موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

ومن أخبار ابن خنيس : ما أرسله عنه العياشي (١) وأسنده الصدوق : أنّ الصادق عليه‌السلام في ليلة من الليالي بعد مطرة خرج ومعه جراب كبير من جلود الأغنام فيه شيء يحمله ، فتبعه المعلّى ، وفي أثناء الطريق سقط منه شيء ، فتقدم المعلّى وسلّم عليه فأجابه وعرفه وكان الجو مظلماً فقال للمعلى : التمس بيدك (في الأرض) فما وجدته فادفعه إليّ. فالتمس المعلّى الأرض بيديه فإذا هو خبز منتثر فدفعه إليه وطلب منه أن يحمل الجراب عنه فقال : أنا أولى به منك! ولكن امضِ معي. فمضى معه حتّى أتى سقيفة بني ساعدة وفيها قوم نيام من الفقراء ، فجعل الإمام يدس الرغيف والرغيفين يدخله تحت ثيابهم حتّى أتى على آخرهم ثمّ انصرف.

فقال له المعلّى : هل هؤلاء ممن يعرف هذا الأمر (الإمامة)؟ قال : لا ، لو عرفوا كان الواجب علينا أن نواسيهم حتّى في الملح! ثمّ قال : إنّ الله لم يخلق شيئاً إلّا وله خازن يخزنه إلّاالصدقة ، فإن الربّ تبارك وتعالى يليها بنفسه! وإنّ صدقة الليل (السر) تطفئ غضب الربّ وتمحو الذنب وتهون الحساب ، وصدقة النهار (الجهار) تزيد في العمر وتنمي المال (٢).

ومن صدقته في النهار ما نقله المجلسي عن الصوري عن إسحاق بن إبراهيم كان مع المعلى بن خنيس عند الصادق عليه‌السلام إذ دخل رجل من أهل خراسان فقال له : يابن رسول الله ، أنا من مواليكم «أهل البيت» وبيني وبينكم شقة بعيدة ، وقد قلّ ما بيدي فلا أقدر أن أتوجه إلى أهلي إلّاأن تعينني! فنظر الصادق عليه‌السلام إلى من عن يمينه وشماله وقال لهم : ألا تسمعون ما يقول أخوكم؟ وإنما المعروف ابتداءً ، وأ مّا ما أعطيت بعد ما سأل فإنما هو مكافأة لما بذل من وجهه ..

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ١٠٧ تفسير الآية ١٠٧ من التوبة.

(٢) ثواب الأعمال : ١٧٣ وله تتمة عن عيسى وعن الباقر عليه‌السلام ، واللفظ للعياشي.

٢٢١

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة وبعثني بالحق نبياً لما يتجشم من مسألته إياك أعظم مما ناله من معروفك».

قال إسحاق الراوي : فجمعوا للخراساني في المجلس خمسة آلاف درهم ودفعوها إليه (١).

فهذان الخبران من عهد أواخر الأمويين وأوائل العباسيين قبل قتل المعلّى بن خنيس.

موت إسماعيل بن جعفر عليه‌السلام :

يبدو أنّ إسماعيل بن جعفر عليه‌السلام بعد مباشرته بأمر أبيه الإمام للاقتصاص من قاتل المعلّى ، توفي هو بعد ذلك في السنة نفسها (١٣٣ ه‍) قبل وفاة أبيه الصادق عليه‌السلام بخمس عشرة سنة (٢) بالعريض من نواحي المدينة فحمل على رقاب الناس إلى أبيه. فروي أنّه عليه‌السلام جزع عليه جزعاً شديداً وحزن عليه حزناً عظيماً ، ثمّ تقدّم سريره بلا حذاء ولا رداء إلى البقيع ، وأمر بوضع سريره على الأرض مراراً كثيرة ، فكان يكشف عن وجهه وينظر إليه يريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانين خلافته له بعده ، وإزالة الشبهة عنهم في حياته.

ولما مات إسماعيل رضى الله عنه انصرف عن القول بإمامته بعد أبيه من كان يظنّ ذلك أو يعتقده من أصحاب أبيه عليه‌السلام ، وأقام على حياته شرذمة لم تكن من خاصة أبيه ولا من الرواة عنه بل كانوا من الأطراف والأباعد (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٧ : ٦١ ، ٦٢ عن كتاب قضاء الحقوق للصوري.

(٢) بحار الأنوار ٤٧ : ٢٥٥ بالحاشية بقلم السيّد الخرسان إلّاأ نّه قال : قبل وفاة الصادق بعشرين سنة تقريباً! وهو وهم.

(٣) الإرشاد ٢ : ٢١٠.

٢٢٢

وكان لإسماعيل ابنان محمد وعلي وكانا صغيرين ، فيظهر من خبر الكشي عن الكاظم عليه‌السلام : أنهما مكثا عند جدّهما مدّة حتّى ضجر منهما ، وكان أخو إسماعيل لأُمه عبد الله بن جعفر الأفطح فحولهما إليه وقال له : إليك ابنَي أخيك فقد ملآني بالسفه (الغضب) يعني محمداً وعلياً ابني إسماعيل (١).

وزعم بعضهم : أنّه عليه‌السلام كان قد أشار إلى إمامة ابنه إسماعيل ، فلما مات قال : إنّ الله بدا له في إمامة إسماعيل! وخرج سليمان بن جرير المتكلّم يكذّب بالبداء ، فمال بعضهم إليه وقالوا بمقالته وقالوا : كذبنا جعفر! فليس إماماً! لأنّ الإمام لا يكذب ولا يقول ما لا يكون (٢).

وكان إسماعيل قد تزوّج بأُم ولد وله مولى يدعى مبارك فهذا ادّعى أنّ الصادق عليه‌السلام كان قد أشار بالإمامة إلى مولاه إسماعيل ، فلما توفي جعلها لابنه محمّد ، ذلك أنّها لاتنتقل إلى أخٍ بعد الحسنين عليهما‌السلام ، وتبعه بعضهم فسموا المباركية نسبة إليه (٣).

بقية حوادث سنة (١٣٣ ه‍):

تفرق بنو أُمية بعد قتل مروان فصار جماعة منهم إلى عبد الرحمن بن حبيب العقبى في إفريقية ، وبنى هذا على مقاومة السفّاح ، فخالفه أخوه إلياس بن حبيب ووثب عليه جماعة من أهل البلاد منهم عقبة بن الوليد الصدفي ، ودعا إلياس إلى بني العباس فبايعوه ، فأخذ من صار إلى إفريقية من بني امية وحبسهم وكتب بخبرهم إلى السفّاح.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٦٥ ، حديث ٤٧٨.

(٢) فرق الشيعة : ٦٤ ، وفي المقالات والفرق : ٧٨ ويراجع في تأويله للبداء والتقية كما يجترّه النواصب اليوم.

(٣) المقالات والفرق : ٨٠ ، ٨١.

٢٢٣

ووثب أهل الموصل على عاملهم فانتهبوه وأخرجوه! فولّى السفّاح أخاه يحيى بن محمّد على الموصل وضمّ إليه أربعة آلاف رجل من أهل خراسان ، فقدمها أوائل سنة (١٣٣ ه‍) فاعترض الناس يوم جمعة حتّى قتل ثمانية عشر ألف عربي وعبيدهم ومواليهم ، وجرت دماؤهم فغيّرت ماء دجلة (١)! وقال ابن الوردي : كان معه أربعة آلاف زنجي ، وقتل من أهلها أحد عشر ألفاً ثمّ قتل صبيانهم ونساءهم ، وأنكح نساءهم الزنوج معه وهنّ عربيات! فقالت له إحداهنّ : أما تأنف للعربيات أن ينكحهنّ الزنوج! فتأثر وجمعهم فقتلهم! فنقله السفّاح إلى فارس! وولّاها أخاه إسماعيل بن محمّد (٢).

وكان عامل مروان على أرمينية إسحاق بن مسلم العقيلي فاستخلف عليها مسافر بن كثير ، وولّى السفّاح عليها محمّد بن صول ، فحاربه حتّى قتله واستولى على أرمينية ، وكان على قلعة الكلاب ومدينتها ورد بن صفوان السامي ، فلمّا رأى أهل البلقان اشتعال الحروب زحفوا إليها وجمعوا إليهم لفيفاً من الصعاليك وغيرهم بالقلعة ، فوجّه ابن صول إليهم صالح بن صبيح الكندي فحاصرهم حتّى قتل منهم جمعاً كثيراً.

وكان قد تغلب على السند منصور بن جمهور ، فأرسل إليها السفّاح موسى بن كعب التميمي فنفد موسى في عشرين ألف مقاتل ، فصار إلى قندابيل ثمّ كاتب موسى من كان مع منصور من القبائل وكاتبتهم قبائلهم ثمّ زحف موسى بجمعه إليه فانهزم منصور وأدركه فقتله (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٧.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٨.

٢٢٤

وكان على الروم بالقسطنطينية قسطنطين بن اليون ، فلمّا رأى اشتغال المسلمين نزل بجمعه على ملطية ، فقاتله أهلها قتالاً شديداً وألحّ عليهم حتّى نزلوا على أمانه ، فأخرجهم إلى مأمنهم ، وهدمها بما فيها من دار الإمارة والمسجد الجامع.

فبعث السفّاح محمّد بن النضر الحميري بجمع معه إلى طوالة من أرض الروم (١) ثغراً.

وفي ابن الوردي : أنّ قسطنطين استولى على ملطية وقاليقلا (٢) ولم يذكر إخراج المسلمين منها وتخريبها.

وقال : فيها ولّى السفّاح عمّه سليمان بن علي البصرة وكور دجلة والبحرين وعمان ، فقتل سليمان بالبصرة جماعة من بني امية وألقاهم في الطرق تأكلهم الكلاب! وتشتّت من بقي منهم واختفوا في البلاد (٣).

وبنى بالأنبار وانتقل إليها :

أنِف السفّاح بعد بيعته أن يحصر نفسه بقصر دار الإمارة بالكوفة وآثر عليها الحيرة ، واختار القرار بالأنبار لقربها النسبيّ من ديار الأغيار! ولذا بدأ العمل في شراء الأراضي والدور وبنائها وقصر دار الإمارة بها على ما يرام ، منذ بداية العهد العباسي السفّاحي وهو ينتظر في الحيرة أول فرصة لإمكان الانتقال إليها ، بوزارة وزيره المميّز أبي سلمة الخلّال مولى همْدان.

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٦٨.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٤.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٣ و ١٨٤.

٢٢٥

وكأنّ هذا الإمكان حصل لأواخر السنة الثالثة لعهده أي في ذي الحجة سنة (١٣٤ ه‍) (١) وفي اليعقوبي : كان قد اشترى من الناس أشرية كثيرة بنى فيها ، فأقطعها أهل بيته وقوّاده. ثمّ رفع إليه أهل تلك الأرضين والمنازل أنهم لم يقبضوا أثمانها (٢)! فأمر فضربت مضارب خيمه وأخبيته بظاهرها وبرّها حتّى استوفى القوم أثمان أراضيهم ، ثمّ عاد إلى قصره بها (٣).

اختلال أمر الخلّال وقتله :

لقّب بنو العباس أنفسهم ب «آل محمّد» وأبا مسلم الخراساني ب «أمين آل محمّد» وأبا سلمة الخلّال ب «وزير آل محمّد» فكان أبو مسلم يكتب إليه : «للأمير حفص بن سليمان وزير آل محمّد من أبي مسلم أمين آل محمّد» ثمّ علم أبو مسلم عن أبي سلمة اموراً أنكرها وذكر له تدبيره والتماسه صرف الدولة إلى بعض الطالبيين ، فكتب أبو مسلم إلى السفّاح من خراسان : أن اقتل أبا سلمة فإنّه العدوّ الغاش الخبيث السريرة (٤) فلمّا أبطأ في ذلك ...

كتب إلى عمّه داود بن علي (قبل موته) وإلى أخيه المنصور يسألهما أن يشيرا على السفّاح بقتل الخلّال ، فكلّماه في ذلك فقال لهما : ما كنت لُافسد كثير إحسانه وعظيم بلائه وصالح أيامه بزلّة كانت منه (٥) وكره السفّاح أن يوحش

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٤.

(٢) ولعلّ هذا مما أساء ظنّه بوزيره الخلّال بأنه يريد إساءة ظنّ رعيّته به!

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٨.

(٤) انظر تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٢.

(٥) مروج الذهب ٣ : ٢٧٠.

٢٢٦

أبا مسلم بقتله الخلّال أو يوجد له سبيلاً إلى الاحتجاج به عليه! فكتب السفّاح إلى أبي مسلم : أن وجّه أنت من يقتله! فوجّه أبو مسلم لذلك مراد بن أنس الضبّي.

وكان الخلّال يسمر عند السفّاح ، فجلس الضبّي له على بابه فلمّا خرج ثار إليه فضرب عنقه (١).

وقال المسعودي : بل وجّه جماعة من ثقات أصحابه لإعمال الحيلة لقتل الخلّال! وكان أديباً عالماً بتدبير السياسة فكها ممتعاً! فكان السفّاح يأنس به ويسمر عنده. فقيل : إنّ أبا سلمة انصرف ليلة من عند السفّاح في مدينته بالأنبار وليس معه أحد! فوثب عليه أصحاب أبي مسلم فقتلوه! فلمّا اتصل خبره بالسفّاح أنشأ يقول :

إلى النار فليذهب! ومن كان مثله

على أي شيء فاتنا منه نأسف (٢)؟!

وذلك كان في أوائل ما بعد التخلّص من مروان بمصر ، وفراغ أخيه المنصور وقائده الحسن بن قحطبة من شرّ ابن هبيرة بواسط ، فولّى أخاه المنصور الجزيرة والموصل إلى الثغور ، فخرج حتّى صار إلى الرقة فاختط بها الرافقة على شط الفرات وهندسها له قائده أدهم بن محرز الباهلي. وكذلك ولّاه أرمينية وآذربايجان ، فولّى الحسن الطائي الجزيرة ثمّ أرمينية (٣).

وسليمان الأموي بعد أبي سلمة :

كان سليمان بن هشام بن عبد الملك قد خرج على مروان ، ثمّ استأمن من السفّاح فآمنه ، فقدم عليه ومعه ولداه. وكان السفّاح يجلس بالعشيّات ويأذن

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٢.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٧١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٨.

٢٢٧

لخواصّه وأهل بيته ، ويجلس سليمان وابنيه معه على الكراسي والنمارق! وبلغ ذلك إلى سُديف بن ميمون مولاهم وكان مع داود بن علي وكان شاعراً ، فنظم شعراًفي ذلك وارتحل إليه بزيّ أعرابي حتّى أناخ ناقته وعقلها بباب قصر السفّاح بالأنبار وانتظر الإذن ، وإذا بأبي الجهم من خواص قوّاد السفّاح يهمّ بالدخول عليه فقال له : استأذن لي على أمير المؤمنين وأنا مولاه سُديف! فقال له : اذهب وضع عنك ثياب سفرك وعُد ، وسأستأذن لك عليه ، فقال له : إني آليت أن لا أضع عني ثوباً ولا أحلّ لثاماً حتّى أنظر إلى وجهه! فدخل أبو الجهم على السفّاح وأخبره به فأذن له ، فدخل أعرابي فوقف وسلّم عليه بإمرة المؤمنين ثمّ تقدّم فقبّل يديه وبين رجليه! ثمّ تأخّر واندفع يقول شعراً :

أصبح الملك ثابت الأساس

بالبهاليل من بني العباس!

يا أمير «المطهِّرين من الرج

س» ويا منتهى كل رأس!

أنت «مهديّ» هاشم وهداها!

كم اناس رجوك بعد إياس!

لا تقيلنّ «عبد شمس» عثاراً

واقطعن كل رقلةٍ وغِراس!

أفنِها أيها الخليفة واحسم

عنك بالسيف شأفة الأرجاس!

أنزلوها بحيث أنزلها اللّ

ه بدار الهوان والإتعاس!

ولقد ساءني وساء قبيلي

قربهم من نمارق وكراسي!

خوفهم أظهر التودّد منهم

وبهم منكمُ كحزّ المواسي!

واذكروا مصرع «الحسين» وزيد

وقتيلاً بجانب المِهراس (١)

والقتيل الذي بحرّان أَمسى رهن رمسٍ في غربة وتناسي (٢)

نِعم كلب الهراش مولاك لولا

حلّهُ من حبائل الإفلاس!

__________________

(١) المهراس موضع كان يجتمع فيه الماء من جبل احد ويقصد به حمزه قتيل اميه

(٢) يعنى ابراهيم بن محمد الامام العباسى القتيل فى سجن حران

٢٢٨

فقام سليمان بن هشام وقال : يا أمير المؤمنين! إنّ مولاك هذا يحرّضك منذ مثل بين يديك على قتلي وقتل ابنيّ! وأنا قد تبيّنت ـ والله ـ إنك تريد أن تغتالنا!

فقال السفّاح : لو أردت ذلك ما كان يمنعني منكم على غير غيلة! فأما إذ سبق ذلك إلى قلبك فلا خير فيك! ثمّ التفت إلى أبي الجهم وقال له : يا أبا الجهم أخرجه وبنيه فاقتلهم وائتني برؤوسهم! فأخرجهم وقتلهم وأتاه برؤوسهم (١)!

زحف الروم إلى ثغر أرمينية الرابعة :

في جمادى الآخرة من سنة (١٣٤ ه‍) خرجت الروم وعليهم البطريق كوشان إلى أرمينية الرابعة ، فبعث عبد الله بن علي الحارث بن عبد الرحمن الحرشي ، فوجّه مقاتل بن حُكيم العتكي ، فأرسل ابنه مخلّد بن مقاتل! فلقى الروم بأرمينية الرابعة وانهزم مخلّد وأسلم عسكره للعدو!

ففي السنة التالية (١٣٥ ه‍) كتب السفّاح إلى عمّه عبد الله بن علي يأمره بضرب البعوث لثغور الشام إلى الروم ، فولّى عبد الله : سعد بن عبد الرحمن الرحبي ، فجعل رجالاً على أفواه الدروب وفي قرية دابق (٢). وكتب السفّاح إليه بغزو الروم ، فرحل عبد الله بن علي إلى دابق وعسكر بها وتوافت إليه الجنود (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٨ ـ ٣٦٠. وذكرها ابن الوردي ونسبها إلى شبل بن عبد الله على عبد الله بن علي عمّ السفّاح في فلسطين لقتل نحو التسعين من الأمويين! إلّاأ نّه قال : فأنشد ، فلعلّه كان إنشاداً لما أنشأه سُديف للسفّاح! تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٣.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٦٩.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٧٢.

٢٢٩

وفي اليعقوبي : كتب السفّاح إلى عمّه عبد الله بن علي : أن العدوّ قد كلب بالغفلة عنه! وأمره أن ينفذ بالجيوش التي معه فيبثهم في نواحي الثغور. فزحف عبد الله ولم يزل يعبّئ حتّى قطع الدرب عليهم (١).

أبو مسلم بعد قتل أبي سلمة :

ولما استسلم السفّاح لسفح دم وزيره الخلّال الخراساني بطلب رقيبه أبي مسلم الخراساني فخلا له الجوّ ، استأذنه للقدوم إليه ثمّ إلى الحج لسنة (١٣٦ ه‍) فأذن له (٢) وقدم عليه فأكرمه وأعظمه. وكان أخوه المنصور حاضراً ودخل أبو مسلم فسلّم على السفّاح ولم يسلم على المنصور وأراد الخروج فقال له السفّاح : لِمَ لَم تسلّم على مولاك؟! يعني المنصور! فقال : قد رأيته ولكنّه في مجلس الخليفة لا يقضى حقّ أحد غيره (٣)!

فلمّا حضر الموسم استأذنه للحج فأذن له فحجّ وحجّ معه المنصور ، فلمّا خرجا اشتدت العلّة (الجدري) بالسفّاح ، فقيل له : صيّر ولاية عهدك إلى أبي جعفر. وكان عنده عمّه عيسى بن علي يصلّي عنه بالناس ، وبعد صلاة العشاء خرج رسول السفّاح إليه بكتاب عليه عنوانه : من عبد الله و «وليّه» إلى «آل رسول الله» و «الأولياء» وجميع المسلمين (والكتاب مغلق ، وحضر عمّه عيسى عنده فقال له) : يا عمّ إذا خرجت نفسي فسجّني بثوبي واكتم موتي حتّى يقرأ هذا الكتاب على الناس ، فإذا قرئ فخذ بيعة المسمّى فيه ، فإذا بايع الناس فخذ في أمري وجهّزني وصلّ عليَّ وادفنّي. خذ هذا الكتاب وامض راشداً.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥١.

٢٣٠

هذا وهو ابن ست وثلاثين وقد خلّف بنتاً وابناً غير بالغ ، وتوفي في ثاني أيام عيد الأضحى سنة (١٣٦ ه‍) (١) وكان طويلاً أبيض أقنى حسن الوجه جعد الشعر له وفرة ، يهون عليه أن يسفك دماء عالم من أعدائه بلا أن يعاين ذلك (٢) وكانت وفاته بالجدري (٣) وصلّى عليه عمّه عيسى ودفنه بالأنبار العتيقة ، وكان قد عقد العهد في ثوب وختم عليه ودفعه إلى عمّه عيسى لأخيه المنصور ثمّ عيسى بن موسى (٤).

ربيعة الرأي والإمام الصادق عليه‌السلام :

مات أمير الحجاز داود بن علي العباسي في غرة شهر ربيع الأول (٥) واستخلف ابنه موسى فعزله السفّاح وولّى خاله زياد بن عُبيد الله الحارثي فقدم المدينة في جمادى الأُولى سنة (١٣٣ ه‍) إلى موت السفاح (٦) سنة (١٣٦ ه‍) وفيها مات ربيعة الرأي ابن أبي عبد الرحمن مولى آل المنكدر (٧) وكان فقيه المدينة!

ويظهر من خبر أنّ الصادق عليه‌السلام كان يحضر مجلس زياد الحارثي هذا ، ولعله كان في أوائل أمره ولذا سأل عن تحريم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للمدينة ، وكان ربيعة الرأي أيضاً حاضراً فسأله : يا ربيعة ما الذي حرّم رسول الله من المدينة؟ فقال : بريد في

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٢.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢٩٣.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٢٠ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٤ ، والسيوطي : ٣١٣.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٤.

(٥) تاريخ خليفة : ٢٦٨.

(٦) تاريخ خليفة : ٢٧٠.

(٧) تاريخ خليفة : ٢٧٢.

٢٣١

بريد. والبريد لم يكن على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّما هو معرّب عن الفارسية بعد ذلك (١). فروى الصدوق بسنده عنه عليه‌السلام قال : فقلت لربيعة : أكانت البريد على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! فسكت ولم يُجبني! فأقبل زياد عليَّ وقال : فما تقول أنت يا أبا عبد الله؟ قال : فقلت : حرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة من الصيد : ما بين لابتيها. فقال : وما «لابتيها»؟ قلت : ما أحاطت به الحِرار (من الشرق والغرب : حَرّة واقم وحَرّة ليلى) فقال : ومن الشجر؟ قلت : من (جبل) عير إلى (جبل) وَعِير (٢).

وشتم رجلٌ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسأل الوالي (الحارثيّ) عبدَ الله بن الحسن والحسنَ بن زيد وغيرَهما فقالوا : يُقطع لسانه! وقال ربيعة الرأي : بل يُؤدّب! وسأل الوالي الصادق عليه‌السلام فقال لهم : أرأيتم لو ذكر (رجل بالسوء) رجلاً من أصحاب النبيّ فما كان الحكم فيه؟ قالوا : مثل هذا! فقال : فليس بين النبيّ وبين رجل من أصحابه فرق؟ فقال الوالي (الحارثي) فكيف الحكم فيه؟ قال :

أخبرني أبي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الناس فيّ أُسوة سواء ، فمن سمع أحداً يذكرني (بسوء) فالواجب عليه أن يقتل من شتمني ، ولا (يجب أن) يرفع إلى السلطان ، والواجب على السلطان إذا رفع إليه أن يقتل من نال مني».

فقال الوالي (الحارثي) : فبحكم أبي عبد الله أخرجوا الرجل فاقتلوه (٣).

__________________

(١) في مجمع البحرين ٣ : ١٣ عن الفائق للزمخشري : البريد في الأصل كلمة فارسية أصلها : بريده دُم ، أي محذوفة الذنب ، لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب ، فعُرّبت ثمّ سميت بها المسافة.

(٢) معاني الأخبار : ٣٣٧.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٨٤.

٢٣٢

ويظهر من خبر آخر أن بعض أصحاب الصادق عليه‌السلام كان يجاهر بما هو عليه ، ذلك ما رواه الكشي عن زرارة بن أعين بن سنسن الرومي أنّه التحق في (مسجد) المدينة بحلقة مذاكرة فيها ربيعة الرأي وحضرها عبد الله بن محمّد الباقر عليه‌السلام وكان يعرف زرارة من فقهاء أصحاب أخيه الصادق عليه‌السلام فقال له : يا زرارة ؛ سل ربيعة عن شيء مما اختلفتم! فقال : إنّ «الكلام» يورث الضغائن! وسمعه ربيعة الرأي فقال له : سل يا زرارة! قال : فقلت : بِمَ كان رسول الله يضرب في الخمر؟ قال : بالنعل وجريد النخل! فقلت : لو أن رجلاً شارب خمر أُخذ وقدّم إلى الحاكم ما كان (يحكم) عليه؟ قال : يضربه بالسوط وذلك لأنّ عمر ضرب بالسوط!

فتكلم عبد الله بن محمّد الباقر قال : يا سبحان الله يضرب رسول الله بالجريد ويضرب عمر بالسوط ، فيُترك ما فَعل رسول الله ويؤخذ ما فعل عمر (١)؟!

واستخلف المنصور وخالفه عمّه عبد الله :

مرّ خبر اليعقوبي في وصية السفّاح بعهده إلى عمّه عيسى بن علي العباسي حيث كان المنصور أخوه ووليّ عهده في الحج ، فأخذ له عيسى البيعة على من حضر بالأنبار من العباسيين والقواد. ثمّ أرسل إليه بعهده مع محمّد بن الحصين العبدي. وكان المنصور راجعاً فوافاه بعد وفاة أخيه السفاح بأُسبوعين (في أواخر ذي الحجة) في منزل يقال له زكية ، فقال المنصور : يزكو أمرنا إن شاء الله! ثمّ دعا من معه إلى بيعته في المنزل التالي : صفية ، وقال : يصفو لنا أمرنا ، وأسرع سيره (٢).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١٥٣ ، الحاديث ٢٤٩.

(٢) تاريخ اليعقوبى ٢ : ٣٦٤.

٢٣٣

وكان أبو مسلم قبله بمرحلة فكتب إليه المنصور : إنّه قد حدث حدَث ليس يغيب عنه مثلك ؛ فالعجل العجل (١) ولعلّه لحضور أبي مسلم أخّر البيعة إلى المنزل اللاحق. وقد اكتمل يومئذ أربعين عاماً ، وامه سلامة البربرية (٢) ابنة بشير من مولّدي البصرة (٣).

وقال ابن العبري : أن أبا مسلم كان متقدماً في الطريق على أبي جعفر المنصور ، فلمّا أتاه خبر وفاة السفّاح لم يرجع إلى المنصور ولم يقم حتّى يلحقه وإنّما كتب إليه يعزّيه عن أخيه بلا تهنئة له بالخلافة! وصار له الذكر بين الأعراب إذ كان يكسوهم ويصلح آبارهم والطرق ، فخافه المنصور وهجر النوم وأجمع الرأي على المكيدة به ليقتنصه (٤) فلعل أبا مسلم كان لاحقاً بالمنصور ثمّ تعدّاه سابقاً ولم يعرّج عليه. ولكنّه بايعه (٥).

وكتب الوصيّ عيسى بن علي إلى أخيه بمصر صالح بن علي يعرّفه الحادثة في ابن أخيه أبي العباس السفّاح ، وما كان من عهده إلى أخيه المنصور ومبايعتهم له واجتماعهم عليه ، وأمره أن يبايع له.

وكان السفّاح قبل وفاته قد كتب إلى عمّه على الشام عبد الله بن علي أن يغزو صائفة الروم ويقطع الدرب عليهم ، وكان قد قطع الدرب إلى بلاد الروم ، حيث بعث إليه أخوه عيسى حاجب أخيه السفاح غسّان بن يزيد بن زياد ليبايع عبدُ الله لابن أخيه المنصور ، فلحقه وقد قطع الدرب فرجع إلى قنسّرين حتّى صار

__________________

(١) الامامه والسى اسى ه

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٨١.

(٣) التنبيه والإشراف : ٢٩٥.

(٤) مختصر تاريخ الدول : ١٢٠ ـ ١٢١.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٤ ـ ٣٦٥.

٢٣٤

إلى قرية دلوك ، وكان معه حُميد بن قحطبة الطائي فأحضره وجماعة من القواد الذين كانوا معه وقال لهم : أما تشهدون أن أبا العباس قال : من خرج إلى مروان فهو وليّ عهدي؟ فشهدوا له بذلك ، وبايعوه وبايع له أكثر أهل الشام ، وكتب بذلك إلى أخيه عيسى بن علي ، وتوجّه إلى حرّان يريد العراق.

وكان على حرّان موسى بن كعب فلم يستجب له وتحصّن منه ، فحاصره أربعين يوماً ثمّ خرج بالأمان إلى العراق (١).

توجيه أبي مسلم لقتل العمّ :

قال اليعقوبي : في غرة محرم الحرام لعام (١٣٧ ه‍) قدم المنصور إلى الحيرة ، وصلّى بالناس الجمعة ، ثمّ شخص مع أبي مسلم إلى بلدة أخيه السفّاح بالأنبار فاستولى على خزائن السفّاح وضمّ إليه أطرافه.

وبلغه أمر عمّه عبد الله بن علي وتوجّهه إلى العراق ، فاستدعى أبا مسلم وقال له : ليس لعبد الله بن علي غيري أو غيرك! فقال له أبو مسلم : يا أمير المؤمنين! إنّ أمر عبد الله بالشام أقل وأذل ، وأمر خراسان أجل! ثمّ قام وانصرف إلى رحله وقال لكاتبه : ما الرأي إلّاأن أمضي إلى خراسان واخلّي بين هذين الكبشين فأيهما غلب وكتب إلينا كتبنا إليه وأطعنا ، فيرى أنا قد أنعمنا عليه وعملنا له عملاً. فقال له كاتبه : اعيذك بالله أن تمكّن أهل خراسان من الطعن عليك وأن يروا أنك نقضت أمراً بعد توكيده! فقال له : ويحك! إني نظرت فيمن قتلت صبراً سوى من قتل في المعارك فوجدتهم مئة ألف من الناس! فلم يزل به كاتبه حتّى أجاب المنصور إلى الخروج إلى عمّه ، وعسكر في خلق عظيم ، ثمّ صار إلى الجزيرة. وسمّاه عبد الله بن علي : أبا مجرم.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٥.

٢٣٥

وكان مع عبد الله بن علي أخوه عبد الصمد ، فنقل اليعقوبي (العباسي) عنه بواسطة السندي بن شاهك قوله : كنت عند عبد الله بن علي إذ دخل حاجبه وقال : رسول أبي مجرم! بالباب؟ فقال : ايذن له.

فدخل رجل كريه الوجه قبيح المنظر كثير الشعر عظيم العقب كثير حشو الخفتان ، ولم يسلّم على عبد الله وإنّما سلم سلاماً عاماً وقال : إن الأمير أبا مسلم يقول : علامَ تقاتلني وأنت تعلم أني لا اقاتلك؟

وخرج عبد الله بعسكره إلى نصيبين لمقاتلة أبي مسلم ، وكأنّ عبد الله شك في إخلاص حُميد بن قحطبة له فأراد قتله وبلغ ذلك إلى حُميد فاحتال حتّى صار إلى أبي مسلم ، وخاف عبد الله أن يفعل نظراؤه مثله. وفي نصيبين واقع أبو مسلم عبد الله بن علي عدة وقائع حتّى فرق جمعه ، وكان أخو عبد الله سليمان بن علي على البصرة ، وأمر أبو مسلم أن لا يعترض أحد لعبد الله فهرب إلى أخيه سليمان بالبصرة واختفى عنده. واستولى أبو مسلم على خزائنه وأمواله ولم يرسلها إلى المنصور. وأرسل المنصور إليه مولاهم يقطين بن موسى (أبا علي بن يقطين) مهنئاً له بالفتح. وبعث باسحاق بن مسلم العقيلي ومحمّد بن عمرو النصيبي التغلبي ليحصوا ما حصل في يد أبي مسلم من الأموال والخزائن ، فأ مّا يقطين فحلف له بالطلاق قال : امرأتي طالق ثلاثاً! إن كان أمير المؤمنين وجّهني إليك إلّامهنئّاً بالفتح! فقال للرجلين : ويلي على ابن سلامة! (يريد أُم المنصور) اوتمنُ على الدماء ولا اوتمنُ على الأموال! وشتمهما واستخفّ بهما. فرجعا إلى المنصور وأخبراه بخبره! فولّى المنصور هشام بن عمرو العقيلي مكان أبي مسلم بخراسان (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

٢٣٦

قتل المنصور لأبي مسلم :

كان المنصور حين قتال أبي مسلم لعبد الله بن علي العباسي عمّ المنصور ، قد انتقل من الأنبار إلى رومية المدائن ، ولما غضب أبو مسلم على المنصور لطلب إحصائه أموال عبد الله ، لم يرجع إلى المنصور مع مروره بقرب المدائن بينه وبينه فرسخان (١١ كم تقريباً) فلم يلقه ونفذ لوجهه وجازه إلى حُلوان يريد خراسان ، فطلب المنصور من عيسى بن موسى العباسي أن يلحق أبا مسلم فيترضّاه للقاء المنصور (١).

وقال الدينوري : قدم المنصور من الأنبار إلى المدائن ، وخرج أبو مسلم إلى خراسان مجابناً له ، فكتب إليه المنصور : قد اردت مذاكرتك في أُمور لا تحملها الكتب! فأقبِل فإنّ مقامك عندنا قليل! فلم يلتفت أبو مسلم إلى كتابه.

فبعث المنصور إليه جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي ، وكان أبو مسلم يعرفه ، فقال له : أيها الأمير ، ضربتَ الناس لأهل هذا البيت ، ثمّ تنصرف على مثل هذه الحال ، إن الأمر عند أمير المؤمنين لم يبلغ ما تكره ، ولا أرى أن تنصرف على هذه الحال.

قال : وذكروا : أن جريراً لم يزل بأبي مسلم حتّى أقبل به راجعاً. وكان المنصور يومئذ برومية المدائن ، فأمر الناس أن يتلقّوه. وأذن له فدخل على دابته فرحّب به وعانقه وأجلسه على سريره وقال له : كدت أن تخرج ولم أُفضِ إليك بما اريد!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٦. وقال خليفة : بعث المنصور خلف أبي مسلم : سلمة بن سعيد وكان أبو مسلم زوج خالته ، فلحقه قبل وصوله إلى الريّ! فسأله الرجوع إلى المنصور فقدم معه.

٢٣٧

فقال أبو مسلم : قد أتيت يا أمير المؤمنين فليأمرني بأمره. قال : انصرف إلى منزلك وضع ثيابك وادخل الحمّام ليذهب عنك كلالُ السفر.

وأقام أبو مسلم أياماً وفي كل يوم يأتي المنصور فيريه من الإكرام ما لم يُرِه قبل ذلك ، وهو ينتظر به الفرصة. وأقبل أبو مسلم فلمّا صار إلى الزقاق الداخلي قيل له : إن أمير المؤمنين! يتوضّأ ، فلو جلست! وكان على حرس المنصور عثمان بن نُهيك فاستدعاه المنصور ومعه حرب بن قيس وشبيب بن رياح المرورودي وقال لهم : إذا عاتبته فعلا صوتي فلا تخرجوا ، وإذا صفقت بيدي فدونك يا عثمان! وجعلهم في قطعة من الحجرة في ستر خلف محلّ أبي مسلم. وقيل له : أن قد جلس أمير المؤمنين فقام ليدخل ومعه سيفه! فقيل له : انزع سيفك! فقال : ما كان يُصنع بي هذا! فقيل : وما عليك! فنزع سيفه ، وعليه قباء أسود وتحته جبّة خزّ (فكان شتاءً).

فدخل فسلّم وجلس على وسادة ليس في المجلس غيرها ، وخلف ظهره القوم خلف ستر. فقال أبو مسلم : يا أمير المؤمنين صُنع بي ما لم يُصنع بأحد ، نُزع سيفي من عنقي! قال : ومن فعل ذلك قبّحه الله! ثمّ أقبل يعاتبه يقول له : فعلت وفعلت؟ فقال : يا أمير المؤمنين لا يقال مثل هذا لي على حسن بلائي وما كان مني! فقال المنصور : يابن الخبيثة! والله لو كانت أمة أو امرأة مكانك لبلغت ما بلغت في دولتنا ، ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلاً! ألست الكاتب إليّ تبدأ بنفسك ، والكاتب إليّ تخطب ابنة علي ابن عمي وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن العباس ، لقد ارتقيت ـ لا أُمّ لك ـ مرتقى صعباً ، يقول ذلك وترتعد يده. ثمّ صفق بيده ، فخرج عثمان لقتله فأكبّ أبو مسلم إلى رجل المنصور يقبّلها فدفعه برجله ، وضربه شبيب على عاتقه فأسرعت فيه ثمّ اعتوره القوم بأسيافهم فقتلوه وهو يستغيث ، ثمّ أمر المنصور فلفّ في مَسح ووُضع ناحية.

٢٣٨

وكان أبو مسلم قال لعيسى بن موسى أن يركب معه إلى المنصور ، فقال له : أنت في ذمتي! ولكنّه أبطأ عليه. والآن قيل : إن عيسى بن موسى بالباب ، فقال المنصور : أدخلوه ، فلمّا دخل قال : أين أبو مسلم؟ قال : كان هاهنا فخرج! فقال : يا أمير المؤمنين قد عرفت طاعته ومناصحته ورأي إبراهيم الإمام فيه! فقال المنصور : يا أنوك (أحمق) والله ما أعرف عدواً أعدى لك منه! هاهو ذا في البساط! فقال عيسى : إنا لله وإنّا إليه راجعون.

ثمّ أمر المنصور أن يطرح رأسه إلى قوّاده بالباب! فبعضهم اتكأ على سيفه فمات وهمَّ كثير منهم أن يبسطوا سيوفهم على الناس وأرادوا القتال ، فلمّا علم المنصور بذلك أمر لهم بالعطاء وأجزل الصلات للقواد والرؤساء وعهد إليهم : من أحبّ منكم أن يكون هاهنا معنا نأمر بإلحاقه بالديوان في ألف من العطاء ، ومن أحبّ أن يلحق بخراسان كتبنا له خمسمئة ترد عليه في كل عام وهو في بيته!

فقالوا : رضينا يا أمير المؤمنين كل ما فعلت فأنت الموفق. فمنهم من رضي بالمقام معه ومنهم من لحق بخراسان (١) قال اليعقوبي : وكان ذلك في شعبان سنة (١٣٧ ه‍) (٢) وقال خليفة : لأربع بقين منه (٣).

وذكر ابن العبري : أنّه كان يُخبز في مطبخه ثلاثة آلاف قرص خبز ومئة شاة سوى البقر والطير ، وله ألف طبّاخ ، وآلات مطبخه تُحمل على ألف ومئتي رأس من الدواب ، وقَتل ستمئة ألف صبراً سوى من قتل في الحروب (٤).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٦١ ـ ١٦٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٨.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٧٢.

(٤) تاريخ مختصر الدول : ١٢١.

٢٣٩

وقال ابن الوردي : خلّف أبو مسلم باقي عسكره في حلوان وإنّما قدم المدائن في ثلاثة آلاف منهم. وكان بعد هزيمته لعبد الله بن علي كتب إليه المنصور بصرفه عن خراسان وولايته بمكان عبد الله على الشام ومصر ، فلم يجب أبو مسلم لذلك وتوجه إلى خراسان (١).

وكانت له ثلاث نساء (٢) له من إحداهن فاطمة (٣).

ما بعد قتل أبي مسلم :

في أوّل خطبة للمنصور بعد قتله أبا مسلم قال : إن أبا مسلم بايعنا وبايع لنا على أنّه من نكث بيعتنا فقد أباح لنا دمه! ثمّ هو نكث بيعته ، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا ، ولم تمنعنا رعاية حقه من إقامة الحق عليه. ولما انتهى قتل أبي مسلم إلى خراسان والجبال اضطربت ، واجتمعوا على رجل يسمى سنباد من نيشابور حتّى صار في عسكر عظيم ، فسار فيهم إلى الري فغلب عليها وعلى قومِش (سمنان ودامغان) وكانت لأبي مسلم بالري خزائن فاستولى عليها ، وكثر جمعه بأهل الجبال وطبرستان.

واتصل خبره بالمنصور فسرّح إليه جمهور بن مراد العجلي في عشرة آلاف وتلاه بالعساكر! فالتقوا في طرف المفازة بين همْدان والري فاقتتلوا قتالاً شديداً حتّى قتل ستون ألفاً منهم وقتل سنباد فولّى سائر أصحابه ، وسبى منهم سبايا وذراري كثيرة ، كل ذلك في غضون شهرين (٤).

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٥.

(٢) مختصر تاريخ الدول : ١٢١.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٢٩٣.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ومختصره في تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٨.

٢٤٠