موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

وسنرى أنّه لم ييأس بهذا من الإمام عليه‌السلام.

ونقل الشهرستاني : أنّ أبا مسلم أيضاً بعد موت إبراهيم العباسي ، كتب إلى الصادق عليه‌السلام : أنا أدعو الناس إلى مودتكم أهل البيت ، فإن شئت فلا أحد أفضل منك للخلافة! فأجابه الصادق عليه‌السلام : «ما أنت من رجالي! ولا الزمان زماني» (١).

وروى الكليني بسنده عن الفضل الكاتب قال : كنت عند أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام إذ أتاه رسول أبي مسلم (الخراساني) بكتابه إليه ، فلمّا قرأه قال له : ليس لكتابك جواب! اخرج عنّا! فخرج الرجل ، وأخذ بعضنا يسار بعضاً فقال لنا : بأي شيء تسارّون؟! يا فضل! فإنّ الله عزّ ذكره لا يعجل لعجلة العباد (٢) فيبدو أنّه عليه‌السلام علم منهم الاستعجال لحكمهم.

__________________

(١) الملل والنحل ١ : ١٥٤ بتحقيق الگيلاني.

(٢) روضة الكافي : ٢٢٩ ، الحديث ٤١٢. ويظهر من خبر رواه الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٥٠ : أن أبا مسلم كانت له سابقة لقاء وهدية للإمام الصادق عليه‌السلام قبل هذا : روى عن زكّار بن أبي زكّار الواسطي قال : دخل رجل على أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام فقبّل رأسه! وكانت عليه ثياب بيض حسنة ، فمسّ الصادق عليه‌السلام ثيابه وقال : ما رأيت أحسن منها ولا أشدّ بياضاً! فقال : جعلت فداك! هذه ثياب بلادنا ، وجئتك منها بخير من هذه! فقال الصادق عليه‌السلام لمولاه معتِّب : اقبضها منه ، فقبضها منه وخرج الرجل والصادق قال وهو يتابعه بنظره : صدق الوصف وقرب الوقت! ثمّ قال : هذا صاحب الرايات السود التي يأتي بها من خراسان! ثمّ قال لمعتِّب : يا معتِّب الحقه فسله : ما اسمه؟ ثمّ قال : إن كان عبد الرحمن فهو والله هو! فرجع معتِّب فقال : قال : اسمي عبد الرحمن.

قال زكّار : فلمّا ولى بنو العباس أتيته فنظرت إليه فإذا هو أبو مسلم عبد الرحمن!

وهنا : ونقل السيّد الخرسان عن كتابه : منتقلة الطالبيين : أنّ عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين ، لما ظهر أبو مسلم بخراسان وأظهر الولاء لابن عمه يحيى بن زيد ،

١٨١

ومن ذلك ما رواه النعماني بسنده عن أبي بكر الحضرمي الكوفي : وقد حضر المدينة مع أبان بن تغلب الكوفي وذلك حين ظهرت الرايات السود بخراسان ، وكان ذلك في شهر رمضان ، قال : دخلت أنا وأبان على الصادق عليه‌السلام فقلنا : ما ترى في ذلك؟ قال : اجلسوا في بيوتكم ، فإذا رأيتمونا قد اجتمعنا على رجل فانهضوا إلينا بالسلاح (١).

سقوط جرجان وإصفهان وهمدان :

إنّما قال اليعقوبي أنّ الجيش الذي جهّزه ابن هبيرة لنصرة نصر بن سيّار بخراسان كان جيشاً عظيماً بلا حصر كما مرّ ، وحصره المسعودي قال : كان نباتة بن حنظلة الكلابي على المقدمة في نحو ثلاثين ألفاً ، واتّجه عاملاً على جرجان ، وأمير الجيش عامر بن ضُبارة المُري في نحو أربعين ألفاً والياً على إصفهان! وسيّر أبو مسلم إليهما قحطبة بن شبيب الطائي في جيوش كثيفة! فقتل وفلّ الكلابي على جرجان ، وقتل وفلّ عامر المرّي على إصفهان ، ثمّ سار في جيوشه نحو العراق (٢).

__________________

قصده وعرّفه بنفسه فأجرى له أرزاقاً كثيرة وعظّمه أهل خراسان ، ونقل عن غاية الاختصار : ١٥١ : أنّ أبا مسلم دعاه إلى أن يبايع له ـ ولعلها كانت بعد هلاك إبراهيم العباسي ـ فأبى ذلك فألحّ عليه حتّى نفر منه ذلك وتراجع عنه إلى خلفه فسقط فتضعضعت رجله وعرجه بها. ثمّ دعاه محمد بن عبد الله الحسني لمثلها فأبى فحلف أن يقتله! ثمّ وفد بعد ذلك على السفّاح فعرف له ذلك وأقطعه ضيعة في بندشير أو بندجين المدائن غلة سنتها ثمانون ألف دينار ، ومات بها وله (٣٧) عاماً. بحار الأنوار ٤٦ : ١٦١.

(١) كتاب الغيبة للنعماني : ١٣١.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢٨٣.

١٨٢

بينما قال خليفة : لقى قحطبة نباتة الكلابي بجرجان في ذي الحجة سنة (١٣٠ ه‍) فقاتل نباتة حتّى قتل هو وابنه حبّة ، وثار أهل جرجان على مَن بها من أهل المساجد وبني تميم فقتلوهم! وبلغ ذلك إلى نصر في قومس فارتحل منها إلى ناحية وكتب إلى مروان وابن هُبيرة يستمدّهما (١).

وتوجّه قحطبة بعد قتل نباتة من جرجان باتجاه العراق ، وكان عامر بن ضبارة المرّي في اصطخر فارس فوجّه ابن هبيرة ابنه داود بن يزيد إلى ابن ضبارة فسارا من اصطخر إلى إصفهان لمواجهة قحطبة ، وبعث ابن هبيرة مالك بن أدهم الباهلي في خيل عظيمة وسانده بمصعب الأسدي وعطيف السلمي متساندين. فنزل بعضهم ماه وبعضهم همدان ، ثمّ انضمّوا إلى نهاوند ، فوجّه قحطبة ابنه الحسن إلى تلك الجيوش فحاصرها في نهاوند. والتقى قحطبة عامر بن ضبارة وداود في رستاق جاپلق من إصفهان في يوم السبت لسبع بقين من شهر رجب سنة (١٣١ ه‍) فقتل عامر وانهزم داود إلى أبيه ، والتحق قحطبة بابنه الحسن في نهاوند. فلمّا قتل عامر واستمد نصر من ابن هبيرة ولم يأته مدد ، انحاز نصر إلى الريّ وعمره خمس وثمانون سنة فمرض بها ، وسار مريضاً إلى همدان فلمّا وصل ساوة مات فدفن بها واجري الماء على قبره. وكان قد كتب إلى مروان بقتل ابن ضبارة فوجّه إليه مروان عشرة آلاف من قيس عليهم الحوثرة بن سهيل الباهلي فالتحق بالجيوش في نهاوند وعين ابن هبيرة عليهم مالك بن أدهم الباهلي. وحاصرهم قحطبة أربعةأشهر حتّى أصابهم الجوع وأكلوا دوابّهم.

وكان قد التحق بهم أهل خراسان الذين هربوا مع نصر بن سيّار ، واضطرّ مالك الباهلي إلى أن يصالح قحطبة الطائي على التسليم والسلامة وصالحه

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٥٥.

١٨٣

الطائي على ذلك ، ولكنّه لمّا افتتحها صلحاً في غرة ذي القعدة أو آخر شوال سنة (١٣١ ه‍) أقام رجالاً على أبواب المدينة فلم يدع أحداً له نباهة من أهل خراسان ومنهم بنو نصر بن سيار إلّاقتلهم وقال : إني لم اصالح على أهل خراسان إنّما صالحت أهل الشام! وادّعى مالك أنّه صالح على أهل خراسان وأهل الشام.

هذا وقد بدأ الطاعون بالبصرة في آخر جمادى الآخرة ورجب واشتدّ في شعبان ورمضان وشوال ثمّ خفّ (١) ، وبلغ كل يوم ألف جنازة ، وهو خامس عشر طاعوناً وقع في الإسلام في دولة بني أُمية (٢).

وابن هبيرة وعسكر خراسان إلى الكوفة :

قال خليفة : لمّا فرغ قحطبة من نهاوند توجّه إلى ابن هبيرة الفزاري بالعراق ، وسار الحسن بن قحطبة على مقدمة أبيه فنزل حُلوان ، وأتاه أبوه فاجتمع القوم جميعاً ، ثمّ نزل قحطبة إلى خانقين ، وذلك في آخر ذي القعدة سنة (١٣١ ه‍). وقدّم ابن هبيرة مقدمة عليها عبيد الله بن العباس الليثي من المدائن إلى حُلوان فنزل بينهما في راز الروز على نهر يقال له تامرا ، وانتهى إليهم حوثرة بن سهيل بجمعه ، وانضمّ إليهم من خرج من نهاوند من أصحاب عامر بن ضبارة وغيرهم من المرتزقة في ثلاث وخمسين ألفاً ، فكان بين العسكرين أربعة فراسخ (= ٢٢ كم) تلتقي طلائعهم أياماً ، ثمّ تنكّبهم قحطبة متوجهاً إلى الموصل ، فظنّ ابن هبيرة أنهم يريدون الكوفة ، فنادى فيهم بالرحيل حتّى بلغ براز الروز على ستة فراسخ من

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٥٨ ـ ٢٦٠.

(٢) النجوم الزاهرة ١ : ٣٩٦ عن المدائني البصري.

١٨٤

خندقهم السابق ، وقد تركوا أطعمتهم وأعلافهم ، ثمّ تبيّن أنها خدعة وأ نّهم صاروا بالعراء وقد نزل قحطبة منازلهم في خندقهم! فأقام نحواً من عشرين يوماً حتّى استجمّ وأسمن ، وذلك في الصيف وقد احمرّ البُسر وقلّت المياه. ثمّ سار حتّى بلغ باحُمشا فوجد مخاضة قليلة الماء فأخاض وقطع دجلة إلى الفرات فنزل بالفلاة ، وتبعه ابن هبيرة بجمعه حتّى نزل على مسنّاة الفرات من أرض الفلوجة العليا ، وذلك في يوم الثلاثاء لثامن محرم الحرام سنة (١٣٢ ه‍).

ثمّ عبر قحطبة الفرات ومعه سبعمئة من جمعه إلى أهل العراق وهم لا يشعرون به حتّى صار على المسناة مشرفاً عليهم وأزالهم عن مكانهم فانهزم العراقيون إلى فم نهر واسط ثمّ سوراء فقطعوا مخاضتها ، فذهبت أثقال كثيرة وغرق كثير منهم ، ثمّ اجتمعوا فنادى منادي الشام : من أراد الشام فهلمّ فذهب إليه كثير منهم ، ونادى آخر : من أراد الجزيرة .. ونادى آخر : من أراد الكوفة .. و : من أراد الواسط (١).

وقال اليعقوبي : قدم قحطبة العراق فوافى بها عسكراً لابن هبيرة فاستباحه حتّى صار إلى الزاب في الفلوجة العليا على رأس أربعة وعشرين فرسخاً (١٣٠ كم تقريباً) من الكوفة ، فالتقى بعسكر ابن هبيرة ليلة الخميس لتسع خلون من المحرم سنة (١٣٢ ه‍) فاقتتلوا ساعة من الليل ، ثمّ انهزم ابن هُبيرة حتّى رجع إلى واسط وتحصّن بها وأدخل الأنزال والطعام ، وانصرف إليها فلول عساكره.

ولمّا فرغ قحطبة من قتاله قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ ثمّ قال : أيّها الناس ، إنّا والله ما خرجنا إلّالإقامة الحق وإزالة دولة الباطل ، وقد أعلمتكم أنّ الإمام محمّد بن علي بن عبد الله بن عباس أعلمني أنّي ألقى نباتة بن

__________________

(١) النجوم الزاهرة ١ : ٣٩٦ عن المدائني البصري.

١٨٥

حنظلة الكلابي ، وعامر بن ضبارة المرّي فأهزمهما واستبيح عسكرهما! وقد رأيتم صدق ما أخبرتكم! وإنّ الإمام أعلمني أنّي لا أعبر الفرات وأنكم تعبرونه ، فلا يُفقد من الجيش أحد غيري! وإنّه لا كذب فيما قال!

فإذا فقدتموني فأمير الناس حُميد بن قحطبة ، فإن غاب فالحسن بن قحطبة ، والسلام على من اتّبع الهدى ورحمة الله وبركاته.

فلمّا كان السحر عبروا الفرات ، وكان الماء قد كثر ، فغار بقحطبة فرسه وسقط عليه الجُرف فغرق (١)!

وأصبح عسكره يوم الأربعاء (أو الخميس) وقد فقدوا أميرهم فالتمسوه حتّى أخرجوه وفي جبهته طعنة فدفنوه ، وتولّاهم الحسن بن قحطبة وتوجهوا إلى الكوفة حتّى دخلوها صباح عاشوراء يوم الجمعة ، وكذلك ابن هبيرة ما زال بواسط (٢).

وقال اليعقوبي : دخل الكوفة حُميد بن قحطبة بعد فقد أبيه بأربع ليال ، وقد أخذ محمّد بن عبد الله القسري البجلي الكوفة لبني هاشم (بني العباس) وأظهر دعوتهم والسواد ، وشرّد من كان بها من بني امية وأصحابهم. ووليها أبو سلمة حفص بن سليمان الخلّال ، واستعمل العمّال.

وقدم أبو العباس وإخوته وأهل بيته الكوفة في المحرّم سنة (١٣٢ ه‍) فأدخلهم أبو سلمة في دار الوليد بن سعد (مولاهم) وكتم أمرهم فلم يطلع عليهم أحد إلى شهرين (محرم وصفر) (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٤.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٦١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٥.

١٨٦

السفّاح في العراق ورسل الخلّال في الحجاز :

قال المسعودي : قدم أبو العباس الكوفة في أهل بيته سرّاً ، والمسودّة في الكوفة مع أبي سلمة ، فأنزلهم جميعاً دار الوليد بن سعد في بني أود حيّ من اليمن (من حزب آل مروان ومواليهم!) وأخفى أبو سلمة أمر أبي العباس ومن معه ووكّل عليهم وكيلاً.

هذا وقد خاف انتقاض الأمر وفساده عليه ، فدعا محمّد بن عبد الرحمن بن أسلم (مولى النبيّ) وكتب كتاباً واحداً في نسختين ، إلى أبي عبد الله جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وإلى أبي محمّد عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، يدعو كل واحد منهما إلى الشخوص إليه (إلى الكوفة) ليصرف الدعوة إليه ويجتهد في بيعة أهل خراسان له! وقال له : العَجل العَجل! (وأوصاه بالصادق مقدماً ثمّ عبد الله المحض).

فقدم محمّد بن عبد الرحمن المدينة فدخل على الصادق عليه‌السلام ليلاً ودفع كتابه إليه فقال له : وما أنا وأبو سلمة؟! وأبو سلمة «شيعة» لغيري! فقال : تقرأ كتابه وتجيبه بما رأيت. فدعا أبو عبد الله بسراج ثمّ أخذ كتاب أبي سلمة فوضعه على السراج حتّى احترق وقال للرسول : عرّف صاحبك بما رأيت! ثمّ تمثّل بقول الكميت بن زيد الأسدي :

أيا موقداً ناراً لغيرك ضوءها

ويا حاطباً في حبل غيرك تحطب!

فخرج الرسول من عنده إلى عبد الله بن الحسن ، فدفع كتابه إليه ، فقبله ولما قرأه ابتهج به (ووعده خيراً).

وفي غد ذلك اليوم ركب عبد الله حماره إلى منزل أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق ، فقال له : يا أبا محمّد أمر ما أتى بك! قال : نعم ، وهو أجلّ من أن يوصف! فقال : وما هو يا أبا محمّد؟ قال : هذا كتاب أبي سلمة يدعوني إلى ما أقبله ، وقد قدمْت عليه «شيعتنا» من أهل خراسان!

١٨٧

فقال له أبو عبد الله : يا أبا محمّد ، ومتى كان أهل خراسان «شيعة» لك؟! أأنت بعثت أبا مسلم إلى خراسان؟! وأنت أمرته بلبس السواد؟! وهؤلاء الذين قدموا العراق أنت كنت سبب قدومهم أو وجّهت فيهم؟! وهل تعرف منهم أحداً؟! (فيُعلم أنهم كانوا قد قدموا العراق).

فنازعه عبد الله بن الحسن الكلام إلى أن قال : إنّما يريد القوم ابني محمّداً لأنه «مهديّ» هذه الأُمة.

فقال أبو عبد الله جعفر : والله ما هو «مهديّ» هذه الأُمة ، ولئن شهر سيفه ليقتلن!

فنازعه عبد الله القول حتّى قال له : والله ما يمنعك من ذلك إلّاالحسد!

فقال أبو عبد الله : والله ما هذا إلّانصح منّي لك ، ولقد كتب إليّ أبو سلمة بمثل ما كتب به إليك فلم يجد رسولُه عندي ما وجد عندك ، ولقد أحرقتُ كتابه من قبل أن أقرأه!

فانصرف عبد الله من عند الصادق عليه‌السلام مغضباً.

ولم ينصرف رسول أبي سلمة إليه إلّابعد أن بويع السفّاح بالخلافة (١).

وقال الحلبي : قرأت في بعض التواريخ : لمّا أتى كتاب أبي سلمة الخلّال إلى الصادق عليه‌السلام بالليل قرأه ثمّ وضعه على المصباح فأحرقه ، وظن الرسول أنّ حرقه له تغطية وستر وصيانة للأمر ، ولم يجد جواباً فقال : هل من جواب؟ فقال : الجواب ما قد رأيت!

وبلغ ذلك شاعره أبا هريرة الأبّار فقال شعراً :

ولمّا دعا الداعون مولاي لم يكن

ليثني عليه عزمَه بصواب

ولمّا دعوه بالكتاب أجابهم

بحرق الكتاب دون ردّ جواب

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

١٨٨

وما كان مولاي كشارى ضلالة

ولا ملبساً منها الردى بثياب

ولكنّه لله في الأرض «حجّة»

دليل إلى خير وحسن مئاب

ونقل قبله عن «رامش افزاى» : أنّه لمّا أقبلت الرايات ووصل الجند إليه كتب إليه بقوله وأخبره : أنّ سبعين ألف مقاتل وصل إلينا فننتظر أمرك! فأجابه أيضاً أن الجواب كما شافهتُك!

ونقل قبله عن ابن كادش العكْبري في «مقاتل العصابة العلوية» أنّه لمّا بلغ أبا سلمة موت إبراهيم الإمام وجّه بكتبه إلى الحجاز إلى جعفر بن محمّد ، وعبد الله بن الحسن وزاد : محمّد بن علي بن الحسين (كذا) يدعو كل واحد منهم إلى الخلافة!

وبدأ بجعفر فلمّا قرأ الكتاب أحرقه وقال : هذا الجواب : فأتى عبد الله بن الحسن فلمّا قرأ الكتاب قال : أنا شيخ ولكن ابني محمّداً «مهديّ» هذه الأُمة! وركب حماره وأتى جعفراً فخرج إليه ووضع يده على عنق حماره! وقال : يا أبا محمّد ما جاء بك في هذه الساعة؟ فأخبره ، فقال : لا تفعلوا ، فإنّ الأمر لم يأت بعد! فغضب عبد الله بن الحسن وقال : لقد عملت خلاف ما تقول ولكنّه يحملك على ذلك الحسد لابني! فقال : لا والله ما ذلك يحملني (١).

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٤٩ و ٢٥٠. وفيه في الخبرين الأول والآخر : أبو مسلم الخلّال! خطأ. والأخوان أبو العباس وأبو جعفر يوم موت أخيهم إبراهيم كانوا في حُميمة الشام ثمّ ارتحلوا إلى العراق ، وهذا الخبر خلط خبر الرسائل بخبر تواجد الأخوين بمحضر الصادق عليه‌السلام يومئذ وأ نّه أشار إليهما وقال : هذا وإخوته وأبناؤه دونك! فهذا خلط وخبط. وفيه ذكر محمّد بن علي بن الحسين! ولعلّ الصحيح : عمر بن علي بن الحسين الأشرف ، كما في الفخري لابن الطقطقي : ١٥٤ ، وانظر الورزاء والكتاب للجهشياري : ٨٦.

١٨٩

وقال اليعقوبي : قيل : إنّ أبا سلمة إنّما أخفى أبا العباس وأهل بيته بدار الوليد بن سعد الأودي ليدبّر ليصيّر الأمر إلى بني علي بن أبي طالب ، فكتب مع رسول له كتاباً إلى جعفر بن محمّد ، فأرسل إليه : لست بصاحبكم وإنّ صاحبكم بأرض الشراة (فهل كان ذلك قبل قدومهم الكوفة؟!).

ثمّ أرسل إلى عبد الله بن الحسن يدعوه إلى ذلك فقال : أنا شيخ كبير ، وابني محمّد أولى بهذا الأمر! وأرسل إلى جماعة بني أبيه وقال لهم : بايعوا لابني محمّد! فإنّ هذا كتاب أبي سلمة حفص بن سليمان إليّ.

فقال جعفر بن محمّد : أيّها الشيخ! لا تسفك دم ابنك! فإني أخاف أن يكون المقتول بأحجار الزيت! وأقام أبو سلمة ينتظر رجوع رسله إليه (١).

سقوط الأهواز ومحاصرة واسط :

مرّ أن قحطبة الطائي استخلف من بعده لقيادة الرايات السود الخراسانية العباسية ابنه الحسن فهو قادها إلى الكوفة ، ونقيب الدعاة العباسيين بها أبو سلمة الخلّال ، وذلك ليوم عاشوراء العاشر من محرم لعام (١٣٢ ه‍) ، وقد أرسل الخلّال رسله إلى المدينة فهو ينتظرهم ، وقبل آخر الشهر أعاد الحسنَ بن قحطبة لمحاصرة ابن هبيرة في واسط ، قال خليفة : أتاهم في آخر المحرم ، وفي صفر ارتاد لعسكره منزلاً وجاء بالعمال ليخندق عليهم ، فقال الناس لابن هبيرة : دعنا نقاتل القوم ، وما زالوا به حتّى استعمل ابنه داود ومحمّد بن نُباتة الكلابي ومِعن بن زائدة في القلب بمقابلة الحسن الطائي ، وفتح الأبواب ، وخرج حوثرة بن سهيل بمواجهة خازم بن خزيمة ، فقاتلوا حتّى أمسوا ، وكان مع الحسن أخوه يزيد بن

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٩.

١٩٠

قحطبة فقتل (١) وكان الحسن على المدينة الغربية ، فأتبعه أبو سلمة بمالك بن الأدهم الباهلي فأناخ على المدينة الشرقية.

وكان عبد الواحد أخو يزيد بن عمر بن هبيرة عامله على الأهواز ، فوجّه أبو سلمة إليه هشام بن إبراهيم مولى بني ليث ، فقاتله حتّى فضّ جمعه وانهزم عبد الواحد إلى عامل أخيه على البصرة سلم بن قتيبة الباهلي (٢).

إعلان الخلافة العباسية :

أخرج الخلّال من الكوفة أفواجاً من العسكر العباسي مع ذينك القائدين : الحسن الطائي ومالك الباهلي ، ولم يُخرج كلهم ، ولم يخرج الدعاة معهم ومنهم أبو حميد الطوسي وأبو الجهم بن عطية وأبو شراحيل وأبو غانم بن ربعي ، وسلمة بن محمّد وعبد الله بن بسّام ومحمّد بن موسى ، سبعة. وكان أبو حميد الطوسي يعرف غلام أبي العباس (السفّاح) (٣) فبعد شهرين من وصوله وأهله إلى الكوفة وإقامتهم بدار الوليد الأودي ، التقى أبو حميد بغلام فسأله عنهم ،

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٦١ ـ ٢٦٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٩ وسمّاه المسعودي : سابق الخوارزمي ووصف أُولئك السبعة بالقواد ٣ : ٢٥٥.

وكان من وجوه الدعاة بالكوفة يقطين بن موسى مولى بني أسد ، وولد له ابنه علي بن يقطين سنة (١٢٤ ه‍) و (عرّفه عرّيف بني أسد فطلبه ابن هبيرة والي مروان ، وعلم فهرب ، وهربت أُمّ عليّ به وبأخيه عبيد إلى المدينة ، وكذلك أبوهم يقطين فتشيع علي هناك لجعفر عليه‌السلام ، ومع ذلك لما ظهر أمر السفّاح عاد إليه إلى الكوفة فكان في خدمته ويتشيع ويقول بالإمامة ويحمل خمس ماله إلى جعفر عليه‌السلام ، كما في الفهرست للطوسي : ٢٣٤ برقم ٥٠٦).

١٩١

فأخبره بسوء وضعهم وأنهم في «سرداب» (كذا) فصار معه إليهم. وكأنّه كان قد علم بوصية إبراهيم بن محمّد إلى أخيه عبد الله بن محمّد ابن الحارثية (١) ولم يعرفه هو! فسألهم عنه قال : أيكم عبد الله بن محمّد ابن الحارثية؟ فهم أشاروا إلى أبي العباس ، فسلّم عليه بالخلافة (٢).

ثمّ خرج فأخبر أصحابه بموضعه ، فمضوا سرّاً من أبي سلمة ، حتّى سلّموا على أبي العباس بالخلافة ، وقد حمل أبو حميد الطوسي معه ثياباً سوداً فألبسه وأخرجه إلى المسجد الجامع ، والعباسيون اثنان وعشرون رجلاً (٣).

وبلغ الخبر أبا سلمة فلحقهم وقال لهم : استعجلتم! وأرجو أن يكون خيراً (٤) وإني إنّما كنت أدبّر لاستقامة الأمر ، وإلّا فلا أعمل شيئاً فيه.

وكان أبو العباس حييّاً فلمّا بويع وصعد المنبر ارتج عليه فأقام مليّاً لا يتكلم! فصعد إليه عمّه داود بن علي وقام دونه بمرقاة فخطب ، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وقال :

أيها الناس! تقشّعت حنادس الفتنة ، وانكشف غطاء الدنيا! وأشرقت أرضها وسماؤها! وطلعت الشمس من مطلعها! وعاد السهم إلى النزعة وأخذ القوسَ باريها ، ورجع الحق إلى نصابه في «أهل بيت نبيكم»! أهل الرأفة بكم والرحمة لكم والتعطّف عليكم.

__________________

(١) هي ابنة عبد الله بن المدان الحارثي ، وكانت زوجة عبد الملك بن مروان! ثمّ تزوّجها محمّد بن علي العباسي ، فأبو العباس السفاح من إخوة أبناء عبد الملك المرواني لأُمهم! كما في مروج الذهب ٣ : ٢٥١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٠.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٥.

١٩٢

ألا وإن ذمة الله وذمة رسوله وذمة «العباس» لكم! أن نسير فنحكم في الخاصة والعامة منكم بكتاب الله وسنة رسوله.

وإنّه ـ والله ـ أيها الناس! ما وقف هذا الموقف بعد رسول الله أحد أولى به من «علي بن أبي طالب» وهذا القائم خلفي! فاقبَلوا ـ عباد الله ـ ما آتاكم بشكر ، واحمدوه على ما فتح لكم : أبدلكم عن مروان عدوِّ الرحمان حليفِ الشيطان! بالفتى الشاب المتمهّل المتكهّل ، المتّبع لسلفه والخلف من أئمته وآبائه الذين هدى الله! فبهداهم اقتدى مصابيح الدجى وأعلام الهدى وأبواب الرحمة ومفاتيح الخير ومعادن البركة وساسة الحق وقادة العدل! ثمّ نزل.

فتكلّم أبو العباس فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد ، ووعد من نفسه خيراً ، ثمّ نزل (١).

وقال المسعودي : أتاه وجوه القواد فبايعوه ، وعلم أبو سلمة بذلك فحضر وبايعه ، وقُدّمت له الخيول وضربوا له مصافاً فركب أبو العباس ومن معه ودخلوا الكوفة في أحسن زيّ إلى دار الإمارة ، وذلك يوم الجمعة لاثنتي عشر يوماً مرّ من ربيع (الأول أو) الآخر سنة (١٣٢ ه‍). ثمّ دخل المسجد الجامع من دار الإمارة فصعد المنبر.

فحمد الله وأثنى عليه وذكر تعظيم الربّ ومنّته ، وفضل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقاد الولاية والوراثة حتّى انتهت إليه! ووعد الناس خيراً وسكت. وكان عمه داود بن علي على المنبر دون أبي العباس.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٠ ـ ٣٥١. واكتفى خليفة بنقل قوله : أيّها الناس ، إنّه والله ما علا منبرَكم هذا بعد علي بن أبي طالب خليفة غير ابن أخي هذا! فلعلّه من تحوير التخفيف والتلطيف!

١٩٣

فقال : إنّه ـ والله ـ ما كان بينكم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خليفة إلّاعلي عليه‌السلام! ثمّ أمير المؤمنين هذا الذي خلفي (١)!

وكان بنو امية يخطبون قعوداً! وخطب أبو العباس قائماً ، فضجّ الناس وقالوا : أحييتَ السنة يابن عمّ رسول الله (٢)! ثمّ نزلا وخرجا إلى معسكر أبي سلمة في حجرته ، واستخلف على الكوفة عمّه داود بن علي (٣) بعد أن صلّى بالناس الجمعة وبويع البيعة العامة (٤).

وقال ابن الوردي : كانت له خطبتان : الأُولى : أنّه دخل دار الإمارة يوم الجمعة ١٢ ربيع الأول ، ثمّ خرج وخطب وصلّى بالناس ، ثمّ صعد المنبر ثانياً وصعد عمه داود بن علي فقام دونه هذه المرة فخطبا ، ثمّ نزل وعمه أمامه وأجلس أخاه أبا جعفر المنصور يبايع الناس ودخل هو إلى دار الإمارة ، ثمّ خرج فعسكر بحمام أعين ، واستخلف على الكوفة عمه داود ، وأقام هو بالمعسكر أشهراً (٥).

وروى السيوطي عن المدائني بسنده : أنّه بويع بالخلافة وصلّى بالناس الجمعة في ثالث ربيع الأول وقال في خطبته : الحمد لله الذي اصطفى الاسلام لنفسه فكرّمه وشرّفه وعظّمه ، واختاره لنا وأيده بنا! وجعلنا أهله وكهفه وحصنه! والقوام به والذابّين عنه! ثم ذكر قرابتهم في آيات القرآن!

إلى أن قال : فلمّا قبض الله نبيّه قام بالأمر أصحابه (كذا بخلاف ما مضى!) إلى أن وثب بنو حرب ومروان فجاروا واستأثروا ، فأملى الله لهم حيناً حتّى آسفوه

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٥١.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٢٥٦.

(٤) تاريخ خليفة : ٢٦٢.

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨١.

١٩٤

فانتقم منهم بأيدينا! وردّ علينا حقّنا! ليمنّ بنا (عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) وختم بنا كما افتتح بنا! وما توفيقنا «أهل البيت» إلّابالله!

يا أهل الكوفة! أنتم محلّ محبتنا ومنزل مودّتنا ، لم تفتروا عن ذلك ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور. فأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا. وقد زدت في اعطياتكم «مئة مئة»! فاستعدّوا! فأنا «السفّاح» المبيح! والثائر المبير (١)!

فهي بداية تلقّبه بلقب «السفّاح» أي سفّاك دماء الأعداء في السفوح والوديان!

ومن السنّة التي أعادها السفّاح أنّه أعاد التختّم إلى يمينه ، حيث كان عبد الله بن العباس يتختّم بها ، وإنّما أوّل من نقل الخاتم وتختّم في يساره معاوية (٢) فحيث أبطل بدعة معاوية قال له أحمد بن يوسف : لو أمرت بلعنه على المنابر كما سنّ اللعن على علي عليه‌السلام! فتمثّل بقول لبيد :

فلمّا دعاني عامر لأسبّهم

أبيت ، وإن كان ابن علياء ظالماً (٣)!

بيعة أبي مسلم لأبي العباس :

وجّه السفّاح أخاه المنصور في ثلاثين فارساً إلى أبي مسلم في مرو لأخذ بيعته ، فلم يحفل به أبو مسلم ولم يلقه ، فانصرف واجداً عليه إلى أخيه السفّاح وشكاه إليه ، فقال السفّاح : قد عرفت موضعه من إبراهيم الإمام ، وهو صاحب الدولة والقائم بأمرها! فما الحيلة فيه (٤)؟!

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣١٢.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٤٧.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٢٥٧ عن الأغاني.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥١.

١٩٥

قتال مروان بالموصل ثمّ الشام :

فوجهه ثمّ قال السفّاح لمن حوله : من خرج إلى مروان فهو ولي عهدي (١) فاستجاب له عمّه عبد الله بن علي السفّاح لقتال مروان إلى الزاب قرب الموصل (٢) وزحف مروان بمن معه من أهل الشام والجزيرة في مئة ألف إلى مئة وخمسين ألفاً ، حتّى نزل الزاب دون الموصل ، فالتقوا يوم السبت ١١ جمادى الثانية (١٣٢ ه‍) ، وقد حشد بنو امية بأنفسهم وأتباعهم من فرسان الشام والجزيرة (٣).

وسار مروان حتّى نزل على الزاب الصغير وعقد عليه الجسر ، وأتاه عبد الله بن علي في عساكر أهل خراسان وقوادهم ، وقد كردس مروان خيله كراديس ألفاً وألفين (٤).

وقال ابن الوردي : كان على شهرزور من جهة بني العباس أبو عون الأزدي ، فسار مروان يطلبه ، فوصل إلى الزاب فنزل به في مئة وعشرين ألفاً وحفر خندقاً حوله ، وسار أبو عون من شهرزور إلى الزاب بما عنده من الجموع ، وأردفه السفّاح مرّات بعساكر مع مقدّمين : عمّه عبد الله بن علي وعبد الله الطائي وسلمة بن محمّد ، فلمّا قدم عمّه عبد الله على أبي عون تخلّى له أبو عون عن سرادقه وما فيه.

ثمّ إن مروان عقد جسراً على الزاب وعبر إلى جهة عبد الله بن علي ، فسار عبد الله إلى مروان ، وجعل على ميمنته أبا عون وعلى ميسرته الوليد بن معاوية. وكل عسكره عشرون ألفاً!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٥.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٦٣.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٢٤٥.

١٩٦

والتقوا واشتدّ القتال ، وداخل الفشل عسكر مروان ، واختل كل أمر أراده ، حتّى انهزم وغرق منهم خلق كثير (١) فيهم ثلاثمئة من بني امية. ومضى مروان مهزوماً إلى الموصل ، فلمّا رأى أهلها تولّي الأمر عنه أظهروا السواد ومنعوه من دخولها (٢)!

وقالوا : الحمد لله الذي أتانا بأهل بيت نبيّنا (٣)!

فقطع الجسر وأتى الجزيرة فأخذ بيوت الأموال والكنوز (٤) وأتى حرّان وأقام بها أكثر من عشرين يوماً (فدخل شهر رجب) فلمّا دنا منه عسكر السفاح (٥) خرج بأهله وسائر بني أُمية عنها وعبر الفرات (٦) وكان قد أنفق على قصره بها عشرة آلاف ألف درهم! فنزل عبد الله بن علي على باب حرّان واحتوى على خزائن مروان وأمواله وهدم قصره (٧) فلمّا اجتاز مروان ببلاد قنّسرين وبها قبائل تنوخ تناوشوا ساقته ، فذهب إلى حمص (٨) فجعل لا يمرّ بجند من أجناد الشام إلّاانتهبوه حتّى صار إلى دمشق وهو يريد أن يتحصّن بها (٩) وكان السفاح قد كتب إلى

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٢.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٤٥.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٢.

(٤) تاريخ خليفة : ٢٦٣.

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٢.

(٦) قال المسعودي هنا : وقد كان أهل حرّان حين أُزيل لعن علي بن أبي طالب رضى الله عنه عن المنابر يوم الجمعة امتنعوا عن إزالته وقالوا : لا صلاة إلّابلعن أبي تراب وأقاموا على ذلك سنة!

(٧) مروج الذهب ٣ : ٢٤٥.

(٨) مروج الذهب ٣ : ٢٤٩.

(٩) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٦.

١٩٧

عمّه عبد الله بن علي باتباع مروان ، فسار في أثره إلى دمشق (١) وقد استخلف في حرّان موسى بن كعب التميمي. وأرسل السفاح عمّه الآخر صالح بن علي ليلتقي بأخيه عبد الله فيكون معه فاجتمعا وسارا إلى دمشق فحاصروها ، وكان على دمشق الوليد بن معاوية (٢) بن مروان بن عبد الملك خليفة مروان بها ، ومضى مروان إلى فلسطين هارباً (٣) وفي المسعودي : الوليد بن معاوية بن عبد الملك في خمسين ألف مقاتل ، ولكن وقعت بينهم العصبية في فضل اليمن على نزار ونزار عليهم (٤).

مقتلة بني امية بفلسطين :

ثم انصرف عبد الله بن علي إلى فلسطين لمتابعة مروان ، فلمّا صار بنهر أبي فطرس بين الأُردن وفلسطين ، وكأنه علم بتجمّع أكثر بني امية هنا فأرسل إليهم أن يغدوا عليه لأخذ عطاياهم ، فاجتمع إليه ثمانون رجلاً منهم! فجلس وأذن لهم ، وقد أعدّ شاعره العبدي بقصيدة لهم ، وأعدّ لكل رجل منهم رجلين بأيديهم الأعمدة! فدخلوا عليه وهو مطرق ملياً ، وأجلس منهم إلى جانبه النعمان بن يزيد بن عبد الملك ، ثمّ قام العبديّ فأنشد قصيدته وفيها :

أما الدعاة إلى الجنان فهاشم

وبنو امية من دعاة النار

فكذّبه النعمان بن يزيد فصدقه عبد الله العباسي ثمّ أقبل عليهم فذكر لهم قتل الحسين عليه‌السلام وأهل بيته ، ثمّ صفّق بيده ، فضرب القوم رؤوسهم بالعمد حتّى أتوا عليهم! فناداه أحدهم :

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٢.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٦٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٦.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٢٤٦.

١٩٨

عبد شمس أبوك وهو أبونا

لا نناديك من مكان بعيد

فالقرابات بيننا واشجات

محكمات القوى بعقد شديد!

فقال عبد الله : هيهات! قطع ذلك قتل الحسين! ثمّ أمر فطرحوا عليهم البُسط ودعا بالطعام فاكل وأكلوا ثمّ قال : يوم كيوم الحسين بن علي! ولا سواء (١).

سقوط دمشق وإحراق بني أُمية :

ثمّ انصرف عبد الله بن علي إلى دمشق في شهر رمضان سنة (١٣٢ ه‍) فحاصرها حتّى استغاث الناس بيحيى بن بحر أن يطلب لهم الأمان. فخرج إليه لذلك فأجابه إليه ودعا بدواة وقرطاس ليكتب له بذلك ، وإذا بسور دمشق قد اعتلاه جنوده! فقال يحيى : أوَ غدراً؟ فهدّده عبد الله ثمّ ندم فأعطاه علماً للأمان فدخل ونادى في الناس بالأمان! ومع ذلك قتل كثير منهم ثمّ نادى المنادي : الناس آمنون إلّاخمسة : أبان بن عبد العزيز وصالح بن محمّد ومحمّد بن زكريا والوليد بن معاوية ويزيد بن معاوية. وصار عبد الله إلى المسجد الجامع فخطبهم فذكر جور بني امية وعداوتهم وأنهم اتخذوا دين الله هزواً ولعباً ، ووصف ما استحلوا من المآثم والمحارم والمظالم ، وما سارو به من تعطيل الأحكام وازدراء الحدود والاستيثار بالفيء وارتكاب القبيح ، ثمّ انتقام الله منهم وتسليط سيف الحق عليهم.

ثمّ وجّه ناساً فنبشوا قبور بني امية فأخرجوهم وأحرقوهم! ما تركوا منهم أحداً!

ثمّ صار إلى الرصافة حيث مات هشام بن عبد الملك ، فوجده قد جعلوه في مغارة على سرير وطلّوه بما يبقيه! فأمر به فأخرج وقال للناس : إنّ أبي علي بن

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٥.

١٩٩

عبد الله بن عباس سقط عنه رداؤه يوماً فرأيت في ظهره آثار سياط فسألته عنها فقال : إنّ الأحول (هشاماً) أخذني ظلماً فضربني ستين سوطاً! فأنا عاهدت الله إن ظفرت به أن أضربه بكل سوط سوطين! ثمّ أمر فضرب مئة وعشرين سوطاً ، وتناثر لحمه فجمعه وأحرقه (١)! وتتبّع قتل بني امية فلم يفلت إلّاالرضيع أو من هرب.

وفي قنّسرين جمع أبو الورد بن كوثر جمعاً عظيماً وتمرّد ، فسار إليه عبد الله بن علي من دمشق ، واقتتلوا قتالاً شديداً حتّى كثرت القتلى بينهم وحتّى قتل أبو الورد فانهزم أصحابه ، فجدّد عبد الله بيعتهم وعاد إلى دمشق (٢).

وفي حوران تمرّد بنو مرّة وعليهم حبيب بن مرّة حيث لجأ إليه رجل من بني امية فنصبه عليهم ، وجمع حوله جمعاً ونصب راية بني امية البيضاء. فزحف إليه عبد الله بن علي وقاتله حتّى قتله وفرّق جمعه (٣).

سقوط واسط وابن هُبيرة :

مرّ الخبر أن بداية محاصرة ابن هُبيرة في الواسط كان في آخر المحرم عام (١٣٢ ه‍) ثمّ بويع السفّاح يوم الجمعة ثاني أو ثالث عشر ربيع الأول ، وبعث عمّه عبد الله بن علي إلى الموصل في العاشر من جمادى الآخرة ، وفي آخر شهر رجب بعث أخاه المنصور لنصرة الحسن بن قحطبة الطائي في محاصرة ابن هُبيرة ، فعادوا إلى القتال في شعبان ورمضان وشوال ، وفي آخر شوال قال لهم ابن قحطبة إنّهم آمنون على كل شيء ، ثمّ توالى عنه أربعة رجال يقولون لهم : القوم يعطونكم ما تريدون وما بقي أحد إلّاوقد دخل في الطاعة!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٧.

٢٠٠