موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

ويشرب النبيذ مخالفاً ليحيى (١) ثمّ استسلم يحيى لأمان الرشيد فحُمل إليه ، فأجازه بجوائز سنيّة كان مبلغها مئتي ألف دينار (٢) وكان الحسين صاحب فخّ خلّف مئتي ألف دينار ديناً فقضى بها دَين الحسين (٣).

أدارسة المغرب :

قال اليعقوبي : وهرب إدريس أخو يحيى إلى المغرب فغلب على فاس وناحية تُتاخم الأندلس واجتمع أهلها عليه ، فقيل : إنّ موسى الهادي أهدى إليه سواكاً مسموماً على يد من وجّهه إليه ، فمات ، وله جنين في بطن أُم ولد له ، فلمّا وُلد سمّته باسمه : إدريس الثاني ، فورث تلك المملكة ووُلده بعده حتّى اليوم (٤).

وذكر ابن الوردي : أنّهم احتزّوا رؤوس رؤساء أصحابه نحو مئة رأس ، واختلط المنهزمون بالحجّاج ومنهم إدريس بن عبد الله المحض وخرج مع الحجاج إلى مصر وعليها واضح الشيمي العباسي مولاهم ، فحمل إدريس على البريد إلى طنجة بالمغرب. وبلغ ذلك إلى الهادي فقتل مولاه واضحاً! ثمّ أرسل الرشيد من اغتال إدريس بالسم. فلمّا ولدت حظيّته ابناً سمّوه باسم أبيه ، ثمّ استقلّ بملكه (٥).

__________________

(١) المصدر السابق : ٣١١.

(٢) المصدر السابق : ٣١٢ ـ ٣١٣.

(٣) المصدر السابق : ٣٢١.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٥ وقال : بايع أباه في الموسم خلق كثير وافاه منهم خمسئة بعد الموسم! وقال : وكان له كمال ومجد ومذهب جميل!

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٣ وصحّف فيه فخ إلى وجّ!

٤٦١

موسى الهادي ، والكاظم عليه‌السلام :

أرسل ابن طاووس عن أبي الوضّاح عن أبيه عبد الله النهشلي قال : حُمل الأسرى من أصحاب الحسين الحسني إلى موسى الهادي ، فلمّا بصر بهم تمثل يقول :

بني عمّنا لا تُنطقوا الشعر بعدما

دفنتم بصحراء الغميم القوافيا

فلسنا كمن كنتم تصيبون نيله

فنقبل ضيماً أو نحكّم قاضيا

ولكنّ حكم السيف فينا مسلّط

فنرضى إذا ماأصبح السيف راضيا

وقد ساءني ما جرّت الحرب بيننا

بني عمّنا ، لو كان أمراً مُدانيا

فإن قلتمُ : إنا ظلمنا. فلم نكن

ظلمنا ، ولكن قد أسأنا التقاضيا

ثمّ جعل ينال من الطالبيين إلى أن ذكر موسى بن جعفر عليه‌السلام فنال منه وقال : والله ما خرج حسين إلّاعن أمره! ولا اتّبع إلّامحبّته ؛ لأنّه «صاحب الوصية» في هذا البيت! قتلني الله إن أبقيت عليه!

وكان أبو يوسف يعقوب القاضي حاضراً وجريئاً عليه فقال له : يا أمير المؤمنين ، أقول؟ أم أسكت؟ فلم يتكلّم الهادي دون أن قال : قتلني الله إن عفوت عن موسى بن جعفر! ولولا ما سمعت من المهدي والمنصور فيما أخبر به عما كان في جعفر من الفضل المبرّز عن أهله في دينه وعلمه وفضله ، وما بلغني عن «السفّاح» فيه من تقريظه وتفضيله لنبشت قبره وأحرقته بالنار إحراقاً.

فقال أبو يوسف : نساؤه طوالق ، وعُتق جميع ما يملك من الرقيق ، وتصدّق بما يملك من المال ، وحُبس دوابه ، وعليه المشي إلى بيت الله الحرام إن كان مذهب موسى بن جعفر عليه‌السلام الخروج ، ولا يذهب إليه ، ولا مذهب أحد

٤٦٢

من ولده ، ولا ينبغي أن يكون هذا منهم. وما كان بقي من الزيدية إلّاهذه العصابة التي خرجت مع الحسين وقد ظفر أمير المؤمنين بهم. ولم يزل يرفّق به حتّى سكّن غضبه.

وكان علي بن يقطين حاضراً فكتب بصورة الأمر إلى أبي الحسن الكاظم عليه‌السلام ، فلمّا ورد الكتاب عليه وأصبح أحضر أهل بيته وجمعاً من «شيعته» وأطلعهم على ما ورد عليه من الخبر ثمّ استشارهم بهذا الصدد ، فقالوا : نشير عليك أن تباعد شخصك عن هذا الجبّار وتغيّب شخصك دونه ، فإنه لا يؤمن شرّه وعاديته وغشمهُ ، ولا سيما وقد توعّدك!

فقال لهم : ليفرّج عن روعكم ، إنّه لا يرد أوّل كتاب من العراق (بعد هذا) إلّا بموت موسى بن المهدي وهلاكه! فقالوا : وما ذاك أصلحك الله؟! فقال : سأُخبركم عنه :

بينما أنا جالس في مصلّاي بعد فراغي من وردي (نوافل الليل أو التعقيبات) وقد تنوّمت عيناي ، إذ سنح لي جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامي ، فشكوت إليه موسى بن المهدي وذكرت له ما جرى منه في أهل بيته وأ نّى مشفق من غوائله.

فقال لي : لتطب نفسك يا موسى ، فما جعل الله لموسى عليك سبيلاً! ثمّ أخذ بيدي وقال قد أهلك الله آنفاً عدوّك فليحسن شكرك لله! ثمّ استقبل الكاظم عليه‌السلام القبلة ورفع يديه إلى السماء يدعو ....

وكان جماعة ممن حضر من خاصة الكاظم عليه‌السلام من أهل بيته و «شيعته» يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس (آبنوش) لِطاف وأميال (للكتابة) فأخرجوا وكتبوا ما دعا به.

٤٦٣

ثمّ تفرق القوم فما اجتمعوا إلّالقراءة الكتاب الوارد بموت موسى الهادي والبيعة لهارون الرشيد (١).

موسى الهادي وهارون الرشيد :

قال اليعقوبي العباسي : كان لموسى الهادي من الأولاد الذكور ستة : جعفر ، وإسماعيل ، وعبد الله ، وسليمان ، وعيسى ، وموسى ، ثمّ ولد له العباس (٢) فعزم على خلع أخيه هارون من العهد بعده وتصيير ابنه جعفر وليّ العهد ، ودعا قوّاده إلى ذلك ، فسارع بعضهم وقوّوا عزمه في ذلك منهم محمّد بن فرّوخ الأزدي ، فوجّهه الهادي في عسكر كثير ليستنفر من بالجزيرة والشام ومصر والمغرب ويدعوهم إلى ذلك ومن أبى يقتله! وتوقف أغلب قوّاده وأشاروا عليه أن لا يفعل (منهم يحيى بن خالد البرمكي).

فقال له الهادي : بلغني أنّك ترضى هارون للخلافة وتعدّ نفسك لوزارته! والله لآتينّ عليكما قبل ذلك! قال : ثمّ حبسه وحبسني في موضع ضيق لا أقدر أن

__________________

(١) مهج الدعوات : ٢٦٨ ـ ٢٨١ ، وعنه في بحار الأنوار ٩٤ : ٣١٧ ـ ٣٢٧ والدعاء هو الشهير بالجوشن الصغير ، وذكر الخبر عنه بدون الدعاء في ٤٨ : ١٥٠ ـ ١٥٣ بتعاليق الخرسان القيّمة ، مسنداً عن الطوسي عن ابن الغضائري عن غير الصدوق ، والخبر موجود في أمالي الطوسي : ٤٢١ ، الحديث ٩٤٤ ، المسألة ١٥ عن الغضائري عن الصدوق ، والصدوق بطريقين في كتابيه : الأمالي : ٤٥٩ ، الحديث ٦١٢ ، المسألة ٦٠ ، الحديث ٢ وفي عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢١٧ ، الحديث ٨٩ بمختصر الدعاء بلا نقل لشعر الهادي وتهديده ولا لكلام القاضي أبي يوسف. ومثله في مهج الدعوات أيضاً : ٣٤ ـ ٣٥ بطريقين عن الصدوق كذلك ، وعنه في بحار الأنوار ٩٤ : ٣٣٧ ـ ٣٣٨ ، وأُخرى عن الأماليين والعيون ٩٥ : ٢٠٩.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٦.

٤٦٤

أمدّ رجلي فيه! حتّى جاءتني السيدة الخيزران فقالت لي : إنّ هذا الرجل! قد خَفِت الليلة وأحسبه قد قضى! فتعال انظره ، ففُتح عليَّ الباب ، وجئت فوجدته قد قضى ، فمضيت إلى هارون فأخرجته من حبسه ، وأصبح القوّاد فبايعوه (١).

ونقل المسعودي عن هارون : أنّ أباه المهدي أحضر الحُكيم بن إسحاق الصيمَري وكان يعبِّر الرؤيا فقال له : رأيت في منامي أنّي دفعت قضيبين إلى ابنَيّ موسى وهارون ، فأورق أعلى قضيب موسى قليلاً وأورق قضيب هارون كلّه! فقال الحُكيم : يملك موسى وتقل أيامه ، ويمك هارون فيبلغ آخر ما عاش خليفة. فلمّا ملك موسى قال لأخيه هارون : كأ نّي بك تحدِّث نفسك بتمام الرؤيا وتؤمّل ما أنت بعيد عنه ومن دون ذلك خرط القتاد! فقال هارون : إن وصل الأمر إليّ صيّرت أولادك أعلى من أولادي وزوّجتهم بناتي وبذلك أقضي حقّ المهدي! فانجلى عن موسى الغضب وبان السرور في وجهه ، وقال لخَزّانه : يا خَزّاني احمل إلى أخي الساعة ألف ألف دينار ، وإذا جُمع الخراج فاحمل إليه نصفه (٢)!

وأفاد قبله : أنّ خيزران زوجة المهدي ولدت ابنيه موسى وهارون بالريّ ، وادّعى المنجّم أنّ مولد الهادي يقتضي قصر عمره! وأنّ يحيى البرمكي علم ذلك ، وكان القيّم بأمر الرشيد فأراده الهادي أن يهدي الرشيد ليخلع نفسه لابنه جعفر ، فأقنعه البرمكي أنّ الناس لا يسلّمون الأمر لابنه جعفر وهو لا يبلغ الحلم ولا يرضون به لصلاتهم وحجّتهم وغزوهم ، فتسمو إليها نفوس أجلّة أهله فتخرج الخلافة من بني أبيه! بل الآكد له أن يترك أخاه على عهده ويبايع لابنه جعفر بعده ، ثمّ إذا بلغ ابنه جعفر مبلغ الرجال والهادي حيّ سأل أخاه هارون أن يقدّمه على نفسه! فرضى بذلك الهادي.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٥ ـ ٤٠٦.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٣٤.

٤٦٥

ولكنّه بعد ذلك عزم على خلع أخيه هارون رضي أم كره. فأشار البرمكي على هارون : أنّ قضية مولد الهادي قصيرة على ما أوجبه مولده! فعليه أن يستأذن الهادي للخروج للصيد فيطيل اشتغاله به ، ففعل وسار إلى بلاد الأنبار وهيت على شاطئ الفرات. وكتب الهادي إليه بالقدوم فتعلل الرشيد عليه ، فسنح للهادي أن يخرج إليه نحو الحديثة فمرض هناك وثقل في علّته ، فعاد إلى بغداد. ولعلّه هنا حبس يحيى بن خالد البرمكي وأراد قتله ، فمات الهادي بعلّته (١).

وقالوا في سبب وفاته : أنّه لما ولي الخلافة كانت أُمّه الخيزرانة تستبدّ بالأُمور دونه ، وذات يوم كلّمته في أمر لم يجد إلى إجابتها سبيلاً فأبى عليها ، فألحّت عليه فأصرّ على الإباء ، فقالت : إذن والله لا أسألك حاجة أبداً! وقامت غاضبة! فقال لها : ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك؟! أما لك مصحف يذكّركِ أو مغزل يشغلكِ أو بيت يصونكِ؟! والله لئن بلغني أنّه وقف ببابكِ أحد من قوّادي لأقتلنّه! فانصرفت وهي لا تعقل.

فلمّا مرض أمرت ممرّضاته من جواريها بالجلوس على وجهه ، فمات (٢).

ونقله السيوطي : قال لها : أما لكِ ... أو سبحة! (يشير إلى تداولها يومئذ) ثمّ بعث إليها بطعام مسموم أطعمت منه كلبها فانتثر لحمه! فلمّا وعك أوعزت فغمّوا وجهه بالبساط وجلسوا على جوانبه حتّى مات! وقيل : بل كانت في جوفه قرحة! وقيل : بل كان مع نديم له على جرف فيه أُصول قصب مقطوع فدفع عليها نديمه وتعلق به النديم فوقعا عليه فدخل القصب في منخريهما فماتا (٣).

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٣٣.

(٢) مختصر تاريخ الدول : ١٢٨ ، وانظر تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٤.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٣٧ وظاهر أنّ الأخير اختلُق للتبرير!

٤٦٦

وكأنّ المسعودي قصد أن يُسعد الهادي وامه الخيزرانة فنقل : أنّه أشار إليهم أن يحضروها فجاءت حتّى جلست عند رأسه فقال لها : إنّي قد كنت نهيتكِ عن أشياء وأمرتكِ بأُخرى مما أوجبتْه سياسة الملك لا حكم الشرع ببرّكِ! وكنت لكِ بذلك صائناً برّاً وصولاً ولم أكن بكِ عاقاً! وأنا هالك في هذه الليلة مما قضى به مولدي بالري! وسيلي أخي هارون! ثمّ قبض على يدها ووضعها على صدره ثمّ قضى هكذا (١)!

ومات ببغداد في منتصف شهر ربيع الأول سنة (١٧٠ ه‍) وله (٢٤) عاماً ، وصلّى عليه أخوه هارون (٢).

وفي اليعقوبي : توفى في ليلة الرابع عشر من ربيع الأول (يوم هلاك يزيد بن معاوية) وهو ابن (٢٦) عاماً ، ودفن بقصرهم في عيسى آباد ضاحية بغداد (٣) وفي المسعودي : توفى في عيسى آباد ضاحية بغداد للثامن عشر من ربيع الأول سنة (١٧٠ ه‍) (٤) وله (٢٥) سنة (٥).

ولمّا مات الهادي أتى يحيى بن خالد البرمكي يبارك للرشيد ملكه وهو يخلّصه من سجنه ، فبينا هو يكلمه إذ أتاه رسول آخر يبشّره بمولود له فسمّاه عبد الله ولقّبه المأمون (من أُمّ ولد خراسانية تسمّى المراجل) وكان قائدهم خزيمة بن خازم السلمي يعلم بعهد جعفر بن الهادي فهجم عليه وأخرجه من

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٣٣ ، فما أحلاه من خبر يطهّرهم جميعاً!

(٢) تاريخ خليفة : ٢٩٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٦.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٣٢٤.

(٥) التنبيه والاشراف : ٢٩٧.

٤٦٧

فراشه وأخذه بخلع نفسه لعمّه الرشيد بالتهديد والوعيد : لتخلعنّها أو لأضربنّ عنقك! وأحضر معه شهوداً فخلع نفسه وأشهدهم عليه ، وحظى بها خزيمة لدى يحيى والرشيد ، فلمّا ولّي الرشيد استوزر يحيى البرمكي. ولما صلّى على أخيه الهادي وعاد إلى بغداد ، توقف عند الجسر ودعا بغوّاصين وقال لهم :

كان أبي المهدي اشترى خاتماً بمئة ألف دينار ، ثمّ وهبه لي ، فلمّا استخلف أخي الهادي أرسل رسولاً إليّ يطلب مني الخاتم وأنا هاهنا ، فأخرجتُه وألقيتُه في دجلة هنا ، فأخرِجوه لي! فغاصوا عليه حتّى أخرجوه له ، فسُرّ به (١) سروراً رابعاً بعد خلاصه من حبس الهادي والخلافة والولادة.

وفي خلافته ووزارة البرمكي أنشأ إبراهيم الموصلي يقول :

ألم تر أنّ الشمس كانت مريضة

فلمّا أتى هارون أشرق نورها

تلبّست الدنيا جمالاً بملكه

فهارون واليها ، ويحيى وزيرها

فأعطاه هارون مئة ألف درهم! والبرمكي خمسين ألفاً (٢)! وهكذا البذخ!

تعزية الكاظم عليه‌السلام للخيزران :

أرسل الحميري : أنّ الكاظم عليه‌السلام كتب إلى الخيزران أُم الخليفة يعزّيها بابنها موسى ويهنّيها بابنها هارون : إلى أُمّ أمير المؤمنين! من موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين. أما بعد ، أصلحكِ الله وأمتع بكِ ، وأكرمكِ وحفظكِ ، وأتمّ النعمة في الدنيا والآخرة لكِ برحمته.

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٥٤ عن كتاب الأوراق للصولي. والسيوطي لعلّه لتقليل غلواء عطائه للشعراء أرسل : أنّه كان يتصدّق كل يوم بألف درهم! بل قال : كان يصلي كل يوم مئة ركعة : ٣٤١ ، فهل من مصدّق؟! وذكر الشعر المسعودي في مروج الذهب ٣ : ٣٣٧.

٤٦٨

ثمّ إنّ الأُمور ـ أطال الله بقاءكِ ـ كلّها بيد الله عزوجل يمضيها ، ويقدّره بقدرته فيها والسلطان عليها ، توكّل بحفظ ما فيها وتمام باقيها ، فلا مقدّم لما أخّر منها ولا مؤخر لما قدَّم ، استأثر بالبقاء وخلق خلقه للفناء ، أسكنهم دنيا سريعاً زوالها قليلاً بقاؤها ، وجعل لهم مرجعاً إلى دار لا زوال لها ولا فناء.

لم يكن ـ أطال الله بقاك ـ أحد من قومكِ وخاصّتكِ وحرمكِ ، أشدّ لمصيبتكِ إعظاماً ، وبها حزناً ولكِ بالأجر عليها دعاءً ، وبالنعمة التي أحدث الله لأمير المؤمنين! أطال الله بقاءه دعاءً ، بتمامها ودوامها وبقائها ، ودفع المكروه فيها ، منّي والحمد لله ؛ لما جعلني الله عليه من معرفتي بفضلكِ والنعمة عليكِ ، وبشكري بلاءكِ وعظيم رجائي لكِ ، أمتع الله بكِ وأحسن جزاءكِ!

فإن رأيتِ ـ أطال الله بقاكِ ـ أن تكتبي إليّ بخبركِ في خاصة نفسكِ ، وحال جزيل هذه المصيبة وسلوتكِ عنها فعلتِ ، فإنّي بذلك مهتم ، وإلى ما يجيء من خبركِ وحالكِ فيه متطلّع ، أتمّ الله لك أفضل ما عوّدكِ من نعمته ، واصطنع عندكِ من كرامته. والسلام عليكِ ورحمة الله وبركاته.

وكتب يوم الخميس لسبع ليال خلون من شهر ربيع الآخر ، سنة سبعين ومئة (١).

نقل المجلسي هذا وقال : أقول : انظر إلى شدّة التقية على عهده عليه‌السلام ، حتّى أحوجته إلى أن يكتب بمثل هذا الكتاب ، لموت كافر لا يؤمن بيوم الحساب! فهذا يفتح لك ـ من التقية ـ كلّ باب (٢).

__________________

(١) قرب الأسناد : ٢٣٥ ، الحديث ١١٨٧.

(٢) بحار الأنوار ٤٨ : ١٣٥.

٤٦٩

الخليل بن أحمد الفراهيدي :

أسعفنا التاريخ عن الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي البصري : أنّه ولد بها سنة مئة للهجرة ، وتوفي في سنة (١٧٠ ه‍) (١) وزعم المترجمون له : أنّه كان خارجياً إباضياً أولاً ، ثمّ بتأثير فيه من أيوب السختياني محدّث البصرة وفقيهها عدل عن إباضيّته إلى مذهب أهل السنة ، لكنّه لم يلبث أن عدل عن السنية إلى التشيّع ، فقد نقل القفطي عن النيشابوري : أنّ الخليل كان يتشيّع لجعفر بن محمّد عليه‌السلام (٢). وظهرت آثار تشيّعه في شعره ؛ فقد قال الصادق عليه‌السلام : «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين» (٣) وكان عليه‌السلام يكذّب أحكام النجوم خلافاً لالتزام المنصور الدوانيقي ، وقد نقل الزبيدي عن الفراهيدي الأزدي قوله شعراً :

أبلغا عنيَ المنجّم أنّي

كافر بالذي قضته الكواكب

عالم أنّ ما يكون وما كا

ن بحكم من المهيمن واجب

شاهد أنّ من يفوِّض أو يجبِر

زارٍ على المقادير كاذب

وقال في وصاياه بالنحو والعَروض والحديث المسند :

فاطلب النحو للحجاج ، وللشعر مقيماً ، والمسندِ المرويّ

قيمة المرء كل ما يحسن المرءُ ، قضاءً من الامام علي

وارفض القول من طغام جفو عنه فعادوه ؛ نُصبةً للنبيّ (٤)

__________________

(١) الخليل بن احمد الفراهيدي ، د. مهدي اگزومي : ٤٣.

(٢) إنباء الرواة بأنباء النحاة ، فى الخليل بن احمد للمخزومي : ٤٥ ـ ٤٦

(٣) أُصول الكاص ١ : ١٦٠ ، الباب ٥٣ ، اگ ديث ١٣ : اكق والقدر.

(٤) الخليل بن احمد للمخزومي : ٤٩.

٤٧٠

فهو يرى الجفاء والمعاداة لعلي عليه‌السلام من الطغام نصباً لنبيّ الإسلام ويوصي ب «الرفض» لهؤلاء! وفي الأبيات الأُولى تجده يشهد بكذب المفوضة والمجبّرة ذهاباً إلى ما ذهب إليه الإمامية على لسان الصادق عليه‌السلام كما مرّ الخبر.

وفي رسالة آل أعيَن : ذكر من روايات الخليل : جزء فيه خطبة النبيّ يوم الغدير بروايته (١).

وروى الصدوق بسنده عن أبي زيد الأنصاري البصري النحوي قال : سألت الخليل بن أحمد العروضي فقلت : لِمَ هجر الناس علياً عليه‌السلام وقرباه من رسول الله قرباه ، وموضعه من المسلمين موضعه ، وعناؤه في الإسلام عناؤه؟! فقال : والله إنّ نوره بهر أنوارهم! وغلبهم على صفو كلّ منهل! والناس إلى أشكالهم أميل ، أما سمعت الأول حيث يقول :

وكل شكل لشكله أِلف

أما ترى الفيل يأ لَف الفيلا (٢)؟!

ويظهر من خبر أسنده الطوسي عن يونس بن حبيب النحوي البصري العثماني ، أنّه بعد حياة الخليل أعلمه خليله محمّد بن سلام الجُمحي : أنّه قال للخليل : أُريد أن أسألك عن مسألة فتكتمها عليَّ! ولا نعلم لماذا؟! فقال : إنّ قولك يدل على أنّ الجواب أغلظ من السؤال ، فتكتمه أنت أيضاً؟ وهذا معلوم العلّة ، قال : قلت : نعم ، أيام حياتك. قال : سل. قال : قلت : ما بال أصحاب رسول الله كأ نّهم كلّهم بنو امّ واحدة ، وعليّ بن أبي طالب من بينهم كأ نّه ابن عَلَّة (ضَرّة)؟!

قال : إنّ علياً عليه‌السلام تقدّمهم إسلاماً ، وفاقهم علماً ، وبذَّهم (فاقهم) شرفاً ،

__________________

(١) رسالة في آل أعين لأبي غالب الزراري : ٨٣.

(٢) أمالي الصدوق : ٣٠٠ ، الحديث ٣٤١.

٤٧١

ورجحهم زهداً ، وطالهم (طال عليهم) جهاداً ، فحسدوه والناس إلى أشباههم وأشكالهم أميل منهم إلى من بان عنهم (١).

ولعلّه لكتمانه مثله طمع فيه سليمان بن علي العباسي والي البصرة (من ١٣٣ ه‍ إلى ١٣٩ ه‍) أن يقبل تعليم أبنائه ، وبعث إليه بهدايا يتأ لّفه بها ، فأخرج كِسرة خبزة يابسة وقال للرسول : مادامت هذه عندي فلا حاجة بي إلى سليمان ، ثمّ نظم له شعراً قال فيه :

أبلغ سليمان : أني عنه في سعة

وفي غنىً ، غير أنّي لست ذا مال!

سخّى بنفسي أنّي لا أرى أحداً

يموت هزلاً ، ولايبقى على حال (٢)

بل غادر البصرة للتطواف في بوادي نجد والحجاز وتهامة يسمع من أعرابها ، ثمّ عاد فأ لّف أقدم وأقوم قاموس للّغة «كتاب العين» حتّى قيل في «جمهرة اللغة» لابن دُريد : إنّه العين مغيّراً ، وفي «تهذيب» الأزهري : أنّه العين بصياغة أُخرى : وفي «تكملة» الخارزنجي : أنّه منقول العين! وله «كتاب العروض» (٣) وهو واضعه ومبتكره في بلدة العروض بالحجاز اقتباساً من ضرب الصفّارين (٤).

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٦٠٧ ـ ٦٠٨ ، الحديث ٤ ، المسألة ٢٨. ومع هذا لم يذكره في من لم يرو ، ولا في الفهرست لروايته خطبة الغدير ، وقد ذكره ابن النديم في فهرسته بتشيّعه : ٤٨ ، كما في قاموس الرجال ٤ : ٢٠٤.

(٢) معجم الأُدباء : ١١ (الخليل).

(٣) قاموس الرجال ٤ : ٢٠٤.

(٤) ميزان الذهب للهاشمي : ١٠ ، وراجع الشيعة وفنون الإسلام للصدر : ١١٦ و ١٣٩ ـ ١٤٠ والأصل تأسيس الشيعة له ، في واضع اللغة والعروض.

٤٧٢

أحداث عهد الرشيد :

زحف خاقان الترك في خلق عظيم ، وخالف أهل طالقان ، فولّى الرشيد الفضل بن يحيى خراسان فشخص إليها والتقى بعسكر الخاقان والتحمت الحرب بينهما ، حتّى ضرب الفضل بسيفه على وجه الخاقان فانهزم واستباح الفضل عسكره وغنم أمواله ، وافتتح الطالقان مرّة أُخرى.

وكان يحيى بن عبد الله المحض قد هرب حتّى دخل أرض الديلم ، فأخذ يتعقّبه صاحب الديلم ، وعرض الفضل بن يحيى الأمان عليه فقبله منه فأمنه وحمله معه إلى الرشيد فحبسه (١).

نصّ الأمان والقضاة وأبي البختري :

نص إعطاء لأمان ليحيى بن عبد الله المحض الحسني كان من الفضل بن يحيى البرمكي ، وكان قد عرض نصّ الأمان بالمدينة على مالك بن أنس وابن الدرآوردي وغيرهم فقالوا : إنه مؤكد لا علّة فيه. ولكن هارون كان يريد فتوى بنقضه فأمر مولاه مسروراً أبا هاشم أن يجمع لذلك الفقهاء والقضاة ببغداد فجمعهم ، وفيهم صاحبا أبي حنيفة : القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم ، ومحمد بن الحسن الشيباني ، والحسن بن زياد اللؤلؤي وأبو البختري وهب بن وهب المدني القرشي ، وأخرج لهم مسرور الكبير الأمان وناوله للشيباني فنظر فيه فقال : هذا أمان مؤكد لا حيلة فيه! فصاح عليه مسرور : هاته! ثمّ دفعه إلى الحسن اللؤلؤي فنظر فيه وقال خافتاً : هو أمان! فاستلبه منه أبو البختري وقال لمسرور : إنه قد شق عصا الطاعة وسفك الدم ، فأمانه منتقض باطل! فاقتله ودمه في عنقي!

فدخل مسرور إلى الرشيد فأخبره فقال له : إذهب فقل له : فإن كان باطلاً

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٧ ـ ٤٠٨ ، وفي ابن الوردي ١ : ١٩٥ : أنّها كانت سنة (١٧٢ ه‍).

٤٧٣

فخرّقه بيدك! فجاءه مسرور فقال له ذلك وناوله سكيناً (ليشق أديمه) فأخذ السكين وجعل يشقه سَيوراً ويده ترتعد! فأخذه مسرور إلى الرشيد وصرفهم ، ومنع الشيباني من الفتيا وولّى أبا البختري قضاء بغداد مع أبي يوسف ، ووهب له ألف ألف (مليون) وستمئة ألف (١)!

وأكرمه الرشيد فحمله معه إلى الحج فلما قدم المدينة ودخل مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقبائه الأسود وهو متمنطق بمنطقة وخنجر! أعظم أن يرقى المنبر كذلك ، فتقدم إليه أبو البختري وقال : حدثني جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال : نزل جبرئيل على النبي وعليه قباء ومنطقة مخنجراً فيها بخنجر! فتجرّأ الرشيد على الصعود كذلك على منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وكذّبه يحيى بن مَعين فأخذته الشرطة ثمّ أفرجوا عنه.

وكان الرشيد يطيّر الحمام إذ دخل عليه أبو البختري فقال له الرشيد : هل تحفظ في هذا شيئاً؟ قال : حدثني هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن خالته عائشة : أن النبي كان يطيّر الحمام! وقال : لا سبق إلّافي خفّ أو حافر أو جناح! وعرف الرشيد زيفه فقال له : اخرج عني! ثمّ قال : لولا أنه رجل من قريش لعزلته (٢)!

بقية أحداث الرشيد :

أقرّ الرشيد على البصرة محمّد بن سليمان العباسي ، فصنع هذا اسطولاً بحرياً للبصرة في أكثر من ثلاثة عشر مركباً جعل عليها يحيى بن سعد السعدي

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣١٨ ، ٣١٩.

(٢) تاريخ بغداد ١٣ : ٤٨٢ ـ ٤٨٦ وعنه في قاموس الرجال ١٠ : ٤٥٩ ، ٤٦٠ برقم ٨١٢٢ وقول الرشيد : هو من قريش يذكِّر بما في اختيار معرفة الرجال : ٣٠٩ ، الحديث ٥٥٩ عنه قال : إن النار تستأمر في قرشي سبع مرات! فقال الرضا عليه‌السلام : لقد كذب على الله وملائكته ورسله. ثمّ ذكر أن أُم أبي البختري عرضت نفسها على الصادق عليه‌السلام فتزوّجها.

٤٧٤

التميمي ، فسار في البحر إلى عمان وعاد بلا جهاد (١) ذلك أنّ غلة محمّد بن سليمان بالبصرة بلغت كل يوم مئة ألف درهم ، ومات في سنة (١٧٣ ه‍) فكان مبلغ ما قبضه الرشيد من أمواله خمسين ألف ألف درهم ونيفاً سوى الضياع والدور والمستغلات! وفيها ماتت أُمّ الرشيد خيزران ، وكانت غلّتها مئة وستين (مليون) درهم (٢).

وفي أواخر العام الأوّل من حكمه سنة (١٧١ ه‍) أمر مولاه فرج الخصي التركي فحصّن حصن طرسوس على ثغر الروم وأسكنها الناس. وأغزى إليها سليمان بن عبد الله الأصم فدخل بلاد الروم وغنم وسلم ، وقبلها قدمت الروم لفداء أسراها (٣) وكانت الثغور تابعة للجزيرة وقنسّرين فعزلها عنهما وجعلهما حيّزاً واحداً أسماها العواصم (٤).

ومرّ خبر عيسى بن شهلاثا الطبيب النصراني من جنديشاپور للمنصور وطرده. وفي سنة (١٧١ ه‍) مرض الرشيد بصداع شديد لم يعالجه أطباؤه ، فقال ليحيى البرمكي : اطلب لي طبيباً ماهراً فوصف له بَخْتْ يَشوع بن جورج يوس الطبيب النصراني الجندي شاپوري السابق للمنصور. فأرسل البريدَ لطلبه من جنديشاپور ، فجاء وأُدخل على الرشيد وعالجه فأكرمه وخلع عليه ووهبهه أموالاً وافرة وجعله رئيس أطبّائه ومنهم : يوحنّا بن ماسويه السُرياني النصراني ولّاه الرشيد ترجمة الكتب الطبية القديمة (٥).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٩٥.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٣٧.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٥٦ و ٢٩٥.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٤.

(٥) تاريخ مختصر الدول : ١٣٠ ـ ١٣١ ، وفيه : وهناك بختيشوعان آخران : بختيشوع بن جبرئيل وبختيشوع بن يوحنّا.

٤٧٥

ومرّ في آخر أخبار بني مروان : أنّ عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك دخل بلاد المغرب وتقرّب إلى الناس بها وهو أعور حتّى تملكهم واستولى بهم على الأندلس وقرطبة ، ودام ملكه ثلاثاً وثلاثين عاماً ، ففي عام (١٧٠ ه‍) أمر ببناء جامع قرطبة بموضع كنيسة هناك! بمئة ألف دينار! ثمّ مات بعد سنة في (١٧١ ه‍) (١).

ونقل السيوطي عن الذهبي قال : أخبار الرشيد يطول شرحها ... وله أخبار في الغناء واللهو واللذات المحظورة! ومغنيّه المعروف إبراهيم الموصلي (٢).

وفي عام (١٧٥ ه‍) غزا عبد الملك بن صالح العباسي الروم من الصفصاف فغنم نحو عشرين ألف رأس وعاد من درب الحدث وفي سنة (١٧٦ ه‍) فتح بلدة دبسة من الروم وفي (١٧٨ ه‍) بلغت الغنائم مئتين وثلاثة وخمسين ألف دينار (٣).

استخلافه ابنه الأمين :

سبق أنّ موسى العباسي كان قد ضيّق على أخيه هارون الرشيد بحبسه ، فلمّا مات في (١٧٠ ه‍) بشّرته أُمّه بموت الهادي وولادة ابن له من جاريته الخراسانية : مراجل ، فسمّاه عبد الله ولقّبه بالمأمون. وبعده بستة أشهر ولدت له زوجته زبيدة ابنه محمّداً الأمين (٤).

فلمّا بلغ الأمين خمس سنين عزم على عقد العهد له ، فدعا قوّاده ومعهم

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٤.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٤٤.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٧.

٤٧٦

عبد الصمد بن علي العباسي وأخرج لهم الأمين وجعل له وسادة وأقامه عليها وأمره أن يحمد الله ويصلّي على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ففعل. ثمّ قام عبد الصمد فقال لهم : لا يغرنكم صغر سنّه فإنّها الشجرة المباركة! أصلها ثابت وفرعها في السماء! ثمّ قام العباسيون فتكلّموا مؤيّدين ، ثمّ نُثرت عليهم الدنانير والدراهم وبيض العنبر وفأر المسك (١).

سنة الموت بمكة :

سنة (١٧٤ ه‍) كانت بمكة سنة الموت في الموسم ، وكان الكاظم عليه‌السلام قد حجّ تلك السنة ، فدخل عليه الحارث بن المغيرة النضري فسأله الإمام عن المرضى من أصحابه ، فقال له : عثمان بن عيسى من أوجع الناس ثمّ عدّد عليه ثمانية آخرين منهم ، فأمر بإخراج عيسى وأربعة آخرين وكفّ عن أربعة فماتوا ودُفنوا ، واخرج الآخرون فعافاهم الله (٢).

وقال لخالد بن نجيح : انظر ما عندك فابعث به إليّ ولا تقبل من أحد شيئاً ، وافرغ مع من كان لك معه عمل ممّا بينك وبينه حتّى يجيئك كتابي. ثمّ خرج إلى المدينة وبقي خالد بمكة ، فمرض ومات بعد أُسبوعين (٣).

فتنة البطّيخة بالشام :

وفي (١٧٦ ه‍) في بلقاء الشام قطع رجل من بني القين من مضر بطيخة من حائط لرجل من جذام ولخْم من اليمانيين! فدام القتال بينهم نحو سنتين!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٨.

(٢) بحار الأنوار ٤٨ : ٥٥ عن بصائر الدرجات : ٧٣ ، الباب ١ ، الحديث ٦.

(٣) المصدر السابق.

٤٧٧

وكان على دمشق عبد الصمد بن علي العباسي فسعى للصلح بينهم ، فأجاب بنو القين واستمهل اليمانيون ، ثمّ ساروا إلى بني القين فقتلوا منهم ستمئة! واستنجد بنو القين بني القيس فساروا معهم إلى البلقاء فقتلوا من اليمانية ثمانمئة! فعزل الرشيد عبد الصمد وولّاها إبراهيم بن صالح العباسي (١).

وفي سنة (١٧٥ ه‍) مات شريك بن عبد الله النخعي قاضي الكوفة إلى أيام المهدي ثمّ عزله الهادي ، وذكر عنده معاوية بالحلم فقال : إنّ مَن سفه الحقّ وقاتل علي بن أبي طالب فليس بحليم (٢).

وفي سنة (١٧٨ ه‍) أو (١٧٩ ه‍) توفي مالك بن أنس الأصبحي القحطاني ، وكان طويلاً أشقر ودفن بالبقيع (٣) وكان ابن تسعين سنة ، وطال به حمل أُمه ثلاث سنين (٤)! وكأنّها كرامة؟!

حركات الخوارج :

خرج صحصح الشيباني وباسير التميمي فمكث شهرين ثمّ قتل (٥) وخرج الوليد بن طريف التغلبي في ثلاثين رجلاً في شاطئ الفرات من الجزيرة إلى رأس العين فأشعل فيها النار ، ثمّ ذهب إلى باعريابا من نصيبين ثمّ تلّ أبي الجوزا فواجهه بزار التغلبي أيضاً فقُتل رجال من أصحابه وانهزم بزار إلى نصيبين. فذهب الوليد إلى دارا ففدوها منه بعشرين ألفاً! ثمّ كذلك آمد! ثمّ كذلك ميّافارقين!

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٥.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٣٩ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٥.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٣٣٩.

(٥) تاريخ خليفة : ٣٠٠.

٤٧٨

ثمّ عبر إلى أرمينية وأرزن الروم ففدوها منه كذلك بعشرين ألفاً! ثمّ أتى خلاط وحاصرها عشرين يوماً ثمّ فدوها بثلاثين ألفاً! ثمّ عاد إلى حُلوان فواجهه يحيى الحرشي بأصحابه فقتل بعض أصحابه وهزمه ، ثمّ أتى حولايا ثمّ السودقانية ثمّ عبر إلى غربي دجلة فأتى بلد ففدوها بمئة ألف! ثمّ عاد إلى نصيبين في سنة (١٧٨ ه‍) فدخلها من ثلمة حائط أغفلوها فواجهه إبراهيم بن خازم فقتلوه وغسلوا رأسه ونصبوه يومين على الرمح ، وأباح الوليد نصيبين خمسة أيام! فقتل بها خمسة آلاف ، ونهب دواباً ومتاعاً كثيراً ، ثمّ فدوها منه بخمسين ألفاً! ثمّ خرج إلى البرية فقابله يزيد بن مزيد الشيباني فقتل يزيد الوليد وهزم جمعه (١).

وكان الفُضيل الشيباني يتولّى بني شيبان فخرج من راذان في عشرين فارساً إلى بلد الجزيرة ، فصالحوه على مئة ألف ، ثمّ أتى بلد نعمان دون نصيبين فقتل بها اثني عشر رجلاً من تغلب! وكثر جمعه إلى خمسمئة فأتى بهم نصيبين ثمّ كأ نّه تصدّق عليهم! ثمّ أتى دارا فصالحهم على خمسة آلاف! ثمّ أتى آمد فصالحهم على عشرين ألفاً! ثمّ عبر إلى ميافارقين فصالحهم على عشرة آلاف! ثمّ أتى أرزن الروم فأقام عليهم عشرين ليلة ثمّ صالحهم على عشرين ألفاً! ثمّ أتى خلاط فنصيبين فالموصل فالزّاب ، وكان تعقّبه معمّر بن عيسى العبدي في (١٢) ألفاً حتّى لحقه بالزاب فعقره وقتل أصحابه (٢).

وفاة السيّد الحميري :

في سنة (١٧٨ ه‍) أو (١٧٩ ه‍) توفي السيّد إسماعيل بن محمّد الحميري

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٩٨ ـ ٢٩٩.

(٢) تاريخ خليفة : ٣٠٠.

٤٧٩

البصري وهو سبط يزيد بن المفرّغ الحميري (١). روى الكشي : أنّه اسودّ وجهه عند الموت فقال يخاطب علياً عليه‌السلام : أهكذا يُفعل بأوليائكم يا أمير المؤمنين؟! فابيضّ وجهه حتّى صار كالقمر ليلة البدر! فأنشأ يقول :

أبا حسن تفديك نفسي واسرتي

ومالي ، وماأصبحت في الأرض أملكُ

أبا حسن إنّي بفضلك عارف

وإنّي بحبل من ولاك لممسك

فأنت وصيّ المصطفى وابن عمه

وإنّا نعادي مبغضيك ونترك

مُواليك ناج مؤمن بيِّن الهدى

وقاليك معروف الضلالة مشرك

ولاحٍ لحاني في علي وحزبه

فقلت : لحاك الله إنك أعفك (٢)

احبّ الذي من مات من أهل ودّه

تلقّاه بالبشرى لدى الموت يضحك

ومن مات يهوى غيره من عدوّه

فليس له إلّاإلى النار مسلك (٣)

ويسبقه ويلحقه في الكشي خبران ثانيهما فيه حضور الصادق عليه‌السلام في سكرات موت الحميري وأ نّه ما زال حتّى ذلك الحين كيسانياً ، وأنّ الإمام اشترط عليه أن يقول بالحق ليكشف الله ما به ويرحمه ، فتجعفر السيد وقعد حياً! وأنّ الإمام كان قد انصرف يومئذ من عند المنصور إلى الكوفة! ممّا يُستبعد جدّاً.

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٦ وقال : هو حفيد ابن المفرّغ ، وهو قول الأصمعي ، وعدّله المرزباني فقال : بل سبطه ، كما في كتابه : أخبار السيد الحميري : ١٥١ تحقيق الأميني.

وفي تاريخ وفاته قال : (١٧٣ ه‍) : ١٥٢. وابن الوردي تبع ابن الجوزي في المنتظم ٩ : ٣٩ برقم ، ٩٦١ ، كما في الغدير ٣ : ٢٨٦.

(٢) أعفك : أحمق.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٢٨٧ ، الحديث ٥٠٦ عن محمّد بن رشيد الهروي ، وعنه المرزباني ، وعنه الطوسي في أماليه : ٤٩ ، الحديث ٦٣ ، وعنه بشارة المصطفى : ٧٦.

٤٨٠