تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

ويترتّب عليه التطليق ، أمّا إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع ، وانحبست الشهوة ، فلا يحصل ذلك الضرر ، فيبقى النكاح بين الزوجين سليما عن هذه المفسدة» قلت : وعليه فتحريم هؤلاء من قسم الحاجيّ من المناسب.

والربائب جمع ربيبة ، وهي فعلية بمعنى مفعولة ، من ربّه إذا كفله ودبّر شئونه ، فزوج

الأمّ رابّ وابنتها مربوبة له ، لذلك قيل لها ربيبة.

والحجور جمع حجر ـ بفتح الحاء وكسرها مع سكون الجيم ـ وهو ما يحويه مجتمع الرّجلين للجالس المتربّع. والمراد به هنا معنى مجازي وهو الحضانة والكفالة ، لأنّ أوّل كفالة الطفل تكون بوضعه في الحجر ، كما سمّيت حضانة ، لأنّ أوّلها وضع الطفل في الحضن.

وظاهر الآية أنّ الربيبة لا تحرم على زوج أمّها إلّا إذا كانت في كفالته ، لأن قوله (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) وصف والأصل فيه إرادة التقييد كما أريد من قوله : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) فظاهر هذا أنّها لو كانت بعيدة عن حضانته لم تحرم. ونسب الأخذ بهذا الظاهر إلى علي بن أبي طالب ، رواه ابن عطية ، وأنكر ابن المنذر والطحاوي صحّة سند النقل عن علي ، وقال ابن العربي : إنّه نقل باطل. وجزم ابن حزم في المحلّى بصحّة نسبة ذلك إلى علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب. وقال بذلك الظاهرية ، وكأنّهم نظروا إلى أنّ علّة تحريمها مركّبة من كونها ربيبة وما حدث من الوقار بينها وبين حاجرها إذا كانت في حجره وأمّا جمهور أهل العلم فجعلوا هذا الوصف بيانا للواقع خارجا مخرج الغالب ، وجعلوا الربيبة حراما على زوج أمّها ، ولو لم تكن هي في حجره. وكأنّ الذي دعاهم إلى ذلك هو النظر إلى علّة تحريم المحرّمات بالصهر ، وهي التي أشار إليها كلام الفخر المتقدّم. وعندي أنّ الأظهر أنّ يكون الوصف هنا خرج مخرج التعليل : أي لأنهنّ في حجوركم ، وهو تعليل بالمظنّة فلا يقتضي اطّراد العلّة في جميع مواقع الحكم.

وقوله : (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) ذكر قوله : (مِنْ نِسائِكُمُ) ليبنى عليه (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) وهو قيد في تحريم الربائب بحيث لا تحرم الربيبة إلّا إذا وقع البناء بأمّها ، ولا يحرّمها مجرّد العقد على أمّها ، وهذا القيد جرى هنا ولم يجر على قوله : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) بل أطلق الحكم هناك ، فقال الجمهور هناك : أمّهات نسائكم معناه أمّهات أزواجكم ، فأمّ الزوجة تحرم بمجرد عقد الرجل على ابنتها لأنّ العقد يصيّرها امرأته ، ولا يلزم الدخول ولم يحملوا المطلق منه على المقيّد بعده ، ولا جعلوا الصفة

٨١

راجعة للمتعاطفات لأنّها جرت على موصوف متعيّن تعلّقه بأحد المتعاطفات ، وهو قوله : (مِنْ نِسائِكُمُ) المتعلق بقوله : (وَرَبائِبُكُمُ) ولا يصلح تعلّقه ب (أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ).

وقال علي بن أبي طالب ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، وعبد الله بن عبّاس ، ومجاهد، وجابر ، وابن الزبير : لا تحرم أمّ المرأة على زوج ابنتها حتّى يدخل بابنتها حملا للمطلق على المقيّد ، وهو الأصحّ محملا. ولم يستطع الجمهور أن يوجّهوا مذهبهم بعلّة بيّنة ، ولا أن يستظهروا عليه بأثر. وعلّة تحريم المرأة على زوج ابنتها تساوي علّة تحريم ربيبة الرجل عليه ، ويظهر أنّ الله ذكر أمّهات النساء قبل أن يذكر الربائب ، فلو أراد اشتراط الدخول بالأمّهات في تحريمهنّ على أزواج بناتهنّ لذكره في أوّل الكلام قبل أن يذكره مع الربائب.

وهنالك رواية عن زيد بن ثابت أنّه قال : إذا طلّق الأمّ قبل البناء فله التزوّج بابنتها ، وإذا ماتت حرمت عليه ابنتها. وكأنّه نظر إلى أنّ الطلاق عدول عن العقد ، والموت أمر قاهر ، فكأنّه كان ناويا الدخول بها ، ولا حظّ لهذا القول.

وقوله : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) الحلائل جمع الحليلة فعيلة بمعنى فاعلة ، وهي الزوجة ، لأنّها تحلّ معه ، وقال الزجّاج : هي فعيلة بمعنى مفعولة ، أي محلّلة إذ أباحها أهلها له ، فيكون من مجيء فعيل للمفعول من الرباعي في قولهم حكيم ، والعدول عن أن يقال : وما نكح أبناؤكم ـ أو ـ ونساء أبنائكم إلى قوله : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) تفنّن لتجنّب تكرير أحد اللفظين السابقين وإلّا فلا فرق في الإطلاق بين الألفاظ الثلاثة.

وقد سمي الزوج أيضا بالحليل وهو يحتمل الوجهين كذلك. وتحريم حليلة الابن واضح العلّة ، كتحريم حليلة الأب.

وقوله : (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) تأكيد لمعنى الأبناء لدفع احتمال المجاز ، إذ كانت العرب تسمّي المتبنّى ابنا ، وتجعل له ما للابن ، حتّى أبطل الإسلام ذلك وقوله تعالى : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) [الأحزاب : ٥] فما دعي أحد لمتبنّيه بعد ، إلّا المقداد بن الأسود وعدّت خصوصيّة. وأكّد الله ذلك بالتشريع الفعلي بالإذن لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتزوّج زينب ابنة جحش ، بعد أن طلّقها زيد بن حارثة الذي كان تبنّاه ، وكان يدعى زيد بن محمد. وابن الابن وابن البنت ، وإن سفلا ، أبناء من الأصلاب لأنّ للجدّ عليهم ولادة لا محالة.

وقوله : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) هذا تحريم للجمع بين الأختين فحكمته دفع

٨٢

الغيرة عمّن يريد الشرع بقاء تمام المودّة بينهما ، وقد علم أنّ المراد الجمع بينهما فيما فيه غيرة ، وهو النكاح أصالة ، ويلحق به الجمع بينهما في التسرّي بملك اليمين ، إذ العلّة واحدة فقوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) وقوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النساء : ٢٤] يخصّ بغير المذكورات. وروي عن عثمان بن عفّان : أنّه سئل عن الجمع بين الأختين في التسري فقال : «أحلتهما» آية يعني قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) وحرّمتهما آية يعني هذه الآية ، أي فهو متوقّف. وروي مثله عن علي ، وعن جمع من الصحابة ، أنّ الجمع بينهما في التسرّي حرام ، وهو قول مالك. قال مالك «فإن تسرّى بإحدى الأختين ثمّ أراد التسرّي بالأخرى وقف حتى يحرّم الأولى بما تحرم به من بيع أو كتابة أو عتق ولا يحدّ إذا جمع بينهما». وقال الظاهرية : يجوز الجمع بين الأختين في التسرّي لأنّ الآية واردة في أحكام النكاح ، أمّا الجمع بين الأختين في مجرّد الملك فلا حظر فيه.

وقوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) هو كنظيره السابق ، والبيان فيه كالبيان هناك ، بيد أنّ القرطبي قال هنا : ويحتمل معنى زائدا وهو جواز ما سلف وأنّه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا وإذا جرى الجمع في الإسلام خيّر بين الأختين من غير إجراء عقود الكفّار على مقتضى الإسلام ، ولم يعز القول بذلك لأحد من الفقهاء.

وقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يناسب أن يكون معنى (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) تقرير ما عقدوه من ذلك في عهد الجاهلية ، فالمغفرة للتجاوز عن الاستمرار عليه ، والرحمة لبيان سبب ذلك التجاوز.

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤))

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ).

عطف على (وَأَنْ تَجْمَعُوا) [النساء : ٢٣] والتقدير : وحرّمت عليكم المحصنات من النساء إلخ ... فهذا الصنف من المحرّمات لعارض نظير الجمع بين الأختين.

والمحصنات ـ بفتح الصاد ـ من أحصنها الرجل إذا حفظها واستقلّ بها عن غيره ،

٨٣

ويقال : امرأة محصنة ـ بكسر الصاد ـ أحصنت نفسها عن غير زوجها ، ولم يقرأ قوله : (وَالْمُحْصَناتُ) في هذه الآية إلّا بالفتح.

ويقال أحصن الرجل فهو محصن ـ بكسر الصاد ـ لا غير ، ولا يقال محصن : ولذلك لم يقرأ أحد : محصنين غير مسافحين ـ بفتح الصاد ـ ، وقرئ قوله : ومحصنات ـ بالفتح والكسر ـ وقوله : (فَإِذا أُحْصِنَ) [النساء : ٢٥] ـ بضم الهمزة وكسر الصاد ، وبفتح الهمزة وفتح الصاد ـ. والمراد هنا المعنى الأول ، أي وحرّمت عليكم ذوات الأزواج ما دمن في عصمة أزواجهنّ ، فالمقصود تحريم اشتراك رجلين فأكثر في عصمة امرأة ، وذلك إبطال لنوع من النكاح كان في الجاهلية يسمّى الضّماد ، ولنوع آخر ورد ذكره في حديث عائشة : أن يشترك الرجال في المرأة وهم دون العشرة ، فإذا حملت ووضعت حملها أرسلت إليهم فلا يستطيع أحد منهم أن يمتنع ، فتقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان ، تسمّي من أحبّت باسمه فيلحق به. ونوع آخر يسمّى نكاح الاستبضاع ؛ وهو أن يقول الزوج لامرأته إذا طهرت من حيضها : أرسلي إلى فلان ، فاستبضعي منه ، ويعتزلها زوجها ولا يمسّها حتّى يتبيّن حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ، فإذا تبيّن حملها أصابها زوجها. قالت عائشة : وإنما يفعل هذا رغبة في نجابة الولد ، وأحسب أنّ هذا كان يقع بتراض بين الرجلين ، والمقصد لا ينحصر في نجابة الولد ، فقد يكون لبذل مال أو صحبة. فدلّت الآية على تحريم كلّ عقد على نكاح ذات الزوج ، أي تحريم أن يكون للمرأة أكثر من زوج واحد. وأفادت الآية تعميم حرمتهنّ ولو كان أزواجهنّ مشركين ، ولذلك لزم الاستثناء بقوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي إلّا اللائي سبيتموهنّ في الحرب ، لأنّ اليمين في كلام العرب كناية عن اليد حين تمسك السيف.

وقد جعل الله السبي هادما للنكاح تقريرا لمعتاد الأمم في الحروب ، وتخويفا أن لا يناصبوا الإسلام لأنّهم لو رفع عنهم السبي لتكالبوا على قتال المسلمين ، إذ لا شيء يحذره العربي من الحرب أشدّ من سبي نسوته ، ثم من أسره ، كما قال النابغة :

حذارا على أن لا تنال مقادتي

ولا نسوتي حتّى يمتن حرائرا

واتّفق المسلمون على أنّ سبي المرأة دون زوجها يهدم النكاح ، ويحلّها لمن وقعت في قسمته عند قسمة المغانم. واختلفوا في التي تسبى مع زوجها : فالجمهور على أنّ سبيها يهدم نكاحها ، وهذا إغضاء من الحكمة التي شرع لأجلها إبقاء حكم الاسترقاق بالأسر. وأومأت إليها الصلة بقوله : (مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وإلّا لقال : إلّا ما تركت

٨٤

أزواجهنّ.

ومن العلماء من قال : إنّ دخول الأمة ذات الزوج في ملك جديد غير ملك الذي زوّجها من ذلك الزوج يسوّغ لمالكها الجديد إبطال عقد الزوجية بينها وبين زوجها ، كالتي تباع أو توهب أو تورث ، فانتقال الملك عندهم طلاق. وهذا قول ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وجابر بن عبد الله ، وابن عباس ، وسعيد ، والحسن البصري ، وهو شذوذ ؛ فإنّ مالكها الثاني إنّما اشتراها عالما بأنّها ذات زوج ، وكأنّ الحامل لهم على ذلك تصحيح معنى الاستثناء ، وإبقاء صيغة المضيّ على ظاهرها في قوله : (مَلَكَتْ) أي ما كن مملوكات لهم من قبل. والجواب عن ذلك أن المراد بقوله : (مَلَكَتْ) ما تجدّد ملكها بعد أن كانت حرّة ذات زوج. فالفعل مستعمل في معنى التجدّد.

وقد نقل عن ابن عباس أنّه تحيّر في تفسير هذه الآية ، وقال : «لو أعلم أحدا يعلم تفسيرها لضربت إليه أكباد الإبل». ولعلّه يعني من يعلم تفسيرها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد كان بعض المسلمين في الزمن الأول يتوهّم أنّ أمة الرجل إذا زوّجها من زوج لا يحرم على السيّد قربانها ، مع كونها ذات زوج. وقد رأيت منقولا عن مالك : أنّ رجلا من ثقيف كان فعل ذلك في زمان عمر ، وأنّ عمر سأله عن أمته التي زوّجها وهل يطؤها ، فأنكر ، فقال له : لو اعترفت لجعلتك نكالا.

وقوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) تذييل ، وهو تحريض على وجوب الوقوف عند كتاب الله ، ف (عَلَيْكُمْ) نائب مناب (الزموا) ، وهو مصيّر بمعنى اسم الفعل ، وذلك كثير في الظروف والمجرورات المنزّلة منزلة أسماء الأفعال بالقرينة ، كقولهم : إليك ، ودونك ، وعليك. و (كِتابَ اللهِ) مفعوله مقدّم عليه عند الكوفيين ، أو يجعل منصوبا ب (عَلَيْكُمْ) محذوفا دلّ عليه المذكور بعده ، على أنّه تأكيد له ، تخريجا على تأويل سيبويه في قول الراجز:

يا أيّها المائح دلوي دونك

إنّي رأيت الناس يحمدونك

ويجوز أن يكون (كِتابَ) مصدرا نائبا مناب فعله ، أي كتب الله ذلك كتابا ، و (عَلَيْكُمْ) متعلّقا به.

(وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ).

عطف على قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣] وما بعده ، وبذلك تلتئم

٨٥

الجمل الثلاث في الخبرية المراد بها الإنشاء ، وفي الفعلية والماضوية.

وقرأ الجمهور : (وَأُحِلَّ لَكُمْ) بالبناء للفاعل ، والضمير المستتر عائد إلى اسم الجلالة من قوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ).

وأسند التحليل إلى الله تعالى إظهارا للمنّة ، ولذلك خالف طريقة إسناد التحريم إلى المجهول في قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) لأنّ التحريم مشقّة فليس المقام فيه مقام منّة.

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر : (وَأُحِلَ) ـ بضم الهمزة وكسر الحاء ـ على البناء للنائب على طريقة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ).

والوراء هنا بمعنى غير ودون ، كقول النابغة :

وليس وراء الله للمرء مذهب

وهو مجاز ؛ لأنّ الوراء هو الجهة التي هي جهة ظهر ما يضاف إليه. والكلام تمثيل لحال المخاطبين بحال السائر يترك ما وراءه ويتجاوزه.

والمعنى : أحلّ لكم ما عدا أولئكم المحرّمات ، وهذا أنزل قبل تحريم ما حرّمته السّنة نحو (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) ، ونحو (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).

وقوله : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) يجوز أن يكون بدل اشتمال من (ما) باعتبار كون الموصول مفعولا ل (أُحِلَّ) ، والتقدير : أن تبتغوهنّ بأموالكم فإنّ النساء المباحات لا تحلّ إلّا بعد العقد وإعطاء المهور ، فالعقد هو مدلول (تَبْتَغُوا) ، وبذل المهر هو مدلول (بِأَمْوالِكُمْ) ، ورابط الجملة محذوف : تقديره أن تبتغوه ، والاشتمال هنا كالاشتمال في قول النابغة :

مخافة عمرو أن تكون جياده

يقدن إلينا بين حاف وناعل

ويجوز أن يجعل (أَنْ تَبْتَغُوا) معمولا للام التعليل محذوفة ، أي أحلّهن لتبتغوهنّ بأموالكم ، والمقصود هو عين ما قرّر في الوجه الأول.

و (مُحْصِنِينَ) حال من فاعل (تَبْتَغُوا) أي محصنين أنفسكم من الزنى ، والمراد متزوّجين على الوجه المعروف. (غَيْرَ مُسافِحِينَ) حال ثانية ، والمسافح الزاني ، لأنّ الزنى

٨٦

يسمّى السفاح ، مشتقّا من السفح ، وهو أن يهراق الماء دون حبس ، يقال : سفح الماء. وذلك أنّ الرجل والمرأة يبذل كلّ منهما للآخر ما رامه منه دون قيد ولا رضى وليّ ، فكأنّهم اشتقّوه من معنى البذل بلا تقيّد بأمر معروف ؛ لأنّ المعطاء يطلق عليه السّفّاح. وكان الرجل إذا أراد من المرأة الفاحشة يقول لها : سافحيني ، فرجع معنى السفاح إلى التباذل وإطلاق العنان ، وقيل : لأنّه بلا عقد ، فكأنّه سفح سفحا ، أي صبّا لا يحجبه شيء ، وغير هذا في اشتقاقه لا يصحّ ، لأنّه لا يختصّ بالزنى.

(فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً).

تفريع على (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) وهو تفريع لفظي لبيان حقّ المرأة في المهر وأنّه في مقابلة الاستمتاع تأكيدا لما سبقه من قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) [النساء: ٤] سواء عند الجمهور الذين يجعلون الصداق ركنا للنكاح ، أو عند أبي حنيفة الذي يجعله مجرّد حقّ للزوجة أن تطالب به ؛ ولذلك فالظاهر أن تجعل (ما) اسم شرط صادقا على الاستمتاع ، لبيان أنّه لا يجوز إخلاء النكاح عن المهر ، لأنّه الفارق بينه وبين السفاح ، ولذلك قرن الخبر بالفاء في قوله : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) لأنّه اعتبر جوابا للشرط.

والاستمتاع : الانتفاع ، والسين والتاء فيه للمبالغة ، وسمّى الله النكاح استمتاعا لأنّه منفعة دنيوية ، وجميع منافع الدنيا متاع ، قال تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) [الرعد : ٢٦].

والضمير المجرور بالباء عائد على (ما). و (من) تبعيضية ، أي : فإن استمتعتم بشيء منهن فآتوهنّ ؛ فلا يجوز استمتاع بهنّ دون مهر.

أو يكون (ما) صادقة على النساء ، والمجرور بالباء عائدا إلى الاستمتاع المأخوذ من استمتعتم و (من) بيانية ، أي فأي امرأة استمتعتم بها فآتوها.

ويجوز أن تجعل (ما) موصولة ، ويكون دخول الفاء في خبرها لمعاملتها معاملة الشرط ، وجيء حينئذ ب (ما) ولم يعبر ب (من) لأنّ المراد جنس النساء لا القصد إلى امرأة واحدة ، على أنّ (ما) تجيء للعاقل كثيرا ولا عكس : و (فَرِيضَةً) حال من (أُجُورَهُنَ) أي مفروضة ، أي مقدرة بينكم. والمقصد من ذلك قطع الخصومات في أعظم معاملة يقصد منها الوثاق وحسن السمعة.

٨٧

وأمّا نكاح التفويض : وهو أن ينعقد النكاح مع السكوت عن المهر ، وهو جائز عند جميع الفقهاء ؛ فجوازه مبني على أنّهم لا يفوّضون إلّا وهم يعلمون معتاد أمثالهم ، ويكون (فريضة) بمعنى تقديرا ، ولذلك قال : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) ، أي فيما زدتم لهنّ أو أسقطن لكم عن طيب نفس. فهذا معنى الآية بيّنا لا غبار عليه.

وذهب جمع : منهم ابن عباس ، وأبيّ بن كعب ، وابن جبير : أنّها نزلت في نكاح المتعة لما وقع فيها من قوله : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ). ونكاح المتعة : هو الذي تعاقد الزوجان على أن تكون العصمة بينهما مؤجّلة بزمان أو بحالة ، فإذا انقضى ذلك الأجل ارتفعت العصمة ، وهو نكاح قد أبيح في الإسلام لا محالة ، ووقع النهي عنه يوم خيبر ، أو يوم حنين على الأصحّ. والذين قالوا : حرّم يوم خيبر قالوا : ثم أبيح في غزوة الفتح ، ثم نهي عنه في اليوم الثالث من يوم الفتح. وقيل : نهي عنه في حجّة الوداع ، قال أبو داود : وهو أصحّ. والذي استخلصناه أنّ الروايات فيها مضطربة اضطرابا كبيرا.

وقد اختلف العلماء في الأخير من شأنه : فذهب الجمهور إلى أنّ الأمر استقرّ على تحريمه ، فمنهم من قال : نسخته آية المواريث لأنّ فيها (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ... وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) [النساء : ١٢] فجعل للأزواج حظّا من الميراث ، وقد كانت المتعة لا ميراث فيها. وقيل : نسخها ما مسلم عن سبرة الجهني ، أنه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسندا ظهره إلى الكعبة ثالث يوم من الفتح يقول : «أيها الناس إن كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء إلا أن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة». وانفراد سبرة به في مثل ذلك اليوم مغمز في روايته ، على أنّه ثبت أنّ الناس استمتعوا. وعن علي بن أبي طالب ، وعمران بن حصين ، وابن عباس ، وجماعة من التابعين والصحابة أنّهم قالوا بجوازه. قيل : مطلقا ، وهو قول الإمامية ، وقيل : في حال الضرورة عند أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن.

وروي عن ابن عباس أنّه قال : لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا شفى (١). وعن عمران بن حصين في «الصحيح» أنه قال : «نزلت آية المتعة في كتاب الله ولم ينزل

__________________

(١) بفاء بعد الشين ، أي إلّا قليل ، وأصله من قولهم : شفيت الشمس إذا غربت وفي بعض الكتب شقي.

٨٨

بعدها آية تنسخها ، وأمرنا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال رجل برأيه ما شاء» يعني عمر بن الخطاب حين نهى عنها في زمن من خلافته بعد أن عملوا بها في معظم خلافته ، وكان ابن عباس يفتي بها ، فلمّا قال له سعيد بن جبير : أتدري ما صنعت بفتواك فقد سارت بها الركبان حتّى قال القائل :

قد قلت للركب إذ طال الثّواء بنا

يا صاح هل لك في فتوى ابن عبّاس

في بضّة رخصة الأطراف ناعمة

تكون مثواك حتّى مرجع الناس

أمسك عن الفتوى وقال : إنّما أحللت مثل ما أحلّ الله الميتة والدم ، يريد عند الضرورة. واختلف العلماء في ثبات علي على إباحتها ، وفي رجوعه. والذي عليه علماؤنا أنّه رجع عن إباحتها. أمّا عمران بن حصين فثبت على الإباحة. وكذلك ابن عباس على «الصحيح». وقال مالك : يفسخ نكاح المتعة قبل البناء وبعد البناء ، وفسخه بغير طلاق ، وقيل : بطلاق ، ولا حدّ فيه على الصحيح من المذهب ، وأرجح الأقوال أنّها رخصة للمسافر ونحوه من أحوال الضرورات ، ووجه مخالفتها للمقصد من النكاح ما فيها من التأجيل. وللنظر في ذلك مجال.

والذي يستخلص من مختلف الأخبار أنّ المتعة أذن فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتين ، ونهى عنها مرتين ، والذي يفهم من ذلك أن ليس ذلك بنسخ مكرّر ولكنّه إناطة إباحتها بحال الاضطرار ، فاشتبه على الرواة تحقيق عذر الرخصة بأنّه نسخ. وقد ثبت أنّ الناس استمتعوا في زمن أبي بكر ، وعمر ، ثم نهى عنها عمر في آخر خلافته. والذي استخلصناه في حكم نكاح المتعة أنّه جائز عند الضرورة الداعية إلى تأجيل مدّة العصمة ، مثل الغربة في سفر أو غزو إذا لم تكن مع الرجل زوجه. ويشترط فيه ما يشترط في النكاح من صداق وإشهاد ووليّ حيث يشترط ، وأنّها تبين منه عند انتهاء الأجل ، وأنّها لا ميراث فيها بين الرجل والمرأة ، إذا مات أحدهما في مدة الاستمتاع ، وأنّ عدّتها حيضة واحدة ، وأنّ الأولاد لاحقون بأبيهم المستمتع. وشذّ النحّاس فزعم أنّه لا يلحق الولد بأبيه في نكاح المتعة. ونحن نرى أنّ هذه الآية بمعزل عن أن تكون نازلة في نكاح المتعة ، وليس سياقها سامحا بذلك ، ولكنّها صالحة لاندراج المتعة في عموم (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ) فيرجع في مشروعية نكاح المتعة إلى ما سمعت آنفا.

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ

٨٩

أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥))

عطف قوله : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) على قوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء : ٢٤] تخصيصا لعمومه بغير الإماء ، وتقييدا لإطلاقه باستطاعة الطّول.

والطّول ـ بفتح الطاء وسكون الواو ـ القدرة ، وهو مصدر طال المجازي بمعنى قدر ، وذلك أنّ الطّول يستلزم المقدرة على المناولة ؛ فلذلك يقولون : تطاول لكذا ، أي تمطّى ليأخذه ، ثم قالوا : تطاول ، بمعنى تكلّف المقدرة «وأين الثريا من يد المتطاول» فجعلوا لطال الحقيقي مصدرا ـ بضم الطاء ـ وجعلوا لطال المجازي مصدرا ـ بفتح الطاء ـ وهو ممّا فرّقت فيه العرب بين المعنيين المشتركين.

(وَالْمُحْصَناتُ) [النساء : ٢٤] قرأه الجمهور ـ بفتح الصاد ـ وقرأه الكسائي ـ بكسر الصاد ـ على اختلاف معنيي (أُحْصِنَّ) كما تقدّم آنفا ، أي اللّاتي أحصنّ أنفسهنّ ، أو أحصنهنّ أولياؤهن ، فالمراد العفيفات. والمحصنات هنا وصف خرج مخرج الغالب ، لأنّ المسلم لا يقصد إلّا إلى نكاح امرأة عفيفة ، قال تعالى : (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) [النور : ٣٠] أي بحسب خلق الإسلام ، وقد قيل : إنّ الإحصان يطلق على الحرية ، وأنّ المراد بالمحصنات الحرائر ، ولا داعي إليه ، واللغة لا تساعد عليه.

وظاهر الآية أنّ الطول هنا هو القدرة على بذل مهر لامرأة حرّة احتاج لتزوّجها : أولى ، أو ثانية ، أو ثالثة ، أو رابعة ، لأنّ الله ذكر عدم استطاعة الطول في مقابلة قوله : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢٤] (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) [النساء : ٢٤] ولذلك كان هذا الأصحّ في تفسير الطول. وهو قول مالك ، وقاله ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، والسدّي ، وجابر بن زيد. وذهب أبو حنيفة إلى أنّ من كانت له زوجة واحدة فهي طول فلا يباح له تزوّج الإماء ؛ لأنّه طالب شهوة إذ كانت عنده امرأة تعفّه عن الزنا. ووقع لمالك ما يقرب من هذا في كتاب محمد بن الموّاز ، وهو قول ابن حبيب ، واستحسنه اللخمي والطبري ، وهو تضييق لا يناسب يسر الإسلام على أنّ الحاجة إلى امرأة ثانية قد لا يكون لشهوة بل لحاجة لا تسدّها امرأة واحدة ، فتعيّن الرجوع إلى طلب التزوّج ،

٩٠

ووجود المقدرة. وقال ربيعة ، والنخعي ، وقتادة ، وعطاء ، والثوري ، الطول : الصبر والجلد على نكاح الحرائر.

ووقع لمالك في كتاب محمد : أنّ الذي يجد مهر حرّة ولا يقدر على نفقتها ، لا يجوز له أن يتزوّج أمة ، وهذا ليس لكون النفقة من الطول ولكن لأنّ وجود المهر طول ، والنفقة لا محيص عنها في كليهما ، وقال أصبغ : يجوز لهذا أن يتزوّج أمة لأنّ نفقة الأمة على أهلها إن لم يضمّها الزوج إليه ، وظاهر أنّ الخلاف في حال. وقوله : (أَنْ يَنْكِحَ) معمول (طولا) بحذف (اللّام) أو (على) إذ لا يتعدّى هذا المصدر بنفسه.

ومعنى (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) أي ينكح النساء الحرائر أبكارا أو ثيّبات ، دلّ عليه قوله : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ).

وإطلاق المحصنات على النساء اللاتي يتزوجهنّ الرجال إطلاق مجازي بعلاقة المآل ، أي اللائي يصرن محصنات بذلك النكاح إن كنّ أبكارا ، كقوله تعالى : (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) [يوسف : ٣٦] أي عنبا آئلا إلى خمر ؛ أو بعلاقة ما كان ، إن كنّ ثيّبات كقوله : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٢] وهذا بيّن ، وفيه غنية عن تأويل المحصنات بمعنى الحرائر ، فإنّه إطلاق لا تساعد عليه اللغة ، لا على الحقيقة ولا على المجاز ، وقد تساهل المفسّرون في القول بذلك.

وقد وصف المحصنات هنا بالمؤمنات ، جريا على الغالب ، ومعظم علماء الإسلام على أنّ هذا الوصف خرج للغالب ولعلّ الذي حملهم على ذلك أنّ استطاعة نكاح الحرائر الكتابيات طول ، إذ لم تكن إباحة نكاحهنّ مشروطة بالعجز عن الحرائر المسلمات ، وكان نكاح الإماء المسلمات مشروطا بالعجز عن الحرائر المسلمات ، فحصل من ذلك أن يكون مشروطا بالعجز عن الكتابيات أيضا بقاعدة قياس المساواة. وعلّة ذلك أنّ نكاح الأمة يعرّض الأولاد للرقّ ، بخلاف نكاح الكتابية ، فتعطيل مفهوم قوله : (الْمُؤْمِناتِ) مع (الْمُحْصَناتِ) حصل بأدلّة أخرى ، فلذلك ألغوا الوصف هنا ، وأعملوه في قوله : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ). وشذّ بعض الشافعية ، فاعتبروا رخصة نكاح الأمة المسلمة مشروطة بالعجز عن الحرّة المسلمة ، ولو مع القدرة على نكاح الكتابية ، وكأنّ فائدة ذكر وصف المؤمنات هنا أنّ الشارع لم يكترث عند التشريع بذكر غير الغالب المعتبر عنده ، فصار المؤمنات هنا كاللّقب في نحو (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين).

والفتيات جمع فتاة ، وهي في الأصل الشابّة كالفتى ، والمراد بها هنا الأمة أطلق

٩١

عليها الفتاة كما أطلق عليها الجارية ، وعلى العبد الغلام ، وهو مجاز بعلاقة اللزوم ، لأنّ العبد والأمة يعاملان معاملة الصغير في الخدمة ، وقلّة المبالاة. ووصف المؤمنات عقب الفتيات مقصود للتقييد عند كافّة السلف ، وجمهور أئمّة الفقه ، لأنّ الأصل أن يكون له مفهوم ، ولا دليل يدلّ على تعطيله ، فلا يجوز عندهم نكاح أمة كتابية. والحكمة في ذلك أنّ اجتماع الرقّ والكفر يباعد المرأة عن الحرمة في اعتبار المسلم ، فيقلّ الوفاق بينهما ، بخلاف أحد الوصفين. ويظهر أثر ذلك في الأبناء إذ يكونون أرقّاء مع مشاهدة أحوال الدّين المخالف فيمتدّ البون بينهم وبين أبيهم. وقال أبو حنيفة : موقع وصف المؤمنات هنا كموقعه مع قوله : (الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) ، فلم يشترط في نكاح الأمة كونها مؤمنة ، قال أبو عمر بن عبد البرّ : ولا أعرف هذا القول لأحد من السلف إلّا لعمرو بن شرحبيل ـ وهو تابعيّ قديم روى عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ؛ ولأنّ أبا حنيفة لا يرى إعمال المفهوم.

وتقدّم آنفا معنى (مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

والإضافة في قوله : (أَيْمانُكُمْ) وقوله : (مِنْ فَتَياتِكُمُ) للتقريب وإزالة ما بقي في نفوس العرب من احتقار العبيد والإماء والترفّع عن نكاحهم وإنكاحهم ، وكذلك وصف المؤمنات ، وإن كنّا نراه للتقيد فهو لا يخلو مع ذلك من فائدة التقريب ، إذ الكفاءة عند مالك تعتمد الدين أوّلا.

وقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) اعتراض جمع معاني شتّى ، أنّه أمر ، وقيد للأمر في قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) إلخ ؛ وقد تحول الشهوة والعجلة دون تحقيق شروط الله تعالى ، فأحالهم على إيمانهم المطّلع عليه ربّهم. ومن تلك المعاني أنّه تعالى أمر بنكاح الإماء عند العجز عن الحرائر ، وكانوا في الجاهلية لا يرضون بنكاح الأمة وجعلها حليلة ، ولكن يقضون منهنّ شهواتهم بالبغاء ، فأراد الله إكرام الإماء المؤمنات ، جزاء على إيمانهنّ ، وإشعارا بأنّ وحدة الإيمان قرّبت الأحرار من العبيد ، فلمّا شرع ذلك كلّه ذيّله بقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) ، أي بقوّته ، فلمّا كان الإيمان ، هو الذي رفع المؤمنين عند الله درجات كان إيمان الإماء مقنعا للأحرار بترك الاستنكاف عن تزوجهنّ ، ولأنّه ربّ أمة يكون إيمانها خيرا من إيمان رجل حرّ ، وهذا كقوله (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣]. وقد أشار إلى هذا الأخير صاحب «الكشاف» ، وابن عطية.

وقوله : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) تذييل ثان أكّد به المعنى الثاني المراد من قوله : (وَاللهُ

٩٢

أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) فإنّه بعد أن قرّب إليهم الإماء من جانب الوحدة الدينية قرّبهنّ إليهم من جانب الوحدة النوعية ، وهو أنّ الأحرار والعبيد كلّهم من بني آدم ف (من) اتّصالية.

وفرّع عن الأمر بنكاح الإماء بيان كيفية ذلك فقال : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) وشرط الإذن لئلّا يكون سرّا وزني ، ولأنّ نكاحهنّ دون ذلك اعتداء على حقوق أهل الإماء.

والأهل هنا بمعنى السّادة المالكين ، وهو إطلاق شائع على سادة العبيد في كلام الإسلام. وأحسب أنّه من مصطلحات القرآن تلطّفا بالعبيد ، كما وقع النهي أن يقول العبد لسيّده : سيّدي ، بل يقول : مولاي. ووقع في حديث بريرة «أنّ أهلها أبوا إلّا أن يكون الولاء لهم».

والآية دليل على ولاية السيّد لأمته ، وأنّه إذا نكحت الأمة بدون إذن السيّد فالنكاح مفسوخ ، ولو أجازه سيّدها. واختلف في العبد : فقال الشعبي : والأوزاعي ، وداود : هو كالأمة. وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وجماعة من التابعين : إذا أجازه السيد جاز ، ويحتجّ بها لاشتراط أصل الولاية في المرأة ، احتجاجا ضعيفا ، واحتجّ بها الحنفية على عكس ذلك ، إذ سمّى الله ذلك إذنا ولم يسمّه عقدا ، وهو احتجاج ضعيف ، لأنّ الإذن يطلق على العقد لا سيما بعد أن دخلت عليه باء السببية المتعلّقة ب (انكحوهنّ).

والقول في الأجور والمعروف تقدّم قريبا. غير أنّ قوله : (وَآتُوهُنَ) وإضافة الأجور إليهنّ ، دليل على أنّ الأمة أحقّ بمهرها من سيّدها. ولذلك قال مالك في كتاب الرهون ، من المدونة : إنّ على سيّدها أن يجهّزها بمهرها. ووقع في كتاب النكاح الثاني منها : إنّ لسيّدها أن يأخذ مهرها ، فقيل : هو اختلاف من قول مالك ، وقيل : إنّ قوله في كتاب النكاح : إذا لم تبوّأ أو إذا جهّزها من عنده قبل ذلك ، ومعنى تبوّأ إذا جعل سكناها مع زوجها في بيت سيّدها.

وقوله : (مُحْصَناتٍ) حال من ضمير الإماء ، والإحصان التزوّج الصحيح ، فهي حال مقدّرة ، أي ليصرن محصنات.

وقوله : (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) صفة للحال ، وكذلك (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) قصد منها تفظيع ما كانت ترتكبه الإماء في الجاهلية بإذن مواليهنّ لاكتساب المال بالبغاء ونحوه ، وكان الناس يومئذ قريبا عصرهم بالجاهلية.

٩٣

والمسافحات الزواني مع غير معيّن. ومتّخذات الأخدان هنّ متّخذات أخلّاء تتّخذ الواحدة خليلا تختصّ به لا تألف غيره. وهذا وإن كان يشبه النكاح من جهة عدم التعدّد ، إلّا أنّه يخالفه من جهة التستّر وجهل النسب وخلع برقع المروءة ، ولذلك عطفه على قوله : (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) سدّ المداخل الزنا كلّها. وتقدّم الكلام على أنواع المعاشرة التي كان عليها أهل الجاهلية في أول هذه السورة.

وقرأه الكسائي ـ بكسر الصاد ـ وقرأه الجمهور ـ بفتح الصاد ـ.

وقوله : (فَإِذا أُحْصِنَ) أي أحصنهنّ أزواجهن ، أي فإذا تزوجن. فالآية تقتضي أنّ التزوّج شرط في إقامة حدّ الزنا على الإماء ، وأنّ الحدّ هو الجلد المعيّن لأنّه الذي يمكن فيه التنصيف بالعدد. واعلم أنّا إذا جرينا على ما حقّقناه ممّا تقدّم في معنى الآية الماضية تعيّن أن تكون هذه الآية نزلت بعد شرع حدّ الجلد للزانية والزاني بآية سورة النور. فتكون مخصّصة لعموم الزانية بغير الأمة ، ويكون وضع هذه الآية في هذا الموضع ممّا ألحق بهذه السورة إكمالا للأحكام المتعلّقة بالإماء كما هو واقع في نظائر عديدة ، كما تقدّم في المقدّمة الثامنة من مقدّمات هذا التفسير. وهذه الآية تحيّر فيها المتأوّلون لاقتضائها أن لا تحدّ الأمة في الزنى إلّا إذا كانت متزوّجة ، فتأوّلها عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وابن عمر بأنّ الإحصان هنا الإسلام ، ورأوا أنّ الأمة تحدّ في الزنا سواء كانت متزوّجة أم عزبى ، وإليه ذهب الأئمّة الأربعة. ولا أظنّ أنّ دليل الأئمّة الأربعة هو حمل الإحصان هنا على معنى الإسلام ، بل ما

ثبت في «الصحيحين» أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ؛ فأوجب عليها الحدّ. قال ابن شهاب فالأمة المتزوّجة محدودة بالقرآن ، والأمة غير المتزوّجة محدودة بالسنّة. ونعم هذا الكلام. قال القاضي إسماعيل بن إسحاق : في حمل الإحصان في الآية على الإسلام بعد ؛ لأنّ ذكر إيمانهن قد تقدّم في قوله : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) وهو تدقيق ، وإن أباه ابن عطية.

وقد دلّت الآية على أنّ حدّ الأمة الجلد ، ولم تذكر الرجم ، فإذا كان الرجم مشروعا قبل نزولها دلّت على أنّ الأمة لا رجم عليها ، وهو مذهب الجمهور ، وتوقّف أبو ثور في ذلك ، وإن كان الرجم قد شرع بعد ذلك فلا تدلّ الآية على نفي رجم الأمة ، غير أنّ قصد التنصيف في حدّها يدلّ على أنّها لا يبلغ بها حدّ الحرّة ، فالرجم ينتفي لأنّه لا يقبل التجزئة ، وهو ما ذهل عنه أبو ثور. وقد روي عن عمر بن الخطاب : أنّه سئل عن حدّ الأمة فقال : «الأمة ألقت فروة رأسها من وراء الدار» أي ألقت في بيت أهلها قناعها ، أي

٩٤

أنّها تخرج إلى كلّ موضع يرسلها أهلها إليه لا تقدر على الامتناع من ذلك ، فتصير إلى حيث لا تقدر على الامتناع من الفجور ، قالوا : فكان يرى أن لا حدّ عليها إذا فجرت ما لم تتزوّج ، وكأنّه رأى أنّها إذا تزوّجت فقد منعها زوجها. وقوله هذا وإن كان غير المشهور عنه ، ولكنّنا ذكرناه لأنّ فيه للمتبصّر بتصريف الشريعة عبرة في تغليظ العقوبة بمقدار قوّة الخيانة وضعف المعذرة.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب : (أُحْصِنَ) ـ بضمّ الهمزة وكسر الصاد ـ مبنيّا للنائب ، وهو بمعنى محصنات ـ المفتوح الصاد. وقرأه حمزة ، والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، وخلف : بفتح الهمزة وفتح الصاد ، وهو معنى محصنات ـ بكسر الصاد ـ.

وقوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) إشارة إلى الحكم الصالح لأن يتقيّد بخشية العنت ، وذلك الحكم هو نكاح الإماء.

والعنت : المشقّة ، قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) [البقرة : ٢٢٠] وأريد به هنا مشقّة العزبة التي تكون ذريعة إلى الزنا ، فلذلك قال بعضهم : أريد العنت الزنا.

وقوله : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي إذا استطعتم الصبر مع المشقّة إلى أن يتيسّر له نكاح الحرّة فذلك خير ، لئلا يوقع أبناءه في ذلّ العبودية المكروهة للشارع لو لا الضرورة ، ولئلا يوقع نفسه في مذلّة تصرّف الناس في زوجه.

وقوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن خفتم العنت ولم تصبروا عليه ، وتزوّجتم الإماء ، وعليه فهو مؤكّد لمعنى الإباحة. مؤذن بأنّ إباحة ذلك لأجل رفع الحرج ، لأنّ الله رحيم بعباده. غفور فالمغفرة هنا بمعنى التجاوز عمّا ما يقتضي مقصد الشريعة تحريمه ، فليس هنا ذنب حتّى يغفر.

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦))

تذييل يقصد منه استئناس المؤمنين واستنزال نفوسهم إلى امتثال الأحكام المتقدّمة من أوّل السورة إلى هنا ، فإنّها أحكام جمّة وأوامر ونواه تفضي إلى خلع عوائد ألفوها ، وصرفهم عن شهوات استباحوها ، كما أشار إليه قوله بعد هذا (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ

٩٥

الشَّهَواتِ) [النساء : ٢٧] ، أي الاسترسال على ما كانوا عليه في الجاهلية ، فأعقب ذلك ببيان أنّ في ذلك بيانا وهدى. حتّى لا تكون شريعة هذه الأمّة دون شرائع الأمم التي قبلها ، بل تفوقها في انتظام أحوالها ، فكان هذا كالاعتذار على ما ذكر من المحرّمات. فقوله: (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) تعليل لتفصيل الأحكام في مواقع الشبهات كيلا يضلّوا كما ضلّ من قبلهم ، ففيه أنّ هذه الشريعة أهدى ممّا قبلها.

وقوله : (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) بيان لقصد إلحاق هذه الأمّة بمزايا الأمم التي قبلها.

والإرادة : القصد والعزم على العمل ، وتطلق على الصفة الإلهيّة التي تخصّص الممكن ببعض ما يجوز عليه. والامتنان بما شرعه الله للمسلمين من توضيح الأحكام قد حصلت إرادته فيما مضى ، وإنّا عبّر بصيغة المضارع هنا للدلالة على تجدّد البيان واستمراره ، فإنّ هذه التشريعات دائمة مستمرّة تكون بيانا للمخاطبين ولمن جاء بعدهم ، وللدلالة على أنّ الله يبقي بعدها بيانا متعاقبا.

وقوله : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) انتصب فعل (لِيُبَيِّنَ) بأن المصدرية محذوفة ، والمصدر المنسبك مفعول (يُرِيدُ) ، أي يريد الله البيان لكم والهدى والتوبة ، فكان أصل الاستعمال ذكر (أن) المصدرية ، ولذلك فاللام هنا لتوكيد معنى الفعل الذي قبلها ، وقد شاعت زيادة هذه اللّام بعد مادّة الإرادة وبعد مادّة الأمر معاقبة لأن المصدرية. تقول ، أريد أن تفعل وأريد لتفعل ، وقال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ)[لتوبة : ٣٢] وقال : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) [الصف : ٨] وقال : (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [غافر : ٦٦] وقال : (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [الشورى : ١٥] فإذا جاءوا باللّام أشبهت لام التعليل فقدّروا (أن) بعد اللام المؤكّدة كما قدروها بعد لام كي لأنّها أشبهتها في الصورة ، ولذلك قال الفرّاء : اللام نائبة عن أن المصدرية. وإلى هذه الطريقة مال صاحب «الكشاف».

وقال سيبويه : هي لام التعليل أي لام كي ، وأنّ ما بعدها علّة ، ومفعول الفعل الذي قبلها محذوف يقدّر بالقرينة ، أي يريد الله التحليل والتحريم ليبيّن. ومنهم من قرّر قول سيبويه بأنّ المفعول المحذوف دلّ عليه التعليل المذكور فيقدّر : يريد الله البيان ليبيّن ، فيكون الكلام مبالغة بجعل العلّة نفس المعلّل.

وقال الخليل ، وسيبويه في رواية عنه : اللّام ظرف مستقرّ هو خبر عن الفعل السابق،

٩٦

وذلك الفعل مقدّر بالمصدر دون سابك على حدّ «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» أي إرادة الله كائنة للبيان ، ولعلّ الكلام عندهم محمول على المبالغة كأنّ إرادة الله انحصرت في ذلك. وقالت طائفة قليلة : هذه اللّام للتقوية على خلاف الأصل ، لأنّ لام التقوية إنّما يجاء بها إذا ضعف العامل بالفرعية أو بالتأخّر. وأحسن الوجوه قول سيبويه ، بدليل دخول اللام على كي في قول قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي.

أردت لكيما يعلم الناس أنّها

سراويل قيس والوفود شهود

وعن النحّاس أنّ بعض القرّاء سمّى هذه اللّام لام (أن).

ومعنى (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الهداية إلى أصول ما صلح به حال الأمم التي سبقتنا ، من كليات الشرائع ، ومقاصدها. قال الفخر : «فإن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها ، إلّا أنّها متّفقة في باب المصالح». قلت : فهو كقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية.

وقوله : (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي يتقبّل توبتكم ، إذ آمنتم ونبذتم ما كان عليه أهل الشرك من نكاح أزواج الآباء ، ونكاح أمّهات نسائكم ، ونكاح الربائب ، والجمع بين الأختين.

ومعنى : (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) يقبل توبتكم الكاملة باتّباع الإسلام ، فلا تنقضوا ذلك بارتكاب الحرام. وليس معنى (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) يوفّقكم للتوبة ، فيشكل بأنّ مراد الله لا يتخلّف ، إذ ليس التوفيق للتوبة بمطّرد في جميع الناس. فالآية تحريض على التوبة بطريق الكناية لأنّ الوعد بقبولها يستلزم التحريض عليها مثل ما في الحديث : «فيقول هل من مستغفر فأغفر له ، هل من داع فأستجيب له» هذا هو الوجه في تفسيرها ، وللفخر وغيره هنا تكلّفات لا داعي إليها.

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مناسب للبيان والهداية والترغيب في التوبة بطريق الوعد بقبولها ، فإنّ كلّ ذلك أثر العلم والحكمة في إرشاد الأمّة وتقريبها إلى الرشد.

(وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧))

كرّر قوله : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) ليرتّب عليه قوله : (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) فليس بتأكيد لفظي ، وهذا كما يعاد اللفظ في الجزاء

٩٧

والصفة ونحوها ، كقول الأحوص في الحماسة.

فإذا تزول تزول عن متخمّط

تخشى بوادره على الأقران

وقوله تعالى : (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) [القصص : ٦٣] والمقصد من التعرّض لإرادة الذين يتّبعون الشهوات تنبيه المسلمين إلى دخائل أعدائهم ، ليعلموا الفرق بين مراد الله من الخلق. ومراد أعوان الشياطين ، وهم الذين يتّبعون الشهوات. ولذلك قدّم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) ليدلّ على التخصيص الإضافي. أي الله وحده هو الذي يريد أن يتوب عليكم ، أي يحرّضكم على التوبة والإقلاع عن المعاصي ، وأمّا الذين يتّبعون الشهوات فيريدون انصرافكم عن الحقّ ، وميلكم عنه إلى المعاصي. وإطلاق الإرادة على رغبة أصحاب الشهوات في ميل المسلمين عن الحقّ لمشاكلة (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [النساء : ٢٦]. والمقصود : ويحبّ الذين يتّبعون الشهوات أن تميلوا. ولمّا كانت رغبتهم في ميل المسلمين عن الحقّ رغبة لا تخلو عن سعيهم لحصول ذلك ، أشبهت رغبتهم إرادة المريد للفعل ، ونظيره قوله تعالى ـ بعد هذه الآية ـ (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) [النساء : ٤٤].

وحذف متعلّق (تَمِيلُوا) لظهوره من قرينة المقام ، وأراد بالذين يتّبعون الشهوات الذين تغلبهم شهواتهم على مخالفة ما شرعه الله لهم : من الذين لا دين لهم ، وهم الذين لا ينظرون في عواقب الذنوب ومفاسدها وعقوبتها ، ولكنّهم يرضون شهواتهم الداعية إليها. وفي ذكر هذه الصلة هنا تشنيع لحالهم ، ففي الموصول إيماء إلى تعليل الخبر. والمراد بهم المشركون : أرادوا أن يتّبعهم المسلمون في نكاح أزواج الآباء ، واليهود أرادوا أن يتّبعوهم في نكاح الأخوات من الأب ونكاح العمّات والجمع بين الأختين. والميل العظيم هو البعد عن أحكام الشرع والطعن فيها. فكان المشركون يحبّبون للمسلمين الزنى ويعرضون عليهم البغايا. وكان المجوس يطعنون في تحريم ابنة الأخ وابنة الأخت ويقولون : لما ذا أحلّ دينكم ابنة العمّة وابنة الخالة. وكان اليهود يقولون : لا تحرم الأخت التي للأب ولا تحرم العمّة ولا الخالة ولا العم ولا الخال. وعبّر عن جميع ذلك بالشهوات لأنّ مجيء الإسلام قد بيّن انتهاء إباحة ما أبيح في الشرائع الأخرى ، بله ما كان حراما في الشرائع كلّها وتساهل فيه أهل الشرك.

(يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨))

٩٨

أعقب الاعتذار الذي تقدّم بقوله : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [النساء : ٢٦] بالتذكير بأنّ الله لا يزال مراعيا رفقه بهذه الأمّة وإرادته بها اليسر دون العسر ، إشارة إلى أنّ هذا الدين بيّن حفظ المصالح ودرء المفاسد ، في أيسر كيفية وأرفقها ، فربما ألغت الشريعة بعض المفاسد إذا كان في الحمل على تركها مشقّة أو تعطيل مصلحة ، كما ألغت مفاسد نكاح الإماء نظرا للمشقّة على غير ذي الطول. والآيات الدالّة على هذا المعنى بلغت مبلغ القطع كقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: ٧٨] وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] وقوله : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف : ١٥٧] ، وفي الحديث الصحيح : «إنّ هذا الدين يسر ولن يشادّ هذا الدين أحد إلّا غلبه» ، وكذلك كان يأمر أصحابه الذين يرسلهم إلى بثّ الدين ؛ فقال لمعاذ وأبي موسى : «يسّرا ولا تعسّرا» وقال : (إنما بعثتم مبشرين لا منفرين). وقال لمعاذ لمّا شكا بعض المصلّين خلفه من تطويله «أفتّان أنت». فكان التيسير من أصول الشريعة الإسلامية ، وعنه تفرّعت الرخص بنوعيها.

وقوله : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) تذييل وتوجيه للتخفيف ، وإظهار لمزية هذا الدين وأنّه أليق الأديان بالناس في كلّ زمان ومكان ، ولذلك فما مضى من الأديان كان مراعى فيه حال دون حال ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) الآية في سورة الأنفال [٦٦]. وقد فسّر بعضهم الضعف هنا بأنّه الضعف من جهة النساء. قال طاوس «ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء» وليس مراده حصر معنى الآية فيه ، ولكنّه ممّا روعي في الآية لا محالة ، لأنّ من الأحكام المتقدّمة ما هو ترخيص في النكاح.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ).

استئناف من التشريع المقصود من هذه السورة. وعلامة الاستئناف افتتاحه ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، ومناسبته لما قبله أنّ أحكام المواريث والنكاح اشتملت على أوامر بإيتاء

٩٩

ذي الحقّ في المال حقّه ، كقوله : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٢] وقوله : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) [النساء : ٢٤] وقوله : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) [النساء : ٤] الآية ، فانتقل من ذلك إلى تشريع عامّ في الأموال والأنفس.

وقد تقدّم أنّ الأكل مجاز في الانتفاع بالشيء انتفاعا تامّا ، لا يعود معه إلى الغير ، فأكل الأموال هو الاستيلاء عليها بنية عدم إرجاعها لأربابها ، وغالب هذا المعنى أن يكون استيلاء ظلم ، وهو مجاز صار كالحقيقة. وقد يطلق على الانتفاع المأذون فيه كقوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء : ٤] وقوله : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ٦] ، ولذلك غلب تقييد المنهي عنه من ذلك بقيد (بِالْباطِلِ) ونحوه.

والضمير المرفوع ب (تأكلوا) ، والضمير المضاف إليه أموال : راجعان إلىالَّذِينَ آمَنُوا) ، وظاهر أنّ المرء لا ينهى عن أكل مال نفسه ، ولا يسمّى انتفاعه بماله أكلا ، فالمعنى : لا يأكل بعضهم مال بعض. والباطل ضدّ الحق ، وهو ما لم يشرعه الله ولا كان عن إذن ربّه ، والباء فيه للملابسة.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) منقطع ، لأنّ التجارة ليست من أكل الأموال بالباطل ، فالمعنى : لكن كون التجارة غير منهي عنه. وموقع المنقطع هنا بيّن جار على الطريقة العربية ، إذ ليس يلزم في الاستدراك شمول الكلام السابق للشيء المستدرك ولا يفيد الاستدراك حصرا ، ولذلك فهو مقتضى الحال. ويجوز أن يجعل قيد الباطل في حالة الاستثناء ملغى ، فيكون استثناء من أكل الأموال ويكون متّصلا ، وهو يقتضي أن الاستثناء قد حصر إباحة أكل الأموال في التجارة ، وليس كذلك ، وأياما كان الاستثناء فتخصيص التجارة بالاستدراك أو بالاستثناء لأنّها أشدّ أنواع أكل الأموال شبها بالباطل ، إذ التبرّعات كلّها أكل أموال عن طيب نفس ، والمعاوضات غير التجارات كذلك لأنّ أخذ كلا المتعاوضين عوضا عمّا بذله للآخر مساويا لقيمته في نظره يطيّب نفسه. وأمّا التجارة فلأجل ما فيها من أخذ المتصدّي للتجر ما لا زائدا على قيمة ما بذله للمشتري قد تشبه أكل المال بالباطل فلذلك خصّت بالاستدراك أو الاستثناء. وحكمة إباحة أكل المال الزائد فيها أنّ عليها مدار رواج السلع الحاجية والتحسينية ، ولو لا تصدّي التجّار وجلبهم السلع لما وجد صاحب الحاجة ما يسدّ حاجته عند الاحتياج. ويشير إلى هذا ما في «الموطأ» عن عمر بن الخطاب أنّه قال : في احتكار الطعام «ولكن أيّما جالب جلب على عمود كبده

١٠٠