تاريخ مدينة دمشق - ج ٢

أبي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي [ ابن عساكر ]

تاريخ مدينة دمشق - ج ٢

المؤلف:

أبي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي [ ابن عساكر ]


المحقق: علي شيري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٣
الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٢ الجزء ٣٣ الجزء ٣٤ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١ الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠

واعتاذني حزن فبتّ كأنني

ببنات نعش والسماك موكل

وكأنما بين الجوانح والحشا

مما تأوبني شهاب مدخل

وجدا على النفر الذي تتابعوا

يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا

صلّى الإله عليهم من فتية

وسقى عظامهم الغمام المسبل (١)

صبروا بمؤتة [للإله] نفوسهم

حذر الردى وحفيظة أن ينكلوا (٢)

فمضوا أمام المؤمنين كأنهم

فنق عليهن الحديد المرمل (٣)

إذ يقتدون بجعفر ولوائه

قدّام أولهم ، ونعم الأول (٤)

حتى تفرجت الصفوف وجعفر (٥)

حيث التقى وعث الصفوف مجدّل

فتغير القمر المنير لفقده

والشمس قد كسفت وكادت تأفل

قرم علا بنيانه من هاشم

فرع أشم وسؤدد ما ينقل (٦)

قوم بهم عصم الإله عباده

وعليهم نزل الكتاب المنزل

فضلوا المعاشر عزة وتكرّما

وتغمدت أحلامهم من يجهل

لا يطلقون إلى السفاه حباهم

ويرى خطيبهم بحق يفصل

بيض الوجوه ترى بطون أكفهم

تندى إذا اغبرّ الزمان الممحل (٧)

وبهديهم رضى الإله لخلقه

وبجدهم نصر النبي المرسل (٨)

وأما غزوة ذات السلاسل (٩) :

فهي بعد غزوة مؤتة ، فيما ذكر أهل المغازي ، سوى ابن إسحاق ، فإنه ذكر أنها قبل غزوة مؤتة.

__________________

(١) المسبل : الممطر.

(٢) للإله مطموسة بالأصل وزيدت عن سيرة ابن هشام ٤ / ٧ ، وخع.

(٣) كأنهم مطموسة بالأصل ، أثبتناها عن خع وابن هشام. والفنق جمع فنيق ، وهي الفحول من الإبل.

(٤) في ابن هشام : يهتدون.

(٥) عن خع وابن هشام ، مطموسة بالأصل.

(٦) «فرع «عن خع مطموسة بالأصل ، وفي ابن هشام : فرعا أشم وسؤددا.

(٧) «تندى» عن خع مطموسة بالأصل ، وفي ابن هشام : اعتذر بدل أغبر.

(٨) قال أبو ذر : بجدهم ، ومن رواه بحدهم بالحاء المهملة فمعناه بشجاعتهم وأقدامهم. ومن رواه بالجيم المكسورة فهو معلوم.

(٩) ذات السلاسل : وراء وادي الفرس ، بينها وبين المدينة عشرة أيام.

٢١

أخبرنا أبو بكر محمّد بن عبد الباقي الفرضي ، أنا الحسن (١) بن علي الجوهري ، أنا أبو عمر بن حيوية ، أنا عبد الوهاب بن أبي حيّة ، نا محمّد بن شجاع ، نا محمّد بن عمر الواقدي (٢) : حدثني ربيعة بن عثمان عن ابن رومان. وحدثني أفلح بن سعيد (٣) ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش عن أبي بكر بن حزم ، وحدثني عبد الحميد بن جعفر فكلّ قد حدثني منه بطائفة ، وبعضهم أوعى للحديث من بعض ، فجمعت ما حدثوني وغير هؤلاء المسمين ، فحدثني أيضا قالوا : بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن جمعا من بليّ وقضاعة قد تجمعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمرو بن العاص ، فعقد له لواء أبيض ، وجعل معه راية سوداء. وبعثه في سراة المهاجرين والأنصار ـ في ثلاثمائة ـ عامر بن ربيعة ، وصهيب بن سنان ، وأبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وسعد بن أبي وقاص ؛ ومن الأنصار : أسيد بن حضير ، وعبادة (٤) بن بشر ، وسلمة بن سلامة وسعد بن عبادة. وأمره أن يستعين بمن مرّ به من العرب وهي بلاد بليّ وعذرة وبلقين ، وذلك أن عمرو بن العاص كان ذا رحم بهم ؛ كانت أم العاص بن وائل بلوية. فأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتآلفهم بعمرو فسار. وكان يكمن النهار ويسير الليل ، وكانت معه ثلاثون فرسا ، فلما دنا من القوم بلغه أنّ لهم جمعا كثيرا ، فتمهل (٥) قريبا منهم عشاء وهم شاتون. فجمع أصحابه الحطب يريدون أن يصطلوا ـ وهي أرض باردة ـ فمنعهم ، فشقّ ذلك عليهم حتى كلّمه في ذلك بعض المهاجرين ، فغالظه. فقال عمرو : قد أمرت أن تسمع لي وتطيع؟ قال : نعم ، قال : فافعل.

وبعث رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبره أنّ لهم جمعا كثيرا ويستمده بالرجال. فبعث أبا عبيدة بن الجرّاح وعقد له لواء ، وبعث معه سراة المهاجرين ـ أبو بكر وعمر ـ والأنصار ، وأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يلحق عمرو بن العاص. فخرج أبو عبيدة في مائتين ، وأمره أن يكونا جميعا ولا يختلفا. فساروا حتى لحقوا بعمرو بن

__________________

(١) عن خع وبالأصل «الحسين» تحريف.

(٢) مغازي الواقدي ٢ / ٧٦٩ وما بعدها.

(٣) عند الواقدي : «سعد» تحريف ، راجع تقريب التهذيب.

(٤) عند الواقدي : «عبّاد» ومثله في خع ومختصر ابن منظور ١ / ١٥٧ فالذي بالأصل تحريف.

(٥) عند الواقدي : فنزل.

٢٢

العاص ، فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس ويتقدم عمرا ، فقال له عمرو : وإنما قدمت عليّ مددا لي ، وليس لك أن تؤمني ، وأنا الأمير. وإنما أرسلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليّ مددا. فقال المهاجرون : كلا بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه. فقال عمرو : لا بل أنتم مدد لنا ، فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف ـ وكان حسن الخلق ، لين الشّيمة ـ قال : انظرن (١) يا عمرو ، تعلمنّ أنّ آخر ما عهد إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قال : «إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا» [٤٢٢] وإنك والله إن عصيتني لأطيعنّك. فأطاع أبو عبيدة ، فكان عمرو يصلي بالناس. فآب إلى عمرو جمع ـ فصاروا خمس مائة ـ فسار الليل والنهار حتى وطئوا بلاد بليّ ودوّخها (٢) وكلما انتهى إلى موضع بلغه أنه قد كان بهذا الموضع جمع فلمّا سمعوا بك تفرقوا ، حتى انتهى إلى أقصى بلاد بليّ وعذرة وبلقين ، ولقي في آخر ذلك جمعا ليس بالكثير ، فتقاتلوا (٣) ساعة وتراموا بالنبل ، ورمي يومئذ عامر بن ربيعة بسهم فأصيبت ذراعه. وحمل المسلمون عليهم فهربوا ، وأعجزوا هربا في البلاد وتفرقوا ، ودوّخ عمرو ما هناك وأقام أياما لا يسمع لهم بجمع ولا بمكان صاروا فيه.

وكان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء والنعم ، وكانوا ينحرون ويذبحون ، فلم يكن في ذلك أكثر من ذلك ، لم يكن غنائم تقسم إلّا ما لا ذكر له.

أخبرنا أبو القاسم بن السمرقندي ، أنا أبو الحسين بن النّقّور ، أنا أبو طاهر المخلّص ، نا رضوان بن أحمد بن جالينوس ح.

وأخبرنا أبو عبد الله الفراوي ، أنا أبو بكر البيهقي (٤) ، أنا محمد بن عبد الله الحافظ ، نا أبو العباس محمد بن يعقوب ، قالا : نا أحمد بن عبد الجبار ، نا يونس بن بكير عن ابن إسحاق ، حدثني محمد بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي ، عن غزوة ذات السلاسل من أرض بليّ وعذرة قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمرو بن العاص يستنفر (٥) العرب إلى الإسلام ، وذلك أن أم العاص بن وائل كانت امرأة من بليّ ، فبعثه

__________________

(١) في الواقدي : لتطمئنّ.

(٢) يعني أنه قهرها وغلبها واستولى عليها.

(٣) في الواقدي : فقاتلوا.

(٤) دلائل النبوة للبيهقي ٤ / ٣٩٩ وما بعدها.

(٥) عند البيهقي : ليستنفر.

٢٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم يستألفهم بذلك حتى إذا كان [على ماء](١) بأرض جذام يقال لها السلاسل ، وبذلك سمّيت تلك الغزاة ذات السلاسل ، فلما كان عليه خاف فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمده فبعث إليه أبا عبيدة بن الجرّاح في المهاجرين الأوّلين فيهم أبو بكر وعمر ، وقال لأبي عبيدة حين وجهه : «لا تختلفا» فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه قال له عمرو : إنما جئت مددا إليّ فقال أبو عبيدة : لا ، ولكني على ما أنا عليه ، وأنت على ما أنت عليه. وكان أبو عبيدة رجلا لينا سهلا هينا عليه أمر الدنيا. فقال له عمرو : بل أنت مدد لي فقال له أبو عبيدة : لا يا عمرو إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تختلفا» [٤٢٣] فإنك إن عصيتني أطعتك ، فقال له عمرو : فإني أمير عليك وإنما أنت مدد لي ، قال : فدونك فصلّ ، فصلّى عمرو بالناس.

قال : ونا يونس عن أبي معشر عن بعض مشيختهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إني لأؤمر الرجل على القوم فيهم من هو خير منه لأنه أيقظ عينا وأبصر بالحرب» [٤٢٤].

حدّثنا أبو الحسن علي بن المسلم السلمي ـ لفظا ـ وأبو القاسم الخضر بن الحسين ـ قراءة ـ قالا : أنا أبو القاسم بن أبي العلاء ، أنا أبو محمد بن أبي نصر ، أنا أبو القاسم بن أبي العقب ، أنا أبو عبد الرّحمن ، نا محمد بن عائذ قال : فأخبرني الوليد بن مسلم ، عن عبد الله بن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة قال : ثم غزوة عمرو بن العاص بذات السلاسل من مشارف الشام ، بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بليّ وهم أخوال العاص بن وائل ، وبعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيمن يليهم من قضاعة وأمّره عليهم ، فخاف عمرو من جانبه الذي هو به ، فبعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمده فلما قدم رسول [عمرو على رسول الله](٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمده ندب له المهاجرين. فانتدب أبو بكر وعمر في سراة من المهاجرين وأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجرّاح ثم أمدّ بهم عمرو بن العاص ، وعمرو يومئذ في سعد الله وتلك الناحية من قضاعة فلما قدم مدد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المهاجرين الأوّلين وأميرهم أبو عبيدة بن عبد الله بن الجرّاح. قال عمرو : أنا الأمير وإنما أرسلت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أستمده ، فأمدّني بكم. قال المهاجرون : أنت أمير أصحابك وأبو عبيدة أمير المهاجرين. فقال عمرو : إنما أنتم [مددا](٣) مددت به فأنا الأمير. فلما رأى أبو عبيدة

__________________

(١) عن هامش الأصل.

(٢) عن هامش الأصل وخع.

(٣) زيادة عن خع ، سقطت من الأصل.

٢٤

ذلك ، وكان رجلا حسن الخلق لين الشّيمة. قال : إن آخر ما عهد إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قال : «إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا» [٤٢٥] وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك فسلّم أبو عبيدة لعمرو بن العاص.

قال ابن عائذ فأخبرني الوليد بن مسلم ، نا عبد الله بن لهيعة ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب الزّهري قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثين إلى كلب وغسّان وكفار العرب الذين كانوا بمشارف الشام ، وأمّر على أحد البعثين أبا عبيدة بن الجرّاح وأمّر على البعث الآخر عمرو بن العاص ، فانتدب في بعث أبي عبيدة أبو بكر وعمر. فلما كان عند خروج البعث دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا عبيدة وعمرا فقال : «لا تعصيا» فلما فصلا من المدينة خلا أبو عبيدة بعمرو فقال له : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد إليّ وإليك على أن لا تعاصيا ، فإمّا أن تطيعني وإما أن أطيعك. قال : لا بل أطعني فأطاع أبو عبيدة وكان عمرو أميرا على البعثين كلاهما. فوجد عمر (١) من ذلك ، وقال أتطيع ابن النابغة وتؤمّره على نفسك وعلى أبي بكر وعلينا. ما هذا الرأي؟ فقال أبو عبيدة لعمر : يا ابن أمّ ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد إليّ وإليه أن لا نتعاصيا ، فخشيت إن لم أطعه أن أعصي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدخل بيني وبينه الناس. وإني والله لأطيعنّه حتى أقفل. فلما قفلوا كلم عمر بن الخطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكى إليه ذلك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن أؤمر عليكم بعدها إلّا منكم» [٤٢٦] يريد المهاجرين. فكانت تلك غزوة ذات السلاسل أسر فيها ناس كثير من العرب.

أخبرنا أبو عبد الله الفراوي ، أنا أبو بكر البيهقي (٢) ، أنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا أبو جعفر البغدادي ، نا أبو علاثة محمد بن عمرو بن خالد ، نا أبي ، نا ابن لهيعة ، نا أبو الأسود ، عن عروة ح.

قال : وأنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد ، أنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن عتّاب العبدي ، نا القاسم بن عبد الله بن المغيرة ، نا ابن أبي أويس ، نا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، عن عمه موسى بن عقبة قالا : ثم غزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل

__________________

(١) عن خع وبالأصل «عمرو».

(٢) دلائل النبوة للبيهقي ٣ / ٣٩٨ ـ ٣٩٩.

٢٥

من مشارف الشام في بليّ وسعد الله ومن يليهم من قضاعة ، وفي رواية عروة بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بليّ وهم أخوال العاص بن وائل وبعثه فيمن يليهم من قضاعة وأمّره عليهم.

قال موسى : فخاف عمرو بن العاص من جانبه الذي هو به فبعث إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمده فندب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المهاجرين الأولين فانتدب فيهم أبو بكر وعمر بن الخطاب في سراة المهاجرين وأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجرّاح فأمدّ بهم عمرو بن العاص.

قال عروة : وعمرو يومئذ في سعد الله وتلك الناحية من قضاعة.

قال موسى : فلما قدموا على عمرو قال : أنا أميركم وأنا أرسلت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استمدّه بكم ، قال المهاجرون : بل أنت أمير أصحابك وأبو عبيدة أمير المهاجرين. فقال عمرو : إنما أنتم مدد أمددته فلما رأى ذلك أبو عبيدة وكان رجلا حسن الخلق ، لين الشّيمة يتبعي (١) والصواب متبع لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعهده ، قال : تعلم يا عمرو إن آخر ما عهد إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قال : «إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا» [٤٢٧] وإنك إن عصيتني لأطيعنّك ، فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو بن العاص.

قال البيهقي : لفظ حديث موسى بن عقبة وفي حديث عروة بمعناه.

أخبرنا أبو القاسم بن الحصين ، أنا أبو علي بن المذهب ح.

وأخبرنا أبو علي الحسن بن المظفّر بن الحسن بن السّبط ، أنا أبو محمد الجوهري قالا : أنا أبو بكر القطيعي ، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي (٢) ، نا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن عامر قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جيش ذات السلاسل فاستعمل أبا عبيدة على المهاجرين ، واستعمل عمرو بن العاص على الأعراب. فقال لهما : تطاوعا [٤٢٨]. قال : فكانوا يؤمرون أن يغيروا على بكر فانطلق عمرو فأغار على قضاعة لأن بكرا أخواله. قال فانطلق المغيرة بن شعبة إلى أبي عبيدة فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعملك علينا وأن ابن فلان قد ارتبع أمر القوم وليس لك معه أمر. فقال أبو عبيدة : إن

__________________

(١) كذا بالأصل وخع وفي دلائل البيهقي : سعى لأمر ...

(٢) مسند أحمد ١ / ١٩٦.

٢٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرنا أن نتطاوع. فأنا أطيع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن عصاه عمرو.

والصواب على بليّ كما تقدم.

أخبرنا أبو عبد الله الفراوي ، أنا أبو بكر البيهقي (١) ، أنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا : نا أبو العبّاس محمد بن يعقوب ، نا يحيى بن أبي طالب ، أنا علي بن عاصم ، أنا خالد الحذاء ، عن أبي عثمان النهدي قال : سمعت عمرو بن العاص يقول : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جيش ذي السلاسل ، وفي القوم أبو بكر وعمر فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على أبي بكر وعمر إلّا لمنزلة لي عنده ، قال : فأتيته حتى قعدت بين يديه. وقلت : يا رسول الله من أحبّ الناس إليك؟ قال : «عائشة» قلت : إني لست أسأل لك عن أهلك قال : «فأبوها» قلت : ثم من؟ قال : «ثم عمر» [٤٢٩] قلت : ثم من؟ حتى عد رهطا [قال :](٢) قلت في نفسي لا أعود أسأل عن هذا.

أخبرتنا أم المجتبى فاطمة بنت ناصر العلوية ، قالت : قرئ على أبي القاسم إبراهيم بن منصور السلمي ، أنا محمد بن إبراهيم بن المقرئ ، أنا أحمد بن علي بن المثنى ، نا الحسن بن حمّاد الحضرمي سجادة ، نا يحيى بن سعيد الأموي ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن عمرو بن العاص أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه في ذات السلاسل. فسأله أصحابه أن يأذن لهم أن يوقدوا نارا ليلا فمنعهم ، فكلموا أبا بكر فكلّمه في ذلك فأباه فقال : قد أرسلوك إليّ لا يوقد أحد منهم نارا إلّا ألقيته فيها.

قال : فلقوا العدو فهزموهم ، فأرادوا أن يتبعوهم فمنعهم. فلما انصرف ذلك الجيش ذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكوه إليه. فقال : يا رسول الله إني كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا نارا فيرى عدوهم قلّتهم ، وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد فيعطفوا عليهم ، فأحمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره فقال : يا رسول الله من أحبّ الناس إليك؟ قال : «لم؟» قال : لأحب من تحبّ قال : «عائشة» قال : من الرجال قال : «أبو بكر» [٤٣٠].

__________________

(١) دلائل النبوة للبيهقي ٤ / ٤٠٠.

(٢) عن هامش الأصل.

٢٧

باب

غزاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبوك بنفسه

وذكر مكاتبته ومراسلته منها الملوك

أخبرنا أبو محمّد هبة الله بن أحمد الأكفاني ، نا أبو محمّد عبد العزيز بن أحمد الكتاني ، نا أبو محمد عبد الرّحمن بن عثمان بن أبي نصر ، وأبو نصر محمد بن أحمد بن هارون بن الجندي ، قالا : نا أبو القاسم علي بن يعقوب بن أبي العقب ، أنا أحمد بن إبراهيم القرشي ، نا محمد بن عائذ ، أخبرني محمد بن شعيب ، عن عثمان بن عطاء ، عن أبيه عطاء الخراساني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : بعث (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد خروجه من الطائف ستة أشهر ، ثم أمر (٢) بغزوة تبوك. وهي التي ذكر الله ساعة العسرة وذلك في حر شديد ، وقد كثر النفاق وكثر أصحاب الصفة ، والصفة بيت كان لأهل الفاقة يجتمعون فيه فتأتيهم صدقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ، وإذا حضر غزو عمد المسلمون إليهم فاحتمل الرّجل الرجل أو ما شاء الله يشبعه. فجهزوهم وغزوا معهم واحتسبوا عليهم. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين بالنفقة في سبيل الله والحسبة ، فانفقوا احتسابا ، وأنفق رجال غير محتسبين ، وحمل رجال من فقراء المسلمين وبقي أناس.

وأفضل ما تصدق به يومئذ [أحد](٣) عبد الرّحمن بن عوف تصدّق بمائتي أوقية ، وتصدّق عمر بن الخطاب بمائة أوقية ، وتصدّق عاصم الأنصاري بتسعين وسقا (٤) من تمر. وقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله إني لا أرى عبد الرّحمن إلّا قد اخترب ، ما ترك لأهله شيئا. فسأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل تركت لأهلك شيئا؟» [٤٣١] قال : نعم ، أكثر

__________________

(١) في خع ومختصر ابن منظور ١ / ١٥٩ : «لبث» ونراها الصواب.

(٢) في خع : ثم أمره الله بغزوة.

(٣) زيادة عن خع.

(٤) الوسق : ستون صاعا ، أو حمل بعير (قاموس : وسق).

٢٨

مم أنفقته وما (١) طيب قال : «كم؟» قال : ما وعد الله ورسوله من الرزق والخير. وجاء رجل من الأنصار يقال له أبو عقيل بصاع من تمر فتصدّق.

وعمد المنافقون حين رأوا الصدقات ، فإذا كانت صدقة الرجل كثيرة تغامزوا به ، وقالوا : مرائي ، وإذا تصدق الرجل بيسير من طاقته تمر ، قالوا : هذا أحوج إلى ما جاء به. فلما جاء أبو عقيل بصاعه من تمر قال : بت ليلتي آجرّ بالخرير (٢) على صاعين ، والله ما كان عندي من شيء غيره وهو يعتذر هو يستحي. فأتيت بأحدهما وتركت الآخر لأهلي. فقال المنافقون : هذا أفقر إلى صاعه من غيره. وهم في ذلك ينتظرون يصيبون من الصّدقات غنيّهم وفقيرهم. فلما أزف خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثروا الاستئذان وشكوا شدة الحر ، وخافوا ، زعموا ، الفتنة إن غزوا ويحلفون بالله على الكذب. فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأذن لهم لا يدري ما في أنفسهم. وبنى طائفة منهم مسجد النفاق يرصدون به الفاسق أبا عامر ، وهو عند هرقل قد لحق به وكنانة بن عبد يا ليل ، وعلقمة بن علاثة العامري. وسورة براءة تنزل في ذلك ارسالا. ونزلت فيها آية ليست فيها رخصة لقاعد.

فلما أنزل الله عزوجل : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) (٣) اشتكى الضعيف الناصح لله ولرسوله ، والمريض والفقير إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : هذا أمر لا رخصة فيه. وفي المنافقين ذنوب مستورة لم تظهر حتى كان بعد ذلك. وتخلف رجال غير مستيقنين (٤) ، ولا ذوي علة. ونزلت هذه السورة بالتبيان والتفصيل في شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [ينظر هنا](٥) بمن اتبعه حتى بلغ تبوك ، فبعث منها علقمة بن مجزّز (٦) المدلجي إلى فلسطين ، وبعث خالد بن الوليد إلى دومة الجندل فقال : أسرع لعلك أن تجده خارجا يتقنص فتأخذه ، فوجده فأخذه وأرجف المنافقون في المدينة بكل خبر سوء ، فإذا بلغهم أن المسلمين أصابهم جهد وبلاء تباشروا به وفرحوا وقالوا : قد كنا نعلم ذلك ونحذّر منه ، وإذا أخبروا

__________________

(١) في خع ومختصر ابن منظور : وأطيب.

(٢) كذا بالأصل وخع ، والصواب ما في مختصر ابن منظور : «بالجرير» وهو حبل يجعل للبعير بمنزلة العذار للدابة.

(٣) سورة التوبة ، الآية : ٤١.

(٤) كذا بالأصول ، وغير منقوطة في المطبوعة.

(٥) عن خع ، وفي المطبوعة : «فسار».

(٦) عن خع ومختصر ابن منظور ١ / ١٦٠ وبالأصل «محرز» وانظر الإصابة.

٢٩

بسلامة (١) منهم وخير أصابوه حزنوا. وعرف ذلك منهم (٢) كل عدوّ لهم بالمدينة فلم يبق أحد من المنافقين أعرابي ولا غيره إلّا استخف بعمل خبيث ، ومنزلة خبيثة واستعلن ، ولم يبق ذو علّة إلّا هو ينتظر (٣) الفرج فيما ينزل الله في كتابه. ولم تزل سورة براءة تنزل حتى ظن المؤمنون الظنون ، وأشفقوا أن لا تفلت منهم كبير أحد أذنب في شأن التوبة قط ذنبا إلّا أنزل فيه أمر بلاء ، حتى انقضت وقد وقع كل عامل تبيان منزله من الهدى والضلالة.

أخبرنا أبو القاسم بن السمرقندي ، أنا أبو الحسين بن النّقّور ، أنا أبو طاهر المخلّص ، أنا رضوان بن أحمد ـ إجازة ـ نا أحمد بن عبد الجبار ، نا يونس ، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع الأنصاري ، عن الزّهري أن قائد كعب بن مالك الذي كان يقود به حين عمي حدثه قال : حدثني كعب بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه كان إذا أراد المسير في الغزاة أذن في المسلمين بالجهاز (٤) وكتمهم أين يجاهدون مكيدة للعدو. وما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤذن بالجهاز (٤) إلّا وعندي بعير فأقوى به على الخروج معه. حتى كانت تبوك فكانت في حر شديد وحين أقبلت الثمرة. فأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجهاز إلى تبوك وبيّنها للمسلمين. ووافق ذلك عندي بعيرين ، فرأيت أني قوي على الخروج ، فتجهز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ، وأغدو أنا لأتجهز فو الله لكأنما أربط فأرجع وما قطعت (٥) شعرة وعندي بعيران ، وأنا أرى أني قوي على الخروج إذا أردت. فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون. ثم ذهبت أتحرى فإذا أنا أرى رجلا تخلّف إلّا رجلا مغموصا عليه في دينه. غير أني قد رأيت رجلين من الأنصار صحيحين كدت أسكن إليهما : هلال بن أمية الواقفي (٦) ، ومرارة العمري (٧). حتى إذا أيست من الخروج قلت : اعتذر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رجع.

__________________

(١) كذا بالأصل «بسلامة منهم» وفي المطبوعة : «بسلامتهم».

(٢) في الأصول : «منهم فيهم».

(٣) عن خع وبالأصل «ينظر».

(٤) عن خع ومختصر ابن منظور ١ / ١٦٠ وبالأصل «بالجهاد».

(٥) عن خع ومختصر ابن منظور وبالأصل «وقطفت».

(٦) هذه النسبة إلى واقف بطن من الأوس (الأنساب).

(٧) العمري نسبة إلى بني عمرو بن عوف (انظر الاستيعاب).

٣٠

قال : ونا يونس ، قال : قال ابن إسحاق (١) : ثم خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الخميس واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري فلما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع ومعه زيادة على ثلاثين ألفا من الناس ، وضرب عبد الله بن أبيّ عدوّ الله على ذي حدة عسكرا أسفل منه نحوا من كذا وكذا ، وما كان فيها يزعمون بأقل العسكرين. فلما سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبيّ فيمن تخلف من المنافقين وأهل الرّيب. وخلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب على أهله ، وأمره بالإقامة فيهم ، فأرجف به المنافقون وقالوا : ما خلّفه إلّا استثقالا له وتخففا منه ، فلما قال ذلك المنافقون أخذ علي بن أبي طالب سلاحه ، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو نازل بالجرف فقال : يا رسول الله زعم المنافقون أنك إنما خلّفتني تستثقلني وتخفف مني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذبوا ولكني خلّفتك لما تركت ورائي فارجع ، فاخلفني في أهلي وأهلك ، ألا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي» [٤٣٢] فرجع إلى المدينة ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسفره.

أخبرنا أبو القاسم بن الحصين ، أنا أبو علي بن المذهب ، أنا أبو بكر بن مالك ، نا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، نا عبد الرّزّاق ، نا معمر عن الزّهري ، عن عبد الرّحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه قال : لم أتخلّف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة غزاها ، حتى كانت غزوة تبوك إلّا بدرا. ولم يعاتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا تخلّف عن بدر ، إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغوثين لغيرهم فالتقوا عن غير موعد كما قال الله عزوجل. ولعمري إنّ أشرف مشاهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الناس لبدر ، وما كنت أحبّ أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حيث توافقنا على الإسلام. ولم أتخلف بعد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزاة غزاها. فأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس بالرحيل ، وأراد أن يتأهبوا أهبة عدوهم ، وذلك حين طاب الظلال وطابت الثمار ، فكان قلّ ما أراد غزوة إلّا ورّى غيرها.

وقال يعقوب عن ابن أخي ابن شهاب : إلّا ورّى بغيرها.

حدثناه أبو سفيان ، عن معمر ، عن الزّهري ، عن عبد الرّحمن بن عبد الله بن

__________________

(١) الخبر في سيرة ابن هشام ٤ / ١٣٢.

٣١

كعب بن مالك ، عن أبيه وقال فيه ورا غيرها ثم رجع إلى حديث عبد الرّزّاق.

وكان يقول : الحرب خدعة. فأراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك أن يتأهب الناس أهبته. وأنا أيسر ما كنت قد جمعت راحلتين. وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد وخفة الحاذ (١) وأنا في ذلك أصغو (٢) إلى الظلال وطيب الثمار. فلم أزل كذلك حتى قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاديا بالغداة ، وذلك يوم الخميس ، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس.

أخبرنا أبو محمد بن الأكفاني ، نا عبد العزيز الكتاني ، أنا أبو محمد بن أبي نصر ، وأبو نصر محمد بن هارون ، قالا : أنا أبو القاسم بن أبي العقب ، نا أحمد بن إبراهيم القرشي ، نا ابن عائذ ، أنا الوليد بن محمد ، عن محمد بن مسلم الزّهري ، أنه أخبره قال : ثم غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزوة تبوك وهو يريد الروم وكفار العرب بالشام. حتى إذا بلغ تبوك أقام بها بضع عشرة ليلة ولقيه بها وفد أذرح (٣) ووفد أيلة (٤) فصالحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجزية ، ثم قفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك ولم يجاوزها.

أخبرنا أبو عبد الله الفراوي ، أنا أبو بكر البيهقي (٥) ، أنا أبو عبد الله الحافظ ، نا أبو العباس محمد بن يعقوب ، نا أحمد بن عبد الجبار ، نا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثم أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بين ذي الحجة إلى رجب ثم أمر بالتهيؤ إلى غزو الروم.

أخبرنا أبو عبد الله ، أنا أبو بكر البيهقي (٥) ، أنا أبو عبد الله الحافظ ، نا أبو العبّاس ، نا أحمد ، نا يونس ، عن ابن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم : أن رسول الله ت قلّ ما كان يخرج في وجه من مغازيه إلّا أظهر أنه يريد غيره ، غير أنه في غزوة تبوك قال : أيها الناس إني أريد الروم ، فاعلمهم وذلك في زمان من البأس ، وشدة من الحر ، وجدب من البلاد ، وحين طابت (٦) الثمار ، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص عنها ، فبينما

__________________

(١) أي خفيف الظهر من العيال (النهاية : حوذ).

(٢) أي أميل.

(٣) أذرح بلد في أطراف الشام من أعمال الشراة ، ثم من نواحي البلقاء (ياقوت).

(٤) أيلة : بالفتح ، مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام (ياقوت).

(٥) دلائل النبوة للبيهقي ٥ / ٢١٢ وما بعدها. وسيرة ابن هشام ٤ / ١٢٨.

(٦) عن خع ودلائل البيهقي.

٣٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم في جهازه (١) إذ قال للجدّ بن قيس : يا جدّ هل لك في بنات بني الأصفر؟ قال : يا رسول الله لقد علم قومي أنه ليس من أحد أشد عجبا بالنساء مني ، وإني أخاف إن رأيت نساء بني الأصفر أن يفتنني ، فأذن لي يا رسول الله. فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «قد أذنت» [٤٣٣] فأنزل الله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي ، وَلا تَفْتِنِّي. أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) (٢) يقول ما وقع فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورغبته بنفسه عن نفسه أعظم مما يخاف من فتنة نساء بني الأصفر ، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين. يقول لمن ورائه. وقال رجل من حملة المنافقين لا تنفروا في الحر فأنزل الله عزوجل (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) (٣) قال ثم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جدّ في سفره ، وأمر الناس بالجهاز (٤) وحض أهل الغنا على النفقة والحملان في سبيل الله

فحمل رجال من أهل الغنا وأحسنوا (٥) وأنفق عثمان رضي‌الله‌عنه في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم منها ، وحمل على مائتي (٦) بعير.

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي ، أنا أبو محمد الجوهري ، أنا أبو عمر بن حيّوية ، نا عبد الوهاب بن أبي حيّة ، نا محمد بن شجاع ، نا محمد بن عمر (٧) ، نا عمر بن عثمان بن عبد الرّحمن بن سعيد ، وعبد الله بن جعفر الزّهري ، ومحمد بن يحيى ، وابن أبي حبيبة ، وربيعة بن عثمان ، وعبد الرّحمن بن عبد العزيز بن أبي قتادة ، وعبد الله بن عبد الرّحمن الجمحي (٨) ، وعمر بن سليمان بن أبي حثمة ، وموسى بن محمد بن إبراهيم ، وعبد الحميد بن جعفر ، وأبو معشر ، ويعقوب بن محمد بن أبي صعصعة ، وابن أبي سبرة ، وأيوب بن النعمان ، فكلّ قد حدثني بطائفة من حديث تبوك ، وبعضهم أوعى له من بعض ، وغير هؤلاء قد حدثني ممن لم اسمّ ، ثقات ، وقد كتبت كلّ ما حدثوني.

__________________

(١) عن خع ودلائل البيهقي ، وبالأصل «جهاده».

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٤٩.

(٣) سورة التوبة ، الآية : ٨١.

(٤) عن دلائل البيهقي وبالأصل : بالجهاد.

(٥) عند البيهقي : واحتسبوا.

(٦) عن خع والبيهقي وبالأصل «مائتين».

(٧) مغازي الواقدي ٣ / ٩٨٩.

(٨) عن خع والواقدي وبالأصل «الجهني».

٣٣

قالوا : كانت الطائفة (١) ـ وهم الأنباط ـ يقدمون المدينة بالدّرمك (٢) والزيت في الجاهلية وبعد أن دخل الإسلام ، فإنما كانت أخبار الشام عند المسلمين كل يوم ؛ لكثرة من يقدم عليهم من الأنباط ، فقدمت منهم قادمة فذكروا أنّ الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام ، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة ، وأجلبت معه لخم وجذام وغسّان وعاملة. وزحفوا وقدّموا مقدّماتهم إلى البلقاء وعسكروا بها. وتخلّف هرقل بحمص. ولم يكن ذلك. إنما ذلك شيء قيل لهم قالوا. ولم يكن عدوّ أخوف عند المسلمين منهم ، وذلك لما عاينوا منهم ـ إذ كانوا يقدمون عليهم تجارا ـ من العدد والعدّة والكراع. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يغزو غزوة إلّا ورّى بغيرها. لئلا تذهب الأخبار بأنه يريد كذا وكذا ، حتى كانت غزوة تبوك فغزاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ، واستقبل غزوا وعددا كثيرا ، فجلّى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبة عدوهم (٣) ، وأخبرهم بالوجه الذي يريد. وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى القبائل وإلى مكة يستنفرهم إلى عدوهم (٣). فبعث إلى أسلم بريدة بن الحصيب وأمره أن يبلغ الفرع ، وبعث أبا زهم الغفاري إلى قومه أن يطلبهم ببلادهم ، وخرج أبو واقد الليثي في قومه ، وخرج أبو جعد الضّمري في قومه بالسّاحل ، وبعث رافع بن مكيث ، وجندب بن مكيث في جهينة ، وبعث نعيم بن مسعود في أشجع ، وبعث في بني كعب بن عمرو عدة : بديل بن ورقاء ، وعمرو بن سالم ، وبشر بن سفيان. وبعث في سليم عدة : منهم العبّاس بن مرداس. وحض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين على الجهاد (٤) ورغبهم فيه ، وأمرهم بالصدقة ، فحملوا صدقات كثيرة ، فكان أول من حمل أبو بكر الصّدّيق ، جاء بماله كلّه أربعة آلاف درهم ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل أبقيت لأهلك شيئا؟ قال : الله ورسوله أعلم ، وجاء عمر رضي‌الله‌عنه بنصف ماله ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل أبقيت شيئا؟ قال : نعم ، نصف ما جئت به. وبلغ عمر ما جاء به أبو بكر الصديق فقال : ما استبقنا إلى خير قطّ إلّا سبقتني

__________________

(١) كذا بالأصل ، وفي الواقدي : «الساقطة» وفي خع «الظافطة» وفي مختصر ابن منظور ١ / ١٦٣ «الضافطة» وهي الأقرب أي الذين يجلبون المبرة والمتاع إلى المدن ، أو المكاري الذي يكري الأحمال ، وكانوا في تلك الأيام من الأقباط (انظر النهاية : ضفط) وفي القاموس : هم رذال الناس.

(٢) الدرمك : دقيق الحوّارى.

(٣) الواقدي : غزوهم.

(٤) الواقدي : على القتال والجهاد.

٣٤

إليه. وحمل العباس بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالا. وحمل طلحة بن عبيد الله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالا ، وحمل عبد الرّحمن بن عوف إليه مائتي أوقية ، وحمل سعد بن عبادة إليه مالا ، وحمل محمد بن مسلمة إليه مالا. وتصدق عاصم بن عدي بتسعين وسقا تمرا وجهز عثمان بن عفان ثلث ذلك الجيش ، وكان من أكثرهم نفقة ، حتى كفى ثلث ذلك الجيش مئونتهم حتى إن كان ليقال : ما بقيت لهم حاجة ، حتى كفاهم شنق (١) أسقيتهم فيقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يومئذ : ما يضر عثمان ما فعل بعد هذا.

ورغب أهل الغنا في الخير والمعروف ، واحتسبوا في ذلك الخير ، وقوّى ناس دون هؤلاء من هو أضعف منهم ، حتى إن الرجل ليأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين فيقول : هذا البعير بينكما تعتقبانه ، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج. حتى إن كنّ النساء ليعنّ بكل ما قدرن عليه.

لقد قالت أم سنان الأسلمية : لقد رأيت ثوبا مبسوطا بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيت عائشة فيه مسك (٢) ومعاضد وخلاخل وأقرطة وخواتيم وخدمات ، مما يبعث به النساء يعنّ (٣) به المسلمين في جهازهم. والناس في عسرة شديدة ، وحين طابت الثمار وأحبت الظلال ، فالناس يحبون المقام ، ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه. وأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس بالانكماش والجدّ ، وضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عسكره بثنية الوداع ، والناس كثير لا يجمعهم كتاب. قلّ رجل يريد أن يتغيب إلّا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله عزوجل.

فلما (٤) استمر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سفره ، وأجمع المسير استخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري ويقال محمد بن مسلمة لم يتخلف عنه في غزوة غيرها ، ويقال ابن أم مكتوم ، وأثبتهم عندنا محمد بن مسلمة وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استكثروا من

__________________

(١) شنق جمع شناق ، وهو الخيط أو السير الذي تعلق به القربة. والخيط الذي يشد به فمها (النهاية : شنق).

(٢) المسك : الأسورة والخلاخيل ، واحدته مسكة والمعاضد : الدمالج لأنه على العضد يكون ، واحدته معضدة ومعضد.

والخلاخل : الحلي.

والخدمات واحدتها خدمة ، وهي الخلخال.

(٣) عن مختصر ابن منظور ، وبالأصل : يعينون.

(٤) الواقدي ٣ / ٩٩٥.

٣٥

النعال ، فإن الرجل لا يزال راكبا ما دام منتعلا» [٤٣٤]. فلما سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تخلّف ابن أبيّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيمن تخلّف من المنافقين ، وقال : يغزوا محمد بني الأصفر مع جهد الحال والحرّ والبلد البعيد ، إلى ما لا قبل له به يحسب محمد أن قتال بني الأصفر اللعب؟ ونافق من (١) هو معه على مثل رأيه. ثم قال ابن أبيّ : والله لكأني أنظر إلى أصحابه غدا مقرنين في الجبال ، إرجافا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه.

فلما رحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ثنية الوداع إلى تبوك وعقد الألوية والرايات ، فدفع لواءه الأعظم إلى أبي بكر ورايته العظمى إلى الزبير ، ودفع راية الأوس إلى أسيد بن الحضير ، ولواء الخزرج إلى أبي دجانة ، ويقال إلى الحباب بن المنذر بن الجموح.

قال : ومضى (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة فصبّح ذا خشب (٣) فنزل تحت الدّومة ، وكان (٤) دليله إلى تبوك علقمة بن الفغواء الخزاعي. فقام (٥) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الدّومة فراح منها ممسيا حيث أبرد. وكان في حر شديد.

قالوا : وكان الناس مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثين ألفا ، ومن الخيل عشرة آلاف فرس ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّ بطن من الأنصار أن يتّخذ لواء أو راية (٦) ، والقبائل من العرب فيها الرايات والألوية. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد دفع راية بني مالك بن النجار إلى عمارة بن حزم : فأدرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيد بن ثابت فأعطاه الراية. قال عمارة : يا رسول الله لعلك وجدت (٧) عليّ قال : «لا والله ، ولكن قدّموا القرآن ، وكان زيد أكثر أخذا للقرآن منك ، والقرآن يقدم. وإن كان عبدا أسود مجدّعا» [٤٣٥] وأمر في الأوس والخزرج أن يحمل راياتهم أكثرهم أخذا للقرآن. وكان أبو زيد يحمل راية بني عمرو بن عوف ، وكان معاذ بن جبل يحمل راية بني سلمة.

__________________

(١) بالأصل : ممن.

(٢) مغازي الواقدي ٣ / ٩٩٩.

(٣) واد على مسير ليلة من المدينة (معجم البلدان).

(٤) بالأصل : «وكانت» والمثبت عن الواقدي.

(٥) عن الواقدي وبالأصل «فقال».

(٦) عند الواقدي : لواء وراية.

(٧) أي غضبت.

٣٦

قال (١) : وكان هرقل قد بعث رجلا من غسّان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينظر إلى صفته وإلى علاماته ، إلى حمرة في عينيه ، وإلى خاتم النبوة بين كتفيه ، وسأل فإذا هو لا يقبل الصدقة ، فوعى أشياء من حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم انصرف إلى هرقل يذكر ذلك له. فدعا قومه إلى التصديق [به](٢) فأبوا (٣) حتى خافهم على ملكه ، وهو في موضعه لم يتحرك ولم يزحف. وكان الذي خبّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بعثته (٤) أصحابه ودنوّه إلى أدنى الشام باطل ، لم يرد ذلك ولم يهمّ به. وشاور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه في التقدم. فقال عمر بن الخطاب : إن كنت أمرت بالسير فسر. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو أمرت به ما استشرتكم فيه. قال : يا رسول الله فإن للروم جموعا كثيرة ، وليس بها أحد من أهل الشام (٥) وقد دنوت منهم حيث ترى ، وقد أفزعهم دنوك ، فلو رجعت هذه السنة حتى ترى ، أو يحدث الله تعالى لك في ذلك أمرا.

أخبرنا أبو المظفر عبد المنعم بن الأستاذ أبي القاسم القشيري وأبو محمد هبة الله بن سهل بن عمر السيّدي ، قالا : أنا أبو سعيد بن محمد ، أنا زاهر بن أحمد أنا إبراهيم بن عبد الصّمد ، نا أبو مصعب ، نا مالك ، عن أبي الزبير المكي ، عن أبي الطّفيل عامر بن واثلة أن معاذ بن جبل أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام غزوة تبوك وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجمع بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء. قال : فأخر الصلاة يوما ، ثم خرج فصلّى الظهر والعصر جميعا ، ثم دخل ثم خرج فصلّى المغرب والعشاء جميعا ثم قال : «إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار. فمن جاءها فلا يمس من ماءها شيئا حتى آتي» قال : فجئناها وقد سبق إليها رجلان ، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء فسألهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل مسستما من مائها شيئا؟» قالا : نعم ، فسبّهما وقال لهما ما شاء الله أن يقول ، ثم غرفوا من العين بأيديهم قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء ، ثم غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه وجهه ويديه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يوشك يا

__________________

(١) الواقدي ٣ / ١٠١٨.

(٢) زيادة عن الواقدي.

(٣) بالأصل : «فأجابوا» والمثبت عن الواقدي.

(٤) عن الواقدي وبالأصل «تغيب» وفي مختصر ابن منظور تعبئة.

(٥) الواقدي : أهل الإسلام.

٣٧

معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ (١) جنانا» [٤٣٦].

أخبرنا أبو القاسم بن السّمرقندي ، أنا أبو الحسين بن النّقّور ، أنا أبو طاهر المخلّص ، أنا رضوان بن أحمد ـ إجازة ـ نا أحمد بن عبد الجبار ، نا يونس بن بكير ، عن المبارك بن فضالة ، عن الحسن أنه قال : آخر غزوة غزاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبوك.

أخبرنا أبو القاسم بن الحصين أنا أبو علي بن المذهب ، أنا أبو بكر بن مالك ، نا عبد الله بن أحمد ، نا سريج بن يونس بن كنانة ، نا عبّاد بن عبّاد يعني المهلّبي ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم (٢) ، عن سعيد بن أبي راشد مولى لآل معاوية قال : قدمت الشام ، فقيل لي في هذه الكنيسة رسول قيصر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فدخلنا الكنيسة فإذا أنا بشيخ كبير ، فقلت له : أنت رسول [قيصر إلى رسول](٣) الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نعم قال : فقلت : حدثني عن ذلك. قال : إنه لما غزا تبوكا [كتب](٤) إلى قيصر كتابا وبعث به مع رجل يقال له دحية بن خليفة. فلما قرأ كتابه وضعه معه على سريره ، وبعث إلى بطارقته ورءوس أصحابه فقال : إن هذا الرجل بعث إليكم رسولا ، وكتب إليكم كتابا يخبركم إحدى ثلاث : إما أن تتبعوه على دينه ، أو تقرّوا له بخراج يجرى له عليكم ، ويقركم على هيئتكم في بلادكم ، أو أن تلقوا إليه بالحرب. قال : فنخروا (٥) نخرة حتى خرج بعضهم من برانسهم وقالوا : لا نتبعه على دينه ، وندع ديننا ودين آبائنا ، ولا نقرّ له بخراج يجري علينا ، ولكن نلقي إليه الحرب. فقال : قد كان ذلك ولكني كرهت أن أفتات (٦) دونكم بأمر. قال عباد : فقلت لابن خثيم : أوليس قد كان قارب وهمّ بالإسلام فيما بلغنا؟ قال : بلى ، لو لا أنه رأى منهم. قال : فقال : أبغوني رجلا من العرب أكتب معه إليه جواب كتابه. قال : فأتيت وأنا شاب فانطلق بي إليه ، فكتب جوابه وقال لي : مهما نسيت من

__________________

(١) كذا بالأصول ومختصر ابن منظور ، وفي المطبوعة : قد ملأ جفانا.

(٢) بالأصل «خيثم» والمثبت والضبط بالمعجمة والمثلثة مصغرا عن تقريب التهذيب. وقد صححت في كل مواضع الخبر.

وانظر مسند أحمد ٤ / ٧٤ ـ ٧٥.

(٣) ما بين معكوفتين زيادة عن هامش الأصل.

(٤) زيادة عن خع.

(٥) غزوا : تكلموا ، بكلام فيه غضب ونفور ، بمعنى أنهم أظهروا عدم موافقتهم على ما سمعوا (النهاية ـ واللسان).

(٦) عن مختصر ابن منظور ، وبالأصل «ابتات» ، افتات برأيه عليك : استبد.

٣٨

شيء فاحفظ عني ثلاث خلال : انظر إذا هو قرأ كتابي هذا ، هل يذكر الليل والنهار ، وهل يذكر كتابه إليّ ، وانظر هل ترى في ظهره علما؟ قال : فأقبلت حتى أتيته وهو بتبوك في حلقة من أصحابه منتحين فسألت فأخبرت به. فدفعت إليه الكتاب ، فدعا معاوية فقرأ عليه الكتاب. فلما أتى على قوله : دعوتني إلى جنة عرضها السّماوات والأرض ، فأين النار؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا جاء الليل فأين النهار»؟ قال : فقال : «إني قد كتبت إلى النجاشي فحرقه ، فحرقه الله محرّق الملك». فقال عباد : فقلت لابن خثيم : أليس قد أسلم النجاشي ونعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة إلى أصحابه فصلى عليه؟ قال : بلى ، ذلك فلان بن فلان وهذا فلان بن فلان ، قد ذكرهما ابن خثيم جميعا ونسيتهما. وكتبت إلى كسرى كتابا فمزقه فمزقه الله ممزق الملك. وكتبت إلى قيصر كتابا فأجابني فيه ، فلن يزال الناس يخشون (١) منهم بأسا ما كان في العيش خير ، ثم قال لي : ممّن أنت؟ قلت : من تنوخ قال : يا أخا تنوخ هل لك في الإسلام قلت : لا ، إني أقبلت من قبل قوم وأنا فيهم على دين. ولست مستبدلا بدينهم حتى أرجع إليهم. قال : فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو تبسّم فلما قضيت حاجتي قمت. فلما ولّيت دعاني ، فقال : يا أخا تنوخ هلم فامض للذي أمرت به. قال : وكنت نسيتها فاستدرت من وراء الحلقة وألقى بردة كانت عليه عن ظهره ، فرأيت على غضروف كتفه مثل المحجم الضخم [٤٣٧].

وأخبرنا أبو المظفّر عبد المنعم بن القشيري ، نا أبو سعد الجنزرودي ، أنا أبو عمرو بن حمدان ح.

وأخبرتنا أم المجتبى فاطمة بنت ناصر قالت : قرئ على إبراهيم بن منصور ، أخبركم أبو بكر بن المقرئ ، قالا : أنا أبو يعلى الموصلي ، نا حوثرة بن أشرس ، نا حمّاد بن سلمة ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم (٢) ، عن سعيد بن أبي راشد ، قال : كان رسول قيصر جارا لي في ـ وقال ابن المقرئ جاء إليّ وقالا : ـ زمن يزيد بن معاوية. فقلت له : أخبرني عن كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قيصر. فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل دحية الكلبي إلى قيصر وكتب معه كتابا يخيّره بين إحدى ثلاث : إما أن يسلم وله ما في يديه ـ وقال ابن حمدان : يده ـ من ملكه ، وقال : وإمّا أن يؤدّي الخراج ، وإما أن يأذن

__________________

(١) عن مسند أحمد ٤ / ٧٥.

(٢) بالأصل «خيثم» والصواب ما أثبت ، انظر ما تقدم فيه قريبا.

٣٩

بحرب. قال : فجمع قيصر بطارقته وقسّيسيه في قصره وأغلق عليهم الباب وقال : إن محمدا كتب إليّ يخيّرني بين إحدى ثلاث. إمّا أن أسلم ولي ما في يدي من ملكي ، وإما أن أؤدّي الخراج ، وإما أن آذن بحرب. وقد تجدون فيما تقرءون من كتبكم أنه سيملك ما تحت قدميّ من ملكي ، فنخروا نخرة حتى أن بعضهم خرجوا من برانسهم وقالوا : ترسل إلى رجل من العرب جاء في بردته ونعله بالخراج؟ فقال : اسكتوا ، إنما أردت أن أعلم تمسككم بدينكم ورغبتكم فيه ثم قال : ابتغوا لي رجلا ـ زاد ابن حمدان : من العرب ـ وقالا : فجاءوا بي ، فكتب معي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا وقال لي : انظر ما سقط عنك من قوله فلا يسقطنّ عنك ـ وقال ابن حمدان : يسقط عنك ـ ذكر الليل والنهار ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مع أصحابه وهم محتبون بحمائل سيوفهم حول بئر تبوك ، قلت : أيكم محمد ، فأومأ بيده إلى نفسه فرفعت ـ وقال ابن المقرئ ـ فدفعت ـ إليه الكتاب ، فدفعه إلى رجل إلى جنبه ، فقلت : من هذا؟ فقالوا : معاوية بن أبي سفيان ، فقرأه فإذا فيه : كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السّماوات والأرض فأين النار؟ ـ زاد ابن حمدان : إذا وقالا : ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا سبحان الله إذا جاء الليل فأين النهار»؟ فكتبته عندي ثم قال ـ زاد ابن المقرئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالا : ـ إنك رسول قوم ، وإن لك حقا ، لكن جئتنا ونحن مرملون» فقال عثمان بن عفان : أنا أكسوه ـ وقال ابن حمدان : قال عثمان : اكسوه ـ حلة صفورية (١) فقال رجل من الأنصار عليّ ضيافته ، فقال لي قيصر فيما قال : انظر إلى ظهره. فرأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أني أريد النظر إلى ظهره فألقى ثوبه عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم في بعض الكتف. فأقبلت عليه أقبّله ، ثم قال ـ زاد ابن المقرئ : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إني كتبت إلى النجاشي فأحرق كتابي ، والله محرقه. وكتبت إلى كسرى عظيم فارس فمزق كتابي والله ممزقه ـ وقال ابن حمدان يمزقه ـ وكتبت إلى قيصر فرفع كتابي فلا يزال في الناس ما كان في العيش خير ـ فقال ابن حمدان : فلا يزال ـ الناس ذكر كلمة ـ ما كان في العيش خير ـ.

وأخبرنا أبو القاسم بن الحصين ، أنا أبو علي بن المذهب ، أنا أبو بكر بن مالك ، نا عبد الله بن أحمد ، نا أبو عامر حوثرة بن أشرس ، أملاه علي ، أخبرني حمّاد بن سلمة ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم (٢) ، عن سعيد بن أبي راشد قال : كان

__________________

(١) الصفورية : جنس من الثياب (تاج العروس).

(٢) بالأصل «خيثم» والصواب ما أثبت ، وقد تقدم قريبا.

٤٠