موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

فقام إليه رجل عليه إزار قومسي سحيق (بالي)! فقال : ونحن نحمد الله ونصلّي على محمّد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى رسل الله وأنبيائه أجمعين.

أما ما قلت من خير فنحن أهله ، وما قلت من سوء فأنت وصاحبك (المنصور) به أولى وأحرى! يا من ركب غير راحلته وأكل غير زاده ارجع مأزوراً (مذنباً). ثمّ أقبل على الناس فقال لهم : ألا انبئكم بأخفّ الناس يوم القيامة ميزاناً وأبينهم خسراناً؟ هو من باع آخرته بدنيا غيره وهو هذا الفاسق.

فلم ينطق الوالي بحرف بل نزل من المنبر وخرج من المسجد!

قال الراوي : عبد الله بن سليمان التميمي : فسألت عن الرجل فقيل لي : هذا جعفر بن محمّد (١).

هذا وقد مرّ خبر حشر بقايا الهاشميين يومئذٍ إلى المنصور بالكوفة وحبسهم بها أكثر من شهر ، ثمّ وصف لباس الصادق عليه‌السلام بما مرّ لا يناسب المعهود من لباسه وزيّه حسب سائر الأخبار حتّى أن الصوفية كانوا ينكرون عليه ذلك! ثمّ سكوت الوالي وخروجه بلا صلاة يكاد لا يصدَّق ، وهو خبر انفرد به الطوسي مما لا يوافق سائر المصادر.

نعم ، نقل المسعودي عن المنصور خطبة بمعنى هذه قال : لما أخذ المنصور عبد الله بن الحسن وإخوته والذين معه من أهل بيته ، صعد المنبر بالهاشمية فقال : يا أهل خراسان! أنتم «شيعتنا» وأنصارنا وأهل دعوتنا ، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا خيراً منّا! إن ولد ابن أبي طالب تركناهم والخلافة فلم نعرض لهم لا بقليل ولا بكثير! فقام فيها علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) فما أفلح!

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٥٠ ، المجلس ٢ ، الحديث ٦٦. وإنما نرى اسم شبّة بن عقال خطيباً مادحاً للمهدي العباسي ، في مروج الذهب ٣ : ٣١٣ أميراً على المدينة.

٣٤١

إذ حكّم الحكمين فاختلفت عليه الامة وافترقت الكلمة! ثمّ وثب عليه أنصاره وثقاته و «شيعته» فقتلوه!

ثمّ قام بعده الحسن بن علي (رضي الله عنه) فوالله ما كان برجل! دسّ إليه معاوية : إني أجعلك وليّ عهدي ، وعُرضت عليه الأموال فقبلها وخلعها (الخلافة) وانسلخ له مما كان فيه وسلّمه إليه! وأقبل على النساء يتزوّج اليوم واحدة ويطلق غداً اخرى! فلم يزل كذلك حتّى مات على فراشه!

ثمّ قام من بعده الحسين بن علي (رضي الله عنه) فخدعه أهل كوفة العراق أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن ، أهل هذه المدرة السوء فرّق الله بيني وبينها ، فخذلوه وأبرؤوا أنفسهم منه ، فأسلموه حتّى قتل.

ثمّ قام من بعده زيد بن علي ، فخدعه أهل الكوفة وغرَّوه ، فلمّا أظهروه وأخرجوه أسلموه .. فقُتل وصلب بالكُناسة.

ثمّ وثب بنو امية علينا فابتزّونا شرفنا وأذهبونا عزّنا ، وما كان ذلك كلّه إلّا فيهم وبسبب خروجهم! فنفونا عن البلاد مرّة بالطائف ومرّة بالشام ومرّة بالشَّراة (١) إلى آخر خرطياته مما يدلل على نصبه العداء لعلي وابنيه السبطين عليهم‌السلام ، فما أشبه الليلة من بني العباس بالبارحة من بني امية ومروان!

بل كان المنصور يتمنّى إخلاص مثل الحجّاج لبني مروان : فقد ذُكر أن المنصور بعد قتل الأخوين محمّد وإبراهيم قال يوماً لجلسائه : تالله ما رأيت رجلاً أنصح من الحجّاج لبني مروان! فقام المسيّب بن زهير الضبّي وقال : يا أمير المؤمنين! ما سبقنا الحجّاج بأمر تخلفنا عنه ، والله ما خلق الله خلقاً أعزّ علينا من نبيّنا وقد أمرتنا بقتل أولاده! فأطعناك وفعلنا ذلك! فهل نصحناك أم لا؟!

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٠٠ ـ ٣٠١.

٣٤٢

فقال المنصور : اجلس لاجلست (١)!

وهكذا انتهت سنة (١٤٥ ه‍) وبدأت سنة (١٤٦ ه‍) وفيها توفي محمّد بن السائب الكلبي النسّابة (٢). وكان قد سمع بعض الفتاوى الخاصة عن الصادق عليه‌السلام بعنوان عالم «أهل البيت» فأتى المدينة والتقى به وتعرّف على أمره وإمامته ودان بحبّه حتّى مات ، كما فيما يلي :

ابن السائب والإمام الصادق عليه‌السلام :

روى الكليني بسنده عن الكلبي النسّابة (محمّد) : أنّه ما كان يعرف من أمر الإمامة شيئاً وإنّما كان سمع بعض الفتاوى الخاصة عن الصادق عليه‌السلام بعنوان عالم «أهل البيت» فأحبّ أن يتعرّف عليه ، فأتى المدينة ودخل المسجد فرأى فيه جماعة من قريش فسألهم عن عالم «أهل البيت» فقالوا : عبد الله بن الحسن! فأتى منزله واستأذن عليه فخرج إليه وقال له : ادخل ، فدخل وسلّم عليه فسأله : مَن أنت وما حاجتك؟ قال : أنا الكلبي النسّابة وقد جئت أسألك ، فقال له : أمررت بابني محمّد! قال : بدأت بك. قال : سل. فقال : ما يقول الشيخ في المسح على الخفّين؟ قال : قد مسح قوم صالحون! ونحن «أهل البيت» لا نمسح! قال : ما تقول في أكل الجرّي أحلال هو أم حرام؟ قال : حلال : إلّاأنا «أهل البيت» نعافه! قال : فما تقول في شرب النبيذ؟ قال : حلال : إلّاأنا «أهل البيت» لا نشربه! قلت : أخبرني عن رجل قال لامرأته : أنت طالق عدد نجوم السماء؟! قال : تبين بعدد رأس الجوزاء (الثلاثة) والباقي وزر وعليه عقوبة! فقام وخرج من عنده.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٩٨.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٧٨.

٣٤٣

ودخل المسجد فرأى جماعة من قريش فسلّم عليهم وقال : مَن أعلم «أهل البيت»؟ قالوا : عبد الله بن الحسن! فقال : قد أتيته فلم أجد عنده شيئاً! فرفع رجل منهم رأسه وقال : ائت جعفر بن محمّد عليه‌السلام فهو أعلم «أهل البيت»! فقال له : ويحك إياه أردت ، ولامه بعض من حضر!

فمضى إلى منزله وقرع الباب فخرج إليه غلام فقال له : ادخل يا أخا كلب! فأدهشه! فدخل وهو مضطرب! ونظر فإذا شيخ على مصلّاه ، فسلّم عليه فسأله : من أنت؟ قال : أنا الكلبي النسابة! قال : يا أخا كلب أفتنسب نفسك؟ قال : نعم أنا فلان بن فلان بن فلان ، فقال له : قف ، ويحك أتدري من فلان بن فلان؟ ثمّ ذكر أسماء وقال : أتعرف هذه الأسماء؟ قال : لا والله جعلت فداك ، قال : كذب العادلون بالله وضلّوا ضلالاً بعيداً وخسروا خسراناً مبيناً! يا أخا كلب ، إنّ الله عزوجل يقول : (وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً (١)) أفتنسبها أنت؟ قال : لا جعلت فداك ، فإن رأيت أن تكفّ عن هذا؟ قال : إنّما قلتَ فقلتُ. واسأل عمّا جئت له.

قال : ما تقول في المسح على الخفّين؟ فتبسّم ثمّ قال : إذا كان يوم القيامة وردَّ الله كلَّ شيء إلى شيئه ، وردّ جلد الغنم إلى الغنم ، فترى أين يذهب مسح هؤلاء؟! ثمّ قال : سل. فقال : أخبرني عن أكل الجرّي. فقال : إن الله عزوجل مسخ طائفة من بني إسرائيل فممّا أخذ منهم بحراً الجرّي والمارماهي والزمار. ثمّ قال : سل. فقال : ما تقول في النبيذ؟ فقال : إن أهل المدينة شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تغيّر الماء وفساد طبايعهم ، فأمرهم أن ينبذوا فيه ، فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له فيعمد إلى كفّ من التمر فيقذف به في الشنّ ، فمنه شربه

__________________

(١) الفرقان : ٣٨.

٣٤٤

ومنه طهوره ، فقال : إنا ننبذ فنطرح فيه العُكَر وما سوى ذلك ونشربه؟ فقال : شُه شُه! تلك الخمرة المنتنة!

فقال له : أخبرني عن رجل قال لامرأته : أنت طالق عدد نجوم السماء؟ قال : ويحك أما تقرأ سورة الطلاق؟ قال : بلى. قال : فاقرأ. فقرأ : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ (١)) قال : أترى هنا في السورة : نجوم السماء؟! قال : لا ، فرجل قال لامرأته : أنت طالق ثلاثاً؟ قال : تُردّ إلى كتاب الله وسنة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثمّ قال : لا طلاق إلّاعلى طُهر من غير جماع ، وبشاهدين مقبولين. ثمّ نهض عليه‌السلام.

فقام الكلبي وخرج وهو يضرب بيده على الاخرى وهو يقول : إن كان شيء (من الحق) فهذا.

قال الراوي سماعة بن مِهران : فلم يزل الكلبي يدين الله بحبّ «آل البيت» حتّى مات (٢).

وافتتح المنصور بغداد :

بعد مقتل إبراهيم الحسني بثلاثة أشهر في شهر ربيع الأول سنة (١٤٦ ه‍) استوطن المنصور بغداد (٣) وأخذ في تكميل عمارتها. وهنا لأول مرّة نشاهد اسم خالد بن برمك وأن المنصور استشاره في نقض ايوان كسرى بالمدائن ونقل آجرُه إلى بغداد ، فقال خالد : هو من أعلام الإسلام فلا أرى ذلك! فقال له المنصور : يا خالد ، مِلت إلى أصحابك العجم! وأمر بنقض القصر الأبيض ، فنقضوا ناحية منه ، فكان ما يغرمون على نقضه وحمله أكثر من قيمة المنقوض المحمول!

__________________

(١) الطلاق : ١.

(٢) اصول الكافي ١ : ٣٤٩ ، ٣٥١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٩.

٣٤٥

فتركه المنصور ، فقال خالد : أرى أن لا تبطل ذلك لئلّا يقال إنك عجزت عن تخريب ما بناه غيرك! فلم يلتفت المنصور إلى ذلك.

ونقل أبواب مدينة الواسط فجعلها لبغداد (١).

وكان وليّ العهد بعد المنصور عيسى بن موسى العباسي ، فولّاه الكوفة ، ولقّب ابنه محمّداً بالمهديّ وولّاه خراسان وأشخص معه وجوهاً من صحابته والجند ، وعاد إليه قوّاد خراسان فذكروا له فعال المهدي ومدحوه ، وسألوه أن يولّيه عهده بعده. فكتب بذلك إلى عيسى العباسي بالكوفة! فكتب إليه عيسى يعظّم عليه نقض الأيمان ونكث العهود! فعزله المنصور عن الكوفة واستقدمه إلى بغداد ، وأخذ يثير عليه جنوده يوماً بعد يوم يصيرون إلى بابه! فلمّا رأى ذلك خاف على نفسه فرضى وسلّم!

ودخلت سنة (١٤٧ ه‍) فدعى المنصور إلى بيعة المهديّ بالعهد وبعده لعيسى ، وأتت الكتب إلى المهدي بذلك (٢) وأرسل المنصور خالد بن برمك والياً على الموصل (٣).

وعاقب مالك بن أنس :

مرّ الخبر أن مالك بن أنس وافق قيام محمّد الحسني وأفتى الناس بالخروج معه عن بيعة المنصور لأنهم كانوا مُكرهين «وليس على مُكره يمين».

وفي سنة (١٤٦ ه‍) عزل المنصور عن المدينة عبد الله بن الربيع الحارثي

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١١٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٧.

٣٤٦

وولّاها جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس حتّى سنة (١٤٩ ه‍) (١).

قال ابن قتيبة : بعثه المنصور إليها ليسكن هيجها وفتنتها ويجدّد بيعة أهلها. فدسّوا إليه من قال له : إن مالك بن أنس كان يفتي الناس بأن أيمان البيعة لا تلزمهم ، لاستكراهكم إياهم عليها ، وزعموا أنّه كان يفتي بذلك جميع أهل المدينة ، بحديث رواه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «رفع عن امتي الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه».

فدسّ جعفر بن سليمان إليه بعض من لم يكن مالك يخاف أن يؤتى من قبله ، فسأله عن ذلك فأفتى مالك بذلك ، فلم يشعر مالك إلّاورُسل جعفر بن سليمان فأتوه به منتهك الحرمة مزال الهيبة! فأمر به فضُرب سبعين سوطاً! وبلغ بمالك ألم الضرب حتّى أضجعه.

فلمّا بلغ ذلك إلى المنصور أعظمه وأنكره ولم يرضه ، وكتب إليه يستقدمه إلى بغداد فأبى ، فكتب إليه : أن وافني بالموسم العام القابل إن شاء الله فإني خارج إلى الموسم (٢) فحجّ سنة (١٤٧ ه‍) فالتقى مالك به ، وسيأتي خبره. والآن إذ انتقل المنصور إلى بغداد أحضر الصادق عليه‌السلام (٣).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٨٣.

(٢) الإمامة والسياسة للدينوري : ١٧٧ ـ ١٧٨ وأرّخ ذلك بسنة (١٦١ ه‍) وهو غير صحيح ، لما مرّ أن جعفر العباسي إنّما كان على المدينة من (١٤٦ ه‍) إلى (١٤٩ ه‍).

(٣) وهذه هي السنة الأخيرة من حياة الصادق عليه‌السلام ، ولذا جاء في آخر الخبر اللاحق عنه عليه‌السلام قوله : وما أرى هذه السنة تتمّ لي. هذا ، وقد أرّخ الكليني ميلاد الرضا عليه‌السلام بسنة وفاة جدّه الصادق عليه‌السلام : (١٤٨ ه‍) ، أُصول الكافي ١ : ٤٨٦ وعليه فهذا أوان زواج الكاظم بأُم الرضا عليه‌السلام ، قبل وفاة الصادق بسنة. إلّاأنّ هذا يقتضي أن يكون في خبر زواجه

٣٤٧

الإمام عليه‌السلام والمنصور ببغداد :

روى ابن طاووس عن كتاب عتيق وجد فيه : أن الحسن بن علي بن يقطين روى عن أبيه : أنّه بعد المئتين للهجرة وبعد قتل المأمون لللأمين ، روى له محمّد بن الربيع عن أبيه الربيع بن يونس حاجب المنصور : أن المنصور كان قد أعد لنفسه في قصره ببغداد قبة سمّاها الحمراء ، ولكنّه لما سكن قصره بعد قتل الأخوين محمّد وإبراهيم ، غيّر اسمها من الحمراء إلى الخضراء. وفي ليلة من الليالي وقد مضى أكثرها! دعا أباه الربيع وقال له : سِر الساعة إلى جعفر بن محمّد ابن فاطمة عليهم‌السلام! ـ ولا يذكر الخبر كيف احضر إلى بغداد ـ فأتني به على الحال التي تجده عليه لا يُغيّر شيئاً ممّا هو عليه!

هنا قال محمّد : وكنت أنا أفضَّ ولد أبي وأغلظَهم قلباً! فدعاني أبي وقال لي : امضِ إلى جعفر بن محمّد بن علي عليه‌السلام فتسلّق عليه حائطَه ، ولا تستفتح عليه باباً فيغيّر بعض ما هو عليه ، ولكن انزل عليه نزولاً ، فأت به على الحال التي هو فيها! هذا وقد ذهب الليل إلّاأقلّه.

__________________

ذكر لأبيه الصادق عليه‌السلام ولا ذكر له فيه مما يرجح كونه بعده. وميلاد الرضا عليه‌السلام في (١٤٨ ه‍) يقتضي كونه عند وفاته ابن خمس وخمسين ، كما ذكره الكليني وقال : اختلف في تاريخه. ثمّ روى بسنده عن ابن سنان قال : قبض الرضا وهو ابن تسع وأربعين ـ الكافي ١ : ٤٩٢ وهذا يؤيد خبر نصر الجهضمي في «تاريخ أهل البيت» : ولد بعد وفاة الصادق عليه‌السلام بخمس سنين أي في (١٥٣ ه‍) : ٨٣ وكذا خبر الصدوق عن غياث بن أُسيد في عيون أخبار الرضا ١ : ١٠٠ ، الحديث ١ ، باب مولد الرضا عليه‌السلام. وهذا ينسجم مع عدم ذكر الصادق في زواج الكاظم عليهما‌السلام ، وعمر الكاظم يومئذ (٢٥) سنة وليس ذلك كثيراً مستبعداً. ولذا فنحن مع خبر الكليني عن ابن سنان المتأيد برواية «تاريخ أهل البيت» نؤجّل ذكر زواج الكاظم عليه‌السلام إلى سنة (١٥٢ ه‍).

٣٤٨

فاصطحب محمّد معه بعض الشاكرية (الخدم) وحمل معهم سُلّماً ، قال : فأتيته وأمرت بنصب السلّم ثمّ تسلّقت عليه الحائط فنزلت عليه داره ، فوجدته قد ائتزر بمنديل وعليه قميص وهو قائم يصلّي ، فلمّا سلّم من صلاته قلت له : أجب أمير المؤمنين! فقال : دعني ألبس ثيابي! قلت : ليس إلى ذلك سبيل ؛ قال : فأدخل المغتسل وأتطهّر! قلت : وليس إلى ذلك سبيل فلا تشغل نفسك فإني لا أدعك تغيّر شيئاً! قال : فأخرجته حافياً حاسراً في قميصه ومنديله! وكان قد جاور السبعين! فلمّا مشى بعض الطريق ضعف ، فرحمته وأمرت شاكرياً أن يقدم له دابته فركبها وصرنا إلى القصر ، فسمعت المنصور يقول لأبي الربيع : ويلك يا ربيع قد أبطأ الرجل.

قال محمّد : وكان أبي يتشيّع! فلمّا وقعت عينه على جعفر بن محمّد عليه‌السلام وهو بتلك الحال بكى!

فقال له جعفر عليه‌السلام : يا ربيع ؛ أنا أعلم ميلَك إلينا ، فدعني اصلي ركعتين. قال : شأنَك وما تشاء. فصلّى ركعتين خفّفهما (هما صلاة الغداة) ثمّ دعا بعدهما بدعاء طويل ، والمنصور في كل ذلك يستحث أبيَ الربيع.

فلمّا فرغ من دعائه بطوله أخذ أبي الربيع بذراعيه فأدخله على المنصور ، فوقف بين يديه! فلمّا نظر إليه قال : وأنت يا جعفر! ما تدع بغيك وحسدك وإفسادك على أهل هذا البيت من بني العباس! وما يزيدك الله بذلك إلّاشدّة حسد ونكد ، ما تبلغ به ما تقدّره!

فقال له : والله يا أمير المؤمنين! ما فعلت شيئاً من هذا! ولقد كنت في ولاية بني امية وأنت تعلم أنّهم أعدى الخلق لنا ولكم ، وأ نّهم لا حقّ لهم في هذا الأمر ، فوالله ما بغيت عليهم ، ولا بلغهم عني سوء ، مع جفاهم الذي كان بي. وكيف ـ يا أمير المؤمنين ـ أصنع الآن هذا وأنت ابن عمّي وأمسّ الخلق بي رحماً! وأكثرهم عطاءً وبرّاً! فكيف أفعل هذا؟! عزوجل الحمد لله اينج الحمد لله الله رينت

٣٤٩

وكان المنصور على بساط صوفٍ متلبّد وتحته سيفٌ ذو فِقار ، فأطرق ساعة ثمّ قال : أبطلت وأثمت! وكان عن يساره مِرفقة جرمقانية فرفع ثنيها وأخرج منها إضبارة كتب فرمى بها إليه وقال : هذه كتبك إلى أهل خراسان تدعوهم إلى نقض بيعتي وأن يبايعونك دوني!

فقال : والله ـ يا أمير المؤمنين ـ ما فعلت ، ولا أَستحلّ ذلك! ولا هو من مذهبي ؛ وإني لممّن يعتقد طاعتك على كل حال! وقد بلغت من السنّ ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته ، فصيّرني في بعض حبوسك حتّى يأتيني الموت! فهو منّي قريب!

فقال : لا ، ولا كرامة! ثمّ أخذ مقبض السيف فسلّ منه مقدار شبر! ثمّ ردّ السيف وقال :

يا جعفر! أما تستحي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل وتشق عصا المسلمين! تريد أن تريق الدماء! وتطرح الفتنة بين الرعية والأولياء!

فقال : لا والله ـ يا أمير المؤمنين! ـ ما فعلت ، ولا هذه كتبي ولا خطّي ولا خاتمي! فانتضى ذراعاً من السيف ، ثمّ أقبل يعاتبه وجعفر (عليه‌السلام) يعتذر! ثمّ انتضى السيف إلّايسيراً منه! ثمّ أغمد السيف ، وأطرق ساعة ، ثمّ رفع رأسه وقال له : أظنك صادقاً!

ثمّ قال لي : يا ربيع هات العيبة (الوعاء) فأتيته بها ، وكانت مملوّة من العطور الغالية فقال لي : أدخل يدك فيها وضعها في لحيته! وكانت لحيته بيضاء ففعلت ذلك حتّى اسودّت لحيته! ثمّ قال لي : احمله على دابّة فارهة من دوابّي التي أركبها وشيّعه إلى منزله مكرّماً ، وأعطه عشرة الآف درهم ، وإذا ذهبت به إلى المنزل خيّره بين المقام عندنا فنكرمه والانصراف إلى مدينة جدّه رسول الله.

٣٥٠

قال الربيع : فخرجنا من عند المنصور وأنا مسرور بسلامة جعفر (عليه‌السلام) ومتعجّب مما أراد المنصور وما صار إليه من أمره. وقال لي جعفر (عليه‌السلام) : إنك كنت قد طلبت منّي أرضى بالمدينة وأعطيتني بها عشرة آلاف دينار! فلم أبعك. فالآن وهبتها لك! قلت : يابن رسول الله إنّما رغبتي الآن في الدعاءين الأول والثاني فإذا علّمتني إياهما فهو البرّ ولا حاجة لي الآن في الأرض! فقال : إنّا أهل بيت لا نرجع في معروفنا! فنحن ننسخك الدعاء ونسلّم لك الأرض! فصرت معه إلى المنزل فكتب لي بعهدة الأرض وأملى عليَّ دعاء رسول الله يوم الأحزاب وما دعا به بعد ركعتي الغداة.

وقلت له : أما خفت أبا جعفر المنصور وما أعدّ لك؟! قال : وما أعد؟! خيفة الله دون خيفته والله في صدري أعظم منه!

قال الربيع : ولما وجدت من المنصور خلوة وطيب نفس سألته عمّا كان عليه من قتل جعفر (عليه‌السلام) ثمّ ما صار إليه. فقال : ويحك يا ربيع! هذا ستره أولى وليس هو مما ينبغي أن يحدّث به ، ولااحبّ أن يبلغ ولد فاطمة فيفتخرون ويتيهون بذلك علينا! حسبنا ما نحن فيه ، ولكن لا اكتمك شيئاً ، انظر من في الدار فنحّهم. فنحّيت كلّ من في الدار. ثمّ قال لي : ارجع ولا تبقِ أحداً! ففعلت. ثمّ قال لي : فليس الآن إلّاأنا وأنت ، والله لئن سمعت ما ألقيه إليك من أحد لأقتلنك وولدك وأهلك أجمعين! ثمّ قال : يا ربيع ، قد كنت مصرّاً على قتل جعفر وأن لا أسمع ما يقول ولا أقبل له عذراً ، وكان أمره أغلظ عندي وأهم من أمر عبد الله بن الحسن ، وإن كنت أعلم منه ـ ومن آبائه على عهد بني امية ـ أنّه ممن لا يخرج بالسيف!

(ولكن) لما هممت به في المرّة الاولى تمثّل لي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإذا هو حائل بيني وبينه باسط كفّيه حاسر عن ذراعيه قد عبس وقطّب في وجهي! فصرفت وجهي عنه.

٣٥١

ثمّ هممت به في المرة الثانية وانتضيت من السيف أكثر من المرة الاولى فإذا أنا برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قد قرب مني ودنا شديداً وهمّ بي أن لو فعلت لفعل! فأمسكت.

ثمّ انتضيت السيف في الثالثة فتمثّل لي رسول الله باسطاً ذراعيه قد تشمّر واحمرّ وعبَس وقطّب ، حتّى كاد أن يضع يده عليَّ ، فخفت والله لو فعلت لفعل ، فكان منّي ما رأيت!

وهؤلاء من بني فاطمة لا يجهل حقّهم إلّاجاهل لا حظّ له في الشريعة! ثمّ قال لي : فإياك أن يسمع هذا منك أحد!

قال محمّد بن الربيع : فما حدّثني به أبي حتّى مات المنصور (١).

فالمنصور إذ يقول : «لا يجهل حقّهم إلّاجاهل لا حظّ له في الشريعة» هل يعترف على نفسه بأ نّه يجهل حقّهم؟! بل إنّما يدّعي أنّه لا يجهل حقّهم! إلّاأن حقّهم ليست الإمامة العامة والحكومة والخلافة ، وإنّما على مستوى العشرة آلاف درهم وأن يسوّد لحيته بعطوره الغالية الخاصّة! وأن يخيّره في البقاء ببغداد والعودة إلى المدينة. ومحمّد بن الربيع إذ يصف أياه بأ نّه كان يتشيّع لا يعني إلّامثل هذا أو نحوه دون التشيّع بالمعنى الخاص حتّى بعد ما رأى من كرامات الإمام واستجابة دعواته ، ولا ابنه محمّد ، نعم هو يروي الخبر لآخر من موالي بني العباس هو الحسن بن علي بن يقطين الذي كان قد انقطع عن ولاء مواليه العباسيّين إلى أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

والخبر احتوى على تخيير المنصور للإمام عليه‌السلام بين الرحيل والمقام ، ثمّ لم يذكر ما حصل.

وهنا خبر آخر يرجح أنّه كان في هذه السفرة بقصر المنصور ببغداد أيضاً :

يدعيه محمّد بن عبيد الله الاسكندري أنّه كان من ندماء المنصور وخواصّه وأصحاب سرّه ، فدخل عليه ورآه مغتماً يتنفّس بارداً مفكّراً ، فسأله عن علّة

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٧ : ١٩٥ ، ١٩٩ ، عن مهج الدعوات : ١٩٢ عن الكتاب العتيق.

٣٥٢

فكرته فقال له : يا محمّد ، لقد هلك من أولاد فاطمة مقدار مئة! وقد بقي سيّدهم وإمامهم! قال : من هو؟ قال : جعفر بن محمّد الصادق! قال : إنّه رجل أنحلته العبادة واشتغل بالله عن طلب الملك والخلافة!

قال : يا محمّد ؛ قد علمت أنك تقول بإمامته! ولكن الملك عقيم! وقد آليت على نفسي أن لا امسي عشيّتي هذه حتّى أفرغ منه! ثمّ دعا سيّافاً وقال له : إذا أنا أحضرت أبا عبد الله الصادق وشغلته بالحديث ، ثمّ وضعت قلنسوتي عن رأسي ، فهي العلامة بيني وبينك فاضرب عنقه!

ثمّ أحضر أبا عبد الله عليه‌السلام في تلك الساعة وهو يحرّك شفتيه بالدعاء ، وإذا «بالقصر» يموج كالسفينة ؛ وبادر المنصور حافي القدمين مكشوف الرأس تصطكّ أسنانه وترتعد فرائصه ويصفرّ ويحمرّ ، فأخذ بعضد أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام وأجلسه على سريره وجثا بين يديه ، كالعبد بين يدي مولاه! وقال : ما الذي جاء بك في هذه الساعة يابن رسول الله؟! قال : يا أمير المؤمنين ، جئتك طاعة لله عزوجل ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولأمير المؤمنين أدام الله عزّه! قال : ما دعوتك والغلط من الرسول. ثمّ قال : سل حاجتك. قال : أسألك أن لا تدعوني لغير شغل! قال : لك ذلك وغير ذلك ؛ ثمّ قام أبو عبد الله وانصرف سريعاً.

قال الراوي : ونام المنصور وانتبه في نصف الليل وقضى صلاته ثمّ قال لي : لما حضر أبو عبد الله الصادق (ولعلّه عند دخوله) رأيت تنّيناً عظيماً قد حوى بذنَبه «قصري» وقد وضع شفته العليا في أعلاه والسفلى في أسفله ويقول : يا منصور! إن الله قد بعثني إليك وأمرني إن أنت أحدثت في أبي عبد الله الصادق حدثاً فأنا أبتلعك ومن في دارك جميعاً! فطاش عقلي وارتعدت فرائصي واصطكّت أسناني (١)!

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٧ : ٢٠١ ، ٢٠٣ ، عن مهج الدعوات : ٢٥١.

٣٥٣

فلعلّه بعد هذا وفّى بوعده للإمام عليه‌السلام أن لا يدعوه لغير شغل! فعاد إلى بلاده المدينة ، وإن كان الخبر أبتر عن ذكر ذلك. والغريب خلوّ الخبر عن ذكر الربيع الحاجب ، ولم يكن حضوره في الخبر السابق آخر حضور ، بل آخره ما يأتي في الخبر التالي في حج المنصور لموسم عام (١٤٧ ه‍) بالمدينة.

آخر لقاء المنصور بالإمام بالمدينة :

رواه الكنجي الشافعي بسنده عن الحسن بن الفضل عن أخيه عبيد الله بن الفضل عن أبيه الفضل بن الربيع عن أبيه الربيع بن يونس الحاجب : أن المنصور حجّ سنة (١٤٧ ه‍) فقدم المدينة (أي قبل الحج) فقال : ابعث إلى جعفر بن محمّد من يأتيني به (فهو لا يأتيه!) فأمسك عنه رجاء أن ينساه ، فأغلظ عليه في الثانية فجاء به إلى بابه ودخل عليه وقال له : جعفر بن محمّد بالباب يا أمير المؤمنين! قال : ائذن له. فأذن له فدخل وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته! فقال : لا سلّم الله عليك يا عدوّ الله! تلحد في سلطاني! وتبغيني الغوائل في ملكي! قتلني الله إن لم أقتلك!

قال جعفر عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين! إنّ سليمان اعطي فشكر ، وإنّ أيوب ابتلي فصبر ، وإنّ يوسف ظلم فغفر ، وأنت من ذلك السنخ!

فنكس رأسه طويلاً ثمّ رفعه وقال : إليّ وعندي ـ يا أبا عبد الله ـ البريء الساحة ، السليم الناحية ، القليل الغائلة ، جزاك الله من ذي رحم أفضل ما يجزي ذوي الأرحام عن أرحامهم! ثمّ تناوله بيده حتّى أجلسه معه على مفرشه ثمّ قال : يا غلام عليَّ بالمتحِفة ـ وهي مدهن كبير فيه الغالية ـ فاتي به فاخذ يعطّره حتّى قطرت من لحيته ، ثمّ قال : يا ربيع ، ألحق أبا عبد الله جائزته وكسوته ، ثمّ قال : في حفظ الله وكلاءته ، فانصرف الصادق عليه‌السلام.

٣٥٤

ثمّ لحقه الربيع وسأله عمّا دعا به فقال له : إنك رجل لك ودّ ومحبة ، ثمّ علّمه الدعاء (١).

وزاد القاضي المغربي قال : وعلم المنصور كثرة أتباع الصادق عليه‌السلام وسُعي به واكّد عليه ، فأرسل عليه ، فلمّا دخل رآه يحرّك شفتيه فقال له : يا جعفر! ما تقول؟ أتسبّني وتلعنني؟! قال : يا أمير المؤمنين! لا والله ما سببتك ولا لعنتك! قال : فما حرّكت به شفتيك؟ قال : دعوت الله عزوجل. قال : بم دعوت؟ قال : قلت : اللهم إنك تكفي من كل شيء ، ولا يكفي منك شيء ، فاكفنيه! يا كافي كلّ شيء! فقال المنصور : لا والله ما مثلك يُترك!

فقال أبو عبد الله : يا أمير المؤمنين! إنّي بلغت من السنين ما لم يبلغه أحد من آبائي في الإسلام ، وما أراني أن أصحبك إلّاقليلاً ، وما أرى هذه السنة تتمّ لي! فلا تعجل عليَّ فتبوء بإثمي!

فرقّ المنصور له وخلّى سبيله ، وتوفي في تلك السنة (٢).

__________________

(١) كفاية الطالب : ٤٥٥ ، وأسنده السبط كذلك في تذكرة الخواص ٢ : ٤٤٧ واختزل الدعاء ، ونقله الاربلي في كشف الغمة ٣ : ١٦١ ، عن مطالب السؤول للشافعي ٢ : ٥٨ ـ ٥٩ بدعاء مختصر ، وبهامشهما مصادر اخرى كثيرة مسندة ومرسلة مؤرخة وغير مؤرخة ، وعن كشف الغمة في بحار الأنوار ٤٧ : ٢٨٢ ، الحديث ٢٨. وأرسله المالكي في الفصول المهمة : ٣٤١ وخلطه بقصة التحليف باليمين للساعي عليه وموته ، مما ليس في المصادر السابقة ، بل إنّما هو خبر آخر مرّ عن صفوان الجمال بالكوفة وليس هنا. نعم ، سبقه بالخلط المفيد في الإرشاد ٢ : ١٨٣.

(٢) شرح الأخبار للقاضي النعمان ٣ : ٣٠٧ ثمّ قال : كانت وفاته سنة (١٤٨ ه‍). ومثله في كشف الغمة ٣ : ١٧٢ ـ ١٧٣ مسنداً عن إسحاق بن الصادق عليه‌السلام ، وفي آخره : فمات في شوّال ، وكان المنصور يحسبها عليه.

٣٥٥

وأنِس المنصور بمالك بن أنس :

نقل ابن قتيبة عن مطرف من أصحاب مالك بن أنس عنه قال : لما وقفنا بمنى (١) أتيت سرادق المنصور وعرّفتهم بنفسي واستأذنت عليه ، فدخل الآذن وخرج فأدخلني ، فقلت له : إذا انتهيت إلى قبة أمير المؤمنين! فأعلمني. فمرّ من سرادق إلى سرادق ومن قبة إلى اخرى ، في كلها أصناف الرجال بأيديهم السيوف المشهورة والأعمدة المرفوعة ، حتّى قال لي الآذن : هو في تلك القبة ، ثمّ تركني وتأخّر عني.

فمشيت حتّى انتهيت إلى قبّته فإذا هو قد لبس ثياباً مقتصدة لا تشبه ثيابه! وقد نزل عن مجلسه إلى بساط دونه تواضعاً لدخولي عليه! وليس معه في القبة إلّا قائم على رأسه بالسيف مصلت! فلمّا دنوت منه رحّب بي وقرّب وقال : هاهنا إليّ فلم يزل يدنيني حتّى أجلسني إليه وألصق ركبتي بركبته! ثمّ قال :

يا أبا عبد الله! والله الذي لا إله إلّاهو ما أمرت بالذي كان ولا علمته قبل أن يكون ، ولا رضيته لمّا بلغني (يعني ضربي) فحمدت الله تعالى على كلّ حال ثمّ نزّهته عن الأمر والرضا به. ثمّ قال :

يا أبا عبد الله ؛ لا يزال أهل الحرمَين بخير ما كنتَ بين أظهرهم! وإني إخالك أماناً لهم من عذاب الله وسطوته! ولقد دفع الله بك عنهم وقعة عظيمة ؛ فإنهم أسرع الناس إلى الفتن وأضعفهم عنها (قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) وقد أمرت أن يؤتى بعدوّ الله (جعفر العباسي) من المدينة على قتب ، وأمرت بضيق مجلسه والمبالغة في امتهانه! ولابدّ أن انزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه!

__________________

(١) قال ابن قتيبة ٢ : ١٧٠ : وذلك في سنة (١٤٨ ه‍). بل المعروف المشهور عند سائر المؤرخين : (١٤٧ ه‍).

٣٥٦

فقلت له : عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه ، قد عفوت عنه لقرابته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ قال لي : يا أبا عبد الله ضع هذا العلم ودوّن منه كتباً ، وتجنّب شدائد عبد الله بن عمر ورُخص عبد الله بن عباس ، وشواذّ بن مسعود ، واقصد إلى أواسط الأُمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة ، لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ونبثّها في الأمصار ، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا بسواها!

فقلت له : أصلح الله الأمير ، إن أهل العراق لا يرضون علمنا ولا يرون في علمهم رأينا.

فقال المنصور : يُحملون عليه ونضرب عليه هاماتهم بالسيف ، ونقطع طيّ ظهورهم بالسياط ، فتعجّل وضْعها ، وسيأتيك محمّد ابني المهدي العام القابل إلى المدينة ليسمعها عنك ، فيجدك وقد فرغت من ذلك إن شاء الله.

ثمّ أمر لي بألف دينار ذهباً ، وبكسوة عظيمة! وأمر لابني (عبد الله) بألف دينار! ثمّ استأذنته فأذن لي ، فقمت فودّعني ودعا لي ، ثمّ مشيت منطلقاً ، فلحقني الخصيّ بالكسوة فوضعها على منكبي! فناداه المنصور بلّغها رحل أبي عبد الله (١).

واختصر الخبر قبل هذا فقال : قال المنصور لمالك بن أنس : يا أبا عبد الله ، إني رأيت رأياً. فقال مالك : يوفّق الله أمير المؤمنين إلى الصواب من الرأي ويلهمه الرشاد من القول ويعينه على فعل الخير ، فما رأى أمير المؤمنين؟

قال المنصور : رأيت أن اجلسك في هذا البيت فتكون من عُمّار بيت الله الحرام ، وأحمل الناس على علمك وأعهد إلى أهل الأمصار يوفدون وفودهم إليك ، ويرسلون رسلهم في أيام حجتهم إليك ، لتحملهم من أمر دينهم على الحق والصواب إن شاء الله ، فإنما العلم علم أهل المدينة ، وأنت أعلمهم!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٧٨ ، ١٨٠.

٣٥٧

فقال مالك : أمير المؤمنين أعلى عيناً وأرشد رأياً وأعلم بما يأتي وما يذر ، وإن أذن لي قلت.

قال المنصور : نعم ، فحقيق أن نسمع منك ونصدر عن رأيك.

فقال مالك : أما أهل مكة فليس بها أحد ، واما أهل العراق فقد قالوا قولاً تعدّوا فيه طورهم! وإنّما العلم علم أهل المدينة كما قال الأمير! و (لكن) لكلّ قوم سلف أئمة ، فإن رأى أمير المؤمنين ـ أعزّ الله نصره ـ إقرارهم على حالهم فليفعل.

فقال المنصور : أما أهل العراق فلا يقبل أمير المؤمنين منهم صرفاً ولا عدلاً! وإنّما العلم علم أهل المدينة ، وقد علمنا أنك إنّما أردت خلاص نفسك ونجاتها.

فقال مالك : أجل يا أمير المؤمنين ، فاعفني يعف الله عنك.

فقال المنصور : قد أعفاك أمير المؤمنين (من الإجلاس بمكة) وايم الله ما أجد أعلم منك ولا أفقه بعد أمير المؤمنين (١)!

وللدينوري هنا خبر آخر يفيد أن المنصور كان إلى جانب ما بلغه عن مالك ، بلغه عن ابن أبي ذؤيب (٢) أصعب منه ، وعن ابن سمعان بعكسهما ، وقد مرّ مجلسه السابق مع مالك بلا عتاب ، فليجمعهم هذه المرة ليكون فيه بعض العتاب عليه ، والخبر عن مالك قال :

بعد مفارقتي للمنصور وخروجي عنه ، أتاني رسوله بمنى ليلاً قال : أجب أمير المؤمنين! فلم أشك أنّه للقتل! فعهدت عهدي واغتسلت وتوضأت ولبست كفني وتحنّطت ثمّ نهضت فدخلت عليه في السرادق ، وهو قاعد على فراش قيل إنّه كان من فرش هشام بن عبد الملك كان قد أهداه إليه صاحب القسطنطينية ،

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٧٠ ـ ١٧١.

(٢) محمّد بن عبد الرحمن العامري المدني توفي في (١٥٩ ه‍).

٣٥٨

لا يُعلم ثمنه ولا يدرى ما قيمته ، قد نظّم بالدرّ الأبيض والياقوت الأحمر والزمرّد الأخضر! والشمع تحترق لديه ، وبين يديه ابن أبي ذؤيب وابن سمعان ، وهو ينظر في صحيفة بيده.

فلمّا صرت بين يديه سلمت فرفع رأسه ونظر إليّ وتبسّم بغضب ، ثمّ رمى بالصحيفة وأشار إلى موضع عن يمينه أقعد فيه ، فقعدت ، ورفعت رأسي فإذا أنا بواقف عليه درع وبيده سيف مشهور يلمع! والتفت عن يميني فإذا أنا بواقف بيده جرز (گرز / عمود) من حديد! ثمّ التفتّ عن يساري فإذا أنا بواقف عليه درع وبيده سيف مشهور ، وهم على استعداد.

ثمّ التفت هو إلينا وقال : يا معشر الفقهاء! أما بعد! فقد بلغ أمير المؤمنين عنكم ما أخشن صدره وضاق به ذرعه! وكنتم أحقّ الناس بالكفّ من ألسنتكم والأخذ بما يُشبهكم ، وأولى الناس بلزوم الطاعة والمناصحة في السرّ والعلانية لِمن استخلفه الله عليكم!

قال مالك فاستعذت بالله وتلوتُ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (١)).

فقال المنصور : على ذلكم ، فأي الرجال أنا عندكم؟ أمِن أئمة العدل؟ أم من أئمة الجور؟

فقلت : يا أمير المؤمنين أما أنا فمتوسل إليك بالله تعالى ومتشفّع إليك بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وبقرابتك منه أن تعفيني عن الكلام في هذا! فقال لي : قد أعفاك أمير المؤمنين!

ثمّ التفت إلى القاضي ابن سمعان وقال له : أيها القاضي ، ناشدتك الله تعالى أي الرجال أنا عندك؟

__________________

(١) الحجرات : ٦.

٣٥٩

فقال ابن سمعان : يا أمير المؤمنين ، أنت ـ والله ـ خير الرجال ، تحجّ بيت الله الحرام ، وتجاهد العدو ، وتؤمّن السبل ، ويأمن الضعيف بك أن يأكله القوي ، وبك قوام الدين ، فأنت خير الرجال!

فالتفت إلى ابن أبي ذؤيب وقال له : ناشدتك الله ، أي الرجال أنا عندك؟

قال : أنت ـ والله ـ عندي شرّ الرجال! استأثرت بمال الله ورسوله وسهم «ذوي القربى» واليتامى والمساكين! وأهلكت الضعيف ، وأتعبت القوي وأمسكت أموالهم ، فما حجتك غداً بين يدي الله؟!

فقال له المنصور : ويحك ما تقول؟! أتعقل؟! انظر ما أمامك! قال : نعم رأيت أسيافاً ، وإنّما هو الموت ولابدّ منه ، فعاجلُه خير من آجله! (فأشار المنصور واخرجا).

فالتفت إليّ وقال لي : إني لأجد عليك رائحة الحنوط! قلت : أجل ، لمّا نُمى إليك عني ما نُمى ـ من الفتوى ـ وجاءني رسولك بالليل ظننته القتل ، فاغتسلت وتطيّبت ولبست ثياب كفني!

فقال المنصور : سبحان الله! ما كنت لأثلم الإسلام وأسعى في نقضه! أو ما تراني أسعى في (رفع) أود الإسلام وإعزاز الدين؟! عائذاً بالله مما قلت يا أبا عبد الله ؛ انصرف راشداً مهدياً.

قال فبتّ ليلتي ، فلمّا أصبحنا أمر المنصور بثلاث صرر في كل صرّة خمسة آلاف دينار! ودعا برجل من شرطته وقال له : اقبض هذا المال وادفع لكل رجل منهم صرّة ، أما مالك بن أنس إن أخذها فبسبيله ، وإن ردّها فلا جناح عليه! وابن سمعان (القاضي) إن أخذها فهي عافيته ، وإن ردّها فأتني برأسه! وابن أبي ذؤيب إن ردّها فبسبيله وإن أخذها فأتني برأسه. فردّها ابن أبي ذؤيب فسلم! وأخذها ابن سمعان فسلم ، وأما أنا فكنت محتاجاً إليها فأخذتها ،

٣٦٠