثر من عشرة أبيات ، فأمر له بجارية وخادم وآخر يحمل له بدرة دراهم ، وآخر يسوس له فرسه ، وآخر يحمل له تختاً من صنوف الثياب ، وأن يُجروها له كلّ سنة (١).

ولأواخر السفّاح أو أوائل المنصور أنشد قصيدة قصد بها بني امية ذماً حتّى «ابن أروى» قال :

ملك ابن هند و «ابن أروى» قبله

ملكاً أمرّ بحلّة الإبرام

وبلغ ذلك المنصور فاستدعاه واستنشده فأنشده إياها فقال له : شكر الله لك يا إسماعيل حبّك لأهل البيت! ومدحك لهم ، وجزاك عنّا خيراً. ثمّ التفت إلى حاجبه الربيع وقال له : ادفع إلى إسماعيل فرساً وعبداً وجارية وأعطه كل شهر ألف درهم (٢).

__________________

(١) الغدير ٣ : ٣٨٣ ، عن الأغاص ٧ : ٢٥٩.

(٢) أخبار السيّد اگ مفي : ١٦٢.

٤٨٦

وكان في المنزل الذي أنزله به عُقبة بن سَلَم الهُنّائي حتّى توفي أبواه فورثهما (١) ثمّ غادر البصرة إلى الكوفة (حدود ١٤١ ه‍) وأخذ يتردّد فيها على سليمان بن مِهران الأعمش (٢) الكوفي المتوفى في (١٤٨ ه‍) فيكتب عنه فضائل علي عليه‌السلام ويخرج من عنده ويقولها شعراً (٣) حتّى قال ابن المعتز : كان السيّد أحذق الناس في سَوق الأحاديث والأخبار في المناقب شعراً ، حتّى أنّه لم يترك لعليّ فضيلة تعرف إلّانقلها شعراً ، وكان يُملّه الحضور في محضر لا يذكر فيه آل محمّد صلوات الله عليهم (٤) ويقول :

إني لأكره أن أطيل بمجلس

لا ذكر فيه لفضل آل محمّد

لا ذكر فيه لأحمد ووصيّه

وبنيه ذلك مجلس بخس ردي

إنّ الذي ينساهم في مجلس

حتّى يفارقه لغير مسدّد (٥)

ثمّ انتقل إلى بغداد فاشترى بها داراً مع البصريين العثمانيين بمحلة الرُميلة ، ومات بها كما مرّ.

خروج جُراشة الشيباني :

وفي سنة (١٧٩ ه‍) خرج جُراشة بن شيبان (الشيباني) إلى البندنيجين (مندلي) ثمّ إلى دينور فخرج إليه الليث فقتل جراشة من أصحابه بضعة وثلاثين

__________________

(١) الغدير ٣ : ٣٣٣.

(٢) الغدير ٣ : ٣٨٥.

(٣) أخبار السيّد الحميري : ١٧١ ، والأغاني ٧ : ٢٧٧.

(٤) طبقات الشعراء : ٣٢.

(٥) الأغاني ٧ : ٢٨٦ ، والغدير ٣ : ٣٤٧

٤٨٧

رجلاً وهزمه وعاد جراشة إلى حلوان وعليها مالك بن علي الخزاعي ، فكتب إليه الليث : أنّ جراشة قد توجّه إليك مغلولاً مهزوماً في نفر يسير ، فخرج إليه وكان ذلك قبل الفطر من سنة (١٨٠ ه‍) فلقيه في موضع قنداب على ستة فراسخ من حُلوان ، فقتل من الخوارج خمسة وأربعون رجلاً ، ثمّ جُرح مالك الخزاعي فسقط وانهزم أصحابه ، فأتبعهم الخوارج فقتلوا من أصحابه مئة وخمسين رجلاً! ثمّ أتى جراشة شهرزور ، فخرج تجارها وخندقوا على أنفسهم منه فحاصرهم ثمانية عشر يوماً ، ثمّ تصالحوا على شيء! ثمّ خرج جراشة إلى سنداباد وأرسل إلى نهاوند وهمدان جباة يجبون خراجهما.

فوجّه الفضل بن يحيى البرمكي إبراهيم بن جبرائيل إليه في ألفين ، ولقيه جُراشة في مئة وثمانين رجلاً! فاقتتلوا قتالاً شديداً حتّى جُرح جُراشة وقتل من أصحابه مئة وخمسون رجلاً! ثمّ أخذ جراشة إلى قرميسين (كرمانشاهان) ثمّ أخذ طريق شهرزور في ستين رجلاً! فسار إليها تسعين فرسخاً في ثلاثة أيام! ثمّ عبر دجلة إلى الأنبار ثمّ القادسية. وأقبل خالد بن يزيد في ألفين مدداً لإبراهيم فنزل العذيب ، وخرج جراشة إلى وادي السباع فالعذيب فالبرية ، وعاد إبراهيم إلى القطقطانة قرب الكوفة ثمّ قصر بني مقاتل ، ثمّ عين التمر فوادي البردان ثمّ إلى ثميل ، وأتاه عيونه فأخبروه أنّ جراشة عاد إلى وادي البردان ، فعاد إبراهيم إلى وادي البردان ، فخرج جراشة إلى الجنيبة ثمّ عاد إلى ثميل. فأتبعه إبراهيم إلى ثميل بموضع الرمانتين ، ومضى جراشة إلى عين أبعد ، وأتوا جراشة وهو نائم فقتلوه وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه وفلّ جمعهم (١).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٣٠٠ ـ ٣٠١.

٤٨٨

محمّد بن إسماعيل والإسماعيلية :

الظاهر لي أنّ الباقر عليه‌السلام لمّا ولد له الصادق عليه‌السلام سمّاه جعفراً وكنّاه بأبي عبد الله ، ويبدو لي أنّ الصادق عليه‌السلام لمّا ولد له بكر أبنائه سمّاه عبد الله ثمّ ولد له إسماعيل ، فهما أكبر أبنائه ، وأنّ الباقر عليه‌السلام خطب له امّهما فاطمة من أخيه الحسين بن علي بن الحسين (١).

وولد لإسماعيل ابنان سمّاهما محمّداً وعلياً ، كانا صغيرين لمّا مات أبوهما إسماعيل ، فكانا عند جدّهما الصادق عليه‌السلام زماناً ثمّ كأ نّه جزع منهما فقال لعمّهما عبد الله الأفطح : إليك ابنَي أخيك! فقد ملآني بالسفه! فإنّهما شرَك الشيطان (٢)!

وقد مرّ في ذكر الأفطح أنّه لم يكن مؤتمّاً بإمامة أبيه الصادق عليه‌السلام ، فطبيعي أنّه لم يربّ محمّداً وعلياً ابني أخيه إسماعيل على إمامة جدّهما الصادق ولا عمّهما الكاظم عليهما‌السلام ، بل كانا مجانبَين ومجافيين له.

وكأنّ محمّداً التقى ببقايا الغلاة الخطّابية فنفى عندهم إمامة عمّيه الكاظم والأفطح بحجة أنّ جدّ الصادق عليه‌السلام كان إماماً ثمّ انتقلت عنه الإمامة في حياته إلى ابنه إسماعيل فكان الأمر في حياة إسماعيل له ، فلمّا توفي إسماعيل قبل أبيه جعل الصادق عليه‌السلام الأمر لمحمد بن إسماعيل ، ولمّا كانت الإمامة لا تنتقل من أخ إلى أخ بعد الحسنين عليهما‌السلام ، لم تنتقل إلى أخوَي إسماعيل : عبد الله وموسى. بل إنّ اولي العزم سبعة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد ثمّ علي ثمّ محمّد بن إسماعيل! وإن آدم لم يكن منهم فلم يستحق الجنة فجعلها الله لمحمد بن إسماعيل (وأبيه) وتأوّل لهما قوله سبحانه : (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ (٣))

__________________

(١) انظر قاموس الرجال ٩ : ١١٨.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٦٥ ، الحديث ٤٧٨.

(٣) البقرة : ٣٥.

٤٨٩

يعني : موسى بن جعفر وولده من بعده فمحمّد بن إسماعيل هو القائم المهدي ، ومعناه عندهم أنّه يهديه الله ليقوم بشريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمّد! فالأئمة سبعة كما أنّ السماوات سبع والأرضون سبع والإنسان سبع : قلبه وظهره وبطنه ويداه ورجلاه! ورأسه سبع : عيناه وأُذناه ومنخراه وفمه ولسانه ، فالأئمة كذلك ، فهم سبعيّة! ثمّ تشعّبت منهم القرامطة (١).

وكان محمّد بن إسماعيل يكتب إلى الشيعة في كرخ بغداد ، وإلى أعمال إصفهان كتباً يدعوهم فيها إلى نفسه بمثل ما مرّ ، وظفر عيون المأمون ببعض هذه الكتب ورفعوها إليه (٢) فهو كان حياً على عهد المأمون بعد هارون.

علي بن إسماعيل والكاظم عليه‌السلام :

كانت خزاعة من حلفاء بني هاشم في الجاهلية والإسلام ، وكان منهم من الأنصار أُهبان بن أوس ، ومن ولده جعفر بن محمّد بن الأشعث ، الذي مرّ في أخبار الصادق عليه‌السلام أنّ جعفر بن الأشعث الخزاعي قال لصفوان بن يحيى البجلي عن سبب دخوله في التشيع والقول بالإمامة بلا معرفة سابقة : أنّ الدوانيقي قال له : يا محمّد ، ابغِ لي رجلاً يؤدّي عني ، فدلّه على خاله ابن المهاجر وأتاه به فأرسله إلى المدينة وآل أبي طالب ولا سيما الصادق عليه‌السلام ، فأخبره الصادق بكل ما جرى بينه وبين المنصور حتّى كأ نّه ثالثهم! فاعترف المنصور بأ نّه محدَّث من أهل البيت! فكانت هذه الدلالة سبب قول جعفر الخزاعي بمقالة الإمامة (٣).

__________________

(١) انظر فرق الشيعة : ٦٨ ـ ٧٤.

(٢) ءح ال رضي الله عنهم ج للمعك ض ١٦ : ١١١.

(٣) أُصول الكاص ١ : ٤٧٥ ، وانظر قاموس الرجال ٢ : ٦٦٢ ـ ٦٦٥ ، برقم ١٥٠٧.

٤٩٠

أجل ، قال بالإمامة إلّاأ نّه لم يعتزل العمل للمنصور وبنيه حتّى اختاره الرشيد مؤدّباً لابنه الأمين.

ومن أقدم ما جاء ذلك فيه «كتاب نسب آل أبي طالب» ليحيى بن الحسن الحسيني العبيدلي النسّابة (١) ثمّ «كتاب المبيّضة في أخبار آل أبي طالب» لأحمد بن عبيد الله الثقفي البغدادي (٢) وعنهما الإصفهاني وقال : وحدثني غيرهما ببعضه وجمعت بعضه إلى بعض ، قالوا : أوكل الرشيد ابنه الأمين إلى جعفر الخزاعي ، وكان وزيره يحيى بن خالد البرمكي ، فخاف إن أفضت الخلافة إلى الأمين أن يأتمن مربّيه الخزاعي وتزول دولة البرامكة (٣). وكان البرمكي قد عرف تشيّع جعفر الخزاعي ، فتظاهر له بأ نّه على مذهبه! فسرّبه جعفر وأفضى إليه باموره ومنها ما هو عليه في الكاظم عليه‌السلام! فلمّا وقف البرمكي على مذهبه سعى به إلى الرشيد! ولكن الرشيد كان يرعى له موضعه من نصرة الخلافة ظاهراً وموضع أبيه قبله ، فكان يتردّد في أمره.

ودخل الخزاعي يوماً إلى الرشيد فأكرمه ، وجرى كلامهما بما فيه حرمته وحرمة أبيه ، وأمر له الرشيد بعشرين ألف دينار! وكان البرمكي قد علم منه إخراجه خمس أمواله إلى الكاظم عليه‌السلام فلمّا أمسى قال للرشيد : يا أمير المؤمنين! قد كنت أخبرك عن جعفر الخزاعي ومذهبه فتكذّب القول دفاعاً عنه! واليوم حصل أمر فيه القول الفصل! إنّه لا يصل إليه مال من جهة من الجهات إلّا ويخرج

__________________

(١) رجال الطوسي : ٥١٧ في من لم يرو عنهم عليهم‌السلام ، ورجال النجاشي : ٤٤١ ، برقم ١١٨٩ وقال : بل روى عن الرضا عليه‌السلام! وتوفي في (٢٧٠ ه‍ ظ).

(٢) توفي في (٣١٩ ه‍) كما في هدية العارفين للبغدادي.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٣٣٣.

٤٩١

خمسه ويوجّه به إلى موسى بن جعفر (١)! فلست أشك اليوم في أنّه قد فعل ذلك بما أمرت به اليوم من العشرين ألف دينار!

وعرف جعفر الخزاعي سعي البرمكي به إلى الرشيد ، وكانت الأموال في بُدر ، فدفعها بخواتيمها إلى جاريته. وأرسل الرشيد عليه ليلاً ، فلمّا جاءه رسوله خشي أنّه إنّما دعاه ليقتله! فاغتسل وتحنّط بكافور ولبس بردة فوق ثيابه وأقبل إلى الرشيد. فلمّا رآه ورأى البردة عليه وشمّ كافوره قال له : ما هذا؟ قال : يا أمير المؤمنين! لما جاءني رسولك في هذه الساعة لم آمن أن يكون قد قدح في قلبك ما يقال عليَّ فأرسلت إليّ لتقتلني! قال : كلّا ولكن اخبرت أنّك تبعث من كل ما يصير إليك بخُمسه إلى موسى بن جعفر! وأنك قد فعلت ذلك في العشرين ألف دينار؟! فقال جعفر : يا أمير المؤمنين! تأمر بعض خدمك يذهب فيأتيك بها بخواتيمها.

فقال الرشيد لخادم له : خذ خاتم جعفر وانطلق به حتّى تأتيني بهذا المال. وسمّى له جعفر جاريته التي عندها المال ، فدفعت إليه البُدر بخواتيمها فأتى بها إلى الرشيد. فحينئذ قال له جعفر : هذا أول ما تعرف به كذب من سعى بي إليك. قال : صدقت يا جعفر ، انصرف آمناً فإني لا أقبل فيك قول أحد.

ثمّ كان من احتيال البرمكي لإسقاط جعفر الخزاعي أن قال ليحيى بن أبي مريم : دُلّني على رجل من آل أبي طالب له رغبة في الدنيا فأوسع له منها. فدلّه على عليّ بن إسماعيل بن جعفر (٢).

فحمل البرمكي مالاً إلى علي بن إسماعيل ليشخص إليه. وأحسّ الكاظم عليه‌السلام

__________________

(١) فهذا الخبر من بوادر أخبار تواتر أخماس الشيعة إلى أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٠٣ ، الباب ٢٨ ، الحديث ٨٣. وتجاوزه المفيد والطوسي إلى مقاتل الطالبيين.

٤٩٢

بذلك ، فدعاه وقال له : إلى أين يابن أخي؟ قال : إلى بغداد. قال : ما تصنع؟ قال : أنا مملق وعليَّ دَين. قال : فأنا أقضي دينك. فلم يلتفت إلى ذلك. فقال له : انظر يابن أخي! لا تؤتم أولادي! وأمر له بثلاثمئة دينار وأربعة آلاف درهم ، فأخذها وقام وانصرف.

وقال الكاظم عليه‌السلام لمن حضره : والله ليسعينّ في دمي ويؤتمن أولادتي! فقالوا له : جعلنا الله فداك! فأنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله؟! قال : نعم حدّثني أبي عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّ الرحم إذا قطعت فوَصلت قطعها الله» (١).

كلام هشام والكاظم عليه‌السلام :

ضمن أخبار إحضار الصادق عليه‌السلام في عصر السفاح في الحيرة في أوائل الدولة العباسية ، مرّ الخبر عن بداية معرفة هشام بن الحكم الكوفي الكندي مولاهم بالصادق عليه‌السلام. وبمناسبة وفاة عمرو بن عبيد المعتزلي البصري مرّ خبر مناظرة هشام معه بالبصرة في الإمامة. وبمناسبة مضايقة المهدي العباسي على أصحاب الأهواء وصنوف الفرق مرّ أن أرسل إليه الكاظم عليه‌السلام : أن كُفّ هذه

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٣٣ ـ ٣٣٤ عن أحمد البغدادي الثقفي في كتابه المبيّضة ، وعن ابن عقدة عن العُبيدلي النسابة في كتابه نسب آل أبي طالب كما مرّ أعلاه ، وفضّل نقله المفيد في الإرشاد ٢ : ٢٣٧ والطوسي في الغيبة : ٢٦ ـ ٢٨ ، الحديث ٦ ، على ما في أُصول الكافي ١ : ٤٨٥ ، الحديث ٨ باب مولد الكاظم عليه‌السلام ، وفيه : أنّ ذلك كان في مكة في عمرة رجب في دار الإمام بالحوبة بوساطة علي بن جعفر لمحمد بن إسماعيل ، وأ نّه مات ، بينما مرّ أنّه كان حيّاً زمان المأمون!

٤٩٣

الأيام عن الكلام فإنّ الأمر شديد! فكفّ عن الكلام حتى مات المهدي وسكن الأمر. وهنا نقف على بعض أواخر أخباره :

كان في الكوفة في أوائل اهتدائه إلى الامامة ، ثمّ أمّ الواسط مدة ، ويبدو أنه من الواسط رحل إلى البصرة لمناظرة ابن عبيد ، وبعد رواج التجارة والكلام في بغداد انتقل إليها ، وناظر وتاجر بها. وهنا في عهد الكاظم عليه‌السلام جعله الوسيط بينه وبين العباسي علي بن يقطين ، فإذا أراد شيئاً من الحوائج لنفسه أو لبعض ما يعنيه من أُموره كتب إلى علي بن يقطين : اشتر لي كذا واتّخذ لي كذا ، وليتولّ ذلك هشام بن الحكم! وأحياناً كان يمده برأس مال لتجارته بلا مشاركة في ربحه ، فمثلاً : سرّح إليه خمسة عشر ألف درهم وقال له : «اعمل بها ، وكُل أرباحها ، وردّ إلينا رأس المال» ففعل هشام ذلك ، وكان يصلّي على أبي الحسن الأول (١).

وفي بعض مواسم الحج قام هشام بحاجة الكاظم عليه‌السلام فكتب إليه : جعل الله ثوابك الجنة (٢).

وكان ينوي في أعمال الخير يقول : اللهمّ ما حملت وأعمل من خير ، مفترض وغير مفترض فجميعه عن رسول الله وأهل بيته الصادقين «صلواتك عليه وعليهم» حسب منازلهم عندك ، فتقبّل ذلك منّي وعنهم ، وأعطني من جزيل جزاك به حسب ما أنت أهله (٣)!

وكان يحيى البرمكي يتظاهر بإحياء العلوم وحملته وتقريبهم ، وقد قرّر لهم مجلساً في داره كل يوم أحد يحضره المتكلمون من كل فرقة وملّة فيتناظرون في أديانهم ويشاركهم يحيى أحياناً.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٦٩ ، الحديث ٤٨٤ عن الحسن بن علي بن يقطين.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٧٠ ، الحديث ٤٨٧.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٢٧٤ ، الحديث ٤٩٢.

٤٩٤

وبلغ ذلك إلى الرشيد فسأله عنه فقال : يا أمير المؤمنين! ما شيء مما رفعني به أمير المؤمنين وبلغ بي من الكرامة والرفعة أحسن موقعاً عندي من هذا المجلس ؛ فإنه يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم ، فيحتجّ بعضهم على بعض ، فيعرف المحقّ منهم ويتبيّن لنا فساد كل مذهب من مذاهبهم.

فقال الرشيد : أنا احبّ أن أحضر هذا المجلس واسمع كلامهم ، على أن لا يعلموا بحضوري. قال : ذلك إلى أمير المؤمنين متى شاء (١).

واختار الرشيد يوماً ، وأحضر البرمكي هشام بن الحكم ، وسأله يحيى قال له : يا هشام ، أخبرني عن نفسين اختصما وتنازعا واختلفا في حكم الدين هل يخلوان من أن يكونا محقّين أو مبطلين أو يكون أحدهما محقاً والآخر مبطلاً.

قال هشام : ليس يجوز أن يكونا محقّين.

فقال يحيى : فأخبرني عن علي والعباس لما اختصما في الميراث إلى أبي بكر ، أيهما كان المحق؟

فروي عن هشام قال : كانا محقّين جميعاً ، كما نطق به القرآن في قصة داود عليه‌السلام حيث قال : (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ (٢)) أتقول إن الملكين كانا مخطئين؟! أو أيهما كان مصيباً وأ يّهما كان مخطئاً؟! فجوابك هو جوابي بعينه.

قال يحيى : إنهما في الحقيقة لم يختصما ولا اختلفا في الحكم ، وإنما أظهرا ذلك لينبّها داود على الخطيئة ويعرّفاه الحكم ويوقفاه عليه ، فهما أصابا معاً.

فقال هشام : كذلك علي والعباس لم يختلفا في الحكم ولا اختصما في الحقيقة ، وإنما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبّها أبا بكر على غلطه ويوقفاه

__________________

(١) كمال الدين : ٣٦٢.

(٢) سورة ص : ٢٢.

٤٩٥

على خطيئته ويدلّاه على ظلمه لهما في الميراث ، وإنما كان ذلك منهما على حدّ ما كان من الملكين! فاستحسن الرشيد ذلك (١).

فكان يحيى يشرّف أمر هشام عند هارون ويردّه عن إيذائه. ثمّ وجد البرمكي على هشام من طعنه على الفلاسفة ، وكان ميل هارون إلى هشام أحد ما غيّر قلب يحيى على هشام ، وأحبّ أن يغري به هارون ويحمله على قتله! فقال له : يا أمير المؤمنين! إنا كنا نرى أن هشاماً ممن يرى القعود عن الجهاد ، ثمّ استبطنت أمره فإذا هو يزعم أنّ لله في أرضه إماماً غيرك مفترض الطاعة! قال الرشيد : سبحان الله! قال يحيى : نعم ؛ ويزعم أنه لو أمره بالخروج لخرج!

فقال هارون ليحيى : فاجمع عندك المتكلمين وأكون أنا من وراء الستر بيني وبينهم لا يفطنون بي فلا يمتنع كل واحد منهم أن يبدي صفحته لهيبتي. فوجّه يحيى فأشحن المجلس من المتكلمين منهم : ضرار بن عمرو ، وسليمان بن جرير ، وعبد الله بن يزيد الإباضي ، ورأس الجالوت (الكاثوليك) وموبدان موبد (كبير موابدة المجوس) فتساءلوا وتناظروا وتناهوا إلى مشادّة في كلامهم كل يقول لصاحبه : لم تُجب ، ويقول هو : قد أجبت. فقال لهم يحيى : أترضون بهشام حكماً فيما بينكم؟ قالوا : أيها الوزير ، قد رضينا ولكن أتى لنا به وهو عليل! قال : فأنا أوجه إليه فأسأله أن يتجشّم المجيء ، فوجّه إليه فأحضره ، فأخبره كل فريق منهم بموضع مقطعه ، فحكم لبعض على بعض.

ثمّ قال يحيى لهشام : إن رأيت أن تبين عن فساد اختيار الناس لإمام ، وأن الإمامة في آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله دون غيرهم. فاعتذر هشام فألحّ يحيى عليه ، فبدأ هشام الكلام وساق ذكر ذلك وأطال.

__________________

(١) الفصول المختارة : ٤٩ ، ٥٠.

٤٩٦

فلما فرغ من الكلام في فساد اختيار الناس للإمام ، قال يحيى لسليمان بن جرير : سل أبا محمد عن شيء من هذا الباب ، فقال سليمان لهشام : أخبرني هل كان علي بن أبي طالب مفروض الطاعة؟ قال : نعم. قال : فإن أمرك الذي بعده (اليوم) بالخروج معه بالسيف أفتفعل وتطيعه؟ قال : لا يأمرني ، قال : فإن أمرك ، وأصرّ وألحّ على ذلك ، فقال هشام : هل هو إلّاأن أقول لك : إن أمرني فعلت فتنقطع ولا تكون عندك زيادة. وأنا أعلم ما تحت قولي وما يؤول إليه جوابي! فتمعّر وجه هارون (١).

وكان جعفر بن يحيى البرمكي جالساً مع الرشيد خلف الستر ، فقال له هارون : ويحك يا جعفر من يعني بهذا؟ قال : يا أمير المؤمنين! يعني به موسى بن جعفر! قال : ما عنى بها غير أهلها! ثمّ عضّ على شفته وقال : أمثل هذا حيّ ويبقى لي ملكي ساعة واحدة؟! فوالله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مئة ألف سيف! وعلم يحيى أن هشاماً قد حضره أجله! فدخل الستر ، فقال هارون ليحيى : يا عباسي ؛ ويحك مِن هذا الرجل (إن فاتك) فقال : يا أمير المؤمنين! حسبك! تُكفى تكفى! ثمّ خرج إلى هشام فغمزه ، فعلم هشام أنه قد حضر أجله ؛ فقام يريهم أنه يقضى حاجة فلبس نعليه وانسلّ ومرّ ببيته وأمرهم بالتوارى ، وهرب (٢).

وقال صاحبه يونس بن عبد الرحمن : بلغنا أن هارون قال ليحيى : شدّ يدك على هذا وأصحابه! (ثمّ حجّ) وبعث إلى موسى عليه‌السلام فحبسه ، فكان هذا من سبب حبسه مع أسباب أُخرى. ثمّ صار هشام إلى الكوفة (٣).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٥٨ ـ ٢٦٢ ، الحديث ٤٧٧.

(٢) كمال الدين : ٣٦٨.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٢٦٢ ، الحديث ٤٧٧.

٤٩٧

وكان هارون قد بعث على إخوانه وأصحابه فأخذ الخلق به! ووافى هشام الكوفة وكان يعرف بها بشير النبّال من حملة الحديث من أصحاب الصادق عليه‌السلام فأخبره الخبر ، ثمّ اعتل علة شديدة ، فقال له بشير : آتيك بطبيب؟ قال : لا ، أنا ميت (١)! ثمّ أجابهم إليه ، فأدخل عليه جماعة من الأطباء فكان إذا دخل الطبيب عليه وأمره بشيء ، سأله : يا هذا هل وقفت على علتي؟ فإذا أخبره كذّبه فيسأله عن علته فيقول : علّتي فزع القلب مما أصابني من الخوف! كان (كأنه) قدّم ليضرب عنقه ، فأفزع ذلك قلبه (٢).

فلما حضره الموت قال لبشير : إذا فرغت من جهازي فاحملني في جوف الليل وضعني بالكُناسة ، ثمّ اكتب عليَّ رقعة : هذا هشام بن الحكم الذي يطلبه أمير المؤمنين! مات حتف أنفه! ففعل بشير ذلك ، فلما أصبح أهل الكوفة رأوه فحضره العامل وأحضر القاضي والمعدّلين وكتبوا بذلك محضراً إلى الرشيد ، فخلّى عن من كان أُخذ به من إخوته وأصحابه (٣).

قال الفضل بن شاذان النيشابوري : مات هشام بالكوفة سنة (١٧٩ ه‍) (٤) وحيث مرّ الخبر الذي أسنده الكشي عن صاحب هشام : يونس بن عبد الرحمن : أن وصف هشام للإمام وتطبيقه من قبل جعفر البرمكي على الكاظم عليه‌السلام كان من أسباب حبس الرشيد له ، حمل بعضهم على أن رووا أنهم سألوا الرضا عليه‌السلام عن هشام بن الحكم ، فقال عليه‌السلام : هو ضال مضل ، شرك في دم أبي الحسن عليه‌السلام هكذا

__________________

(١) كمال الدين : ٣٦٨.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٥٧ ، ٢٥٨ ، الحديث ٤٧٦.

(٣) كمال الدين : ٣٦٨.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٢٥٥ ، ٢٥٦ ، الحديث ٤٧٥.

٤٩٨

رووا عنه! وسمع به موسى بن صالح المشرقي فسأل الرضا عليه‌السلام عن ذلك وقال : فما تقول فيه يا سيدي نتولاه؟ قال : نعم! فأعاد عليه : نتولاه قطعاً؟! قال : نعم تولّوه! نعم تولّوه! وكان مع هذا المشرقي السائل أصحابه فقال له الإمام عليه‌السلام : اخرج الآن إليهم وقل لهم : قد أمرني بولاية هشام بن الحكم! فخرج المشرقي بين يدي الإمام إليهم وقال لهم : ألم أخبركم غير مرة : أن هذا رأيه في هشام بن الحكم (١)؟!

ونفي حفص القاضي إلى الكوفة :

أبو عمر حفص بن غياث الكوفي ، أسند النجاشي عن ابنه عمر كتاب أبيه عن الصادق عليه‌السلام وهو نحو (١٧) حديثاً (٢) منها قوله عليه‌السلام : فوالله لو أن سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل الله «عزوجل» منه عملاً إلّابولايتنا أهل البيت (٣) وعن الكاظم عليه‌السلام قال لي : يا حفص ، من مات من أوليائنا و «شيعتنا» ولم يحسن القرآن عُلّم في قبره ليرفع الله به من درجته (٤).

ثمّ طلبه الرشيد فولّاه قضاء بغداد الشرقية (وأبو يوسف على غربيها) فقبل ولكنه قال : ما وليت القضاء حتى حلّت لي الميتة! ولئن يدخل الرجل اصبعه في عينه فيقتلعها فيرى بها خير له من أن يكون قاضياً! فلما قيل له : الخليفة يدعوك! قال : أنا أجير للخصوم فحتى أفرغ منهم! فلم يقم حتى قاموا!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٦٨ ، الحديث ٤٨٣.

(٢) رجال النجاشي : ١٣٤ برقم ٣٤٦.

(٣) روضة الكافي : ١١١ ، الحديث ٩٨ وهو حديث طويل.

(٤) أُصول الكافي ٢ : ٦٠٦ ، الحديث ١٠ ، باب فضل حامل القرآن.

٤٩٩

وكان لأُم جعفر زبيدة زوج الرشيد وكيل مجوسي يدعى المرزبان فاشترى لها جملاً من خراساني بثمانين ألف درهم ، وما طلته بالثمن ، فشكاه الخراساني إلى حفص القاضي فقضى بحبسه حتى يقضى فحبسه السندي بن شاهك ، وبلغ خبره إلى زبيدة فأمرته بإخراجه فأخرجه ، وبلغ خبره إلى حفص القاضي فقال : لا أجلس للقضاء حتى يردّ مرزبان إلى الحبس! فخاف السندي الرشيد وطلب من زبيدة أن ترده إلى الحبس حتى يكلّم حفصاً القاضي فيه ، فرجع مرزبان إلى الحبس ، وقالت زبيدة للرشيد : إن قاضيك هذا أحمق! استخفّ بوكيلي وحبسه! فولّ أمره إلى أبي يوسف! ثمّ سجل حفص حكم المال على المرزبان ، وبلغ ذلك إلى زبيدة فقالت للرشيد : لا أنا ولا أنت حتى تعزل حفصاً! وألحّت عليه ، فعزله عن قضاء الشرقية وولّاه قضاء الكوفة! فمكث عليها (١٣) عاماً ومات (١٩٤) أو (١٩٥) أو (١٩٦ ه‍).

ولم يوّله الرشيد القضاء حتى علم أنه يسمّى الشيعة «الرافضة» وأنه لا يزوّجهم! ويقول : لأن الطلاق الثلاث عندهم واحدة (١)!

وسيأتي : أن أيام حبس الكاظم عليه‌السلام ببغداد كان الرشيد بعيداً عنها برقّة الشام ، وخبر حفص القاضي يقضي يكون الرشيد في بغداد ، فيترجّح أن ذلك كان قبل قبضه على الكاظم عليه‌السلام.

القبض على الكاظم عليه‌السلام :

في سنة (١٧٩ ه‍) كان على البصرة سليمان بن جعفر بن المنصور العباسي فاستبدله الرشيد بأخيه عيسى بن جعفر ، فاستخلف المهلّب بن المغيرة (٢).

__________________

(١) تاريخ بغداد ٨ : ١٨٨ ـ ١٩٠ وعنه في قاموس الرجال : ٥٨٩ ـ ٥٩٢ برقم ٢٣٣٣.

(٢) تاريخ خليفة : ٣٠٦.

٥٠٠