موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

وفي (١٥٥ ه‍) أراد المنصور معرفة عدد أهل العراقَين الكوفة والبصرة فأمر بعدّ دورهما وقسمة خمسة دراهم على كل دار ، فلمّا عرف عددهم جباهم كل دار أربعين درهماً (١) فقال بعضهم :

يا لقومي ما لقينا من أميرالمؤمنينا

قسّم الخمسة فينا وجبانا أربعينا

فبنى بها للمصرَين سوراً وخندقاً من أموال أهلهما (٢).

وفي (١٥٦ ه‍) أغزى زفر بن عاصم الهلالي إلى الروم فأغار على قونية وقُنبة (٣) وتوفي حمزة بن حبيب الكوفي أحد القرّاء السبعة ، وعنه أخذ الكسائي (٤).

وفي (١٥٧ ه‍) مات عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (٥) كان من سبى اليمن فنزل الشام بدمشق في الأوزاع فنُسب إليهم (٦) والأوزاع كانت قرية على طريق باب الفراديس من دمشق ، وهم بطن من همْدان أو ذي الكلْاع ، وسكن قرية حنتوش على باب بيروت فدفن في قبلة مسجدها (٧).

وفاة أبي مخنف لوط المؤرّخ :

في عام (١٥٧ ه‍) أو (١٥٨ ه‍) توفي أبو مخنف لوط بن يحيى بن سعيد بن سالم الأزدي الغامدي الكوفي المؤلّف لأخبار التواريخ المختلفة في صدر

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٢٣.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٩.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٨١.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٩.

(٥) تاريخ خليفة : ٢٨٢.

(٦) مروج الذهب ٣ : ٣٠٤.

(٧) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٠.

٤٢١

الإسلام (١) وبخاصة لأخبار طلب البيعة ليزيد بن معاوية من الحسين عليه‌السلام وإبائه وخروجه من المدينة إلى مكة ثمّ إلى العراق فكربلاء فقتله بها ، ثمّ أسر اسرته وسبيهم إلى الكوفة ثمّ الشام ثمّ عودتهم إلى المدينة ، والتي أسماها بكتاب «مقتل الحسين» والذي رواه عنه هشام بن محمد بن السائب الكلبي الكوفي النسابة (م ٢٠٤ أو ٢٠٦ ه‍) وعنه الطبري في تاريخه ثمّ المفيد في «الإرشاد» بالعمدة (٢).

وقد حقّقت الكتاب وفي مقدمته ترجمت له واستظهرت مولده نحو الثمانين للهجرة ، وبدايته بمتابعة أخبار مقتل الحسين عليه‌السلام نحو المئة للهجرة وفراغه منها نحو المئة والعشرين فطبيعي أن العباسيين أفادوا من هذا الكتاب وأخباره لإثارة ثورتهم على الأمويين ، من دون أن يكون لدينا أي مؤشّر إلى قيام أي ارتباط أو علاقة عضوية بين أبي مخنف والدعوة العباسية. وامتاز تحقيقي للكتاب بدراسة أسناد تلك الأخبار بالتفصيل في مقدمة الكتاب.

حجّ المنصور وهلاكه بمكّة :

حجّ المنصور بعد وفاة الصادق عليه‌السلام في سنة (١٥٢ ه‍) (٣) وبلغ خبر ارادته الحجّ لسنة (١٥٨ ه‍) إلى مكة والمدينة ، وكان علي بن أبي حمزة البطائني بمحضر الكاظم عليه‌السلام فقال : لا والله لا يرى أبو جعفر بيت الله أبداً! فقدم البطائني الكوفة وسمعهم يتحدثون عن حجّ المنصور فأخبرهم بكلام الإمام عليه‌السلام. وخرج المنصور فلما بلغ الكوفة وخرج حتى بلغ البستان ، اجتمع أصحابه إليه وقالوا له : فهل بقي شيء بعد هذا؟! وخرج البطائني بنفسه للحجّ فلما بلغ المنصور إلى

__________________

(١) فوات الوفيات ٢ : ١٤٠ ، والأعلام للزركلي ٣ : ٨٢١.

(٢) والذي استخرجته وحققته وعلّقت عليه ونشر بعنوان : وقعة الطف لأبي مخنف.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٨٠ ، واليعقوبي ٢ : ٣٩٠.

٤٢٢

بئر ميمون في أول الحرم كان الإمام عليه‌السلام قد حجّ ، قال البطائني : فأتيته فوجدته ساجداً طويلاً ثمّ رفع رأسه إليّ وقال لي : اخرج فانظر ما يقول الناس. فخرجت فسمعت الواعية على أبي جعفر المنصور ، فعُدت إليه وأخبرته فقال : الله أكبر! ما كان ليرى بيت الله أبداً (١).

وكان المنصور قد عهد إلى ابنه محمّد الذي لقّبه بالمهديّ ، واصطحبه معه من بغداد إلى الكوفة ، وفي الطريق في قصر عبدويه انقضّ كوكب فتطيّر ، وأحضر ابنه المهديّ وأوصاه بوصاياه بالمال والسلطان ، وعزّة أهل بيته وكرامتهم ، والتكاثر من مواليه ، والتحذير من تدخل النساء في أمره ، ثمّ ودّعه. ثمّ سار إلى الكوفة وكلّما سار منزلاً اشتدّ وجعه (٢).

وكانت علّته من بطنه. وهو أوّل خليفة قرّب المنجّمين وعمل بأحكام النجوم (٣) ، وأوّل من تُرجمت له الكتب من العجمية والسُريانية كإقليدس وكليلة ودَمنة! وهو أوّل من استكثر من الموالي واستعملهم على الأعمال وقدّمهم على العرب ، وكان أمر ولد عليّ والعباس قبله واحداً فكان هو أوّل من أوقع الفرقة بينهم (٤) حتّى قال له عمّه عبد الصمد بن علي العباسي : لقد هجمتَ بالعقوبة حتّى كأ نّك لم تسمع بالعفو؟! فقال : لأنّ آل أبي طالب لم تُغمد سيوفهم ، ونحن بين قوم قد رأونا بالأمس سوقة واليوم خلفاء ، فلا تتمهّد هيبتنا في صدورهم إلّاباستعمال العقوبة ونسيان العفو (٥)!

__________________

(١) قرب الأسناد : ٢٦٤ ، الحديث ١٢٥٩.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٢٣.

(٣) والناس على دين ملوكهم ، فانتشر في الناس ذلك ، ولذا انتشر عن الصادق عليه‌السلام النهي عنه.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣١٨ ، ٣٢٦.

(٥) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٢٣ عن ابن عساكر.

٤٢٣

هذا ، وقد روى عنه عن أبيه عن جدّه عن ابن عباس عن النبيّ عن الله قال : «وعزّتي وجلالي لأنتقمنّ من الظالم في عاجله وآجله! ولأنتقمنّ ممّن رأى مظلوماً يقدر أن ينصره فلم يفعل»! وعنه عن النبيّ قال : «كلّ سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلّاسببي ونسبي» (١)!

وكان معه الفضل بن الربيع حاجبه ، وكان قد نهاه أن لا يدخل أحد من العامة منازله في الطريق فبعث إليه في منزل وهو في قبّة مبنية ووجهه إلى الحائط وقال له : ألم أنهك أن تدع العامة يدخلون هذه المنازل فيكتبوا فيها ما لا خير فيه؟! قال : وما هو يا أمير المؤمنين! قال : أما ترى المكتوب على الحائط :

أبا جعفر حانت وفاتك ، وانقضت

سنوك ، وأمر الله لابدّ نازل

أبا جعفر ، هل كاهن أو منجّم

يردّ قضاء الله؟ أم أنت جاهل!

قال : قلت له : والله ما أرى على الحائط شيئاً! قال : إذاً هي نفسي نُعيت إلى الرحيل ، فبادر بي إلى الحرم. فرحلنا وقد ثقل حتّى بلغنا بئر ميمون بداخل الحرم (٢) فمات بها من مكة قبل يوم التروية بيوم السبت لستّ أو سبع من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومئة ، وله أربع وستون سنة (٣) ، وأملى وصيّة طويلة لابنه المهديّ (٤) ومات قبل السحر ، وحُمل إلى مكة ، وصلّى عليه عيسى بن موسى العباسي ، وحفروا له مئة قبر ليعمّوا على الناس ، ودُفن في غيرها (في باب

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي عن الصولي : ٣٢٧ وفيه عنه : أن النبيّ كان يتختّم في يمينه!

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٠٧.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٨٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٢ ـ ٣٩٤.

٤٢٤

المصلّى) ولإحرامه دُفن مكشوف الرأس (١) وخلّف ستمئة ألف ألف (مليون) درهم وأربعمئة عشر ألف ألف (مليون) دينار ، وكان مع هذا ممسكاً وينظر فيما لا ينظر فيه العوام وخلّف بنتاً وستة أبناء (٢) وكان طويلاً أسمر نحيفاً خفيف العارضين ، يخضب بالسواد ، لا يبالي أن يحفظ ملكه بهلاك غيره ، وما خلّف من الأموال لم يجتمع مثله لخليفة قبله ولا بعده ، وهو تسعمئة ألف ألف (مليون) وستون ألف ألف (مليون) واستوزر خالد بن برمك. ثمّ أبا أيوب الخوزي المورياني وكان مولاه الربيع حاجبه ثمّ استوزره (٣) وبموته بمكة اطلق سفيان الثوري وعبّاد بن كثير من الحبس (٤).

ومن مواليه حمّاد التركي قال : سمع المنصور جلبةً في بعض دوره فقال لي : انظر ما هذا؟ فذهبت فإذا بعض غلمانه جالساً وحوله الجواري وهو يضرب لهنّ بالطنبور وهنّ يضحكن! فأخبرته ، فسألني : وما الطنبور؟ فوصفته له ، فسأل : وما يدريك؟ قلت : كنت رأيته بخراسان. فقام يمشي إليهنّ فلمّا رأينه تفرّقن ، فأمر أن يضرب بالطنبور على رأس الغلام حتّى تكسّر ، وباعه! فلم يُر في داره شيء من العبث واللهو واللعب (٥) ظاهراً!

فلم يكن يظهر لندمائه بشرب ولا غناء بل يجلس وبينه وبين الندماء ستارة ، وبينهم وبينها عشرون ذراعاً ، وبينها وبينه كذلك (٦).

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٢٣.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٠٨.

(٣) التنبيه والإشراف : ٢٩٥ ـ ٢٩٦.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣١٨ ، وقال : دُفن بين بئر ميمون والحجون.

(٥) تاريخ مختصر الدول : ١٢٣.

(٦) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٢٥ عن الصولي عن إسحاق الموصلي.

٤٢٥

ولما مات المنصور أنفذ الربيع وصيّته إلى المهدي مع مولاهم مَنارة فأوصلها إليه في اثني عشر يوماً وأخذ الربيع البيعة له على من حضر من القوّاد والهاشميين العباسيّين (١).

المهديّ بعد أبيه المنصور :

وأحضر المهدي القوّاد والهاشميين العباسيّين وأصحابهم فبايعوه ، وقرأ عليهم وصيّة أبيه وهي طويلة ، وأظهر جزعاً عليه ، ووفدت الوفود عليه تعزّيه. وعاد الربيع لأوّل المحرم لعام (١٥٩ ه‍) ومفاتيح الخزائن معه وكان المنصور قد قبض من كثير من الناس أموالهم فأمر المهدي الربيع بإحضار دفتر القبوض ، فوجّه إلى كل من كان أبوه قبض شيئاً من ماله استحضرهم لمنتصف المحرم حيث جلس للناس عامة ، وقال لهم : هذه أموالكم مبارك لكم فيها! فحلّلوا أمير المؤمنين! من إبطائها عنكم! ثمّ أمر بإخراج من في المحابس من «الطالبيين» وغيرهم من سائر الناس ، ووصلهم وكساهم. وكان في الحبس من أيام السفاح عبد الله بن مروان الحمار ، فأخرجه وأعطاه عشرة آلاف درهم وخلّاه (٢).

المهدي ومظلمة فدك :

ويظهر من خبر رواه الكليني كأنّ الكاظم عليه‌السلام كان قد قصد المهديّ بعد المنصور :

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٤.

٤٢٦

روى بسنده عن علي بن أسباط قال : لما ورد أبو الحسن عليه‌السلام على المهديّ ورآه يردّ المظالم ، قال له : يا أمير المؤمنين ؛ فما بال مظلمتنا لا تُرد؟ فقال : وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال : إنّ الله تبارك وتعالى لما فتح على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فدك وما والاهما ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، أنزل على نبيّه : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ (١)) فلم يدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مَن هم؟ فراجع جبرئيل وراجع جبرئيل ربّه فأوحى الله إليه : أن ادفع فدك إلى فاطمة.

فدعاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لها : يا فاطمة ، إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك. فقالت : قد قبلت ذلك يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلمّا ولّى أبو بكر أخرج عنها وكلاءها ، فأتته فسألته أن يردّها عليها فقال لها : ايتيني بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك! فجاءت بأمير المؤمنين عليه‌السلام وأُمّ أيمن فشهدا لها. فكتب لها بتركه لها.

فخرجت والكتاب معها ، فلقيها عمر فسألها : ما هذا معك يا بنت محمّد؟ قالت : كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة! فقال : أرينيه. فأبت ، فانتزعه من يدها ونظر فيه فتفل فيه ومحاه وخرّقه!

فقال المهدي : يا أبا الحسن حُدّها لي. فقال : حدّ منها جبل احد ، وحدّ منها عريش مصر ، وحدّ منها سِيف البحر ، وحدّ منها دومة الجندل! فقال له : كل هذا؟! قال : نعم ، فإنّ هذا كلّه مما لم يُوجَف عليه بخيل ولا ركاب! فقال : هذا كثير ، وسأنظر فيه (٢) فهي مسألة فيها نظر! ثمّ لم يرد ما قلّ أو كثر.

__________________

(١) الإسراء : ٢٦ ، وهي مكية ، ويحتمل أنّها انزلت تذكيراً بها.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٥٤٣ ، باب الأنفال والفيء والخمس وحدوده ، الحديث ٥.

٤٢٧

أحداث المهدي وبعض المحدّثين وحديثه :

كان العهد من السفّاح بعد المنصور لعيسى بن موسى العباسي ، فاشتراه منه المهديّ بعشرة آلاف درهم! فبايع لابنه موسى ثمّ لابنه هارون بعد موسى (١) وبسط يده في العطاء فأذهب كل ما خلّفه له أبوه المنصور وهو ستمئة ألف ألف (مليون) درهم وأربعة عشر ألف ألف (مليون) دينار! وقيل : إنّه فرّق في عشرة أيام من صلب ماله! عشرة آلاف ألف (مليون) درهم (٢).

وأظنّ أن الربيع لما أَطلق سفيان بن سعيد الثوري التميمي البصري من حبسه بعد المنصور ، أمره أن يأتي خليفته المهدي ببغداد فيسلّم عليه ، فأتاه ولكنّه لم يسلّم عليه بالخلافة بل سلّم تسليم العامّة! فأقبل المهدي عليه بوجه طلِق وقال له : يا سفيان! تفر منّا هاهنا وهاهنا تظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك؟! فقد قدرنا عليك الآن ، أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا؟!

فقال سفيان : إن تحكم فيّ يحكم فيك ملك قادر يفرق بين الحق والباطل! هذا والربيع قائم على رأس المهدي متكّئ على سيفه يرقب أمره! فقال له : يا أمير المؤمنين! ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟! ائذن لي أن أضرب عنقه! فقال المهدي : ما يريد هذا وأمثاله إلّاأن نقتلهم فنشقى بسعادتهم! ولكن اكتب له بالقضاء في الكوفة! فكتب عهده ودفعه إليه ، فأخذه وهرب فلم يوجد حتّى توفي بالبصرة سنة (١٦١ ه‍) (٣).

وكأنّه استدعى قاضي الكوفة السابق شريك بن عبد الله النخعي ليحدّث أولاد المهدي ويعلّمهم ، فأبى أولاً ، ثمّ لما أكل من مأكلهم قبل بذلك ، بل بلغ به

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٥.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣١٢ ـ ٣١٣.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

٤٢٨

الحال أن قال الفضل بن الربيع : كتب بأرزاقه إلى الجهبذ (المحاسب) فضايقه في النقص ، فقال له الجهبذ : إنك لم تَبع بَزّاً! فقال شريك : بلى والله لقد بعت أكبر من البزّ ، لقد بعت ديني (١)!

كما باع دينه لدنيا المهدي العباسيّ : غياث بن إبراهيم المحدّث لما علم أن المهديّ يحبّ سبق الحمام ، فحدّثه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا سبق إلّا في حافر أو نصل» وزاد فيه : «أو جناح» فأمر له المهدي بعشرة آلاف درهم! فلمّا قام وأدبر ليخرج نظر المهديّ إلى قفاه وقال له : أشهد أنّ قفاك قفا كذّاب (٢)!

وحدّث المهديّ هو عن أبيه عن جده عن ابن عباس : أنّ وفداً من العجم (الفُرس من اليمن عن أمر كسرى) قدموا على النبيّ وقد أحفَوا لحاهم وأعفوا شواربهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «خالفوهم : اعفو لحاكم وأحفوا شواربكم» ثمّ فسّر الشوارب قال : أخذ ما سقط منها على الشفة ، ولعلّه كان يمتثل ذلك.

وخطب فقرأ فيها قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ... (٣)) فاستنّها الخطباء إلى اليوم ، فهو أوّل من سنّ ذلك.

المهدي وآل زياد بالبصرة :

هلك المنصور وعلى البصرة سعيد بن دعلج ، فولّاها المهدي : عبد الملك بن أيوب النُميري ، ونقل ابن دعلج إلى سجستان (٤) فلمّا عهد إلى ابنه هارون

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣١١.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٣٢.

(٣) الأحزاب : ٥٦.

(٤) تاريخ خليفة : ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٤٢٩

الرشيد عهد بولاية البصرة إليه (١) وكان آل أبي بكرة بالبصرة ينتمون بالنسب إلى ثقيف ، وبالولاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بنُفيع بن مسروح أحد مواليه ، هذا وأبناء عمومتهم آل زياد ينتمون إلى امية من قريش (٢).

وكان على ديوان المظالم للمهدي : مولاه سلام (٣) فتقدم إليه رجال من آل أبي بكرة فيهم الحكم بن سمرقند بظلامة ، فقدّمهم إلى المهدي ، وتقربوا إليه بولائهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لهم المهدي : إنّ هذا اعتزاء (نسبة) ما تقرّون به إلّا عند حاجة تعرض لكم وعند اضطراركم للتقرب به إلينا! فقال الحكم : يا أمير المؤمنين ، فإنّا نسألك أن تردّنا معشر آل أبي بكرة إلى نسبنا من ولاء رسول الله ، وتأمر بآل زياد بن عُبيد (الثقفي) فيخُرجوا من نسبهم الّذي ألحقهم به معاوية (من أُمية) رغبة عن قضاء رسول الله : «إنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر» فيُردّوا إلى نسبهم من عُبيد في موالي ثقيف!

وقوّى ذلك أنّه قدم عليه رجل من آل زياد يسمّى الصُغدي بن سلم بن حرب! وقال للمهدي : أنا ابن عمّك! وانتسب إلى زياد! فغضب المهدي وقال له : يابن سُميّة الزانية! متى كنت ابن عمّي؟! وأمر به فوجِئ في عنقه واخرج.

وكان ممن حضره موسى بن عيسى بن موسى (العباسي) والتفت المهدي اليهم وسألهم : من عنده علم عن آل زياد؟ فما كان عندهم شيء من ذلك ، ونهض الناس. ولحق موسى بن عيسى برجل عالم بهم فسأله عنهم فأخبره خبرهم ، فطلب منه أن يكتبه له ليذهب به إلى المهدي ففعل ذلك.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ١٣٠.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ١٢٩.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٩٢.

٤٣٠

فأمر المهديّ ابنه هارون الرشيد أن يكتب إلى والي البصرة يأمره أن يخرج آل زياد من ديوان قريش بل والعرب ، وأن يعرض ولد أبي بكرة على ولاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فمن أقرّ منهم تركه ، ومن انتمى إلى ثقيف اصطفى ماله! وأن يجعل الممتحِن منهم والمستبرئ لما عندهم : الحكم بن سمرقند (١).

فكتب بذلك إلى عبد الملك بن أيوب النُميري القيسي ، فكره أن يخرج أحد من قومه قيس إلى سواهم ، فلم ينفّذه (٢)! فعزله وولّى محمّد بن سليمان العباسي (٣) وكتب إليه كتاباً في آل زياد وأمره أن يقرأ في المسجد على جماعة الناس ، وكان في نسخة الكتاب ما يلي :

أما بعد ، فإنّ أحقّ ما حمل عليه ولاة المسلمين أنفسهم وخواصّهم وعوامهم في أُمورهم وأحكامهم ، هو العمل بينهم بما في كتاب الله والاتباع لسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والصبر على ذلك والمواظبة عليه والرضا به فيما وافقهم وخالفهم ، للذي فيه من إقامة حدود الله ومعرفة حقوقه واتباع مرضاته ، وإحراز جزائه وحسن ثوابه ، ولما في مخالفة ذلك والصدود عنه وغلبة الهوى لغيره من الضلال والخسار في الدنيا والآخرة!

وقد كان من رأي معاوية بن أبي سفيان في استلحاقه زياد بن عُبيد عبد آل علاج من ثقيف ، وادّعائه ما أباه بعد معاوية عامة المسلمين وكثير منهم في زمانه ، لعلمهم بزياد وأبي زياد وأُمه ، من أهل الرضا والفضل والورع والعلم. ولم يدعُ معاوية إلى ذلك ورع ولا هدى ولا اتباع سنّة هادية ، ولا قدوة من أئمة الحق ماضية ، إلّاالتصميم على مخالفة الكتاب والسنة والعُجب بزياد في جَلده ونفاذه!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ١٢٩ ـ ١٣٠.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ١٣٢.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٨٣ ، ٢٩٠.

٤٣١

وما رجا من معونته ومؤازرته إياه على باطل ما كان يركن إليه في سيرته وآثاره وأعماله الخبيثة! ولقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وقال : «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً» (١).

ولعمري ما وُلد زياد في حجر أبي سفيان ولا على فراشه ، ولا كان عُبيد عبداً لأبي سفيان ولا سُميّة أمة له ولا كانا في ملكه ولا صارا إليه لسبب من الأسباب (المملّكة) ... فخالف معاوية بقضائه في زياد واستلحاقه إياه وما صنع فيه وأقدم عليه (خالف) أمر الله «جلّ وعزّ» وقضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتّبع في ذلك هواه ، رغبة عن الحق ومجانبة له ، وقد قال الله عزوجل: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنْ اللهِ إِنَّ اللهَ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢)).

وقد رأى أمير المؤمنين! أن يردّ زياداً ومن كان من ولد امّهم إلى نسبهم المعروف ، يلحقهم بأبيهم عُبيد وأُمهم سميّة ، ويتّبع في ذلك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وما أجمع عليه الصالحون وأئمة الهدى ، ولا يجيز لمعاوية ما أقدم عليه مما يخالف كتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فاعلم أن ذلك رأي أمير المؤمنين! في زياد وما كان من ولد زياد ، فألحقهم بأبيهم زياد بن عُبيد وامهم سُميّة واحملهم عليه ، وأظهره لمن قِبلك من المسلمين حتّى يعرفوه ويستقيم فيهم. وإن أمير المؤمنين! قد كتب بذلك إلى قاضي البصرة وصاحب ديوانهم ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. كتبه معاوية بن عبيد الله (٣) سنة تسع وخمسين ومئة.

__________________

(١) الصرف : التوبة ، والعدل : المعادل فدية وكفارة.

(٢) القصص : ٥٠.

(٣) الأشعري الطبراني من طبرية الأُردن من الشام. التنبيه والإشراف : ٢٩٧.

٤٣٢

فلمّا وصل الكتاب إلى محمّد بن سليمان وقّع بإنفاذه (١) في آل أبي بكرة ، فعرضهم الحكَم بن سمرقند ، فأقرّوا بالولاء ، إلّاثلاثة نفر فاصطفيت أموالهم (٢) إلّافي الغائبين منهم (٣) ورشوهم آل زياد فتركوهم (٤)!

وفتحوا باربَد وأفنوهم! :

في سنة (١٦٠ ه‍) تطوع نحو ألفين من أهل البصرة مع عبد الملك بن شهاب المسمعي لغزو الهند في البحر ، فتوجّه مع المتطوّعة معه في مراكبهم إلى بَلد باربَد من الهند ، وبعد وصولهم بيوم نهضوا إليهم ، وهم وثنيّون يعبدون وثناً لهم يُدعى بَدّ ، فناهضوهم ، فأقاموا عليها يومين ونصبوا عليها المنجنيقات حتّى دخلت خيلهم عليهم من كل ناحية حتّى ألجؤوهم إلى معبدهم ، فأشعلوا فيها النيران بالنفط (محمولاً معهم من البصرة) فاحترق منهم من احترق حتّى قتلوا جميعاً! وغنموا فيئهم وسبوا سبيهم. وأقاموا إلى أن يطيب البحر لركوبهم ، فأصابهم داء في أفواههم حتّى مات منهم ألف! ثمّ لما أمكنهم الرجوع انصرفوا حتّى بلغوا بعض سواحل بحر فارس فعصفت عليهم ريح ليلاً فكسرت عامة مراكبهم ، فغرق بعض ونجا بعض ، فقدموا بسبيهم إلى البصرة على الوالي محمّد بن سليمان العباسي (٥).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ١٣٠ ـ ١٣٢.

(٢) المصدر السابق ٨ : ١٣٠.

(٣) المصدر السابق ٨ : ١٢٩.

(٤) المصدر السابق ٨ : ١٣٠.

(٥) المصدر السابق ٨ : ١٢٨.

٤٣٣

البَرم بخراسان ، واليشكري بالجزيرة :

في سنة (١٦٠ ه‍) خرج بخراسان يوسف البَرم بعسكر معه ، وكان على العسكر في خراسان سعيد بن سلَم بن قتيبة فقاتله حتّى هزمه واستباح معسكره (١) وفضّوا جموعه وحملوه إلى المهدي فصلبه (٢).

وخرج في باجرما (الشام ـ العراق) عبد السلام بن هاشم اليشكري الهمْداني بعسكره إلى نصيبين ، (في شمال العراق) وكان على خراجها المنهال بن عمران الكلابي فدفع بعشرين ألفاً من خراجها إلى اليشكري فشكره وانصرف عنها إلى رأس العين وفيها بنو تميم فمنعوه ، فأخذ إلى آمد فتلقاه عيسى بن موسى الخراساني فانهزم عسكر اليشكري ثمّ تراجعوا فانهزم عسكر عيسى وقُتل ، فكتب المهدي إلى عامل الجزيرة داود الربذي ومعه ألف رجل ، وأعانه الأتراك فساروا إلى اليشكري فقتلوهم.

وفي أثناء ذلك كتب المهدي إلى اليشكري قال : إني قد عجبت من إحداثك وبغيك ... مع شتمك أبا الحسن علي بن أبي طالب ووقوعك فيه وتَنقّصك إياه وولايتك من عاداه! فالله عصيت ونبيّه عاديت ؛ فقد أتاك حديث صادق عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» فكنت المكذّب بذلك والحائد عنه ... فاعمل لنفسك أو دع.

وأجابه اليشكري : من عبد السلام بن هاشم إلى محمّد بن عبد الله! سلام على من اتّبع الهدى .. وقد علمت أني إنّما حكّمتُ حين تركتَ الأُمة تائهة مائجة ، لا حدودَها أقمتَ ولا حقوقها أدّيتَ ، اشتغلت بإمائك وتنوّقت (تأنّقت)

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٨٣.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٢٦.

٤٣٤

في بنائك ، تغدو مع البُزاة والفهود والجنائب والكتائب لإدمان صيدك ، فإذا انثنيت من صيدك دخلت بَهوك فتغدّيت وغنّيت! فسبحان الله ما أفحش هذا ممن يدّعي خلافة الله (١)!

ونقل السيوطي عن الصولي عن المغنّي إبراهيم الموصلي قال : كان المهدي في أوّل أمره إلى سنة على ما كان عليه أبوه المنصور يحتجب عن الندماء ، ثمّ ظهر لهم وقال : إنّما اللذّة مع مشاهدتهم (٢) فكان أوّل من ظهر لهم من بني العباس (٣).

وهو أوّل من أمر بتصنيف كتب الجدل للردّ على الملحدين والزنادقة وتتبّعهم وأفنى منهم خَلقاً كثيراً (٤).

تسليم موسى بن عبد الله الحسني :

مرّ صدر خبر الكليني عن موسى بن عبد الله الحسني في صدر أخبار أخيه الأكبر محمّد الحسني ، وبقي ذيله لعهد المهدي العباسي. فيظهر من الخبر : أن أخبار إطلاق السجناء من قِبل المهدي بعد المنصور وصلت إلى مسامع موسى الحسني قال : فكنت شريداً طريداً تضيق عليَّ البلاد ، فلمّا ضاقت عليَّ الأرض واشتدّ بي الخوف ذكرت ما قال لي أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : فجئت إلى المهدي وقد حجّ (عام ١٦٠ ه‍) وهو يخطب الناس في ظلّ الكعبة ، فما شعر إلّاوأني قمت من تحت المنبر فقلت له : يا أمير المؤمنين! لي الأمان وأدلك على نصيحة لك عندي؟ قال : نعم ، ما هي؟ قلت : أدلك على موسى بن عبد الله بن الحسن

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٣٣.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٢٥.

(٤) المصدر : ٣٢٨.

٤٣٥

(المثنّى) فقال لي : نعم ، لك الأمان. فقلت له : أعطني ما أثق به. فأخذت منه عهوداً ومواثيق وتوثّقت لنفسي ثمّ قلت : أنا موسى بن عبد الله! فقال لي : إذاً تُكرم وتُحبا! فقلت له : حوّلني إلى بعض أهلك يقوم بأمري عنك. فقال : انظر من تريد؟ فقلت : عمّك العباس بن محمّد العباسي. فقال العباس : لا حاجة لي فيك. فقلت : ولكن لي فيك حاجة فأسألك بحقّ أمير المؤمنين إلّاقبلتني! فقبلني شاء أو أبى. وقال لي المهدي : من يعرفك؟ فقلت : هذا موسى بن جعفر (عليه‌السلام فكان حاضراً) وهذا الحسن بن زيد الحسني ، وهذا الحسن بن عبد الله بن العباس يعرفونني ، فقالوا له : نعم وكأنه لم يغب عنّا.

قال موسى : وهنا كذبتُ على جعفر (الصادق عليه‌السلام) كِذبة! قلت : يا أمير المؤمنين! ولقد أخبرني بهذا المقام أبو هذا (موسى بن جعفر عليه‌السلام) وأمرني أن أقرئك السلام وقال : إنّه إمام عدل وسخاء!

قال موسى : فأمر لموسى بن جعفر بخمسة آلاف دينار! فوصل بها عامة أصحابه ووصلني وأحسن صلتي حيث أمر لي منها بألفي دينار!

ثمّ قال موسى الحسني : فحيث ما ذكر وُلد محمّد بن علي بن الحسين (الباقر عليه‌السلام) فقولوا : صلّى الله وملائكته وحملة عرشه والكرام الكاتبون عليهم ، وخُصّوا أبا عبد الله الصادق بأطيبِ ذلك ، وجزى الله موسى بن جعفر عليه‌السلام عنّي خيراً ، فأنا والله بعد الله مولاهم (١)!

وعليه فالكاظم عليه‌السلام حجّ مع حجّ المهدي العباسي في أوائل أمره سنة (١٦٠ ه‍) وحضر خطبته في المسجد الحرام وقبل صلته ووصل بها عامة أصحابه ، وخصّ مسبّبها موسى الحسني بصلة خاصّة ، ولم ينكر عليه جهراً كذبه على أبيه

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٣٦٥ ، ٣٦٦ ، الحديث ١٧.

٤٣٦

الصادق عليه‌السلام بوصف المهدي بالعدل والسخاء ، ولعلّه أنكرها سرّاً ، بل لعلّ قائلها أقرّ له بكذبه كما أقرّ في هذا الخبر. بل لعلّ الكاظم عليه‌السلام هو الذي أشار على المهدي برفع بناء المقاصير من المساجد الجوامع ، وتقصير منابرها بمقدار منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما مرّ خبرها.

بين الكاظم عليه‌السلام وأبي يوسف :

يظهر من خبر للصدوق : أن القاضي أبا يوسف كان مع المهدي العباسي ، ولعلّه كان في هذه السفرة حيث قال للإمام : اريد أن أسألك عن شيء. قال : هات. قال : ما تقول في التظليل للمُحرم؟

قال : لا يصلح. قال : فيضرب خباءه فيدخل فيه؟ قال : نعم. قال : فما فرقٌ بين هذا وذاك؟

فقال الكاظم عليه‌السلام : ما تقول في الطامث تقضي الصلاة؟ قال : لا. قال : فتقضي الصوم؟ قال : نعم. قال : ولِمَ؟ قال : إنّ هذا جاء هكذا. فقال الإمام : وكذلك المحرم ، فأُسكت أبو يوسف فقال له المهدي : ما أراك صنعت شيئاً! قال : يا أمير المؤمنين! رماني بحجّة (١).

المهدي والكعبة والمسجدان :

كانت أستار الكعبة تُجدّد دون أن يُرفع الستار السابق ، فلكثرة أستارها خاف سدنتها عليها الانهدام ، فلمّا حجّ المهدي سنة (١٦٠ ه‍) أنهوا إليه ذلك ، فأمر فجُردّت واقتصر على كسوته (٢).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٥ ، الحديث ٨٨.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٢٩.

٤٣٧

قال اليعقوبي : وكساها القُباطي والخزّ والديباج ، وطلّى جدرانها من أعلاها إلى أسفلها بالمسك والعنبر. ولم تكن في وسط المسجد ، فاشترى من مجاوريها دورهم ومنازلهم وهدمها وزادها في المسجد وصيّر الكعبة في الوسط. وكتب إلى عامله على مصر مولاه واضح أن يحمل ما يُحتاج إليه من الذهب والفسيفساء وسلاسل القناديل والآلات فيسلّمها إلى محمّد بن عبد الرحمن ويقطين بن موسى (أبي علي بن يقطين) فحُمل في البحر من مصر : أربعمئة وأربع وثمانون اسطوانة بطول عشرة أذرع ، وبنى في المسجد أربعمئة طاق وثمانية وتسعين طاقاً! وجعل أبواب المسجد ثلاثة وعشرين باباً! وصار بين الصفا والمروة سبعمئة وأربع وخمسون ذراعاً! وبنى المعلمَين الذَين يُسعى بينهما بالهرولة بين الصفا والمروة. وصار طول المسجد من باب بني جُمح إلى باب بني هاشم إلى العلَم الأخضر : أربعمئة ذراع وأربع أذرع ، وصار مجموع الذرع المكسّر للمسجد : مئة وعشرين ألف ذراع! من باب بني شيبة إلى الكعبة ستون ذراعاً ومن الكعبة إلى باب الصفا تسعون ذراعاً.

وفي المدينة وسّع مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ضعف ما كان عليه ، وكذلك حمل إليه عُمد الرخام والفسيفساء والذهب ، ورفع سقفه ، وألبس خارج القبر الرخام (١).

وبقيت دار امتنع أربابها على يقطين بن موسى أن يبيعوها لتربيع المسجد الحرام ، ولم يجوّز الفقهاء ذلك. فقال له علي بن يقطين : يا أمير المؤمنين! لو كتبت إلى موسى بن جعفر عليه‌السلام لأخبرك بوجه الأمر في ذلك.

فكتب إلى والي المدينة : أن سل موسى بن جعفر عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع علينا صاحبها ، فكيف المخرج عن ذلك؟ فقال له

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

٤٣٨

الإمام عليه‌السلام : اكتب : إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى ، وإن كان الناس هم النازلون بفنائها فهي أولى بفنائها. فلمّا وصل الكتاب إليه وقرأه قبله وأمر بهدم الدار. فأتى أهل الدار إلى الإمام عليه‌السلام وسألوه أن يكتب لهم إلى المهدي كتاباً في ثمن دارهم. فكتب إليه أن : ارضخ لهم شيئاً. فأرضاهم (١).

مناوشات الروم

في سنة (١٦١ ه‍) خرج من الروم البطريرك ميخائيل بعسكره من ناحية درب الحَدث ، فأتى على قرية عقَبة حرْتَنا فظفر بأهلها ، ثمّ أتى قرية غزران فقتل منهم وسبى ثمّ أحرقها بالنار! ثمّ أتى قرية مرعش وفيها مرابطون فخرجوا وقاتلوه فلم يعمل شيئاً ، وأتى إلى جيحان فلحقه ملالة بن حكمة فلحقه بالدرب بمن معه ، فقُتلوا جميعاً.

وفي سنة (١٦٢ ه‍) غزاهم الحسن بن قحطبة الطائي فأتى بطنة ومنها بثّ سراياه ، فسبوا منهم وهدموا وحرقوا ، ووجّه ابنه محمّد بن الحسن إلى عمورية ثمّ لحقه هو بجمعه فكانت بينهم مناوشات ثمّ انصرفوا.

وفي سنة (١٦٣ ه‍) غزاهم هارون الرشيد فأصاب غنائم وسبايا وانصرف عنهم (٢).

وفي سنة (١٦٤ ه‍) غزاهم عبد الكبير العدوي فانهزم ، فحبسه المهدي.

وفي سنة (١٦٥ ه‍) غزاهم هارون الرشيد حتّى بلغ خليج القُسطنطينية (٣) وكان ملكهم لاوان وهلك وابنه صغير فملكت أُمه ايريني امرة لاوان ، فلمّا بلغها

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠ : ٢٤٥ عن تفسير العياشي.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٨٧ ـ ٢٨٩.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٨٨ ـ ٢٨٩ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٦.

٤٣٩

أن المسلمين بلغوا إلى الخليج جزعت وطلبت الصلح من الرشيد ، فجرى بينهم الصلح على الفدية ، وأن تقيم له الأسواق والأدلّاء لطريقهم ، ومقدار الفدية لكل سنة سبعون ألف دينار ، فأجابته إلى ذلك ، ورجع عنها (١).

وفي الأعوام التالية :

وفي سنة (١٦٧ ه‍) أمر المهدي عبد الحميد بن الضحاك بأخذ الفداء من الروم (على ما مرّ من قرار الفدية).

وفي سنة (١٦٨ ه‍) أمر المهدي علي بن سليمان العباسي ببناء قلعة الحدَث بالثغر فبناها (٢).

ووجّه المهدي رسلاً إلى الملوك يدعوهم إلى الطاعة ، فدخل أكثرهم في طاعته ، منهم ملك طبرستان : الاصبهبد ، وملك طخارستان : شروين ، وملك فرغانة وملك أشروسنة أفشين ، وملك كابل وملك باميان : شيرو ، وملك السُغد : الإخشيد ، وملك الترك : طرخان ، وملك التغز : خاقان ، وملك التبّت ، وملك الصين فغفور ، وملك سجستان : رتبيل ، وملك السند : الرآن ، وملك الهند : فور.

وخرج إلى بيت المقدِس ، فلمّا صار في قِنّسرين وفيها قبائل تنوخ من قُضاعة ، وهم يدّعون أنهم أخوال المهدي فقدّموا إليه هدايا وهم نصارى ، فقال لهم : لا أرضى عنكم حتّى تسلموا فأسلموا ، وارتدّ أحدهم فقتل فثبتوا.

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول لابن العبري الملطي : ١٢٦ ويقول : ولو كانت ذات همة لأمكنها محاصرة المسلمين ومنعهم من الخروج والفتك بهم!

(٢) تاريخ خليفة : ٢٨٩ ـ ٢٩٠.

٤٤٠