موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

ففي أول ذي القعدة كتبوا بينهم صلحاً على : أنّ ابن هُبيرة على أمره مع خمسمئة من أصحابه بالمدينة الشرقية إلى خمسين يوماً ـ العشرين من ذي الحجة ـ فإن شاء دخل في الطاعة وإن شاء لحق بمأمنه! ثمّ فتحوا الأبواب. وبعد يومين دخل جمع فأخذوا كل دابة عليها سمة «لله» أي لبيت المال وقالوا : هذه للامارة (١).

فالتقى ابن هُبيرة بالمنصور وسلّم عليه بالامارة فقال له المنصور : يا يزيد ، إن بني هاشم تتجاوز عن المسيء وتأخذ بالفضل ، ولست أنت عندنا كغيرك! فأمير المؤمنين أرغب شيء في الصنيعة إلى مثلك! فأبشر بما يسرّك (٢)!

فقال له ابن هُبيرة : إن إمارتكم محدثة فأذيقوا الناس حلاوتها وجنّبوهم مرارتها تجتذبوا قلوبهم ، وما زلت منتظراً لهذه الدعوة! ثمّ قام من عنده (٣).

وقال اليعقوبي : كان يزيد قد استعدّ لحصار سنتين وأدخل الأقوات والعلوفة لعشرين ألف مقاتل ، ولكنّه لما دام الحصار والقتال عشرة أشهر وجّه السفراء وطلب الأمان فأُجيب إلى ذلك وكتب له كتاب أمان بشروط سألها وختمه السفاح نفسه! وخرج ابن هُبيرة إلى المنصور فبايعه ، وكان يركب كل يوم في ألف فارس وألف راجل! فشكاه عسكر المنصور فأمره أن يقللهم فقلّلهم إلى خمسمئة راجل! فطلب منه حاجب المنصور أبو غسان أن يقللهم فقللهم إلى ثلاثين راكباً وثلاثين راجلاً!

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥١.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٦٢.

٢٠١

وكان أبو مسلم من خراسان يكتب إلى السفّاح يحرّض على قتل ابن هُبيرة ويقول : لا يستقيم الأمر إلّابقتله!

ثمّ وجدت كتب! لابن هُبيرة إلى محمّد بن عبد الله الحسني يعلمه أن معه عشرين ألف مقاتل! وأن قبله أموالاً وعُدّة وسلاحاً وأن يبايع له! فاخذت الكتب إلى السفّاح فقال : نقض عهده وأحدث ما أحلّ به دمه! وكتب إلى أخيه المنصور أنّه غدر ونكث ونقض العهود وكثرت كتبه بذلك فاضرب عنقه! فقال المنصور للحسن بن قحطبة الطائي أن يتولّى ذلك فقال : إن قتلته أنا ثارت العداوة العصبية بين قومه وقومي فيضطرب عليكَ من بعسكرك من هؤلاء وهؤلاء! ولكن أنفذ إليه برجل مضري! فأمر المنصور بذلك خازم بن خزيمة التميمي فوافاه بجمعه في قصره ، ولما رآهم قال : إنّ في وجوه القوم لغدرة! ودنوا إليه فقام دونه ابنه داود فضربوه بالسيف وصاروا إليه فقتلوه (١).

وكان ذلك بعد منتصف ذي القعدة ، ثمّ قعد الحسن بن قحطبة في مسجد حسّان النبطي على دجلة ، وبعث إلى أبان وبشر ابني عبد الملك بن مروان ، وثلاثة من قوّاد ابن هُبيرة وثلاثة من كتابه ومواليه فأُخذوا إليه فقتلهم (٢) وتفرّق جمعهم!

وكان على بخارى شريك بن شيخ المهري وكان قد بايع لبني العباس ، ولما بلغه الغدر بابن هُبيرة قال : ما على هذا بايعنا «آل محمّد» أن نسفك الدماء ونعمل غير الحق! وثار بجمعه ، فوجّه إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي فقاتله حتّى قتله (٣) وفضّ جمعه.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٤.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٦٣.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٤.

٢٠٢

متابعة مروان في مصر ومصيره :

مرّ مروان من فلسطين إلى مصر ، فلمّا بلغه سقوط دمشق عبر النيل وقطع الجسر وسار يريد الحبشة ، ووجّه عبد الله بن علي أخاه صالح بن علي في طلب مروان ، فجاء صالح وقد عبر مروان ، فسرّح صالح في أثره عامر بن إسماعيل الحارثي المذحجي فلقيه في قرية بوصير (١) من كورة اشمون من صعيد مصر ، فلم يزل مواقفاً له والحرب بينهما. وانصرف عبد الله بن علي راجعاً إلى دمشق وصالح في قتال مروان (٢) ثمّ هجموا على عسكره وهم يضربون الطبول ويكبّرون وينادون : يالثارات إبراهيم (العباسي) فظن عسكر مروان أن قد احيط بهم (٣) ، فانهزموا وطُعن مروان برمح فصُرع ، وسبق إليه منهم بقّال كوفي فاحتزّ رأسه لثلاث بقين من ذي الحجة ، واحضر الرأس قدام صالح بن علي فأمر أن ينفض فسقط لسانه فبادرت إليه هرة فأخذته! وأرسله صالح إلى السفّاح (٤) فحمل إليه فلمّا وضع بين يديه قال لمن حضره : أيكم يعرف هذا؟ فقال سعيد بن جعدة : هذا رأس مروان بن محمّد بن مروان خليفتنا بالأمس (٥)! فنصب على قناة بباب المسجد فانقطع رجاء شيعة بني امية (٦).

وكان مروان قد أوصى إلى خادم له أنّه إذا قُتل يدخل بسيفه على نسائه وبناته فيقتلهنّ! وكان قد أدخلهنّ في كنيسة بوصير ، فرأوه يحاول الدخول عليهن

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٦٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٦.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٢٤٦.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٢.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٦.

(٦) تاريخ خليفة : ٢٦٤.

٢٠٣

شاهراً سيفه! فأخذوه وسئل عن أمره فأخبرهم ، فأرادوا قتله فقال لهم : لا تقتلوني وأدلكم على ميراث رسول الله! وإن كذبت فاقتلوني! فأخرجهم من القرية إلى موضع رمل فكشفوا فإذا البُرد والمِخصرة والقضيب قد دفنها مروان كي لا تصير إلى بني العباس ، فوجّه بها عامر الحارثي إلى عبد الله العباسي فوجّه بها إلى السفّاح ، فكانت في بني العباس (١).

وكان عمره يوم قتل سبعين عاماً ، وكان شديد الشهلة أبيض مشرّباً بحمرة ، ضخم الهامة والمنكبين ، كثير اللحية ، صابراً على التعب والنصب (ولذا قيل له الحمار) اصطفى قبائل قيس ، وانحرف عن قبائل اليمن وباداها العداوة فحاربوه (٢) وكانت امّه من جواري مصعب بن الزبير (٣) أو إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي تدعى زيادة (٤) كردية (٥) اصطفاها أبوه محمّد بن مروان بن الحكم.

مصير ابنيه عبد الله وعبيد الله :

توجها نحو الصعيد ثمّ إلى بلاد النوبة ، ولحق بهما جماعة من أصحابهم حتّى صاروا في أربعة آلاف ، وجماعة من نسائهم من البنات والأخوات وبنات العم. ودخلوا بلاد النوبة ، وأخذوا في بلاد العدو ، فلقوا جيشاً من الأحباش فقاتلوهم حتّى صاروا إلى بلاد بجاوة فقاتلوهم ، فتراجعوا يريدون اليمن ، وتفرّق الأخوان في طريقين بينهما جبل ومع كل منهما خيل منهم ، فلقى عُبيد الله جيشاً من

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٤٦.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٦٤ و ٢٦٧.

(٤) التنبيه والإشراف : ٢٨١.

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٣.

٢٠٤

الأحباش فقاتلهم فقُتل وأسر كثير من أصحابه فسلبوهم وتركوهم حفاة عراة ، فكان الرجل منهم يبول في يده ويشربه أو يعجن به الرمل ويأكله حتّى أهلك العطش كثيراً منهم! ولحق من بقي منهم بعبد الله وجمعه وهم من العرى والشدة في أشدّ منهم! ومعه حُرمه ما يواريهن شيء! حتّى وافوا باب المندب ، فجمع لهم الناس شيئاً فأقاموا بها شهراً ثمّ خرجوا إلى مكة في صورة الحمّالين (١).

وإنّما فرّا وتبعهما الأربعة آلاف منهم لأن مروان كان قد صيّر الأمر بعده إلى ابنه الثاني عبد الله ثمّ الرابع عبيد الله (٢) وبكره عبد الملك وبه كان يكنّى والثالث محمّد (٣) فلم يولّهما شيئاً ولذا لم يتبعهما أحد. وفي عهد ابن طولون كان من كتابه بعض أعقابهما بفسطاط مصر يعرفون ببني المهاجر (٤).

مصير بنات مروان :

ثمّ وجّه عامر الحارثي المذحجي الأُسارى من بنات مروان وجواريه إلى صالح بن علي العباسي ، فلمّا ادخلن عليه قامت ابنته الكبرى فقالت له : يا عمَّ أمير المؤمنين. حفظ الله من أمرك ما يحب لك حفظه ، وأسعدك في الامور كلّها بخواص نعمه ، وعمّك بالعافية في الدنيا والآخرة. نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمّك! فليسعنا من عدلكم ما وسعكم من جورنا!

فأجابها صالح : إذن لا نستبقي منكم أحداً لا رجلاً ولا امرأة!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٧ ـ ٣٤٨ وانظر التنبيه والإشراف : ٢٨٥.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٦٠ والتنبيه والإشراف : ٢٨٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٧.

(٤) التنبيه والإشراف : ٢٨٤.

٢٠٥

ألم يقتل أبوك بالأمس ابن أخي إبراهيم بن محمّد بن علي بن عبد الله العباس في حرّان؟!

ألم يقتل هشام بن عبد الملك : زيد بن علي بن الحسين بن علي ، وصلبه في كناسة الكوفة وقتل امرأته بالحيرة على يدي يوسف بن عمر الثقفي؟!

ألم يقتل الدعيّ عبيد الله بن زياد : مسلم بن عقيل بن أبي طالب بالكوفة؟!

ألم يقتل يزيد بن معاوية : الحسين بن علي ، على يدي عمر بن سعد مع من قتل من أهل بيته بين يديه؟!

ألم يخرج بحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سبايا حتّى ورد بهنّ على يزيد بن معاوية ، وقبل مقدمهنّ بعث إليه برأس الحسين بن علي قد نصب دماغه على رأس رمح يطاف به في كور الشام ومدائنها حتّى قدموا به على يزيد بدمشق؟! كأ نّما بعث إليه برأس رجل من أهل الشرك! ثمّ أوقف حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله موقف السبي يتصفحهنّ جنود الشام الجفاة الطغام ، ويطلبون منه أن يهب لهم حرم رسول الله استخفافاً بحقّه وجرأة على الله عزوجل وكفراً بأنعمه؟! فما الذي استبقيتم منّا «أهل البيت» لوعد لنا فيه عليكم؟!

فقالت : يا عمَّ أمير المؤمنين إذن ليسعنا عفوكم! فقال : فقد وسعكم العفو! فعرض عليها التزويج فطلبت منه أن يردّهم إلى حرّان فوعدها ذلك والحقهنّ بحرّان ، فلمّا دخلن حرّان ومررن على ديار مروان علت أصواتهنّ بالبكاء عليه وشقّ الجيوب والعويل والصياح (١).

وفي اليعقوبي : أنّه لما قتل صالح مروان بن محمّد حوى أمواله وخزائنه ، ووجّه برأسه إلى أبي العباس ، وحمل يزيد بن مروان ونسوة منهم وبناته إليه ،

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٤٧ و ٢٤٨.

٢٠٦

فلمّا صرن إلى الكوفة حبس الرجال وأطلق النساء. ثمّ اخذ عبد الله بن مروان بمكّة فحُمل إليه وحُبس معهم (١).

كاتب الأمويين عند الصادق عليه‌السلام :

علي بن أبي حمزة البطائني من موالي الأنصار بالكوفة كان له صديق من كتاب (ديوان) بني أُمية بالكوفة (؟) وحجّا لموسم الحج لهذه السنة (١٣٢ ه‍) وقد عرف الكاتب معرفة البطائني بالصادق عليه‌السلام. قال البطائني فقال لي : استأذن لي على أبي عبد الله. فاستأذنت له فأذن له ، فلما أن دخل سلم وجلس ثمّ قال : جعلت فداك! إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم (بني أُمية) فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً. أغمضت في مطالبه؟

فقال الصادق عليه‌السلام : لولا أن بني أُمية وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم ؛ لما سلبونا حقّنا! ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلّاما وقع بأيديهم. فقال الفتى : جعلت فداك فهل لي مخرج منه؟ قال : إن قلت لك تفعل؟ قال : أفعل. قال : فاخرج من جميع ما اكتسبت في ديوانهم ، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله ، ومن لم تعرف تصدقت به ، وأنا أضمن لك على الله الجنة! فأطرق الفتى طويلاً ثمّ رفع رأسه وقال : لقد فعلت جعلت فداك!

قال البطائني : فرجع الفتى معنا إلى الكوفة فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلّاخرج منه ، حتّى ثيابه التي كانت على بدنه! فقسمت له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا له بنفقة! فما أتى عليه إلّاأشهر قلائل حتّى مرض ، فكنا نعوده ،

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥١.

٢٠٧

فدخلت إليه يوماً وهو في سياق الموت ، فلما فتح عينيه ورآني قال لي : يا علي وفى لي والله صاحبك! ثمّ مات.

فتولينا أمره ، وخرجت حتّى دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فلما نظر إليّ قال لي : يا علي ، وفينا والله لصاحبك! فقلت : صدقت جعلت فداك ، هكذا ـ والله ـ قال لي عند موته (١).

بنو علي عليه‌السلام عند بني العباس :

مرّ الخبر عن اجتماع بني هاشم : بني العباس وبني علي عليه‌السلام : بني الحسن والحسين عليهما‌السلام بدعوة عبد الله المحض إلى البيعة لولده محمّد بن عبد الله الحسني ، في أواخر أيام الأمويين ، وإباء الصادق عليه‌السلام لذلك واستجابة السفّاح والمنصور لذلك (٢).

والآن وقد نجحت دعوة العباسيين واعلنت بيعة السفاح في الكوفة وإقامته بالحيرة ، وبعثه عمّه عبد الله بن علي لمقاتلة مروان ومتابعته في الشام ودخوله بدمشق في أوائل شهر رمضان (١٣٢ ه‍) وبعث إلى المدينة الحسين بن جعفر بن تمّام بن العباس ، فخرج عنها الوالي الأموي يوسف بن عروة بن محمّد بن عطية السعدي (٣).

فلم يعلم عنه أيّ خبر عن طلبه البيعة لهم ، فضلاً عن أيّ مطالبة برحلة أعلامها إلى السفّاح في الحيرة ، إلّاأنّ اليعقوبي يقول : قدم عبد الله بن الحسن

__________________

(١) فروع الكافي ٥ : ١٠٦ ، الحديث ٤ ، والتهذيب ٦ : ٣٣١ ، الحديث ٩٢٠ وقارنه بمثله عن أبي بصير في أُصول الكافي ١ : ٤٧٤ ، الحديث ٥.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٧٣ ـ ١٧٤.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٧٠.

٢٠٨

ومعه أخوه الحسن بن الحسن بن الحسن ، على السفّاح فآثره وأكرمه وبرّه ووصله الصِلات الكثيرة. ولم يكن معه ابنه محمّد ، فسأله عنه فقال له : يا أمير المؤمنين! ما عليك من محمّد شيء تكرهه.

وقال له الحسن المثلّث : يا أمير المؤمنين! أرأيت إن كان الله قضى لمحمّد أن يلي هذا الأمر! ثمّ أجلبت عليه ومعك أهل الأرض والسماوات أكنت دافعاً له؟! وإن كان لم يقض ذلك لمحمّد ثمّ أجلب محمّد عليك ومعه أهل الأرض والسماوات أيضرك محمّد؟! قال : لا والله ، ولا القول إلّاما قلت! قال : فلم تنغِّص نعمتك على هذا الشيخ ومعروفك عنده؟! فقال : لا تسمعني ذاكراً له بعد اليوم!

وقال عبد الله : يا أمير المؤمنين! إنا نحميها (خلافتكم) عن كل قذاة يخل ناظرك منها!

فقال : بك أثق وعلى الله أتوكل! وطفئ بذلك أمر محمّد في خلافة السفّاح (١).

الصادق عليه‌السلام في الحيرة :

ثمّ لا نرى في مصادر التاريخ أي خبر عن محضر الصادق عليه‌السلام يومئذ في الحيرة إلّا : ما رواه الكليني أنّه دخل على السفّاح في الحيرة ثمّ حكى ذلك قال : دخلت عليه وقد شك الناس في الصوم ، وهو ـ والله ـ من شهر رمضان ، والمائدة

__________________

(١) انظر اليعقوبي ٢ : ٢٦٠. وفي أنساب الأشراف ٢ : ٨٧ : أنّ السفاح أقطع للحسن المثلث عين مروان بذي خشب ، وأقطع عبد الله قطائع بلغت غلّتها مئة ألف! ولم ينقل مثل ذلك للصادق عليه‌السلام! بل فيه أيضاً : ١٣ : أنّ السفاح خطب من عبد الله بن الحسن بنتاً لمحمد ابنه لولد السفّاح محمد فزوّجها له بولاية الجد!

٢٠٩

بين يديه ، فسلّمت عليه فقال : يا أبا عبد الله أصمت اليوم؟ فقلت : لا فقال : فادنُ فكُل ، فدنوت فأكلت وقلت له : الصوم معك والفطر معك! فقال له رجل : تفطر يوماً من شهر رمضان؟! قال : إي والله ، أن أُفطر يوماً من شهر رمضان أحبّ إليّ من أن يضرب عنقي (١).

فيعلم منه أن سفره إليه كان في شهر رمضان ، فيبدو أن ذلك كان في أوائل عهد الحسين بن جعفر العباسي بالمدينة ، ولعلّ السفاح تعمّد إدخاله إليه يومئذ وحينئذ لاختبار موقف الإمام عليه‌السلام ماذا يفعل.

ويظهر من خبر آخر أنّ والي الكوفة يومئذ ما زال كان عمّ السفاح : داود بن علي قبل أن يولّيه المدينة ، والسفّاح وداود لم يمنعا الناس بعد من اللقاء بالإمام عليه‌السلام ، ولذا كان يرى الناس لكلامه فيهم أثراً ونفوذاً ، ذلك ما رواه الكليني بسند صحيح عن داود بن زربي البندار الخندقي الذي أصبح بعد من أخص الناس بالرشيد (٢) بالتقية ، عن مولى لعليّ بن الحسين عليه‌السلام قال : لما قدم أبو عبد الله الصادق الحيرة كنت بالكوفة ، فأتيته وقلت له : جعلت فداك! لو كلّمت داود بن علي أو بعض هؤلاء ، فأدخل في بعض هذه الولايات! فقال : ما كنت لأفعل. فانصرفت إلى منزلي.

ثمّ تفكّرت فحسبت أنّه ما منعني ذلك إلّامخافة أن أظلم أو أجور ، والله لآتينّه واعطيّنه الطلاق والعتاق والأيمان المغلّظة أن لا أجورنّ على أحد ولا أظلمنّ ولأعدلنّ!

__________________

(١) الكافي ٤ : ٨٣ الباب ٩ ، الحديث ٩ و ٨٢ ، الحديث ٧ ، والتهذيب ٤ : ٣١٧ ، الباب ٧٢ ، الحديث ٣٣.

(٢) جامع الرواة ١ : ٣٠٣.

٢١٠

فأتيته فقلت : جعلت فداك! إني فكرت في إبائك عليَّ فظننت إنّك إنّما منعتني وكرهت ذلك مخافة أن أظلم أو أجور! وإن كل امرأة لي طالق وكل مملوك لي حرّ إن ظلمت أحداً أو جُرت على أحد بل إن لم أعدل.

فنظر إلى السماء وقال : تنال هذه السماء أيسر عليك من ذلك (١).

ويعلم منه أن هذا المولى لم يكن من خواص شيعته ولذا حلف له بالطلاق والعتاق الباطل والفاسد لديه.

ثمّ يظهر من خبر آخر أنّ الخليفة بعد هذا منع الناس من الدخول عليه عليه‌السلام ، وذلك :

ما أخرجه الراوندي عن هارون بن خارجة عن رجل من أصحابنا من أهل الكوفة : أنّه أيضاً ارتكب ما لا يصحّ عند الصادق عليه‌السلام من الطلاق الثلاث ، ثمّ سأل أصحابه (الشيعة) فقالوا : ليس بشيء ، وكان ذلك في أيام السفاح والإمام إذ ذاك بالحيرة. وارتابت المرأة فقالت : لا أرضى (بالرجوع) حتّى تسأل أبا عبد الله. فذهب إلى الحيرة وتحيّر كيف يصل إليه حتّى رأى سوادياً من سواد الكوفة عليه جبة صوف يبيع خياراً (فيعلم انه كان صيفاً) ، فقال له : خيارك هذا كلّه بكم؟ قال : بدرهم ، فأعطاه درهماً وطلب منه أن يعيره جبّته فأخذها ولبسها وأخذ ينادي : من يشتري خياراً ويدنو من منزل الإمام عليه‌السلام ، فإذا غلامه يناديه : يا صاحب الخيار! ولما دنا من الإمام عليه‌السلام قال له : ما أجود ما احتلت! أي شيء حاجتك؟ فأخبره بخبره فقال : ارجع إلى أهلك فليس عليك شيء (٢).

__________________

(١) فروع الكافي ٥ : ١٠٧ ، الحديث ٩ ، وعنه في وسائل الشيعة ١٢ : ١٣٦.

(٢) الخرائج والجرائح ٢ : ٦٤٢ ، الحديث ٤٩ ، وعنه في وسائل الشيعة ١٥ : ٣١٩ ، الحديث ١٩ ، وفي بحار الأنوار ٤٧ : ١٧١ ، الحديث ٦.

٢١١

وكأنّ المنصور كان يومئذ بالحيرة فروى الصدوق أنّه قال للصادق عليه‌السلام : يا أبا عبد الله ، ما بال الرجل من «شيعتكم» يستخرج ما في جوفه في مجلس واحد حتّى يُعرف مذهبُه؟! وكأنه يريد التشديد والتأكيد على مزيد التقية. فقال عليه‌السلام : ذلك من حلاوة الايمان في صدورهم يبدونه تبدّياً (١)!

تشيّع هشام لدى الإمام عليه‌السلام :

هشام بن الحكم الكوفي بن يزيد الكندي مولاهم ، سبقه عمّه عمر بن يزيد على الصادق عليه‌السلام فكان من شيعته. وفي عهد السفّاح في أوائل الدولة العباسية لمّا كانوا بالحيرة واستقدموا الصادق عليه‌السلام إليها ، كان عمر بن يزيد مولى كندة الكوفة يتردّد عليه ، وعلم بذلك ابن أخيه هشام وطمع في مناظرة الإمام ، فسأل عمّه عمر أن يدخله معه عليه ليناظره! فوعده أن يستأذن له عليه ، واستأذنه فأذن له ، فخرج إليه وأعلمه أنّه قد أذن له.

فبادر هشام فاستأذن ودخل مع عمّه عمر على الإمام ، فلما تمكّن في مجلسه سأله الصادق عليه‌السلام عن مسألة ، حار هشام فيها فسأل الإمام أن يؤجّله لجوابها فأجّله ، وخرج هشام يسعى في طلب الجواب أياماً ولم يقف عليه ، وعاد إلى الإمام فأخبره بها. ثمّ سأله عن مسائل أُخرى فيها فساد مذهبه وأصل عقيدته ، وكان يذهب في الدين مذهب الجهمية! فتحيّر هشام مرة أُخرى وخرج من عنده متحيراً مغتماً أياماً لا يفيق من حيرته!

ثمّ سأل هشام عمّه عمر أن يستأذن له على الإمام عليه‌السلام ثالثة ، فدخل عمر عليه واستأذن له ، وكأن الإمام رأى أن الأصلح عدم إكثار تردده عليه فقال لعمّه

__________________

(١) انظر بحار الأنوار ٤٧ : ١٦٦ عن كتاب صفات الشيعة للشيخ الصدوق رحمه‌الله.

٢١٢

عمر : لينتظرني غداً عصراً في موضع كذا (في الحيرة) لالتقى معه فيه إن شاء الله. قال عمر : فخرجت إلى هشام فأخبرته بأمره عليه‌السلام ، فسرّ بذلك واستبشر.

قال عمر : وبعد ذلك رأيت هشاماً فسألته عمّا كان؟ فأخبرني : أنّه سبق الصادق عليه‌السلام إلى الموضع ، وأقبل الإمام على بغلة ، وقرب مني وأبصرته فهالني منظره وأرعبني ، حتّى بقيت لا ينطلق لساني لما أردت ولا أجد شيئاً أتفوّه به! ووقف عليَّ أبو عبد الله ملباً ينتظر ما أُكلّمه فلا يزيد في وقوفه إلّاتهيّباً وتحيراً! ثمّ ضرب بغلته وسار حتّى دخل سكة من سكك الحيرة. وتيقّنت أنّ ما أصابني من هيبته لم يكن إلّامن قبل الله «عزوجل» من عِظم موقعه ومكانه من الربّ الجليل.

قال عمر : فرجع هشام إلى الصادق عليه‌السلام وترك مذهبه ودان بالحق ، ثمّ فاق أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام (١).

زيارته لمرقدي علي والحسين عليهما‌السلام :

وما رواه الكليني وابن قولويه بسندهم عن يزيد بن عمر : أنّ الصادق عليه‌السلام كان قد وعده زيارة علي عليه‌السلام وهو بالحيرة ، فركب ومعه ابنه إسماعيل والراوي (٢).

وما رواه الطوسي بسنده عن مبارك الخباز : أنّه عليه‌السلام لما قدم الحيرة قال له : أسرجوا البغل والحمار ، فركب (البغل) وركب الراوي (الحمار) حتّى دخل الجرف (الجوف) فنزل وصلّى ركعتين ، فسأله الراوي عنه فقال : هو موضع قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٥٦ ، ٢٥٧ ، الحديث ٤٧٦.

(٢) الكافي ٤ : ٥٧١ ، الحديث ١ ، وكامل الزيارات : ٣٤.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٤ ، الحديث ٧١.

٢١٣

وكأنّه عليه‌السلام في كل زيارة كان يصحب واحداً أو أكثر من أصحابه ليدلّهم على القبر ، ويصحب غيرهم في الزيارة الأُخرى ليكثر عارفوه وزائروه ، فرواها هؤلاء وغيرهم (١).

وداود بن علي على الحجاز :

وكان عامل مروان على الحجاز الوليد بن عروة بن عطية السعدي مقيماً بمكّة ، ولم يعلم بقتل مروان وبيعة السفّاح ، وولّى السفّاح على الحجاز للموسم (١٣٢ ه‍) عمّه داود بن علي ، فلمّا علم الوليد هرب ، وقدم داود فخطب فذكّرهم بما فضّلهم الله به فظلمهم الظالمون ثمّ قال : إنّما كانت لنا فيكم تبعات وطلبات ، وقد تركنا ذلك كلّه ، فأنتم آمنون بأمان الله أحمركم وأسودكم وصغيركم وكبيركم ، وقد غفرنا التبعات ووهبنا الظلامات ، فلا وربِّ هذه البنية (الكعبة) لا نُهيج أحداً.

وكان معه سُديف بن ميمون مولاهم فقال : أصلح الله الأمير أدنني منك وأذن لي في الكلام فأذن له ، فصعد المنبر دونه بمرقاة فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد ثمّ قال : أيزعم الضُلّال أن غير «آل رسول الله» أولى بتراثه؟! ولِمَ وبِمَ؟!

معاشر الناس! ألكم الفضل بالصحابة دون ذوي القرابة! الشركاء في النسب والورثة للسلَب ، مع ضربهم في الفيء لجاهلكم ، وإطعامهم في اللأواء جائعكم ، وإيمانهم بعد الخوف سائلكم؟! لم يُر مثل العباس بن عبد المطلب اجتمعت له الامة بواجب حقّ الحرمة ، أبو رسول الله بعد أبيه! وجلدة ما بين عينيه يوم خيبر (كذا!) لا يردّ له أمراً! ولا يعصي له قسماً!

__________________

(١) الإمام الصادق عليه‌السلام للمظفر : ١٢٨.

٢١٤

إنكم والله ـ معشر قريش ـ ما اخترتم لأنفسكم مَن اختار الله لكم طرفة عين قط! ثمّ نزل.

وكان إتيان داود قبل الموسم فقام بأمر الموسم ، وبعده وجّه إلى مَن مِن بني اميّة بمكّة فقتل جماعة منهم ، وأوثق آخرين بالحديد ووجّههم إلى الطائف فقُتلوا هناك ، وحبس آخرين حتّى ماتوا! ثمّ صار إلى المدينة في أوائل سنة (١٣٣ ه‍) (١).

ولما دخل المدينة خطب فقال في خطبته : أيها الناس ؛ أغرّكم الإمهال حتّى حسبتموه الإهمال. هيهات منكم وكيف بكم والسوط في كفّي والسيف مُشهَر.

حتّى يبيد قبيلة فقبيلة

ويعض كلُّ مثقَّف بالهام!

ويقمن ربّات الخدور حواسراً

يمسحن عرض ذوائب الأيتام (٢)!

مقتل المعلّى مولى الصادق عليه‌السلام :

مرّ الخبر عن دعاوي المغيرة بن سعيد مولى خالد بن عبد الله السري البجلي والي الكوفة قبيل المئة والعشرين للهجرة ، وأ نّه كان قد ادّعى علم الغيب وطلب من الإمام الباقر عليه‌السلام تصديقه فزجره بشدّة ، فقال لمحمد بن عبد الله الحسني مثله فسكت عنه فطمع فيه فادّعى أنّ الإمام السجاد عليه‌السلام قد أوصى إلى محمّد وسمّاه النفس الزكية ، وقدم بها إلى الكوفة وبثّ بها أصحابه (٣)

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥١ ، ٣٥٢.

(٢) عن الكامل للجزري ٣ : ٥٥٤.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٨ : ٢١.

٢١٥

فيظهر من ابن الغضائري أنّ ممّن أجابه وتبعه معلّى بن خنيس (١) مولى بني أسد (٢) ثمّ لمّا أحرق المغيرةَ مولاه خالد القسري البجلي والي الكوفة سنة (١١٩ ه‍) أي في أوائل إمامة الإمام الصادق عليه‌السلام التحق المعلّى بالمدينة واهتدى إليه وتقرّب لديه.

فكان يُرى يوم العيد لا يصلّي العيد رسمياً بل يخرج إلى الصحراء ويمدّ يده نحو السماء ويقول : اللهم هذا مقام خلفائك وأصفيائك ، وموضع أُمنائك الذين خصصتهم بها ، ابتزّوها وأنت المقدّر للأشياء ، لا يُغالب قضاؤك ، ولا يجاوز المحتوم من تدبيرك كيف شئت وأنّى شئت ، علمك في إرادتك كعلمك في خلقك ، حتّى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مستترين. يرون حكمك مبدّلاً وكتابك منبوذاً وفرائضك محرّفة عن جهات شرايعك ، وسنن نبيّك صلواتك عليه متروكة. اللهم العن أعداءهم من الأوّلين والآخرين والغادين والرائحين والماضين والغابرين ، اللهم والعن جبابرة زماننا وأشياعهم وأتباعهم وأحزابهم وأعوانهم ، إنك على كل شيء قدير (٣).

فكأنّ الصادق عليه‌السلام رآه موالياً معلناً البراءة من أعدائهم يذيع الصعب من حديثهم فنهاه عن ذلك وحذّره أنّه سيقتل لذلك ، قال له : يا معلّى إنّ لنا حديثاً من حفظه علينا حفظ الله عليه دينه ودنياه! يا معلّى لا تكونوا اسراء في أيدي الناس بحديثنا إن شاؤوا منّوا عليكم وإن شاؤوا قتلوكم! يا معلّى إنّه من كتم الصعب من حديثنا جعله الله نوراً بين يمينه وزوّده القوة في الناس ، ومن أذاع الصعب من حديثنا لم يمت حتّى يعضّه السلاح أو يموت بخبل! يا معلّى أنت مقتول فاستعد (٤)!

__________________

(١) انظر قاموس الرجال ١٠ : ١٥٨ برقم ٧٦٤٣.

(٢) رجال النجاشي : ٤١٧ برقم ١١١٤.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٣٨١ ، الحديث ٧١٥ وتوهم من نسبه إلى الإمام السجاد عليه‌السلام.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٣٧٨ ، الحديث ٧٠٩.

٢١٦

وكأنّ هذا كان قبل قتله بسنة ، وأخبر به الصادق عليه‌السلام صاحبه أبا بصير الأسدي الكوفي ، ذلك أنّ المعلّى كان من مواليهم ، ولكنّه استكتمه قال له : يا أبا محمّد اكتم عليّ ما أقول لك في المعلّى! ثمّ قال : أما إنّه ما ينال درجتنا إلّابما ينال منه داود بن علي (العباسي ، وذلك قبل ولايته المدينة) قلت : وما الذي يصيبه من داود؟ قال : يدعو به فيأمر به فيضرب عنقه ويصلبه! قلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون! قال : ذلك (في العام) القابل.

قال أبو بصير : فلمّا كان القابل ولّي (داود) المدينة فقصد قصد المعلّى فدعاه وسأله عن «شيعة» أبي عبد الله وأن يكتبهم له! فقال : إنّما أنا رجل أختلف في حوائجه وما أعرف له صاحباً! فقال : تكتمني! أما إنك إن كتمتني قتلتك! قال المعلّى : تهدّدني بالقتل! والله لو كانوا تحت قدمي ما رفعت قدمي عنهم! وإن أنت قتلتني لتسعدنّي واشقيك (١)!

فلمّا أراد قتله قال له المعلّى : إنّ لي ديناً كثيراً أو مالاً فأخرجني إلى الناس حتّى أشهد بذلك! وكان على شرطة المدينة رجل يسمّى السيرافي فأمره داود العباسي أن يخرجه ، فأخرجه إلى السوق ، فلمّا اجتمع الناس قال : أيها الناس! أنا معلّى بن خُنيس فمن عرفني فقد عرفني ، واشهدوا أنّ ما تركت من مال عين أو دين أو أَمة أو عبد أو قليل أو كثير فهو لجعفر بن محمّد!

وكأنّ داود كان قد أمر السيرافي إذا قال ذلك بقتله فشدّ عليه فقتله (٢) ثمّ صلبه وصادر أمواله!

هذا والصادق عليه‌السلام كان قد حجّ تلك السنة (١٣٢ ه‍) ولا زال مجاوراً بمكّة ، وعاد داود إلى المدينة فاستغلّ غيبته عليه‌السلام. وكان معه إسماعيل بن جابر

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣٨٠ ، الحديث ٧١٣.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٣٧٧ ، الحديث ٧٠٨.

٢١٧

الخثعمي (١) فقال له : يا إسماعيل ، اخرج إلى مُرّة (على مرحلة) أو عُسفان (على مرحلتين) فسل (المسافرين من المدينة) : هل حدث بالمدينة حدث؟ قال : فلم ألق أحداً في مُرّة فمضيت إلى عسفان فلم ألق أحداً فرحلت منها فلقيت عيراً تحمل زيتاً فقلت لهم : هل حدث بالمدينة حدث؟ قالوا : لا ، إلّا قتل عراقي (كوفي)؟ يقال له المعلّى بن خنيس! فانصرفت إلى أبي عبد الله فلمّا رآني قال لي : يا إسماعيل قتل المعلّى بن خُنيس؟ قلت : نعم! قال : أما والله لقد دخل الجنة (٢)!

وقدم الإمام عليه‌السلام من مكّة إلى المدينة في شهر ربيع الأول سنة (١٣٣ ه‍) وذكر له قتل المعلّى بن خنيس ، فقام مغضباً يجرّ ثوبه! وكان ابنه إسماعيل حاضراً فقال له : يا أبة أين تذهب؟ قال : (حتّى) لو كانت نازلة لأقدمت عليها! ثمّ خرج وتبعه ابنه إسماعيل! حتّى دخل على داود بن علي العباسي فقال له : يا داود! لقد أتيت ذنباً لا يغفره الله لك! قال : وما ذاك الذنب! قال : قتلت رجلاً من أهل الجنة. ثمّ قال : إن شاء الله!

وكان رجل من بني امية قد تزوّج ابنة الإمام ؛ فقال له داود : وأنت قد أتيت ذنباً لا يغفره الله لك! قال : وما ذاك الذنب؟ قال : زوّجت فلاناً الأموي ابنتك! قال : إن كنت زوجته فقد زوّج رسول الله عثمان ، ولي برسول الله أُسوة!

فقال داود : ما أنا قتلته؟ قال : فمن قتله؟! قال : قتله السيرافي! قال : فأقِدنامنه! قال : نعم!

__________________

(١) قاموس الرجال ٢ : ٣٢ برقم ٧٨٩.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٣٧٦ ، الحديث ٧٠٢ و ٧١٤.

٢١٨

فلمّا كان من الغد غدا إلى السيرافي فأخذه ليقتله فأخذ يصيح : يا عباد الله! يأمروني أن أقتل لهم الناس ثمّ يقتلوني! ثمّ قال لابنه إسماعيل : يا إسماعيل شأنك به! قال : فخرج إسماعيل والسيف معه حتّى قتله وهو قاعد (١). ولعلّه عليه‌السلام كان وليّ دم المعلّى بضمان الجريرة ويدلّ عليه :

ما رواه الكليني قال : جاء رجل إلى الصادق عليه‌السلام وقال : إن المعلّى بن خنيس ذهب بحقّي! يدّعي ديناً عليه! فقال : ذهب بحقّك الّذي قتله. ثمّ قال للوليد بن صُبيح : قُم إلى الرجل فاقض له من حقّه (٢).

وكأنّه كان من المتوقع حيث تنصّل داود العبّاسي من الأمر بقتل المعلّى وألقاه على عهدة عمدة شرطته السيرافي وأقاد الإمام منه! أن يردّ على الإمام عليه‌السلام ما صادره من أمواله التي كانت بيد وكيله المعلّى ، ولم يردّها.

فكان ما رواه الكليني أيضاً بسنده عن معتّب مولى الصادق عليه‌السلام قال : دخل الصادق عليه‌السلام على داود بن علي وقال له : قتلت مولاي وأخذت مالي! قال : ما أنا قتلته ولا أخذت مالك! فقال عليه‌السلام : لأدعونّ الله على من قتل مولاي وأخذ مالي! فقال داود : إنك لتهدّدني بدعائك! كالمستهزئ به.

قال معتّب : فلم يزل ليلته راكعاً وساجداً ، فلمّا كان في السحر سمعته يقول في سجدته : اللهم إني أسألك بقوتك القوية ، وبمحالك الشديد ، الذي كل خلقك له ذليل ، أن تصلّي على محمّد وأهل بيته وأن تأخذه الساعة الساعة! فما رفع رأسه حتّى سمعنا الصيحة من دار داود بن علي!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣٧٩ ، الحديث ٧١٠ و ٧١١.

(٢) الكافي : ٥ الباب ١٩ ، الحديث ٨ ، وفي التهذيب : ٦ ، الحديث ٣٨٦ باب الديون.

٢١٩

قال : فرفع أبو عبد الله رأسه وقال : إني دعوت الله بدعوة فبعث الله عزوجل عليه ملكاً فضرب رأسه بمرزبة من حديد انشقت منها مثانته فمات (١) في شهر ربيع الأول سنة (١٣٣ ه‍) (٢).

وكأنّه عليه‌السلام أراد إرشاد شيعته إلى الاعتبار بما صار إليه المعلّى بمخالفة التقية لئلّا يبتلوا بمثل ما ابتلى به! فلمّا دخل عليه المفضّل بن عمر الجعفي مولاهم (٣) وكان كالمعلّى عالياً في التشيّع مجاهراً ، وكان في أيام صلب المعلّى فقال للإمام عليه‌السلام : يابن رسول الله! ألا ترى إلى هذا الخطب الجليل الذي نزل ب «الشيعة» في هذا اليوم! قال : وما هو؟ قال : قتل المعلّى بن خنيس! قال : رحم الله المعلّى قد كنت أتوقّع ذلك ؛ لأنه أذاع سرّنا (٤).

وأقل منه ما عن حفص التمّار قال : دخلت على أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أيام صلب المعلّى بن خنيس رحمه‌الله فقال لي : يا حفص ، إني أمرت المعلّى فخالفني (في التقية) فابتلي بالحديد (٥).

واستخلف عن داود العباسي ابنه موسى بن داود العباسي (٦).

__________________

(١) اصول الكافي ٢ : ٥١٣ ، الحديث ٥ ، واختيار معرفة الرجال : ٣٧٦ ، الحديث ٧٠٨.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٦٨ بلا ذكر السبب. وفي أنساب الاشراف ٢ : ٨٧ : ١٣ صفر. كذلك بلا سبب.

(٣) رجال البرقي : ٣٤.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٣٨٠ ، الحديث ٧١٢ ثمّ شدّد على إذاعة أسرارهم وذلك لحاجة المخاطب إليه!

(٥) اختيار معرفة الرجال : ٣٧٨ ، الحديث ٧٠٩ ومخالفة التقية ليست محرمة بالضرورة دائماً.

(٦) تاريخ خليفة : ٢٧٠.

٢٢٠