موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

حتّى نهكت الرعيّة وجهِدت ، فإن رأيت أن ترفق بها وترفّه عليها وتخفّف من خراجها ما تقوى به على عمارة بلادها فافعل ، فإنّه يستدرك ذلك في العام المقبل.

فقال له سليمان : هبلتك امّك؟ إحلب الدَرّ ، فإن انقطع فاحلب الدم (١). أو : احلب الدَرّ حتّى ينقطع ، واحلب الدم حتّى ينصرم! ثمّ قال : هذا اسامة لا يرتشي ديناراً ولا درهماً!

فقال له عمر بن عبد العزيز : أنا أدلّك على من هو شرّ من اسامة ولا يرتشي ديناراً ولا درهماً! قال سليمان : ومَن هو؟ قال : هو عدو الله إبليس! فغضب سليمان حتّى قام من مجلسه (٢)!

والمرّة الثانية : ما نقله السيوطي عن الإصفهاني : أنّ عمر بن عبد العزيز في مشورته لسليمان كان يشير عليه أن لا يقتل الخوارج وإنّما يحبسهم رجاء توبتهم ، فقال أحدهم لسليمان : يا فاسق ابن فاسق! فدعا سليمان بعمر ليسمعه ثمّ قال له : فماذا ترى عليه؟ فلمّا عزم عليه قال : أرى أن تشتمه كما شتمك! فأبى سليمان وأمر بقتله (٣).

والثالثة : ذكروا أنّ غلماناً لسليمان نازعوا غلماناً لعمر بن عبد العزيز ، فتعدّى غلمان عمر على غلمان سليمان ، فرفعوا ذلك إلى سليمان وأوغروه على عمر ، فقال له سليمان غاضباً : ألا تُنصف غلماني؟! فاعتذر عمر قال : ما سمعت بهذا إلّافي مقامي هذا وما علمت به قبل هذا الوقت. فقال سليمان : كذبت لقد علمته! فقال عمر : أنا كذبت؟! والله ما كذبت ولا تعمّدت كذباً منذ شددت مئزري على نفسي. وإنّ في الأرض عن مجلسك لسعة! ثمّ خرج عمر وتجهّز للسفر إلى

__________________

(١) الوزراء والكتّاب للجهشياري : ٣٢.

(٢) النجوم الزاهرة ١ : ٢٣٢.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٨٦ عن حلية الأولياء للإصفهاني.

٢١

مصر! فبلغ ذلك سليمان فندم على ما كان من قوله وأرسل إليه رجلاً يقول له : لا تعاتب أمير المؤمنين على قوله ولا تذكر له هذا. فترك عمر الخروج ولكنّه أقلّ الاختلاف إلى سليمان (١).

وقد مرّ الخبر عن السيوطي عن الإصفهاني : أنّ الوليد كان قد عزم على خلع أخيه سليمان من عهد أبيه ، فأبى عمر بن عبد العزيز وصمّم على ذلك فطيّن عليه الوليد يريد موته ، فعرفها له سليمان (٢) واحتمله واستوزره ثمّ عهد إليه لذلك.

ولا نجد تفصيل عهد سليمان إلّاعند ابن قتيبة ، ونجد فيه القول بالقدر بمعنى الجبر قال فيه : وإنّ المقادير كلّها خيرها وشرّها من الله ، وإنّه هو الهادي وهو الفاتن ، لم يستطع أحد مَن خلقه الله لرحمته غواية ، ولا لمن خلقه لعذابه! هداية ... وإنّ سليمان كانت له بلايا وسيّئات لم يكن له عنها محيص! ولا دونها مقصر! بالقدر السابق والعلم النافذ في محكم الوحي (٣)! أجل ، فلمّاذا يعتذر من بلاياه وسيّئاته ولمن؟!

واستخلف عمر بن عبد العزيز :

في قرية حُلوان بمصر ، من ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ، وُلد لعبد العزيز بن مروان والي مصر ولد سمّاه باسم جدّه لُامه عمر ، حُفّظ القرآن وهو صغير ، وشجّته دابّة في جبهته وهو غلام فأصبح أشجّ بني مروان. وبعثه أبوه

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١١٠.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٧٤ ـ ٢٧٥ عن حلية الأولياء لأبي نعيم الإصفهاني.

(٣) الإمامة والسياسة ٢ : ١١٢ ـ ١١٥.

٢٢

إلى المدينة ليتأدّب بها فكان يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة مسعود الهُذلي ابن أخ عبد الله بن مسعود يسمع منه علم الحديث. فكان صالحاً إلّاأ نّه كان يبالغ في التنعّم ، فكانوا لا يعيبونه إلّابالإفراط في التنعّم والاختيال في مشيته (١).

ولذا روى الصفّار بسنده عن عبد الله التميمي : أنّ عمر بن عبد العزيز كان من أمجن (٢) الناس وهو شاب ، فمرّ وعليه نَعلان على شراكهما فضّة! وكنت مع علي بن الحسين عليه‌السلام فنظر إليه وقال لي : يا عبد الله بن عطاء أترى هذا المترف! إنّه لن يموت حتّى يلي الناس! قلت : إنّا لله! هذا الفاسق؟! قال : نعم! لا يلبث إلّا يسيراً حتّى يموت ، فإذا مات لعنه أهل السماء واستغفر له أهل الأرض (٣)!

ولمّا كان بمصر قبل أن يصرفه أبوه إلى المدينة كان يرى أباه يخطب فيمضي في خطبته حتّى يأتي على النيل من علي عليه‌السلام فيتلجلج ويقصّر في الأمر ، فسأل أباه عن ذلك! فقال له : أو فطنت لذلك؟ قال : نعم! فقال : يا بُني ،

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٧٣ ـ ٢٧٤ ، وفي شرح النهج للمعتزلي ١٩ : ٣٤٣ : كان يجعل المسك على قدميه ونعليه! وفي مروج الذهب ٣ : ١٨٦ : عن المدائني قال : كان يُشترى لعمر الحُلّة بألف دينار فلا يستحسنها وإذا لبسها استخشنها!

(٢) كذا في مناقب آل أبي طالب ٤ : ١٥٥ مرسلاً ، وفي سائر المصادر : أحسن ، وأجمل!

(٣) بصائر الدرجات للصفّار القمي (٢٧٩ ه‍) : ١٧٠ ، الحديث ٤ ، الباب ٢ وهو أقدم مصدر وليس فيه إلّاهذا عن عبد الله بن عطاء التميمي عن السجاد عليه‌السلام وليس عن الباقر عليه‌السلام ، وكذلك في دلائل الإمامة : ٨٨ مسنداً ، والمناقب كما مرّ مرسلاً ، وفي الخرائج والجرائح ٢ : ٥٨٤ ، الحديث ٤ كذلك. وقبله في ١ : ٢٧٦ ، الحديث ٧ عن أبي بصير (المكفوف) ولكنّه خبر موصوف فيه عمر بن عبد العزيز وفيه : هذا الغلام! وهذا لم يكن إلّافي عهد السجاد عليه‌السلام قبل عزله عن المدينة سنة (٨٦ ه‍) ويقول : يعيش أربع سنين في الحكم! وكان حكمه أقل من ثلاث سنين. فهو غير صحيح وخبر السجاد عليه‌السلام هو الصحيح.

٢٣

إنّ الذين حولنا لو يعلمون من علي ما نعلم تفرّقوا عنّا إلى أولاده (١)!

هكذا جاء الخبر عنه أبتر بلا سؤال منه لأبيه عمّا يعلم من علي عليه‌السلام ، ولذا جاء عنه أيضاً : أنّه كان مستمراً على شيء من ذلك في علي عليه‌السلام لما كان بالمدينة يلازم عُبيد الله بن عبد الله الهُذلي ، فبلغ ذلك عنه إلى شيخه عُبيد الله فلمّا حضره قال له : متى علمت أنّ الله غضب على أهل بدر وبيعة الرضوان بعد أن رضي عنهم؟! قلت : لم أسمع ذلك. فقال : فما هذا الذي بلغني عنك في علي؟! فقلت : معذرة إلى الله وإليك! ثمّ تركت ذلك (٢).

وبتفصيل أكثر قال : كنت غلاماً أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود (كذا!) فمرّ بي يوماً وأنا مع الصبيان ألعب وألعن عليّاً! ودخل المسجد ، فتركت الصبيان وتبعته لأدرس عليه وردى ، فلمّا رآني قام فصلّى وأطال ، فلمّا انفتل من صلاته التفت إليّ كالحاً في وجهي! فقلت له : ما بالُ الشيخ؟! فقال لي : يا بني ، أنت اللاعن علياً اليوم! قلت : نعم! قال : فمتى علمت أنّ الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟! فقلت : وهل كان علي من أهل بدر؟! فقال : ويحك! وهل كانت بدر إلّا له! فقلت له : لا أعود! فقال : الله ؛ لا تعود! قلت : نعم ، ولم أعد بعدها (٣)!

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٥ : ٢٠. وشرح النهج للمعتزلي ١٣ : ٢٢١.

(٢) الكامل في التاريخ ٥ : ٢٠.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٥ : ٥٨ ـ ٥٩ مرسلاً ، ثمّ قال : وكنت أحضر منبر المدينة وأبي يخطب الجمعة وهو يومئذ أمير المدينة ، فكنت أسمعه يمرّ في خطبه تهدر شقاشقه حتّى يأتي إلى لعن علي فيجمجم ويعرض له من الحصر والفهاهة ما الله عالم به! فقلت له يوماً : يا أبت أنت أفصح الناس وأخطبهم! فما بالي أراك إذا مررت بلعن هذا الرجل صرت ألكن عييّاً! فقال : يا بني ، إنّ من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم ، لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتّبعنا منهم أحد!

٢٤

ولمّا توفى أبوه عبد العزيز بن مروان بمصر على عهد عبد الملك (٨٦ ه‍) طلبه عبد الملك إلى دمشق وزوّجه ابنته فاطمة (١) وكان العهد من مروان لعبد الملك ثمّ لعبد العزيز ولكنّه مات قبله ، فكأنّ هذا التزويج من عبد الملك كان دفعاً للتهمة عن نفسه أو تطييباً لخاطر عمر. وكان قد عمل لفاطمة ثوباً منسوجاً بالذهب منظوماً بالدرر واليواقيت أنفق عليه مئة ألف دينار (٢)! وأمر عمر أن تُسرج تلك الليلة سُرجه بالغالية بدل الدهن حتّى طلوع الشمس (٣).

سنُّ سبِّ علي عليه‌السلام ، ومنعُه :

من أقبح ما يذكر في تاريخ معاوية سنّه سبّه لعلي (٤) ، كان في آخر خطبة

__________________

قال : فوقرت كلمته في صدري مع ما كان قاله لي معلّمي ، فأعطيت الله عهداً : لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لُاغيّرنه.

ولم نجد ـ فيما بأيدينا ـ في المدينة ذكراً لولاية عبد العزيز بن مروان ، ولذلك قدّمنا ما قرّرناه ، وقد مرّ عن السيوطي : أنّ عمر كان قد حفظ القرآن في مصر ثمّ أرسله أبوه إلى المدينة ، فلم يكن صبيّاً يقرأ القرآن على عبيد الله بن عبد الله بل علم الحديث ، وهو كان من ملازمي ابن عباس في الحديث لا القرآن ، ولنا أن نتمثل هذا القدر من تشيّع الرجل من تتلمذه على ابن عباس فهو مصدر الأثر فيهما.

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٧٤.

(٢) الإمامة والسياسة ٢ : ١١٦.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١٩ : ٣٤٣.

(٤) الفكر السامي ١ : ٢٧٦ في ترجمة معاوية ، وقال : ولولا أنّه في صحيح مسلم ما صدّقت بوقوعه منه! ثمّ اعتذر له بعدم العصمة! كما عنه في دروس في فقه الإمامية للدكتور الشيخ الفضلي ١ : ٧٩.

٢٥

الجمعة يقول : «اللهمّ إنّ أبا تراب قد ألحد في دينك! وصدّ عن سبيلك! فالعنه لعناً وبيلاً وعذّبه عذاباً أليماً»! وكتب بذلك إلى الآفاق! فكانت هذه الكلمات يُشار بها على المنابر إلى خلافة عمر بن عبد العزيز (١) أمّا قبل خلافته فحتّى هو في ولايته أو إمارته على المدينة لم يذكر عنه ترك لذلك في خطبه ، على رغم ما زعمه عن معلّمه وأبيه ، ولعلّه ليأسه من موافقتهم بل خوفه من بأسهم.

أمّا علي عليه‌السلام فقد كان يتعالى عن مثل هذا الإسفاف في خُطبه ، بل نقل عنه الصدوق أنّه عليه‌السلام كان في آخر خطبه يتلو هذه الآية : «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (٢) ويسبقها بدعاء المغفرة للمؤمنين والمسلمين ، ويفتتحها بقوله : «الحمد لله نحمده ونستعينه ونؤمن به ونتوكّل عليه ونشهد أن ...» (٣).

وعمر بن عبد العزيز لمّا تولّى شايع علياً عليه‌السلام في خطبه يفتتحها بقوله : «الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونسغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلله فلا هادي له ، وأشهد أن ...» (٤) وترك لعن علي عليه‌السلام على المنابر وجعل مكانه : «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِاخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ» (٥) أو : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى ...) أو جعلهما جميعاً ،

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٤ : ٥٦ عن الجاحظ.

(٢) النحل : ٩٠.

(٣) كتاب من لا يحضره الفقيه ١ : ٤٣٢ في صلاة الجمعة.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٨٧ عن الإصفهاني في حلية الأولياء.

(٥) الحشر : ١٠.

٢٦

فاستعمل الناس ذلك في الخطبة (١) فحلّ هذا الفعل عند الناس محلاً حسناً وأكثروا بسببه مدحه (٢) ومنهم الخزاعي قال :

وليت فلم تشتم علياً ، ولم تُخف

بريّاً ، ولم تتبع سجيّة مجرم!

وقلت فصدّقت الذي قلت بالذي

فعلت ، فأضحى راضياً كلّ مسلم (٣)

ونقل المعتزلي عن عمر قال : وقرت كلمة أبي في عليّ عليه‌السلام في صدري مع ما قاله معلّمي لي أيّام صغري ، فأعطيت الله عهداً : لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لُاغيّرنّه! فلمّا منّ الله عليَّ بالخلافة أسقطت ذلك وجعلت مكانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى ...) وكتبت بذلك إلى الآفاق فصار سنّة (٤) أو لم يعلم أنّ علياً عليه‌السلام قد سبقه في ذلك! وأن حفيده الباقر عليه‌السلام قد أقره فيما قرّره (٥) ولم يذكر في الخبر أنّه تقرير لأيّهما.

ولم يحلّ هذا العمل عند الكلّ محلاً حسناً ، بل لمّا كفّ عمر عن شتم علي عليه‌السلام قال الناس : ترك السنة (٦)! واستصغر أمره الجاحظ بقوله : إنّهم كانوا

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٨٤ ، ومناقب آل أبي طالب ٣ : ٢٥٧ ، واليعقوبي ٢ : ٣٠٥ ، وفي السيوطي : ٢٩٠.

(٢) الكامل في التاريخ ٥ : ٢٠.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٠٥ ، وفي الأغاني ٩ : ٢٥٨ ، ومناقب آل أبي طالب ٣ : ٢٥٧ ، وشرح النهج للمعتزلي ٤ : ٥٩ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ١٧٢ ، والخزاعي هو المعروف بكثير عزّة والذي كان كيسانياً.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٤ : ٥٩.

(٥) وسائل الشيعة ٧ : ٣٤٢ ، الحديث الأوّل ، باب ٢٥ ، عن الكافي ٣ : ٤٢٢.

(٦) شرح النهج للمعتزلي ١٣ : ٢٢٢ عن الزهري ، وفي مناقب آل أبي طالب ٣ : ٢٥٧ : قالها عمرو بن شعيب.

٢٧

يلعنون علياً عليه‌السلام على منابرهم ، وكان شتم علي عليه‌السلام عادة لهم ، فلمّا نهى عمر عن ذلك عُدّ محسناً ومُدح من كفّ عنه ، وجعلوه بما نقص من تلك الامور الفضيعة في عداد الأئمة الراشدين (١).

وكأنّه لم يكتفِ بالكفّ عن سبّه عليه‌السلام بل قال بتفضيله وأولويته بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيما رواه الكلبي قال : إنّ ميمون بن مهران التابعيّ (٢) رفع إلى عمر قضيّة اختصام أب المرأة وزوجها في وقوع طلاقها لأنّه حلف بطلاقها (٣) أنّ علياً عليه‌السلام خير هذه الامة وأولاها برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فجمع عمر بن عبد العزيز بني أُمية وبعض بني هاشم وفيهم بعض أبناء عقيل بن أبي طالب (؟) ثمّ سأل أباها وزوجها عن حلفه فقال : نعم! فنظر بنو أُمية إليه شزراً ونظروا في وجه عمر. فقال لهم ما تقولون؟ فقال أحدهم : هذا حكم في فرج فلسنا نجترئ على القول فيه. قال له : قل ما عندك فإنّ القول جائز (نافذ) عليّ في مجلسي ما لم يحقّ باطلاً أو يبطل حقّاً! فقال : لا أقول شيئاً! فالتفت عمر إلى الرجل من بني عقيل وقال له : فما تقول أنت وقولك وحكمك ماضٍ! فقال : برّ قسمه ولم تطلق امرأته! فقال عمر : وأ نّى علمت ذلك؟

قال : يا أمير المؤمنين ، نشدتك الله! ألم تعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لفاطمة وهو عائد لها : ما تشتهين؟ قالت : نعم أشتهي عنباً! فقال : اللهمّ ائتنا به مع أفضل امتي منزلة عندك! فطرق الباب علي ودخل ومعه مكتل تحت ردائه. فسأله عنه فقال : عنب التمسته لفاطمة! فكبّر رسول الله مرّتين ، ثمّ دعا : اللهمّ كما سررتني بأن خصصت علياً بدعوتي فاجعل فيه شفاء بنيّتي! ثمّ قال لها : كلي على اسم الله يا بنية! فأكلت ، فما خرج رسول الله حتّى برأت واستقلّت!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٥ : ٢٥٦ عن الجاحظ ، ويلاحظ شروع مصطلح الأئمة الراشدين.

(٢) انظر ترجمته في قاموس الرجال ١٠ : ٣٢٧ برقم ٧٩٠٩ ، وفي حلية الأولياء ٤ : ٩٢ ـ ٩٦.

(٣) وهذه من البوادر الاولى للحلف بالطلاق.

٢٨

فقال له عمر : أشهد لقد سمعته ووعيته فصدقت وبررت! ثمّ قال لزوجها : يا رجل خذ بيد امرأتك ، فإن عرض لك أبوها فاهشم أنفه! فمضى الرجل بامرأته. وكأنّما ألقم بني امية حجراً. وكتب بذلك إلى ميمون بن مهران (١).

والخبر عن الكلبي الكوفي النسّابة (م ٢٠٤ ه‍) ومع ذلك لم ينسب الرجل من ولد عقيل من هو؟ ولا اريد بذلك أن اشكّك في صحّة الخبر ، إلّاأنّ الحديث النبويّ فيه شاذّ غريب ، وبمعناه الحديث الطير المشويّ المستفيض ، فكان البرهان به أقوى وأولى. ومع ذلك لا نجد أيّ تعقيب عليه من الأمويين الحاضرين. ولا أظنّ بالكلبيّ شيئاً ، أجل أحتمل أن يكون عمر قد افتعل الخبر لأمر خير.

ونلفت النظر إلى أنّ عمر أفاد من الخبر أنّ علياً عليه‌السلام خير هذه الامة ليس فحسب ، بل وأولاها برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن لم يكن الخبر هذا نصّاً جليّاً فيه فقد روى عنه النصّ الجليّ فيه :

فقد روى الأمويّ الإصفهاني مسنداً عن يزيد بن عيسى بن مورق الهاشميّ بولاء جدّه مورق لعليّ عليه‌السلام ما يشير إلى معرفته بولاء عمر لعلي عليه‌السلام قبل ولايته ، قال : لمّا ولى عمر بن عبد العزيز دخلت عليه في قرية خناصرة (٢) ، فسألني : مَن أنت؟ قلت : مولى علي! فوضع يده على صدره وقال : أنا والله مولى علي! ثمّ أسند فقال : أشهد على عدد ممّن أدرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يقولون : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» (٣).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي عن الكلبي ٢٠ : ٢٢٢ ـ ٢٢٥.

(٢) الخناصرة : قصبة كورة من أعمال حلب نحو البادية تحاذي قِنّسرين ، كما في معجم البلدان.

(٣) الأغاني ٨ : ١٥٦.

٢٩

وكأنّ رفعه للعن علي عليه‌السلام استتبع أنّ بلغه أن قوماً تنقّصوا منه لذلك ، فخطبهم وقال : حدّثني غزال بن مالك الغِفاري عن امّ سلمة قالت : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عندي إذ أتاه جبرئيل فناداه (وحادثه) فتبسّم ضاحكاً. فسألته : ما أضحكك؟ قال : «أخبرني جبرئيل أنّه مرّ بعليّ وهو نائم قد بدى بعض جسده قال : فرددت عليه ثوبه ، فوجدت برد إيمانه وصل إلى قلبي» (١).

وكأنه بولغ لديه في زهد بعض الصحابة فقال : ما علمنا أحداً في هذه الامة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أزهد من علي بن أبي طالب (٢).

فدك وفاطمة عليها‌السلام والمظالم :

كما روى عمر بن عبد العزيز الحديث النبوي في ولاية علي عليه‌السلام ، كذلك روى حديثه في ابنته فاطمة عليها‌السلام لبني امية ولعمرو بن قيس السكوني (٣) الكندي قائد الصائفة في جماعة من أهل أنطاكية (٤) لما وصلوا إليه وعاتبوه على عزمه على ردّ فدك على ولد فاطمة عليها‌السلام قال لهم :

إنّكم جهلتم وعلمت ، ونسيتم وذكرت ؛ إنّ أبابكر بن محمّد بن عمرو بن حزم حدّثني (يوم كنت بالمدينة) عن أبيه محمّد بن عمرو ، عن جده عمرو بن حزم الأنصاري : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «فاطمة بَضعة منّي! يسخطني ما أسخطها ويرضيني ما أرضاها» وإنّ فدك كانت صافية على عهد أبي بكر ، ثمّ صار أمرها

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٢٦٩ عن النطنزي والخطيب الخوارزمي.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٠٨ ـ ١٠٩ عن كتاب اللؤلؤيّات.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٠٨.

(٤) تاريخ خليفة : ٢٠٤ ، وفي الشافي ٤ : ١٠٢ ، وتلخيصه ٣ : ١٢٨ : أهل الكوفة! غلطاً.

٣٠

إلى مروان ، فوهبها لأبي عبد العزيز ، فورثتها أنا وإخواني فسألتهم أن يبيعوني حصّتهم منها فمنهم من باعها ومنهم من وهبها لي حتّى استجمعتها ، فرأيت أن أردّها على ولد فاطمة.

فقالوا : فإن أبيت إلّاهذا فأمسك الأصل واقسم الغَلّة! فقبل بهذا.

هذا وقد نصب عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن حزم والياً على المدينة فكتب إليه : إذا ورد عليك كتابي هذا فاقسم (غلّة فدك) في ولد فاطمة من علي عليه‌السلام (١).

__________________

(١) الشافي في الإمامة ٤ : ١٠٢ وتلخيصه ٣ : ١٢٧ ـ ١٢٨ عن محمّد بن زكريا الغلّابي البصري بسنده. ولم يسمّ كتاباً ، وقد أكثر الخبر عنه الجوهري البصري في كتاب السقيفة وفدك ، كما عنه في شرح النهج للمعتزلي ، وفيه ١٦ : ٢١٦ عنه بسنده أيضاً قال : كان أبو بكر يأخذ غَلّتها فيدفع إليهم ما يكفيهم ويقسم الباقي ، وعمر كذلك ، وعثمان كذلك ، وعلي عليه‌السلام كذلك (والحسن عليه‌السلام كذلك) وبعد موت الحسن (عليه‌السلام صادرها معاوية) فأقطع ثلثها لمروان بن الحكم وثلثها لعمرو بن عثمان ، وثلثها لابنه يزيد ، ثمّ خلصت لمروان فوهبها لابنه عبد العزيز .. فلمّا ولّى عمر بن عبد العزيز كانت أوّل ظُلامة ردّها على الحسن بن الحسن (المثنّى). وهو غير صحيح ، بل الصحيح ما مرّ أعلاه (وانظر وقارن بتاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٧٧ عن مغيرة).

وكذلك لا يصحّ ما في المسترشد في الإمامة للطبري الإمامي : ٥٠٣ : ردّ على الباقر عليه‌السلام فدكاً ، فقيل له : طعنت على الشيخين! قال : هما طعنا على أنفسهما!

ولعلّه اختزل ما نقل في كشف الغمة ٢ : ٢٤٢ : قيل له : نقمت على أبي بكر وعمر فعلهما وطعنت عليهما ونسبتهما إلى الظلم والغصب! وهم علماء السوء من مشايخ أهل الشام وقريش ، فقال لهم : قد صحّ عندي وعندكم : أنّ فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ادّعت فدكاً وكانت في يدها ، وما كانت لتكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! مع شهادة علي وامّ أيمن وامّ سلمة. وفاطمة عندي صادقة في ما تدّعي وإن لم تُقم البيّنة ، وهي «سيّدة نساء أهل الجنة»

٣١

نقل ذلك المرتضى في «الشافي» وعنه تلميذه الطوسي في تلخيصه ، بلا زيادة ولا تعيين لمبلغ الغلّة ، وقد روى الطوسي في «الأمالي» بسنده عن ابن عقدة عن ابن اسحاق عن ابن حزم : أنّ عمر كتب إليه : أن زِد ستة آلاف دينار على غلّة فدك : أربعة آلاف دينار ، فاقسمها في بني هاشم من ولد فاطمة خاصة (١).

وكأنّ هذا هو ما اختصره المسعودي فقال : كتب إلى عامله بالمدينة : أن اقسم في وُلد علي بن أبي طالب عشرة آلاف دينار. فكتب إليه : إنّ علياً قد وُلد له في عدة قبائل من قريش. ففي أيّ من وُلده؟! فكتب إليه : لو كتبت إليك في شاة تذبحها لكتبت إليَّ : سوداء أم بيضاء! إذا أتاك كتابي هذا فاقسم في ولد علي من فاطمة «رضوان الله عليها» عشرة آلاف دينار ، فطالما تخطّتهم حقوقهم! والسلام (٢).

فقال له أخوه سهل بن عبد العزيز : إنّ هذا منك طعن على الخلفاء قبلك! فأجابه عمر : دَعني ؛ فإنّي لمّا كنت على المدينة سمعت أنّ النبيّ قال : «من آذى فاطمة فقد آذاني» وسألت عنه حتّى علمته (٣).

__________________

فلو كنت بدل أبي بكر وادّعت فاطمة كنت اصدّقها على دعواها ، فأنا اليوم أردّها على ورثتها أتقرّب بذلك إلى رسول الله وأرجو أن تكون فاطمة والحسن والحسين يشفعون لي يوم القيامة. فسلّمها إلى الباقر عليه‌السلام. ولكنّه قال : ردّها بغلّاتها ، فهو الصحيح فقط وليس برقبتها.

(١) أمالي الطوسي : ٢٦٦ ، الحديث ٢٨ ، المجلس ١٠.

(٢) مروج الذهب ٣ : ١٨٤ ـ ١٨٥.

(٣) الملاحم والفتن لابن طاووس : ١١٩ عن كتاب حماد بن عثمان عن الصادق عليه‌السلام.

٣٢

أو قال له أخوه : إنّ بني امية لا ترضى منك أن تفضّل عليهم بني فاطمة! فأجابه : بل افضّلهم ؛ لأنّي سمعت حتّى لا ابالي أن لا أسمع ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول : «إنّما فاطمة شُجنة (شعبة غصن) منّي ، يسرّني ما أسرّها ، ويسوءني ما أساءها» فأنا أبتغي سرور رسول الله وأتّقي مساءته (١) فوالله إنّي لحقيق أن أطلب رضا رسول الله ، ورضاه ورضاها في رضا ولدها (٢).

وروى الإربليّ مرفوعاً قال : لمّا استخلف عمر بن عبد العزيز خطب فقال : أيّها الناس ، إنّي أردّ عليكم مظالمكم! وإنّ أوّل ما أردّ منها ما كان في يدي : قد رددت فدك على ولد رسول الله وولد علي بن أبي طالب (٣) ففي البداية كانت هذه الكلمة ثمّ انتهت إلى ردّ غلّاتها عليهم دون الرقبة كما مرّ ذلك.

قال : وقيل : إنّه حمل من بيت المال سبعين حِملاً من الفضة والذهب والعين من مال الخمس سهم رسول الله وسهم ذوي القربي فردّها على بني هاشم ، سلّمها إلى محمّد بن علي بن الحسين وعبد الله بن الحسن ، ممّا حازه أبو بكر وعمر وبعدهما عثمان ومعاوية ويزيد وعبد الملك ، فاستغنى بنو هاشم في تلك السنين وحسنت أحوالهم (٤).

__________________

(١) قرب الاسناد : ١٠٧ ، وط ٢ : ١٧٢ بسنده عن الصادق عن أبيه الباقر عليه‌السلام ، وعليه المعوّل وليس على ما جاء في الخصال ١ : ١٠٥ : أن عمر زار المدينة فزاره الباقر عليه‌السلام ووعظه فردّ عليه فدك.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٨٠.

(٣) كشف الغمة ٢ : ٢٤٢. وبهامشه مصادر عديدة.

(٤) كشف الغمة ٢ : ٢٤٣ ، وردّ الخمس في المناقب ٢ : ٢٣٩. بل وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٠٥.

٣٣

ثمّ عمّم ردّ المظالم ، فأخرج سجلّات عبد الملك بكثير من الإقطاعات بالأملاك والضياع ، وأمر المنادي فنادى : الصلاة جامعة ، وأمر مولاه مزاحم بحمل الكتب معه إلى المسجد ، وجاء ومعه مقصّ! فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّ هؤلاء (الخلفاء) قد كانوا أعطونا عطايا ما كان ينبغي لهم أن يعطوناها! وما كان ينبغي لنا أن نأخذها منهم. وإنّي قد رأيت أنّه ليس عليّ الآن في ذلك دون الله! وقد بدأت بنفسي والأقربين من أهل بيتي. ثمّ التفت إلى مولاه مزاحم وقال له : اقرأ يا مزاحم. فجعل مزاحم يقرأ كتباً فيها إقطاعات بالضياع والنواحي فيأخذها عمر فيقصّها بالمقصّ بيده ، وهكذا إلى نداء الظهر (١).

أسند هذا الخبر المعتزليّ في موضع وقال في موضع آخر : لمّا أفضت الخلافة إليه أخرج بمحضر من الناس سجلّات عبد الملك بكثير من الأملاك لأبيه عبد العزيز ، وقال لهم : هذه كتبت من غير أصل شرعي ، فأنا اعيدها إلى بيت المال ، ثمّ مزّقها بمحضرهم! قال : وذلك أنّ أباه عبد العزيز كان قد ملك بولاية مصر وغيرها في سلطان أخيه عبد الملك ضياعاً كثيرة بمصر والشام والعراق والمدينة ، من غير طاعة الله! ثمّ تركها لابنه عمر. فكان عمر ينفق منها في وجوه البرّ والقربات إلى الله! إلى أن أفضت الخلافة إليه فأفضى بها إلى بيت المال (٢).

ومنها جوهر جليل لم يكن لأحد مثله! وهبها عبد الملك لابنته فاطمة في عَرسها بعمر ، فقال لها : اختاري إمّا أن تردّي جوهرك وحليّك إلى بيت مال المسلمين ، وإمّا أن تأذني لي في فراقك! فإني أكره أن اجتمع بكِ وبه في بيت واحد! فاختارته وأمرت به فحُمل إلى بيت المال (٣) بلا تفصيل لتلك الحليّ والحلل.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٧ : ٩٩.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٢٠ : ٧٤ وتمامه : فكان يقال له : السعيد ابن الشقي.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١٧ : ٩٩ مسنداً.

٣٤

وقد مرّ عن ابن قتيبة : أنّ عبد الملك كان قد عمل لابنته فاطمة لعرسها ثوباً منسوجاً بالذهب منظوماً بالدرر واليواقيت أنفق عليه مئة ألف دينار! قال : فقال عمر لها : اختاريني أو اختاري الثوب الذي عمله لك أبوكِ ، فإن اخترتِ الثوب فلست بصاحبك! وإن اخترتني فإنّي آخذ الثوب فأجعله في آخر بيت المال ، فإن وصلتُ إليه أنفقته في مصالح المسلمين فإنّما هو من أموال المسلمين أُنفِقت فيه ، وإن بقي الثوب ولم أحتج إليه فلعلّ مَن يأتي بعدي يردّه عليكِ! فقالت له : يا أمير المؤمنين افعل ما بدا لك (١).

وكأنّ عبد الملك لم يكن يُملّك النساء من العقار شيئاً ، وكأنّه قد سجّل ذلك في سجلّ كتبه في ذلك ، فجاء بعض نساء الخلفاء إلى سليمان بن عبد الملك تطلب ميراثاً من العقار ، فأجابها سليمان : ما إخال النساء يرثن من العقار شيئاً! وكان عمر حاضراً فقال له : سبحان الله! وأين كتاب الله! فقال سليمان لغلامه ، يا غلام ، اذهب فائتني بسجلّ عبد الملك الذي كتب في ذلك .. فقال له عمر : لكأ نّك تحضر لي المصحف! وكان أيوب بن سليمان وليّ عهد أبيه حاضراً وهذا قبل موته فقال لعمر : والله ليوشكنّ الرجل يتكلّم عند أمير المؤمنين بمثل هذا الكلام فلا يشعر حتّى يفارقه رأسه! فأجابه عمر : إذا أفضى الأمر إليك وإلى أمثالك كان ما يدخل على الإسلام أشدّ من هذا القول! ثمّ قام فخرج (٢).

فعمر بن عبد العزيز لم يكن في هذا على مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، ولكنّه لم يكن يسجد إلّاعلى التراب (٣) ، فكأ نّه في ذلك على مذهب شيعة

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١١٦. ولعلّ النقل السابق مجمل عن هذا المفصَّل ، فلم يتكرّر.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٨ : ١٤٤ ، وأشار إلى توريثهن في عهد عمر ، اليعقوبي ٢ : ٣٠٦.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١١ : ١٩٥ مرسلاً.

٣٥

أبي تراب عليه‌السلام ، كما كان كذلك في حكم سهام الأخماس كما مرّ ، وكما كان على تحريم الطِّلاء (النبيذ) (١).

وكانت زوجته فاطمة قد أسمت ابنها باسم أبيها عبد الملك ، وكأنّه كان يستعجل على أبيه لردّ المظالم ، فقال له أبوه عمر : إنّ أهل بيتك هم أهل العدّة والعدد وقِبلهم ما قِبلهم ، فلو جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشارهم (ثورتهم) عليّ ، ولكنّي انصف في كلّ يوم للرجل والاثنين فيكون أنجع له (٢).

وذات يوم تفرّغ لهم وأفهمهم ما قاله لابنه ، قال يوماً لحاجبه : لا تدخلنّ علي اليوم إلّامروانياً ، فلمّا اجتمعوا قال : يا بني مروان ، إنّي لأحسب ثلث أموال هذه الامة أو ثلثيها في أيديكم ، فقال أحدهم : والله لا يكون ذلك حتّى يُحال بين رؤوسنا وأجسادنا! والله لا نكفّر أسلافنا ولا نُفقر أولادنا! فقال لهم عمر بعذره : والله لولا أن تستعينوا عليَّ بمن أطلب هذا الحقّ له لأضرعت خدودكم! ثمّ قال لهم : قوموا عنّي (٣).

وكان عبد العزيز أوّل مرواني أقرّ لأوّل مرّة بمرّ الحقّ على عثمان أنّه آثر نفسه وأهله بأموال المسلمين قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قُبض وترك الناس على نهر مورود .. ثمّ وليه ثالث فكرى منه ساقية لنفسه وأهله ، فلم يزل الناس بعده يكرون منه السواقي حتّى تركوه يابساً لا قطرة فيه (٤).

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٧٩ عن ابن سيرين.

(٢) شرح النهج للمعتزلى ١٧ ٩٨ عن الاخبار الموفقيات لابن بكار ونحو السيوطى ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

(٣) شرح النهج للمعتزلى ١٧ ١٠٣

(٤) شرح النهج للمعتزلى ١٧ ١٠٣ ١٠٤ قالها لعمته عاتكة بنت مروان.

٣٦

فكأنّه غرّ هذا بعضهم فتناول من معاوية ، فضربه عمر ثلاثة أسواط (١) مع أنّه لم يسلّم لمعاوية تسليمه حكمه لابنه يزيد ، فلم يكن يرتضي له لقب أمير المؤمنين ... بل لمّا ذكره عنده رجل فقال : قال أمير المؤمنين يزيد بن معاوية! فقال له عمر : تقول : أمير المؤمنين! وأمر به فضرب عشرين سوطاً (٢)!

وليسير بسيرة علي عليه‌السلام في الصدقات (الزكوات) كتب إلى واليه أو قاضيه على المدينة أبي بكر بن محمّد بن عمر بن حزم الأنصاري أن يرسل إليه بكتاب صدقة علي عليه‌السلام ، وكان يومئذ زيد بن الحسن أكبرهم فبعث ابن حزم إليه يسأله ذلك فقال له : إنّ الوالي بعد علي كان الحسن ثمّ الحسين ثمّ علي بن الحسين ثمّ محمّد بن علي ، فابعث إليه. فبعث ابن حزم إلى أبي جعفر فأرسل أبو جعفر به مع ابنه جعفر حتّى دفعه إليه (٣) فأرسله إلى عمر.

وعمر بن عبدالعزيز هو الذي وقف على كتاب علي عليه‌السلام إلى محمّد بن أبي بكر بمصر ، في خزائن بني مروان لمّا تولّى ، فهو الذي أظهر أنّها من أحاديث علي عليه‌السلام ، وإلّا فمعاوية كان يقول : هذه من كتب أبي بكر كانت عند ابنه محمّد! نقله المعتزليّ عن الثقفي وقال : الأليق أن يكون ذلك هو عهد علي عليه‌السلام إلى الأشتر (٤)

عمر بن عبد العزيز وولاية خراسان :

في تصفح عمر بن عبد العزيز كتب سليمان بن عبد الملك وجد كتاباً

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : عن ابن ميسرة.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

(٣) اصول الكافي ١ : ٣٠٥ ـ ٣٠٦ بثلاثة طرق ، وقارن بتاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٧٦ عن الزهري و ٢٨٨ عن البُرجمي.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٧٢ عن الثقفي.

٣٧

ليزيد بن المهلّب الأزدي والي خراسان إلى سليمان ، يذكر له فيه : أنّه اجتمع عنده عشرون ألف ألف (مليون). وكأن ابن المهلّب كان يعرف أنّه معزول ، فحمل كلّ ما كان له واستخلف ابنه مخلّداً وصار إلى البصرة وعليها عديّ بن أرطاة عامل عمر ، وقد سبقه كتاب عمر إليه أن يبعث إليه ابن المهلّب ، فأوصل عديّ إليه كتاب عمر فقال : سمعاً وطاعة فحمله إليه مستوثقاً منه. فلمّا وصل إليه قال له : إنّي وجدت لك كتاباً إلى سليمان تذكر فيه أنّه اجتمع عندك عشرون ألف ألف (مليون) فأين هي؟ فأنكر ذلك ثمّ قال : دعني أجمعها لك! قال : تأخذها من الناس مرّة اخرى؟! لا ولا نُعمى عين.

ثمّ ولّى عمر الجرّاح بن عبد الله الحكمي على خراسان وأمره أن يحمل إليه مخلّد المهلّبي ، فحمله إليه ، وكان مخلّد قد انتشرت عنه أخبار عيشته المترفة حتّى بلغت عمر ، وبلغ مخلّداً تغيّر عمر إلى عيشة زاهدة ، فتغيّر مخلّد ودخل على عمر بثياب مشمّرة وقلنسوة بيضاء كالعبّاد الزهّاد! فقال له عمر : هذا خلاف ما بلغني عنك! فقال : أنتم الأئمة إذا أسبلتم أسبلنا وإذا شمّرتم شمّرنا!

وقدمت على الجرّاح في خراسان وفود من التبّت من نواحي الصين يسألونه أن يبعث إليهم من يعرض عليهم الإسلام ، فوجّه إليهم السليط بن عبد الله الحنفي التميمي.

وبلغ عمر عن الجرّاح أنّه يظهر العصبية (العربية) فهو يُغزى الموالي (الفرس) بلا عطاء ، ومن أسلم منهم يأخذ منهم الجزية على بدعة بني امية ، فكتب عمر إليه أن : استخلف عبد الرحمن بن نُعيم الغامدي وأقدم. ففعل ذلك. وكتب عمر إلى عبد الرحمن بعهده على خراسان (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٠١ ـ ٣٠٢.

٣٨

عمر والشعر والشعراء :

كان الخلفاء قبل عمر قد عوّدوا الشعراء ومنهم جرير الخطفي ، يتعاهدونه بالجوائز والصلات : أربعة آلاف دينار وتوابعها من الحملان والكسوة! فقدم على عمر أوّل ما استخلف ، فرأى الناس من قريش وبني امية وغيرهم لا يدخلون ولا يصِلون ، حتّى قدم عون بن عبد الله الهُذلي وكان من خيار الناس وعبّادهم وعليه جبّة صوف (/ بداية التصوّف) وعمامة صوف قد أسدلها من خلفه ، فجعل يتخطّى رقاب الناس من قريش وبني امية وغيرهم ، لا يُمنع ولا يُحجب حتّى دخل على عمر وخرج.

فلمّا خرج توسّل به جرير بأبيات ، فعاد عون إلى عمر ليستأذن له وهو يخاف أن لا يسلم من هجوه! فلمّا علم عمر بذلك أذن له فأنشده شعره ، ثمّ قال له عمر : يا جرير ، ارفع إلينا حاجتك! فقال جرير : هي ما عوّدتني الخلفاء قبلك. قال : وما هي؟ قال : أربعة آلاف دينار وتوابعها من الحملان والكسوة! فقال عمر : أأنت من أبناء المهاجرين؟ قال : لا. قال : أفمن أبناء الأنصار؟ قال : لا. قال : أمن فقراء المسلمين؟ قال : نعم! قال : فأكتب لك إلى عامل بلدك أن يُجرى عليك ما يُجرى على فقرائهم! قال : أنا أرفع من هذا! فوصله بأربعة دنانير من نفقته الخاصّة! فقال : وأين تقع منّي هذه يا أمير المؤمنين! قال : إنّها من خالص مالي ولقد أجهدت لك نفسي!

فلمّا خرج سأله الناس : ما وراءك؟ قال : جئتكم من عند خليفة يعطي الفقراء ويمنع الشعراء (١).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١١٦ ـ ١١٨. وجاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٨٩ : أنّه خصّه من ماله بخمسين ديناراً! وفيه : ٢٨٢ : عن حلية الأولياء : أنّ نفقته كانت كلّ يوم درهمين!

٣٩

ولم يُنقل عن رقيب جرير الخطفي : الفرزدق الأسدي البصري لقاء بعمر أو ثناء له ، اللهمّ إلّاثلاثة أبيات قالها في رثائه ، يقول فيه : قوام الحقّ والدين! وقسطاس الموازين (١)! فما ترك شيئاً!

مصرع عمر بن عبد العزيز :

في عهد عمر بن عبد العزيز لم يظهر كُرْه لحكمه ، إلّاأ نّه ظهر منه إقرار لولاية عهد يزيد بن عبد الملك سبط يزيد بن معاوية ، فترك لذلك ثمانون فارساً أكثرهم من بني ربيعة الكوفة ، مع بسطام اليشكري الهمداني الشهير بشوذب ، لا ينكرون على عمر إلّاإقراره لعهد يزيد ، استشعاراً منهم أن يكون كجدّه لُامّه يزيد بن معاوية! هذا فيما رواه الطبري عن مبعوثي شوذب إلى عمر قالا له : أخبرنا عن يزيد لِمَ تقرّه خليفة بعدك؟! قال : صيّره غيري! قالا : أفرأيت لو وليت مالاً لغيرك ثمّ وكلته إلى غير مأمون عليه ، أتراك كنت أدّيت الأمانة إلى من ائتمنك؟! قال : أنظراني ثلاثاً. فخاف بنو مروان أن يخلع يزيد ويخرج منهم ما هو بأيديهم من الأموال ، فدسّوا إليه من سقاه سمّاً! فلم يلبث أن مات (٢)!

وقال اليعقوبي : قيل : إنّ أهل بيته سمّوه! خوفاً منه أن يخرج الأمر عنهم (٣).

وقال المسعودي : وتوفى عمر بدير سِمعان من أعمال حمص مما يلي قنّسرين ، فيما قيل : مسموماً من قبل أهله! يوم الجمعة لعشر بقين من رجب سنة (١٠١) وله تسع وثلاثون سنة.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٩٥.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٥٥٥ ـ ٥٥٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٠٨.

٤٠