تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

وكان للأمين حقّ عند المؤتمن جحده إيّاه : إنّه لا يجوز له أخذ الأمانة عوض حقّه لأنّ ذلك خيانة ، ومنعه مالك في المدوّنة ، وعن ابن عبد الحكم : أنه يجوز له أن يجحده بمقدار ما عليه له ، وهو قول الشافعي. قال الطبري عن ابن عباس ، وزيد بن أسلم ، وشهر بن حوشب ، ومكحول : أنّ المخاطب ولاة الأمور ، أمرهم أن يؤدّوا الأمانات إلى أهلها. وقيل: نزلت في أمر عثمان بن طلحة بن أبي طلحة.

وأهل الأمانة هم مستحقّوها ، يقال : أهل الدار ، أي أصحابها. وذكر الواحدي في أسباب النزول ، بسند ضعيف : أنّ الآية نزلت يوم فتح مكة إذ سلّم عثمان بن طلحة ابن أبي طلحة العبدري الحجبي مفتاح الكعبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت سدانة الكعبة بيده ، وهو من بني عبد الدار وكانت السدانة فيهم ، فسأل العباس بن عبد المطلب من رسول الله أن يجعل له سدانة الكعبة يضمها مع السقاية وكانت السقاية بيده ، وهي في بني هاشم ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمان بن طلحة وابن عمّه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة ، فدفع لهما مفتاح الكعبة وتلا هذه الآية ، قال عمر بن الخطاب : وما كنت سمعتها منه قبل ذلك ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعثمان بن طلحة «خذوها خالدة تالدة لا ينتزعها منكم إلّا ظالم» ، ولم يكن أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة أخذ انتزاع ، ولكنّه أخذه ينتظر الوحي في شأنه ، لأنّ كون المفتاح بيد عثمان بن طلحة مستصحب من قبل الإسلام ، ولم يغيّر الإسلام حوزه إيّاه ، فلمّا نزلت الآية تقرّر حقّ بني عبد الدار فيه بحكم الإسلام ، فبقيت سدانة الكعبة في بني عبد الدار ، ونزل عثمان بن طلحة عنها لابن عمّه شيبة بن عثمان ، وكانت السدانة من مناصب قريش في الجاهلية (١) فأبطل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعضها في خطبة يوم الفتح أو حجّة الوداع ، ما عدا السقاية والسدانة.

فإطلاق اسم الأمانة في الآية حقيقة ، لأنّ عثمان سلّم مفتاح الكعبة للنبي عليه الصلاة والسلام دون أن يسقط حقّه.

__________________

(١) مناصب قريش في الجاهلية ، وتسمى مآثر قريش ، هي : السقاية وهي سقي الحجيج من ماء زمزم وكانت لبني هاشم ، والسدانة بكسر السين وهي حجابة الكعبة وهي لبني عبد البدار ، والسفارة لبني عدي ، والرفادة بكسر الراء وهي أموال تجمعها قريش لإعانة الحجاج المعوزين وهي لبني نوفل ، والديات والحمالات وهي لبني تيم ، والراية تسمى العقاب وهي لبني أمية ، والمشورة لبني أسد بن عبد العزي ، والأعنة والقبة وهي شئون الحرب كانوا يضربون قبة ويجتمعون إليها عند تجهيز الجيوش وهي لبني مخزوم ، والحكومة وأموال الآلهة لبني سهم ، والإيسار والأزلام لبني جمح.

١٦١

والأداء حينئذ مستعمل في معناه الحقيقي ، لأنّ الحقّ هنا ذات يمكن إيصالها بالفعل لمستحقّها ، فتكون الآية آمرة بجميع أنواع الإيصال والوفاءات ، ومن جملة ذلك دفع الأمانات الحقيقية ، فلا مجاز في لفظ (تؤدّوا).

وقوله : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) عطف (أَنْ تَحْكُمُوا) على (أَنْ تُؤَدُّوا) وفصل بين العاطف والمعطوف الظرف ، وهو جائز ، مثل قوله : (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١] وكذلك في عطف الأفعال على الصحيح : مثل (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)[الشعراء : ١٢٩ ، ١٣].

والحكم مصدر حكم بين المتنازعين ، أي اعتنى بإظهار المحقّ منهما من المبطل ، أو إظهار الحقّ لأحدهما وصرّح بذلك ، وهو مشتقّ من الحكم ـ بفتح الحاء ـ وهو الردع عن فعل ما لا ينبغي ، ومنه سميّت حكمة اللّجام ، وهي الحديدة التي تجعل في فم الفرس ، ويقال : أحكم فلانا ، أي أمسكه.

والعدل : ضدّ الجور ، فهو في اللغة التسوية ، يقال : عدل كذا بكذا ، أي سوّاه به ووازنه عدلا (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] ، ثمّ شاع إطلاقه على إيصال الحقّ إلى أهله ، ودفع المعتدي على الحقّ عن مستحقّه ، إطلاقا ناشئا عمّا اعتاده الناس أنّ الجور يصدر من الطغاة الذين لا يعدّون أنفسهم سواء مع عموم الناس ، فهم إن شاءوا عدلوا وأنصفوا ، وإن شاءوا جاروا وظلموا ، قال لبيد :

ومقسم يعطي العشيرة حقّها

ومغذمر لحقوقها هضّامها (١)

فأطلق لفظ العدل ـ الذي هو التسوية ـ على تسوية نافعة يحصل بها الصلاح والأمن ، وذلك فك الشيء من يد المعتدي ، لأنّه تظهر فيه التسوية بين المتنازعين ، فهو كناية غالبة. ومظهر ذلك هو الحكم لصاحب الحقّ بأخذ حقّه ممّن اعتدى عليه ، ولذلك قال تعالى هنا : (إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) ، ثم توسّعوا في هذا الإطلاق حتّى صار يطلق على إبلاغ الحقّ إلى ربّه ولو لم يحصل اعتداء ولا نزاع.

والعدل : مساواة بين الناس أو بين أفراد أمّة : في تعيين الأشياء لمستحقّها ، وفي تمكين كلّ ذي حقّ من حقّه ، بدون تأخير ، فهو مساواة في استحقاق الأشياء وفي وسائل تمكينها بأيدي أربابها ، فالأوّل هو العدل في تعيين الحقوق ، والثاني هو العدل في التنفيذ ،

__________________

(١) المغذمر ذو الغذمرة وهي ظهور الغضب في القول ، والهضام صاحب الهضم وهو الكسر والظلم.

١٦٢

وليس العدل في توزيع الأشياء بين الناس سواء بدون استحقاق.

فالعدل وسط بين طرفين ، هما : الإفراط في تخويل ذي الحقّ حقّه ، أي بإعطائه أكثر من حقّه ، والتفريط في ذلك ، أي بالإجحاف له من حقّه ، وكلا الطرفين يسمّى جورا ، وكذلك الإفراط والتفريط في تنفيذ الإعطاء بتقديمه على وقته ، كإعطاء المال بيد السفيه ، أو تأخيره كإبقاء المال بيد الوصي بعد الرشد ، ولذلك قال تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) ـ إلى قوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٥ ، ٦] ؛ فالعدل يدخل في جميع المعاملات. وهو حسن في الفطرة لأنّه كما يصدّ المعتدي عن

اعتدائه ، كذلك يصدّ غيره عن الاعتداء عليه ، كما قال تعالى : (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) [البقرة : ٢٧٩]. وإذ قد كان العدل بهذه الاعتبارات تجول في تحديده أفهام مخطئة تعيّن أن تسنّ الشرائع لضبطه على حسب مدارك المشرّعين ومصطلحات المشرّع لهم ، على أنّها معظمها لم يسلم من تحريف لحقيقة العدل في بعض الأحوال ، فإنّ بعض القوانين أسّست بدافعة الغضب والأنانية ، فتضمّنت أخطاء فاحشة مثل القوانين التي يمليها الثوار بدافع الغضب على من كانوا متولين الأمور قبلهم ، وبعض القوانين المتفرّعة عن تخيّلات وأوهام ، كقوانين أهل الجاهلية والأمم العريقة في الوثنية.

ونجد القوانين التي سنّها الحكماء أمكن في تحقيق منافع العدل مثل قوانين أثينة وإسبرطة ، وأعلى القوانين هي الشرائع الإلهية لمناسبتها لحال من شرعت لأجلهم ، وأعظمها شريعة الإسلام لابتنائها على أساس المصالح الخالصة أو الراجحة ، وإعراضها عن أهواء الأمم والعوائد الضالّة ، فإنّها لا تعبأ بالأنانية والهوى ، ولا بعوائد الفساد ، ولأنّها لا تبنى على مصالح قبيلة خاصّة ، أو بلد خاصّ ، بل تبتنى على مصالح النوع البشري وتقويمه وهديه إلى سواء السبيل ، ومن أجل هذا لم يزل الصالحون من القادة يدوّنون بيان الحقوق حفظا للعدل بقدر الإمكان وخاصّة الشرائع الإلهية ، قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٢٥] أي العدل. فمنها المنصوص عليه على لسان رسول البشرية ومنها ما استنبطه علماء تلك الشريعة فهو مدرج فيها وملحق بها.

وإنّما قيّد الأمر بالعدل بحالة التصدّي للحكم بين الناس ، وأطلق الأمر بردّ الأمانات إلى أهلها عن التقييد : لأنّ كلّ أحد لا يخلو من أن تقع بيده أمانة لغيره لا سيما على اعتبار تعميم المراد بالأمانات الشامل لما يجب على المرء إبلاغه لمستحقّه كما تقدّم ،

١٦٣

بخلاف العدل فإنّما يؤمر به ولاة الحكم بين الناس ، وليس كلّ أحد أهلا لتولّي ذلك. فتلك نكتة قوله : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ). قال الفخر : قوله : (وَإِذا حَكَمْتُمْ) هو كالتصريح بأنّه ليس لجميع الناس أن يشرّعوا في الحكم بل ذلك لبعضهم ، فالآية مجملة في أنّه بأي طريق يصير حاكما ولمّا دلّت الدلائل على أنّه لا بد للأمّة من إمام وأنّه ينصب القضاة والولاة صارت تلك الدلائل كالبيان لهذه الآية.

وجملة (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) واقعة موقع التحريض على امتثال الأمر ، فكانت بمنزلة التعليل ، وأغنت (إنّ) في صدر الجملة عن ذكر فاء التعقيب ، كما هو الشأن إذا جاءت (إنّ) للاهتمام بالخبر دون التأكيد.

و (نعمّا) أصله (نعم ما) ركّبت (نعم) مع (ما) بعد طرح حركة الميم الأولى وتنزيلها منزلة الكلمة الواحدة ، وأدغم الميمان وحرّكت العين الساكنة بالكسر للتخلّص من التقاء الساكنين.

و (ما) جوّز النحاة أن تكون اسم موصول ، أو نكرة موصوفة ، أو نكرة تامّة والجملة التي بعد (ما) تجري على ما يناسب معنى (ما) ، وقيل : إنّ (ما) زائدة كافّة (نعم) عن العمل.

والوعظ : التذكير والنصح ، وقد يكون فيه زجر وتخويف.

وجملة (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) أي عليما بما تفعلون وما تقولون ، وهذه بشارة ونذارة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩))

لمّا أمر الله الأمّة بالحكم بالعدل عقّب ذلك بخطابهم بالأمر بطاعة الحكّام ولاة أمورهم ؛ لأنّ الطاعة لهم هي مظهر نفوذ العدل الذي يحكم به حكّامهم ، فطاعة الرسول تشتمل على احترام العدل المشرّع لهم وعلى تنفيذه ، وطاعة ولاة الأمور تنفيذ للعدل ، وأشار بهذا التعقيب إلى أنّ الطاعة المأمور بها هي الطاعة في المعروف ، ولهذا قال عليّ : «حقّ على الإمام أن يحكم بالعدل ويؤدّي الأمانة ، فإذا فعل ذلك فحقّ على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا». أمر الله بطاعة الله ورسوله وذلك بمعنى طاعة الشريعة ، فإنّ الله هو منزّل

١٦٤

الشريعة ورسوله مبلّغها والحاكم بها في حضرته.

وإنّما أعيد فعل : (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) مع أنّ حرف العطف يغني عن إعادته إظهارا للاهتمام بتحصيل طاعة الرسول لتكون أعلى مرتبة من طاعة أولي الأمر ، ولينبّه على وجوب طاعته فيما يأمر به ، ولو كان أمره غير مقترن بقرائن تبليغ الوحي لئلّا يتوهّم السامع أنّ طاعة الرسول المأمور بها ترجع إلى طاعة الله فيما يبلّغه عن الله دون ما يأمر به في غير التشريع ، فإنّ امتثال أمره كلّه خير ، ألا ترى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا أبا سعيد بن المعلّى ، وأبو سعيد يصلي ، فلم يجبه فلمّا فرغ من صلاته جاءه فقال له : «ما منعك أن تجيبني» فقال: «كنت أصلّي» فقال : «ألم يقل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) [الأنفال : ٢٤] ؛ ولذلك كانوا إذا لم يعلموا مراد الرسول من أمره ربما سألوه : أهو أمر تشريع أم هو الرأي والنظر ، كما قال له الحباب بن المنذر يوم بدر حين نزل جيش المسلمين : أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نجتازه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال : بل الرأي والحرب والمكيدة ...» الحديث. ولمّا كلّم بريرة في أن تراجع زوجها مغيثا بعد أن عتقت ، قالت له : أتأمر يا رسول الله أم تشفع ، قال : بل أشفع ، قالت : لا أبقى معه.

ولهذا لم يعد فعل (فَرُدُّوهُ) في قوله : (وَالرَّسُولِ) لأنّ ذلك في التحاكم بينهم ، والتحاكم لا يكون إلّا للأخذ بحكم الله في شرعه ، ولذلك لا نجد تكريرا لفعل الطاعة في نظائر هذه الآية التي لم يعطف فيها أولو الأمر مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) [الأنفال : ٢٠] وقوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا) [الأنفال : ٤٦] (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) [النور : ٥٢] ، إذ طاعة الرسول مساوية لطاعة الله لأنّ الرسول هو المبلّغ عن الله فلا يتلقّى أمر الله إلّا منه ، وهو منفّذ أمر الله بنفسه ، فطاعته طاعة تلقّ وطاعة امتثال ، لأنه مبلّغ ومنفّذ ، بخلاف أولي الأمر فإنّهم منفّذون لما بلّغه الرسول فطاعتهم طاعة امتثال خاصّة. ولذلك كانوا إذا أمرهم بعمل في غير أمور التشريع ، يسألونه أهذا أمر أم رأي وإشارة فإنّه لمّا قال للذين يأبرون النخل «لو لم تفعلوا لصلح».

وقوله : (وَأُولِي الْأَمْرِ) يعني ذويه وهم أصحاب الأمر والمتولّون له. والأمر هو الشأن ، أي ما يهتمّ به من الأحوال والشئون ، فأولو الأمر من الأمّة ومن القوم هم الذين يسند الناس إليهم تدبير شئونهم ويعتمدون في ذلك عليهم ، فيصير الأمر كأنّه من خصائصهم ، فلذلك يقال لهم : ذوو الأمر وأولو الأمر ، ويقال في ضدّ ذلك : ليس له من

١٦٥

الأمر شيء. ولمّا أمر الله بطاعة أولي الأمر علمنا أنّ أولي الأمر في نظر الشريعة طائفة معيّنة ، وهم قدوة الأمّة وأمناؤها ، فعلمنا أنّ تلك الصفة تثبت لهم بطرق شرعية إذ أمور الإسلام لا تخرج عن الدائرة الشرعية ، وطريق ثبوت هذه الصفة لهم إمّا الولاية المسندة إليهم من الخليفة ونحوه ، أو من جماعات المسلمين إذا لم يكن لهم سلطان ، وإمّا صفات الكمال التي تجعلهم محلّ اقتداء الأمّة بهم وهي الإسلام والعلم والعدالة. فأهل العلم العدول : من أولي الأمر بذاتهم لأنّ صفة العلم لا تحتاج إلى ولاية ، بل هي صفة قائمة بأربابها الذين اشتهروا بين الأمّة بها ، لما جرب من علمهم وإتقانهم في الفتوى والتعليم. قال مالك : «أولو الأمر : أهل القرآن والعلم» يعني أهل العلم بالقرآن والاجتهاد ، فأولو الأمر هنا هم من عدا الرسول من الخليفة إلى والي الحسبة ، ومن قواد الجيوش ومن فقهاء الصحابة والمجتهدين إلى أهل العلم في الأزمنة المتأخّرة ، وأولو الأمر هم الذين يطلق عليهم أيضا أهل الحلّ والعقد.

وإنّما أمر بذلك بعد الأمر بالعدل وأداء الأمانة لأنّ هذين الأمرين قوام نظام الأمّة وهو تناصح الأمراء والرعية وانبثاث الثقة بينهم.

ولمّا كانت الحوادث لا تخلو من حدوث الخلاف بين الرعيّة ، وبينهم وبين ولاة أمورهم ، أرشدهم الله إلى طريقة فصل الخلاف بالردّ إلى الله وإلى الرسول. ومعنى الردّ إلى الله الردّ إلى كتابه ، كما دلّ على ذلك قوله في نظيره (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ١٠٤].

ومعنى الردّ إلى الرسول إنهاء الأمور إليه في حياته وحضرته ، كما دلّ عليه قوله في نظيره (إِلَى الرَّسُولِ) [النساء : ٨٣] فأمّا بعد وفاته أو في غيبته ، فالردّ إليه الرجوع إلى أقواله وأفعاله ، والاحتذاء بسنّته. روى أبو داود عن أبي رافع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «لا ألفينّ أحدكم متّكئا على أريكته يأتيه الأمر ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه». وفي روايته عن العرباض ابن سارية أنه سمع رسول الله يخطب يقول : «أيحسب أحدكم وهو متّكئ على أريكته وقد يظنّ أنّ الله لم يحرّم شيئا إلّا ما في هذا القرآن ألا وإنّي والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنّها لمثل القرآن أو أكثر» ، وأخرجه الترمذي من حديث المقدام. وعرض الحوادث على مقياس تصرّفاته والصريح من سنّته.

والتنازع : شدّة الاختلاف ، وهو تفاعل من النزع ، أي الأخذ ، قال الأعشى :

١٦٦

نازعتهم قضب الريحان متّكئا

وقهوة مزة راووقها خضل

فأطلق التنازع على الاختلاف الشديد على طريق الاستعارة ، لأنّ الاختلاف الشديد يشبه التجاذب بين شخصين ، وغلب ذلك حتّى ساوى الحقيقة ، قال الله تعالى : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا) [الأنفال : ٤٦] (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) [طه : ٦٢].

وضمير (تَنازَعْتُمْ) راجع للذين آمنوا فيشمل كلّ من يمكن بينهم التنازع ، وهم من عدا الرسول ، إذ لا ينازعه المؤمنون ، فشمل تنازع العموم بعضهم مع بعض ، وشمل تنازع ولاة الأمور بعضهم مع بعض ، كتنازع الوزراء مع الأمير أو بعضهم مع بعض ، وشمل تنازع الرعية مع ولاة أمورهم ، وشمل تنازع العلماء بعضهم مع بعض في شئون علم الدين. وإذا نظرنا إلى ما ذكر في سبب النزول نجد المراد ابتداء هو الخلاف بين الأمراء والأمّة ، ولذلك نجد المفسّرين قد فسّروه ببعض صور من هذه الصور ، فليس مقصدهم قصر الآية على ما فسّروا به ، وأحسن عباراتهم في هذا قول الطبري : «يعني فإن اختلفتم أيّها المؤمنون أنتم فيما بينكم أو أنتم وأولو أمركم فيه». وعن مجاهد : فإن تنازع العلماء ردّوه إلى الله».

ولفظ (شيء) نكرة متوغّلة في الإبهام فهو في حيّز الشرط يفيد العموم ، أي في كلّ شيء ، فيصدق بالتنازع في الخصومة على الحقوق ، ويصدق بالتنازع في اختلاف الآراء عند المشاورة أو عند مباشرة عمل ما ، كتنازع ولاة الأمور في إجراء أحوال الأمّة. ولقد حسّن موقع كلمة (شيء) هنا تعميم الحوادث وأنواع الاختلاف ، فكان من المواقع الرشيقة في تقسيم عبد القاهر ، وقد تقدّم تحقيق مواقع لفظ شيء عند قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) في سورة البقرة [١٥٥].

والردّ هنا مجاز في التحاكم إلى الحاكم وفي تحكيم ذي الرأي عند اختلاف الآراء. وحقيقته إرجاع الشيء إلى صاحبه مثل العارية والمغصوب ، ثم أطلق على التخلّي عن الانتصاف بتفويض الحكم إلى الحاكم ، وعن عدم تصويب الرأي بتفويض تصويبه إلى الغير ، إطلاقا على طريق الاستعارة ، وغلب هذا الإطلاق في الكلام حتّى ساوى الحقيقة.

وعموم لفظ شيء في سياق الشرط يقتضي عموم الأمر بالردّ إلى الله والرسول ؛ وعموم أحوال التنازع ، تبعا لعموم الأشياء المتنازع فيها ، فمن ذلك الخصومات والدعاوي في الحقوق ، وهو المتبادر من الآية بادئ بدء بقرينة قوله عقبه «ألم تر إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت» فإنّ هذا

١٦٧

كالمقدّمة لذلك فأشبه سبب نزول ، ولذلك كان هو المتبادر وهو لا يمنع من عموم العامّ ، ومن ذلك التنازع في طرق تنفيذ الأوامر العامّة ، كما يحصل بين أفراد الجيوش وبين بعض قوادهم. وقد قيل : إنّ الآية نزلت في نزاع حدث بين أمير سرية الأنصار عبد الله بن حذافة السهمي كما سيأتي ، ومن ذلك الاختلاف بين أهل الحلّ والعقد في شئون مصالح المسلمين ، وما يرومون حمل الناس عليه.

ومن ذلك اختلاف أهل العلم في الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد والنظر في أدلة الشريعة.

فكلّ هذا الاختلاف والتنازع مأمور أصحابه بردّ أمره إلى الله والرسول. وردّ كلّ نوع من ذلك يتعيّن أن يكون بحيث يرجى معه زوال الاختلاف ، وذلك ببذل الجهد والوسع في الوصول إلى الحقّ الجليّ في تلك الأحوال. فما روي عن مجاهد وميمون بن مهران في تفسير التنازع بتنازع أهل العلم إنّما هو تنبيه على الفرد الأخفى من أفراد العموم ، وليس تخصيصا للعموم.

وذكر الردّ إلى الله في هذا مقصود منه مراقبة الله تعالى في طلب انجلاء الحقّ في مواقع النزاع ، تعظيما لله تعالى ، فإنّ الردّ إلى الرسول يحصل به الردّ إلى الله ، إذ الرسول هو المنبئ عن مراد الله تعالى ، فذكر اسم الله هنا هو بمنزلة ذكره في قوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال : ٤١] الآية.

ثمّ الردّ إلى الرسول في حياة الرسول وحضوره ظاهر وهو المتبادر من الآية ، وأمّا الردّ إليه في غيبته أو بعد وفاته ، فبالتحاكم إلى الحكّام الذين أقامهم الرسول أو أمّرهم بالتعيين ، وإلى الحكّام الذين نصبهم ولاة الأمور للحكم بين الناس بالشريعة ممّن يظنّ به العلم بوجوه الشريعة وتصاريفها ، فإنّ تعيين صفات الحكّام وشروطهم وطرق توليتهم ، فيما ورد عن الرسول من أدلّة صفات الحكّام ، يقوم مقام تعيين أشخاصهم ، وبالتأمّل في تصرّفاته وسنّته ثم الصدر على ما يتبيّن للمتأمّل من حال يظنّها هي مراد الرسول لو سئل عنها في جميع أحوال النزاع في فهم الشريعة واستنباط أحكامها المسكوت عنها من الرسول ، أو المجهول قوله فيها.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) تحريض وتحذير معا ، لأنّ الإيمان بالله واليوم الآخر ووازعان يزعان عن مخالفة الشرع ، والتعريض بمصالح الأمّة للتلاشي ، وعن الأخذ بالحظوظ العاجلة مع العلم بأنّها لا ترضي الله وتضرّ الأمة ، فلا جرم أن يكون دأب

١٦٨

المسلم الصادق الإقدام عند اتّضاح المصالح ، والتأمّل عند التباس الأمر والصدر بعد عرض المشكلات على أصول الشريعة.

ومعنى (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ) مع أنّهم خوطبوا ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : أي إن كنتم تؤمنون حقّا ، وتلازمون واجبات المؤمن ، ولذلك قال تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ) فجيء باسم الإشارة للتنويه ، وهي إشارة إلى الردّ المأخوذ من (فَرُدُّوهُ). و (خير) اسم لما فيه نفع ، وهو ضدّ الشرّ ، وهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة ، والمراد كون الخير وقوّة الحسن. والتأويل : مصدر أوّل الشيء إذا أرجعه ، مشتقّ من آل يؤول إذا رجع ، وهو هنا بمعنى أحسن ردّا وصرفا. أخرج البخاري عن ابن عباس قال : نزل قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عديّ إذ بعثه النبي في سرية. وأخرج في «كتاب المغازي» عن علي قال : بعث النبي سرية فاستعمل عليها رجلا من الأنصار ، وأمرهم أن يطيعوه ، فغضب ، فقال : «أليس أمركم النبي أن تطيعوني» قالوا : «بلى» قال : «فأجمعوا حطبا» فجمعوا ، قال : «أوقدوا نارا» ، فأوقدوها ، فقال «ادخلوها» ، فهمّوا ، وجعل بعضهم يمسك بعضا ، ويقولون : «فررنا إلى النبي من النار» ، فأزالوا حتّى خمدت النار فسكن غضبه فبلغ ذلك النبي فقال : «لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة ، الطاعة في المعروف».

فقول ابن عبّاس : نزلت في عبد الله بن حذافة ، يحتمل أنّه أراد نزلت حين تعيينه أميرا على السرية وأنّ الأمر الذي فيها هو الذي أوجب تردّد أهل السرية في الدخول في النار ، ويحتمل أنّها نزلت بعد ما بلغ خبرهم رسول الله ، فيكون المقصود منها هو قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) إلخ ، ويكون ابتداؤها بالأمر بالطاعة لئلّا يظنّ أنّ ما فعله ذلك الأمير يبطل الأمر بالطاعة.

[٦٠ ، ٦١] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١))

استئناف ابتدائي للتعجيب من حال هؤلاء ، ناسب الانتقال إليه من مضمون جملة : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النساء : ٥٩]. والموصول مراد به قوم معروفون وهم فريق من

١٦٩

المنافقين الذين كانوا من اليهود وأظهروا الإسلام لقوله : (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ) ، ولذلك قال : (يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ). وقد اختلفت الروايات في سبب نزول هذه الآية اختلافا متقاربا : فعن قتادة والشعبي أنّ يهوديا اختصم مع منافق اسمه بشر فدعا اليهوديّ المنافق إلى التحاكم عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلمه أنّه لا يأخذ الرشوة ولا يجور في الحكم ، ودعا المنافق إلى التحاكم عند كاهن من جهينة كان بالمدينة.

وعن ابن عباس أنّ اليهودي دعا المنافق إلى التحاكم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنّ المنافق دعا إلى كعب ابن الأشرف ، فأبى اليهودي وانصرفا معا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى لليهودي ، فلمّا خرجا ، قال المنافق : لا أرضى ، انطلق بنا إلى أبي بكر ، فحكم أبو بكر بمثل حكم رسول الله ، فقال المنافق : انطلق بنا إلى عمر ، فلمّا بلغ عمر ، وأخبره اليهودي الخبر وصدّقه المنافق ، قال عمر : رويدكما حتّى أخرج إليكما ، فدخل وأخذ سيفه ثم ضرب به المنافق حتّى برد ، وقال : هكذا أقضى على من لم يرض بقضاء الله ورسوله. فنزلت الآية وقال جبريل : إن عمر فرّق بين الحقّ والباطل فلقّبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الفاروق».

وقال السدّي : كان بين قريظة والخزرج حلف ، وبين النّضير والأوس حلف ، في الجاهلية وكانت النضير أكثر وأشرف ، فكانوا إذا قتل قرظيّ نضيريا قتل به وأخذ أهل القتيل دية صاحبهم بعد قتل قاتله ، وكانت الدية مائة وسق وسق من تمر ، وإذا قتل نضيريّ قرظيّا لم يقتل به وأعطى ديته فقط : ستّين وسقا. فلمّا أسلم نفر من قريظة والنضير قتل نضيريّ قرظيّا واختصموا ، فقالت النضير : نعطيكم ستّين وسقا كما كنّا اصطلحنا في الجاهلية ، وقالت قريظة : هذا شيء فعلتموه في الجاهلية لأنّكم كثرتم وقللنا فقهرتمونا ، ونحن اليوم إخوة وديننا ودينكم واحد ، فقال بعضهم ـ وكان منافقا : انطلقوا إلى أبي بردة ـ وكان أبو بردة كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون إليه فيه وقال المسلمون : لا بل ننطلق إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله هذه الآية. (وأبو بردة ـ بدال بعد الراء ـ على الصحيح ، وكذلك وقع في مفاتيح الغيب وفي الإصابة لابن حجر ، ووقع في كتب كثيرة بزاي بعد الراء وهو تحريف اشتبه بأبي برزة الأسلمي نضلة بن عبيد ولم يكن أبو برزة كاهنا قط). ونسب أبو بردة الكاهن بالأسلمي ، وذكر بعض المفسّرين : أنّه كان في جهينة. وبعضهم ذكر أنّه كان بالمدينة. وقال البغوي عن جابر بن عبد الله : «كانت الطواغيت التي يتحاكمون إليها واحد في جهينة وواحد في أسلم ، وفي كلّ حيّ واحد كهّان».

وفي رواية عكرمة أنّ الذين عناهم الله تعالى ناس من أسلم تنافروا إلى أبي بردة

١٧٠

الأسلمي ، وفي رواية قتادة : أنّ الآية نزلت في رجلين أحدهما اسمه بشر من الأنصار ، والآخر من اليهود تدارءا في حقّ ، فدعاه اليهودي إلى التحاكم عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلمه بأنّه يقضي بالحقّ. ودعاه الأنصاري إلى التحاكم للكاهن لأنّه علم أنّه يرتشي ، فيقضي له ، فنزلت فيهما هذه الآية. وفي رواية الشعبي مثل ما قال قتادة ، ولكنّه وصف الأنصاري بأنّه منافق. وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنّ الخصومة بين منافق ويهودي ، فقال اليهودي «لننطلق إلى محمد» وقال المنافق «بل نأتي كعب بن الأشرف اليهودي» وهو الذي سمّاه الله الطاغوت.

وصيغة الجمع في قوله : (الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) مراد بها واحد. وجيء باسم موصول الجماعة لأنّ المقام مقام توبيخ ، كقولهم : ما بال أقوام يقولون كذا ، ليشمل المقصود ومن كان على شاكلته. والزعم : خبر كاذب ، أو مشوب بخطإ ، أو بحيث يتّهمه الناس بذلك ، فإنّ الأعشى لمّا قال يمدح قيسا بن معد يكرب الكندي :

ونبّئت قيسا ولم أبله

كما زعموا خير أهل اليمن

غضب قيس وقال : «وما هو إلّا الزعم» ، وقال تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) [التغابن : ٧] ، ويقول المحدّث عن حديث غريب فزعم فلان أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال كذا ، أي لإلقاء العهدة على المخبر ، ومنه ما يقع في كتاب سيبويه من قوله زعم الخليل ، ولذلك قالوا : الزعم مطية الكذب.

ويستعمل الزعم في الخبر المحقّق بالقرينة ، كقوله :

زعم العواذل أنّني في غمرة

صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي

فقوله صدقوا هو القرينة ، ومضارعه مثلّث العين ، والأفصح فيه الفتح.

وقد كان الذين أرادوا التحاكم إلى الطاغوت من المنافقين ، كما هو الظاهر ، فإطلاق الزعم على إيمانهم ظاهر.

وعطف قوله (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) لأنّ هؤلاء المنافقين كانوا من اليهود ، وقد دخل المعطوف في حيّز الزعم فدلّ على أنّ إيمانهم بما أنزل من قبل لم يكن مطّردا ، فلذلك كان ادّعاؤهم ذلك زعما ، لانتفاء إيمانهم بالتوراة في أحوال كثيرة مثل هذا ، إذ لو كانوا يؤمنون بها حقّا ، لم يكونوا ليتحاكموا إلى الكهّان ، وشريعة موسى ـ عليه‌السلام ـ تحذّر منهم.

١٧١

وقوله (يُرِيدُونَ) أي يحبّون محبّة تبعث على فعل المحبوب.

والطاغوت هنا هم الأصنام ، بدليل قوله : (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) ، ولكن فسّروه بالكاهن ، أو بعظيم اليهود ، كما رأيت في سبب نزول الآية ، فإذا كان كذلك فهو إطلاق مجازي بتشبيه عظيم الكفر بالصنم المعبود لغلوّ قومه في تقديسه ، وإمّا لأنّ الكاهن يترجم عن أقوال الصنم في زعمه ، وقد تقدّم اشتقاق الطاغوت عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) [النساء : ٥١] من هذه السورة. وإنّما قال (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) أي يحبّ ذلك ويحسنه لهم ، لأنّه ألقى في نفوسهم الدعاء إلى تحكيم الكهّان والانصراف عن حكم الرسول ، أو المعنى : يريد أن يضلّهم في المستقبل بسبب فعلتهم هذه لو لا أن أيقظهم الله وتابوا ممّا صنعوا.

والضلال البعيد هو الكفر ، ووصفه بالبعيد مجاز في شدّة الضلال بتنزيله منزلة جنس ذي مسافة كان هذا الفرد منه بالغا غاية المسافة ، قال الشاعر :

ضيّعت حزمي في إبعادي الأملا

وقوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا) الآية أي إذا قيل لهم احضروا أو ايتوا. فإنّ (تعال) كلمة تدلّ على الأمر بالحضور والإقبال ، فمفادها مفاد حرف النداء إلّا أنّها لا تنبيه فيها. وقد اختلف أئمّة العربية في أنّه فعل أو اسم فعل ، والأصحّ أنّه فعل لأنّه مشتقّ من مادّة العلوّ ، ولذلك قال الجوهري في «الصحاح» «والتعالي الارتفاع» ، تقول منه ، إذا أمرت: «تعال يا رجل» ، ومثله في «القاموس» ، ولأنّه تتّصل به ضمائر الرفع ، وهو فعل مبني على الفتح على غير سنّة فعل الأمر ، فذلك البناء هو الذي حدا فريقا من أهل العربية على القول بأنّه اسم فعل ، وليس ذلك القول ببعيد ، ولم يرد عن العرب غير فتح اللام ، فلذلك كان كسر اللام في قول أبي فراس :

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا

تعالي أقاسمك الهموم تعالي

بكسر لام القافية المكسورة ، معدودا لحنا.

وفي «الكشّاف» أنّ أهل مكة ـ أي في زمان الزمخشري ـ يقولون تعالي للمرأة. فذلك من اللحن الذي دخل في اللغة العربية بسبب انتشار الدّخلاء بينهم.

ووجه اشتقاق تعال من مادّة العلوّ أنّهم تخيّلوا المنادي في علوّ والمنادي (بالفتح) في سفل ، لأنّهم كانوا يجعلون بيوتهم في المرتفعات لأنّها أحصن لهم ، ولذلك كان أصله

١٧٢

أن يدلّ على طلب حضور لنفع. قال ابن عطية في تفسير في قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) في سورة المائدة [١٠٤] : «تعال نداء ببرّ ، هذا أصله ، ثم استعمل حيث البرّ وحيث ضدّه». وقال في تفسير آية النساء : «وهي لفظة مأخوذة من العلوّ لمّا استعملت في دعاء الإنسان وجلبه صيغت من العلوّ تحسينا للأدب كما تقول : ارتفع إلى الحقّ ونحوه». وأعلم أنّ تعال لمّا كانت فعلا جامدا لم يصحّ أن يصاغ منه غير الأمر ، فلا تقول : تعاليت بمعنى حضرت ، ولا تنهى عنه فتقول : لا تتعال. قال في «الصحاح» «ولا يجوز أن يقال منه تعاليت ولا ينهى عنه». وفي «الصحاح» عقبه «وتقول : قد تعاليت وإلى أي شيء أتعالى» يعني أنّه يتصرّف في خصوص جواب الطلب لمن قال لك تعال ، وتبعه في هذا صاحب «اللسان» وأغفل العبارة التي قبله ، وأمّا صاحب «تاج العروس» فربما أخطأ إذ قال : «قال الجوهري : ولا يجوز أن يقال منه : تعاليت وإلى أي شيء أتعالى» ولعلّ النسخة قد وقع فيها نقص أو خطأ من الناسخ لظنّه في العبارة تكريرا ، وإنّما نبّهت على هذا لئلّا تقع في أخطاء وحيرة.

و (تعالوا) مستعمل هنا مجازا ، إذ ليس ثمّة حضور وإتيان ، فهو مجاز في تحكيم كتاب الله وتحكيم الرسول في حضوره ، ولذلك قال : (إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) إذ لا يحكم الله إلّا بواسطة كلامه ، وأمّا تحكيم الرسول فأريد به تحكيم ذاته لأنّ القوم المخبر عنهم كانوا من المنافقين وهم بالمدينة في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (صدودا) مفعول مطلق للتوكيد ، ولقصد التوصّل بتنوين (صُدُوداً) لإفادة أنّه تنوين تعظيم.

[٦٢ ، ٦٣] (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣))

تفريع على قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) [النساء : ٦١] الآية ، لأنّ الصدود عن ذلك يوجب غضب الله عليهم ، فيوشك أن يصيبهم الله بمصيبة من غير فعل أحد ، مثل انكشاف حالهم للمؤمنين فيعرفوا بالكفر فيصبحوا مهدّدين ، أو مصيبة من أمر الله رسوله والمؤمنين بأن يظهروا لهم العداوة وأن يقتلوهم لنفاقهم فيجيئوا يعتذرون بأنّهم ما أرادوا بالتحاكم إلى أهل الطاغوت إلّا قصد الإحسان إليهم وتأليفهم إلى الإيمان والتوفيق بينهم وبين المؤمنين. وهذا وعيد لهم لأنّ (إِذا) للمستقبل ، فالفعلان بعدها : وهما (أَصابَتْهُمْ) و (جاؤُكَ) مستقبلان ، وهو مثل قوله : «لئن لم ينته المنافقون والذين

١٧٣

في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينّك بهم ثمّ لا يجاورونك فيها إلّا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا».

و (فَكَيْفَ) خبر مبتدأ محذوف معلوم من سياق الكلام : أي كيف حالهم حين تصيبهم مصيبة بسبب ما فعلوا فيجيئونك معتذرين.

والاستفهام مستعمل في التهويل ، كما تقدّم القول فيه في قوله تعالى آنفا : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ).

وتركيب «كيف بك» يقال إذا أريدت بشارة أو وعيد تعجيبا أو تهويلا. فمن الأوّل

قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسراقة بن مالك : «كيف بك إذ لبست سواري كسرى» بشارة بأنّ سواري كسرى سيقعان بيد جيش المسلمين ، فلمّا أتي بسواري كسرى في غنائم فتح فارس ألبسهما عمر بن الخطاب سراقة بن مالك تحقيقا لمعجزة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن الثاني قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ)[آل عمران : ٢٥] وقد جمع الأمرين قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] الآية.

وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) جاء باسم الإشارة لتمييزهم للسامعين أكمل تمييز ، لأنّهم قد حصل من ذكر صفاتهم ما جعلهم كالمشاهدين ، وأراد بما في قلوبهم الكفر الذي أبطنوه وأمر رسوله بالإعراض عنهم.

وحقيقة الإعراض عدم الالتفات إلى الشيء بقصد التباعد عنه ، مشتقّ من العرض ـ بضم العين ـ وهو الجانب ، فلعلّ أصل الهمزة في فعل أعرض للدخول في الشيء ، أي دخل في عرض المكان ، أو الهمزة للصيرورة ، أي صار ذا عرض ، أي جانب ، أي أظهر جانبه لغيره ، ولم يظهر له وجهه ، ثم استعمل استعمالا شائعا في التّرك والإمساك عن المخالطة والمحادثة ، لأنّه يتضمّن الإعراض غالبا ، يقال : أعرض عنه كما يقال : صدّ عنه ، كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الأنعام : ٦٨] ولذلك كثر هذا اللفظ في أشعار المتيّمين رديفا للصدود ، وهذا أقرب المعاني إلى المعنى الحقيقي ، فهو مجاز مرسل بعلاقة اللزوم ، وقد شاع ذلك في الكلام ثمّ أطلق على العفو وعدم المؤاخذة بتشبيه حالة من يعفو بحالة من لا يلتفت إلى الشيء فيوليه عرض وجهه ، كما استعمل صفح في هذا المعنى مشتقّا من صفحة الوجه ،

١٧٤

أي جانبه ، وهو أبعد عن المعنى الحقيقي من الأوّل لأنّه مبني على التشبيه.

والوعظ : الأمر بفعل الخير وترك الشرّ بطريقة فيها تخويف وترقيق يحملان على الامتثال ، والاسم منه الموعظة ، وتقدّم آنفا عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) [النساء : ٥٨]. فهذا الإعراض إعراض صفح أو إعراض عدم الحزن من صدودهم عنك ، أي لا تهتمّ بصدودهم ، فإنّ الله مجازيهم ، بدليل قوله : (وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) ، وذلك إبلاغ لهم في المعذرة ، ورجاء لصلاح حالهم ،. شأن الناصح الساعي بكلّ وسيلة إلى الإرشاد والهدى.

والبليغ فعيل بمعنى بالغ بلوغا شديدا بقوّة ، أي : بالغا إلى نفوسهم متغلغلا فيها. وقوله : (فِي أَنْفُسِهِمْ) يجوز أن يتعلّق بقوله بليغا ، وإنّما قدّم المجرور للاهتمام بإصلاح أنفسهم مع الرعاية على الفاصلة ، ويجوز أن يتعلق بفعل (قُلْ لَهُمْ) ، أي قل لهم قولا في شأن أنفسهم ، فظرفية (في) ظرفية مجازية ، شبّهت أنفسهم بظرف للقول.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤))

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ).

جملة معترضة في خلال الخبر عن قضية المنافق الذي تحاكم إلى الطاغوت. وهو رجوع إلى الغرض الأوّل ، وهو الإنحاء عليهم في إعراضهم عن التحاكم إلى الرسول ، وأنّ إعراضهم ذلك مؤذن بنفاقهم : ببيان أنّ معنى الإيمان الرضا بحكم الرسول إذ ما جاء الرسول إلّا ليطاع فكيف يعرض عنه.

وقوله : (بِإِذْنِ اللهِ) في موضع الحال من الضمير في (يطاع) أي متلبّسا في ذلك بإذن الله أي بأمره ووصايته ، إذ لا تظهر فائدة الشرائع بدون امتثالها. فمن الرسل من أطيع ، ومنهم من عصي تارة أو دائما ، وقد عصي موسى في مواقع ، وعصى عيسى في معظم أمره ، ولم يعص محمد من المؤمنين به المحقّين إلّا بتأوّل ، مثل ما وقع في يوم أحد إذ قال الله تعالى : (وَعَصَيْتُمْ) [آل عمران : ١٥٢] ، وإنّما هو عصيان بتأوّل ، ولكنّه اعتبر عصيانا لكونه في الواقع مخالفة لأمر الرسول ، ولذلك كان أكمل مظاهر الرسالة تأييد الرسول بالسلطان ، وكون السلطان في شخصه لكيلا يكون في حاجة إلى غيره ، وإنّما تمّ هذا المظهر في رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك وصف بأنّه نبيء الملاحم ، وقد ابتدأت بوارق

١٧٥

ذلك في رسالة موسى عليه‌السلام ، ولم تستكمل ، وكملت لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) [الحديد : ٢٥] ولا أحسبه أراد برسله إلّا رسوله محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ وكان هو المراد من الجمع لأنّه الأكمل فيهم.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٦٤).

عطف على جملة (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)[النساء : ٦٢] توبيخا لهم على تحاكمهم إذ كان ذلك عصيانا على عصيان ، فإنّهم ما كفاهم أن أعرضوا عن تحكيم الرسول حتّى زادوا فصدّوا عمّن قال لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول. فلو استفاقوا حينئذ من غلوائهم لعلموا أنّ إرادتهم أن يتحاكموا إلى الكفار والكهنة جريمة يجب الاستغفار منها ولكنّهم أصرّوا واستكبروا. وفي ذكر (لو) وجعل (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) جوابا لها إشارة إلى أنّهم لمّا لم يفعلوا فقد حرموا الغفران.

وكان فعل هذا المنافق ظلما لنفسه. لأنّه أقحمها في معصية الله ومعصية الرسول ، فجرّ لها عقاب الآخرة وعرضها لمصائب الانتقام في العاجلة.

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥))

تفريع عن قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) [النساء : ٦٠] وما بعده إذ تضمّن ذلك أنّهم فعلوا ما فعلوا وهم يزعمون أنّهم مؤمنون ، فكان الزعم إشارة إلى انتفاء إيمانهم ، ثمّ أردف بما هو أصرح وهو أن أفعالهم تنافي كونهم مؤمنين بقوله : (لا يُؤْمِنُونَ) ، وأكّده بالقسم وبالتوكيد اللفظي.

وأصل الكلام : فو ربّك لا يؤمنون ، والعرب تأتي بحرف النفي قبل القسم إذا كان جواب القسم منفيا للتعجيل بإفادة أنّ ما بعد حرف العطف قسم على النفي لما تضمّنته الجملة المعطوف عليها ، فتقديم النفي للاهتمام بالنفي ، كقول قيس بن عاصم :

فلا والله أشربها صحيحا

ولا أشفى بها أبدا سقيما

١٧٦

ويكثر أن يأتوا مع حرف النفي بعد العاطف بحرف نفي مثله في الجواب ليحصل مع الاهتمام التأكيد ، كما في هذه الآية ، وهو الاستعمال الأكثر ، ولم أر في كلام العرب تقديم (لا) على حرف العطف إبطالا للكلام السابق ، ووقع في قول أبي تمّام :

لا والذي هو عالم أنّ النوى

صبر وأنّ أبا الحسين كريم

وليست (لا) هذه هي التي ترد مع فعل القسم مزيدة والكلام معها على الإثبات ، نحو (لا أُقْسِمُ) [القيامة : ١] وفي غير القسم نحو (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩] ، لأنّ تلك ليس الكلام معها على النفي ، وهذه الكلام معها نفي ، فهي تأكيد له على ما اختاره أكثر المحقّقين خلافا لصاحب «الكشّاف» ، ولا يلزم أن تكون مواقع الحرف الواحد متّحدة في المواقع المتقاربة.

وقد نفي عن هؤلاء المنافقين أن يكونوا مؤمنين كما يزعمون في حال يظنّهم الناس مؤمنين ، ولا يشعر الناس بكفرهم ، فلذلك احتاج الخبر للتأكيد بالقسم وبالتوكيد اللفظي ، لأنّه كشف لباطن حالهم. والمقسم عليه هو : الغاية ، وما عطف عليها بثمّ ، معا ، فإن هم حكّموا غير الرسول فيما شجر بينهم فهم غير مؤمنين ، أي إذا كان انصرافهم عن تحكيم الرسول للخشية من جوره كما هو معلوم من السياق فافتضح كفرهم ، وأعلم الله الأمّة أنّ هؤلاء لا يكونون مؤمنين حتّى يحكّموا الرسول ولا يجدوا في أنفسهم حرجا من حكمه ، أي حرجا يصرفهم عن تحكيمه ، أو يسخطهم من حكمه بعد تحكيمه ، وقد علم من هذا أنّ المؤمنين لا ينصرفون عن تحكيم الرسول ولا يجدون في أنفسهم حرجا من قضائه بحكم قياس الأحرى.

وليس المراد الحرج الذي يجده المحكوم عليه من كراهية ما يلزم به إذا لم يخامره شكّ في عدل الرسول وفي إصابته وجه الحقّ. وقد بيّن الله تعالى في سورة النور كيف يكون الإعراض عن حكم الرسول كفرا ، سواء كان من منافق أم من مؤمن ، إذ قال في شأن المنافقين «وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحقّ يأتوا الله مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ـ ثمّ قال ـ إنّما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا» ، لأنّ حكم الرسول بما شرع الله من الأحكام لا يحتمل الحيف إذ لا يشرع الله إلّا الحقّ ، ولا يخالف الرسول في حكمه شرع الله تعالى. ولهذا كانت هذه الآية خاصّة بحكم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمّا الإعراض عن حكم غير الرسول فليس بكفر إذا جوّز

١٧٧

المعرض على الحاكم عدم إصابته حكم الله تعالى ، أو عدم العدل في الحكم. وقد كره العباس وعليّ حكم أبي بكر وحكم عمر في قضية ما تركه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أرض فدك ، لأنّهما كانا يريان أنّ اجتهاد أبي بكر وعمر في ذلك ليس من الصواب. وقد قال عينية بن حصن لعمر : «إنّك لا تقسم بالسوية ولا تعدل في القضية» فلم يعد طعنه في حكم عمر كفرا منه. ثم إنّ الإعراض عن التقاضي لدى قاضي يحكم بشريعة الإسلام قد يكون للطعن في الأحكام الإسلامية الثابت كونها حكم الله تعالى ، وذلك كفر لدخوله تحت قوله تعالى : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا) [النور : ٥٠] ؛ وقد يكون لمجرّد متابعة الهوى إذا كان الحكم المخالف للشرع ملائما لهوى المحكوم له ، وهذا فسوق وضلال ، كشأن كلّ مخالفة يخالف بها المكلّف أحكام الشريعة لاتّباع الأعراض الدنيوية ، وقد يكون للطعن في الحاكم وظنّ الجور به إذا كان غير معصوم ، وهذا فيه مراتب بحسب التمكّن من الانتصاف من الحاكم وتقوميه ، وسيجيء بيان هذا عند قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) في سورة العقود [٤٤].

ومعنى (شَجَرَ) تداخل واختلف ولم يتبيّن فيه الإنصاف ، وأصله من الشجر لأنه يلتفّ بعضه ببعض وتلتفّ أغصانه. وقالوا : شجر أمرهم ، أي كان بينهم الشرّ. والحرج : الضيق الشديد (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [الأنعام : ١٢٥].

وتفريع قوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) الآية على ما قبله يقتضي أنّ سبب نزول هذه الآية هو قضية الخصومة بين اليهودي والمنافق ، وتحاكم المنافق فيها للكاهن ، وهذا هو الذي يقتضيه نظم الكلام ، وعليه جمهور المفسّرين ، وقاله مجاهد ، وعطاء ، والشعبي.

وفي «البخاري» عن الزبير : أحسب هذه الآية نزلت في خصومة بيني وبين أحد الأنصار في شراج من الحرّة (أي مسيل مياه جمع شرج ـ بفتح فسكون ـ وهو مسيل الماء يأتي من حرّة المدينة إلى الحوائط التي بها) إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال رسول الله : «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك» فقال الأنصاري : لأن كان ابن عمّتك. فتغيّر وجه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : اسق يا زبير حتّى يبلغ الماء الجدر ثم أرسل إلى جارك واستوف حقّك (والجدر هو ما يدار بالنخل من التراب كالجدار) فكان قضاؤه الأوّل صلحا ، وكان قضاؤه الثاني أخذا بالحقّ ، وكأنّ هذا الأنصاري ظنّ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد الصلح بينهم على وجه فيه توفير لحقّ الزبير جبرا لخاطره ، ولم ير في ذلك ما ينافي العصمة ، فقد كان الصحابة متفاوتين في العلم بحقائق صفات الرسول مدفوعين في سبر النفوس بما اعتادوه من

١٧٨

الأميال والمصانعات ، فنبّههم الله تعالى على أنّ ذلك يجرّ إلى الطعن في العصمة. وليس هذا الأنصاري بمنافق ولا شاكّ في الرسول ، فإنّهم وصفوه بالأنصاري وهو وصف لخيرة من المؤمنين ، وما وصفوه بالمنافق ، ولكنّه جهل وغفل فعفا عنه رسول الله ولم يستتبه. وهذه القضية ترجع إلى النظر في التكفير بلازم القول والفعل ، وفيها تفصيل حسن لابن رشد في البيان والتحصيل في كتاب «الجنائز» وكتاب «المرتدّين». خلاصته : أنّه لا بدّ من تنبيه من يصدر منه مثل هذا على ما يلزم قوله من لازم الكفر فإن التزمه ولم يرجع عدّ كافرا ، لأنّ المرء قد يغفل عن دلالة الالتزام ، ويؤخذ هذا على هذا الوجه في سبب النزول من أسلوب الآية لقوله : (لا يُؤْمِنُونَ) ـ إلى قوله ـ (تَسْلِيماً) فنبّه الأنصاري بأنّه قد التبس بحالة تنافي الإيمان في خفاء إن استمرّ عليها بعد التنبيه على عاقبتها لم يكن مؤمنا.

والأنصاري ، قيل : هو غير معروف ، وحبّذا إخفاؤه ، وقيل : هو ثعلبة بن حاطب ، ووقع في «الكشاف» أنه حاطب بن أبي بلتعة ، وهو سهو من مؤلفه ، وقيل : ثابت بن قيس بن شمّاس ، وعلى هذه الرواية في سبب النزول يكون معنى قوله : (لا يُؤْمِنُونَ) أنّه لا يستمرّ إيمانهم. والظاهر عندي أنّ الحادثتين وقعتا في زمن متقارب ونزلت الآية في شأن حادثة بشر المنافق فظنّها الزبير نزلت في حادثته مع الأنصاري.

[٦٦ ـ ٦٨] (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨))

لم يظهر وجه اتّصاله بما قبله ليعطف عليه ، لأنّ ما ذكر هنا ليس أولى بالحكم من المذكور قبله ، أي ليس أولى بالامتثال حتّى يقال : لو أنّا كلّفناهم بالرضا بما هو دون قطع الحقوق لما رضوا ، بل المفروض هنا أشدّ على النفوس ممّا عصوا فيه. فقال جماعة من المفسّرين : وجه اتّصالها أنّ المنافق لمّا لم يرض بحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأراد التحاكم إلى الطاغوت ، وقالت اليهود : ما أسخف هؤلاء يؤمنون بمحمّد ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمرنا نبيئنا بقتل أنفسنا ففعلنا وبلغت القتلى منّا سبعين ألفا ؛ فقال ثابت بن قيس بن شماس : لو كتب ذلك علينا لفعلنا ، فنزلت هذه الآية تصديقا لثابت بن قيس ، ولا يخفى بعده عن السياق لأنّه لو كان كذلك لما قيل (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) بل قيل : لفعله فريق منهم. وقال الفخر : هي توبيخ للمنافقين ، أي لو شدّدنا عليهم التكليف لما كان من العجب ظهور عنادهم ، ولكنّا رحمناهم بتكليفهم اليسر فليتركوا العناد. وهي على هذا

١٧٩

الوجه تصلح لأن تكون تحريضا للمؤمنين على امتثال الرسول وانتفاء الحرج عنهم من أحكامه ، فإنّه لم يكلّفهم إلّا اليسر ، كلّ هذا محمول على أنّ المراد بقتل النفوس أن يقتل أحد نفسه بنفسه.

وعندي أنّ ذكر ذلك هنا من براعة المقطع تهيئة لانتقال الكلام إلى التحريض على الجهاد الآتي في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) [النساء : ٧١] وأنّ المراد ب (اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : ليقتل بعضكم بعضا فإنّ المؤمنين يقاتلون قومهم وأقاربهم من المشركين في الجهاد المأمور به بدليل قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) الآية. والمراد بالخروج من الديار الهجرة ، أي كتبنا عليهم هجرة من المدينة ، وفي هذا تنويه بالمهاجرين والمجاهدين.

وقرأ الجمهور (إِلَّا قَلِيلٌ) ـ بالرفع ـ على البدل من الواو في (ما فَعَلُوهُ) على الاستثناء. وقرأه ابن عامر ـ بالنصب ـ على أحد وجهي الاستثناء من الكلام المنفي.

ومعنى (ما يُوعَظُونَ بِهِ) علم من قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) [النساء : ٦٣] ، أي ما يؤمرون به أمر تحذير وترقيق ، أي مضمون ما يوعظون لأنّ الوعظ هو الكلام والأمر ، والمفعول هو المأمور به ، أي لو فعلوا كلّ ما يبلّغهم الرسول ، ومن ذلك الجهاد والهجرة. وكونه خيرا أنّ فيه خير الدنيا لأنّ الله يعلم وهم لا يعلمون.

ومعنى كونه (أَشَدَّ تَثْبِيتاً) يحتمل أنّه التثبيت على الإيمان وبذلك فسّروه ويحتمل عندي أنّه أشدّ تثبيتا لهم ، أي لبقائهم بين أعدائهم ولعزّتهم وحياتهم الحقيقية فإنّهم إنّما يكرهون القتال استبقاء لأنفسهم ، ويكرهون المهاجرة حبّا لأوطانهم ، فعلّمهم الله أنّ الجهاد والتغرب فيه أو في غيره أشدّ تثبيتا لهم ، لأنّه يذود عنهم أعداءهم ، كما قال الحصين بن الحمام :

تأخّرت أستبقي الحياة فلم أجد

لنفسي حياة مثل أن أتقدّما

وممّا دلّ على أنّ المراد بالخير خير الدنيا ، وبالتثبيت التثبيت فيها ، قوله عاطفا عليه (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً).

وجملة (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا) معطوفة على جواب (لو) ، والتقدير : لكان خيرا وأشدّ تثبيتا ولآتيناهم إلخ ، ووجود اللام التي تقع في جواب (لو) مؤذن بذلك. وأمّا واو العطف فلوصل الجملة المعطوفة بالجملة المعطوف عليها. وأمّا (إذن) فهي حرف جواب

١٨٠