تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

نزولها : أنّه وقع تحاجّ بين المسلمين وأهل الكتاب : اليهود والنصارى ، كلّ فريق يقول للآخرين : نحن خير منكم ، ويحتجّ لذلك ويقول : لن يدخل الجنة إلّا من كان على ديننا. فأنزل الله (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) الآيات مبين أن كلّ من اتّبع هدى الله فهو من أهل الجنة وكلّ من ضلّ وخالف أمر الله فهو مجازى بسوء عمله ، فالذين آمنوا من اليهود قبل بعثة عيسى وعملوا الصالحات هم من أهل الجنة وإن لم يكونوا على دين عيسى ، فبطل قول النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا والذين آمنوا بموسى وعيسى قبل بعثه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعملوا الصالحات يدخلون الجنّة ، فبطل قول المسلمين واليهود : لن يدخل الجنّة إلّا من كان على ديننا فكانت هذه الآية حكما فصلا بين الفرق ، وتعليما لهم أن ينظروا في توفّر حقيقة الإيمان الصحيح ، وتوفّر العمل الصالح معه ، ولذلك جمع الله أماني الفرق الثلاث بقوله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ). ثم إنّ الله لوّح إلى فلج حجّة المسلمين بإشارة قوله : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فإن كان إيمان اختلّ منه بعض ما جاء به الدين الحقّ ، فهو كالعدم ، فعقّب هذه الآية بقوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النساء : ١٢٥]. والمعنى أنّ الفوز في جانب المسلمين ، لا لأنّ أمانيّهم كذلك ، بل لأنّ أسباب الفوز والنجاة متوفّرة في دينهم. وعن عكرمة : قالت اليهود والنصارى : لن يدخل الجنّة إلّا من كان منّا. وقال المشركون : لا نبعث.

والباء في قوله : (بِأَمانِيِّكُمْ) للملابسة ، أي ليس الجزاء حاصلا حصولا على حسب أمانيّكم ، وليست هي الباء التي تزاد في خبر ليس لأنّ أمانيّ المخاطبين واقعة لا منفية.

والأمانيّ جمع أمنية ، وهي اسم للتمنّي ، أي تقدير غير الواقع واقعا. والأمنية بوزن أفعولة كالأعجوبة. وقد تقدّم ذلك في تفسير قوله تعالى : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) في سورة البقرة [٧٨]. وكأنّ ذكر المسلمين في الأماني لقصد التعميم في تفويض الأمور إلى ما حكم الله ووعد ، وأنّ ما كان خلاف ذلك لا يعتدّ به. وما وافقه هو الحقّ ، والمقصد المهمّ هو قوله : (وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) على نحو : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] فإنّ اليهود كانوا في غرور ، يقولون : لن تمسّنا النار إلّا أيّاما معدودة. وقد سمّى الله تلك أماني عند ذكره في قوله : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) [البقرة : ١١١]. أمّا المسلمون فماحشون من اعتقاد مثل ذلك.

٢٦١

وقيل : الخطاب لكفار العرب ، أي ليس بأمانيّ المشركين ، إذ جعلوا الأصنام شفعاءهم عند الله ، ولا أمانيّ أهل الكتاب الذين زعموا أنّ أنبياءهم وأسلافهم يغنون عنهم من عذاب الله ، وهو محمل للآية.

وقوله : (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) زيادة تأكيد ، لردّ عقيدة من يتوهّم أنّ أحدا يغني عن عذاب الله.

والوليّ هو المولى ، أي المشارك في نسب القبيلة ، والمراد به المدافع عن قريبه ، والنصير الذي إذا استنجدته نصرك ، أو الحليف ، وكان النصر في الجاهلية بأحد هذين النوعين.

ووجه قوله : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) قصد التعميم والردّ على من يحرم المرأة حظوظا كثيرة من الخير من أهل الجاهلية أو من أهل الكتاب. وفي الحديث «وليشهدن الخير ودعوة المسلمين». و (من) لبيان الإبهام الذي في (من) الشرطية في قوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ).

وقرأ الجمهور (يَدْخُلُونَ) ـ بفتح التحتية وضمّ الخاء ـ. وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر ، وروح عن يعقوب ـ بضمّ التحتيّة وفتح الخاء ـ على البناء للنائب.

[١٢٥ ، ١٢٦] (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦))

الأظهر أنّ الواو للحال من ضمير (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) [النساء : ١٢٤] الذي ما صدقه المؤمنون الصالحون ، فلما ذكر ثواب المؤمنين أعقبه بتفضيل دينهم. والاستفهام إنكاري. وانتصب (دِيناً) على التمييز. وإسلام الوجه كناية عن تمام الطاعة والاعتراف بالعبودية ، وهو أحسن الكنايات ، لأنّ الوجه أشرف الأعضاء ، وفيه ما كان به الإنسان إنسانا ، وفي القرآن (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) [آل عمران : ٢٠]. والعرب تذكر أشياء من هذا القبيل كقوله : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) [العلق : ١٥] ، ويقولون : أخذ بساقه ، أي تمكن منه ، وكأنّه تمثيل لإمساك الرعاة الأنعام. وفي الحديث «الطلاق لمن أخذ بالساق» ويقولون : ألقى إليه القياد ، وألقى إليه الزمام ، وقال زيد بن عمرو بن نفيل :

٢٦٢

يقول أنفي لك عان راغم

ويقولون : يدي رهن لفلان. وأراد بإسلام الوجه الاعتراف بوجود الله ووحدانيته. وقد تقدّم ما فيه بيان لهذا عنا ، قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ)[آل عمران : ١٩] وقوله : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) [البقرة : ١٣٢].

وجملة «وهو محسن» حال قصد منها اتّصافه بالإحسان حين إسلامه وجهه لله ، أي خلع الشرك قاصدا الإحسان ، أي راغبا في الإسلام لما رأى فيه من الدعوة إلى الإحسان. ومعنى (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أنه اتّبع شريعة الإسلام التي هي على أسس ملّة إبراهيم. فهذه ثلاثة أوصاف بها يكمل معنى الدخول في الإسلام ، ولعلّها هي : الإيمان ، والإحسان ، والإسلام. ولك أن تجعل معنى (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أنّه دخل في الإسلام ، وأنّ قوله : (وَهُوَ مُحْسِنٌ) مخلص راغب في الخير ، وأنّ اتّباع ملّة إبراهيم عني به التوحيد. وتقدّم أنّ (حَنِيفاً) معناه مائلا عن الشرك أو متعبّدا. وإذا جعلت معنى قوله : (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي عامل الصالحات كان قوله : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) بمنزلة عطف المرادف وهو بعيد.

وقوله : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) عطف ثناء إبراهيم على مدح من اتّبع دينه زيادة تنويه بدين إبراهيم ، فأخبر أنّ الله اتّخذ إبراهيم خليلا. والخليل في كلام العرب الصاحب الملازم الذي لا يخفى عنه شيء من أمور صاحبه ، مشتقّ من الخلال ، وهو النواحي المتخلّلة للمكان (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) [النور : ٤٣] (فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) [الكهف : ٣٣]. هذا أظهر الوجوه في اشتقاق الخليل. ويقال : خلّ وخلّ ـ بكسر الخاء وضمّها ـ ومؤنّثه : خلّة ـ بضمّ الخاء ـ ، ولا يقال ـ بكسر الخاء ـ ، قال كعب :

أكرم بها خلّة لو أنّها صدقت

وجمعها خلائل. وتطلق الخلّة ـ بضمّ الخاء ـ على الصحبة الخالصة (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [البقرة : ٢٥٤] ، وجمعها خلال (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) [إبراهيم : ٣١]. ومعنى اتخاذ الله إبراهيم خليلا شدّة رضى الله عنه ، إذ قد علم كلّ أحد أنّ الخلّة الحقيقية تستحيل على الله فأريد لوازمها وهي الرضى ، واستجابة الدعوة ، وذكره بخير ، ونحو ذلك.

وجملة (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) إلخ تذييل جعل كالاحتراس ، على

٢٦٣

أنّ المراد بالخليل لازم معنى الخلّة ، وليست هي كخلّة الناس مقتضية المساواة أو التفضيل ، فالمراد منها الكناية عن عبودية إبراهيم في جملة (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). والمحيط : العليم.

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧))

عطف تشريع على إيمان وحكمة وعظة. ولعلّ هذا الاستفتاء حدث حين نزول الآيات السابقة. فذكر حكمه عقبها معطوفا. وهذا الاستفتاء حصل من المسلمين بعد أن نزل قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] إلخ. وأحسن ما ورد في تفسير هذه الآية ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير أنّه سأل عائشة عن قول الله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) قالت : يا بن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوّجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهنّ إلّا أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهن أعلى سنّتهنّ في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهنّ. وأنّ الناس استفتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله تعالى : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ). قالت عائشة : وقول الله تعالى : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال ؛ قالت : فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلّا بالقسط من أجل رغبتهم عنهنّ إذا كنّ قليلات المال والجمال ، وكان الولي يرغب عن أن ينكحها ويكره أن يزوّجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها. فنزلت هذه الآية.

فالمراد : ويستفتونك في أحكام النساء إذ قد علم أنّ الاستفتاء لا يتعلّق بالذوات ، فهو مثل قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣]. وأخصّ الأحكام بالنساء: أحكام ولا يتهنّ ، وأحكام معاشرتهنّ. وليس المقصود هنا ميراث النساء إذ لا خطور له بالبال هنا.

وقوله : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) وعد باستيفاء الإجابة عن الاستفتاء ، وهو ضرب من

٢٦٤

تبشير السائل المتحيّر بأنّه قد وجد طلبته ، وذلك مثل قولهم : على الخبير سقطت. وقوله تعالى : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف : ٧٨]. وتقديم اسم الجلالة للتنويه بشأن هذه الفتيا.

وقوله : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) عطف على اسم الجلالة ، أي ويفتيكم فيهنّ ما يتلى عليكم في الكتاب ، أي القرآن ، وإسناد الإفتاء إلى ما يتلى إسناد مجازي ، لأنّ ما يتلى دالّ على إفتاء الله فهو سبب فيه ، فآل المعنى إلى : قل الله يفتيكم فيهنّ بما يتلى عليكم في الكتاب ، والمراد بذلك بما تلي عليهم من أوّل السورة ، وما سيتلى بعد ذلك ، فإنّ التذكير به وتكريره إفتاء به مرّة ثانية ، وما أتبع به من الأحكام إفتاء أيضا. وقد ألّمت الآية بخلاصة ما تقدّم من قوله : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) إلى قوله : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) [النساء : ٢ ـ ٦]. وكذلك أشارت هذه الآية إلى فقر ممّا تقدّم : بقوله هنا : (فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) فأشار إلى قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) إلى قوله : (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء : ٣ ، ٤].

ولحذف حرف الجرّ بعد (تَرْغَبُونَ) ـ هنا ـ موقع عظيم من الإيجاز وإكثار المعنى، أي ترغبون عن نكاح بعضهنّ ، وفي نكاح بعض آخر ، فإنّ فعل رغب يتعدّى بحرف (عن) للشيء الذي لا يحبّ ؛ وبحرف (في) للشيء المحبوب. فإذا حذف حرف الجرّ احتمل المعنيين إن لم يكن بينهما تناف ، وذلك قد شمله قوله في الآية المتقدّمة (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا) [النساء : ٣] إلخ. وأشار بقوله هنا (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) إلى قوله هنالك (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) ـ إلى ـ (كَبِيراً) [النساء : ٢] وإلى قوله : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) إلى قوله : (مَعْرُوفاً) [النساء : ٥].

وأشار بقوله : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) إلى قوله هنالك (وَابْتَلُوا الْيَتامى) ـ إلى ـ (حَسِيباً) [النساء : ٦].

ولا شكّ أنّ ما يتلى في الكتاب هو من إفتاء الله ، إلّا أنّه لمّا تقدّم على وقت الاستفتاء كان مغايرا للمقصود من قوله : (اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) ، فلذلك صحّ عطفه عليه عطف السبب على المسبّب. والإفتاء الأنف هو من قوله : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) ـ إلى ـ (واسِعاً حَكِيماً) [النساء : ١٢٨ ـ ١٣٠].

و (في) من قوله : (فِي يَتامَى النِّساءِ) للظرفية المجازية ، أي في شأنهن ، أو للتعليل ، أي لأجلهنّ ، ومعنى (كُتِبَ لَهُنَ) فرض لهنّ إمّا من أموال من يرثنهم ، أو من المهور التي

٢٦٥

تدفعونها لهنّ ، فلا توفوهنّ مهور أمثالهنّ ، والكلّ يعدّ مكتوبا لهنّ ، كما دلّ عليه حديث عائشة ـ رضي‌الله‌عنها ـ وعلى الوجهين يجيء التقدير في قوله : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) ولك أن تجعل الاحتمالين في قوله : (ما كُتِبَ لَهُنَ) وفي قوله : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ). مقصودين على حدّ استعمال المشترك في معنييه.

وقوله : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) عطف على (يَتامَى النِّساءِ) ، وهو تكميل وإدماج ، لأنّ الاستفتاء كان في شأن النساء خاصّة ، والمراد المستضعفون والمستضعفات ، ولكنّ صيغة التذكير تغليب ، وكذلك الولدان ، وقد كانوا في الجاهلية يأكلون أموال من في حجرهم من الصغار.

وقوله : (وَأَنْ تَقُومُوا) عطف على (يَتامَى النِّساءِ) ، أي وما يتلى عليكم في القيام لليتامى بالعدل. ومعنى القيام لهم التدبير لشئونهم ، وذلك يشمل يتامى النساء.

[١٢٨ ـ ١٣٠] (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠))

عطف لبقية إفتاء الله تعالى. وهذا حكم اختلال المعاشرة بين الزوجين ، وقد تقدّم بعضه في قوله : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) [النساء : ٣٤] الآية ، في هذه السورة ، فذلك حكم فصل القضاء بينهما ، وما هنا حكم الانفصال بالصلح بينهما ، وذلك ذكر فيه نشوز المرأة ، وهنا ذكر نشوز البعل. والبعل زوج المرأة. وقد تقدّم وجه إطلاق هذا الاسم عليه في قوله (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) في سورة البقرة [٢٢٨].

وصيغة (فَلا جُناحَ) من صيغ الإباحة ظاهرا ، فدلّ ذلك على الإذن للزوجين في صلح يقع بينهما. وقد علم أنّ الإباحة لا تذكر إلّا حيث يظنّ المنع ، فالمقصود الإذن في صلح يكون بخلع : أي عوض مالي تعطيه المرأة ، أو تنازل عن بعض حقوقها ، فيكون مفاد هذه الآية أعمّ من مفاد قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة : ٢٢٩] ، فسمّاه هناك افتداء ، وسمّاه هنا صلحا. وقد شاع في الاستعمال إطلاق

٢٦٦

الصلح على التراضي بين الخصمين على إسقاط بعض الحقّ ، وهو الأظهر هنا. واصطلح الفقهاء من المالكية : على إطلاق الافتداء على اختلاع المرأة من زوجها بمال تعطيه ، وإطلاق الخلع على الاختلاع بإسقاطها عنه بقية الصداق ، أو النفقة لها ، أو لأولادها.

ويحتمل أن تكون صيغة (فَلا جُناحَ) مستعملة في التحريض على الصلح ، أي إصلاح أمرهما بالصلح وحسن المعاشرة ، فنفي الجناح من الاستعارة التمليحية ؛ شبّه حال من ترك الصلح واستمرّ على النشوز والإعراض بحال من ترك الصلح عن عمد لظنّه أنّ في الصلح جناحا. فالمراد الصلح بمعنى إصلاح ذات البين ، والأشهر فيه أن يقال الإصلاح.

والمقصود الأمر بأسباب الصلح ، وهي : الإغضاء عن الهفوات ، ومقابلة الغلظة باللين ، وهذا أنسب وأليق بما يرد بعده من قوله : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ).

وللنشوز والإعراض أحوال كثيرة : تقوى وتضعف ، وتختلف عواقبها ، باختلاف أحوال الأنفس ، ويجمعها قوله : (خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً). وللصلح أحوال كثيرة : منها المخالعة ، فيدخل في ذلك ما ورد من الآثار الدالّة على حوادث من هذا القبيل. ففي «صحيح البخاري» ، عن عائشة ، قالت في قوله تعالى : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) قالت : الرجل يكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها ، فتقول له أجعلك من شأني في حلّ. فنزلت هذه الآية. وروى الترمذي ، بسند حسن عن ابن عباس ، أنّ سودة أمّ المؤمنين وهبت يومها لعائشة ، وفي أسباب النزول للواحدي : أنّ ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا ، أيّ كبرا فأراد طلاقها ، فقالت له : أمسكني واقسم لي ما بدا لك. فنزلت الآية في ذلك.

وقرأ الجمهور : أن يصالحا ـ بتشديد الصاد وفتح اللام ـ وأصله يتصالحا ، فأدغمت التاء في الصاد ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : «إن يصلحا» ـ بضمّ التحتيّة وتخفيف الصاد وكسر اللام ـ أي يصلح كلّ واحد منهما شأنهما بما يبدو من وجوه المصالحة.

والتعريف في قوله : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) تعريف الجنس وليس تعريف العهد ، لأنّ المقصود إثبات أنّ ماهية الصلح خير للناس ، فهو تذييل للأمر بالصلح والترغيب فيه ، وليس المقصود أنّ الصلح المذكور آنفا ، وهو الخلع ، خير من النزاع بين الزوجين ، لأنّ هذا ، وإنّ صحّ معناه ، ألّا أنّ فائدة الوجه الأوّل أوفر ، ولأنّ فيه التفادي عن إشكال تفضيل الصلح على النزاع في الخيرية مع أنّ النزاع لا خير فيه أصلا. ومن جعل الصلح

٢٦٧

الثاني عين الأوّل غرّته القاعدة المتداولة عند بعض النحاة ، وهي : أنّ لفظ النكرة إذا أعيد معرّفا باللام فهو عين الأولى. وهذه القاعدة ذكرها ابن هشام الأنصاري في «مغني اللبيب» في الباب السادس ، فقال : يقولون : «النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى ، وإذا أعيدت معرفة ، أو أعيدت المعرفة معرفة أو نكرة كانت الثانية عين الأولى» ، ثم ذكر أنّ في القرآن آيات تردّ هذه الأحكام الأربعة كقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً) [الروم : ٥٤] وقوله : (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء : ١٢٨] (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) [النحل : ٨٨] والشيء لا يكون فوق نفسه (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥] (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) [النساء : ١٥٣] ، وأنّ في كلام العرب ما يردّ ذلك أيضا. والحقّ أنّه لا يختلف في ذلك إذا قامت قرينة على أنّ الكلام لتعريف الجنس لا لتعريف العهد ، كما هنا. وقد تقدّم القول في إعادة المعرفة نكرة عند قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) في سورة البقرة [١٩٣]. ويأتي عند قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) في سورة الأنعام [٣٧].

وقوله (خَيْرٌ) ليس هو تفضيلا ولكنّه صفة مشبّهة ، وزنه فعل ، كقولهم : سمح وسهل ، ويجمع على خيور. أو هو مصدر مقابل الشرّ ، فتكون إخبارا بالمصدر. وأمّا المراد به التفضيل فأصل وزنه أفعل ، فخفّف بطرح الهمزة ثم قلب حركته وسكونه.

جمعه أخيار ، أي والصلح في ذاته خير عظيم. والحمل على كونه تفضيلا يستدعي أن يكون المفضّل عليه هو النشوز والإعراض. ، وليس فيه كبير معنى.

وقد دلّت الآية على شدّة الترغيب في هذا الصلح بمؤكّدات ثلاثة : وهي المصدر المؤكّد في قوله : (صُلْحاً) ، والإظهار في مقام الإضمار في قوله : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) ، والإخبار عنه بالمصدر أو بالصفة المشبهة فإنّها تدلّ على فعل سجية.

ومعنى (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) ملازمة الشحّ للنفوس البشرية حتّى كأنّه حاضر لديها. ولكونه من أفعال الجبلّة بني فعله للمجهول على طريقة العرب في بناء كلّ فعل غير معلوم الفاعل للمجهول ، كقولهم : شغف بفلانة ، واضطرّ إلى كذا. ف «الشحّ» منصوب على أنّه مفعول ثان ل «أحضرت» لأنّه من باب أعطى.

وأصل الشحّ في كلام العرب البخل بالمال ، وفي الحديث «أن تصدّق وأنت صحيح

٢٦٨

شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى» ، وقال تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر : ٩] ويطلق على حرص النفس على الحقوق وقلّة التسامح فيها ، ومنه المشاحّة ، وعكسه السماحة في الأمرين.

فيجوز أن يكون المراد بالصلح في هذه الآية صلح المال ، وهو الفدية. فالشحّ هو شحّ المال ، وتعقيب قوله : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) بقوله : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ) على هذا الوجه بمنزلة قولهم بعد الأمر بما فيه مصلحة في موعظة أو نحوها : وما إخالك تفعل ، لقصد التحريض.

ويجوز أن يكون المراد من الشحّ ما جبلت عليه النفوس : من المشاحّة ، وعدم التساهل ، وصعوبة الشكائم ، فيكون المراد من الصلح صلح المال وغيره ، فالمقصود من تعقيبه به تحذير الناس من أن يكونوا متلبّسين بهذه المشاحّة الحائلة دون المصالحة. وتقدّم الكلام على البخل عند قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ) في سورة آل عمران [١٨٠]. وقد اشتهر عند العرب ذمّ الشحّ بالمال ، وذمّ من لا سماحة فيه ، فكان هذا التعقيب تنفيرا من العوارض المانعة من السماحة والصلح ، ولذلك ذيّل بقوله : (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) لما فيه من الترغيب في الإحسان والتقوى. ثم عذر الناس في شأن النساء فقال : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) أي تمام العدل. وجاء ب (لن) للمبالغة في النفي ، لأنّ أمر النساء يغالب النفس ، لأنّ الله جعل حسن المرأة وخلقها مؤثّرا أشدّ التأثير ، فربّ امرأة لبيبة خفيفة الروح ، وأخرى ثقيلة حمقاء ، فتفاوتهنّ في ذلك وخلوّ بعضهنّ منه يؤثّر لا محالة تفاوتا في محبّة الزوج بعض أزواجه ، ولو كان حريصا على إظهار العدل بينهنّ ، فلذلك قال (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) ، وأقام الله ميزان العدل بقوله : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) ، أي لا يفرط أحدكم بإظهار الميل إلى إحداهنّ أشدّ الميل حتّى يسوء الأخرى بحيث تصير الأخرى كالمعلّقة. فظهر أنّ متعلّق (تَمِيلُوا) مقدّر بإحداهنّ ، وأنّ ضمير (فَتَذَرُوها) المنصوب عائد إلى غير المتعلّق المحذوف بالقرينة ، وهو إيجاز بديع.

والمعلّقة : هي المرأة التي يهجرها زوجها هجرا طويلا ، فلا هي مطلّقة ولا هي زوجة ، وفي حديث أمّ زرع «زوجي العشنّق إن أنطق أطلّق وإن أسكت أعلّق» ، وقالت ابنة الحمارس :

٢٦٩

إنّ هي إلّا حظة أو تطليق

أو صلف أو بين ذاك تعليق (١)

وقد دلّ قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا) إلى قوله : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) على أنّ المحبّة أمر قهري ، وأنّ للتعلّق بالمرأة أسبابا توجبه قد لا تتوفّر في بعض النساء ، فلا يكلّف الزوج بما ليس في وسعه من الحبّ والاستحسان ، ولكنّ من الحبّ حظّا هو اختياري ، وهو أن يروض الزوج نفسه على الإحسان لامرأته ، وتحمّل ما لا يلائمه من خلقها أو أخلاقها ما استطاع ، وحسن المعاشرة لها ، حتّى يحصّل من الألف بها والحنوّ عليها اختيارا بطول التكرّر والتعوّد. ما يقوم مقام الميل الطبيعي. فذلك من الميل إليها الموصى به في قوله : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) ، أي إلى إحداهنّ أو عن إحداهنّ.

ثم وسّع الله عليهما إن لم تنجح المصالحة بينهما فأذن لهما في الفراق بقوله : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ).

وفي قوله : (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) إشارة إلى أنّ الفراق قد يكون خيرا لهما لأنّ الفراق خير من سوء المعاشرة. ومعنى إغناء الله كلّا : إغناؤه عن الآخر. وفي الآية إشارة إلى أنّ إغناء الله كلّا إنّما يكون عن الفراق المسبوق بالسعي في الصلح.

وقوله : (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) تذييل وتنهية للكلام في حكم النساء.

[١٣١ ـ ١٣٣] (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣))

جملة (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) معترضة بين الجمل التي قبلها المتضمنة التحريض على التقوى والإحسان وإصلاح الأعمال من قوله : (وَإِنْ تُحْسِنُوا

__________________

(١) هذا الرجز منسوب لامرأة يقال لها ابنة الحمارس (بضم الحاء وتخفيف الميم) البكرية وفي رواية : إن هي إلا حظوة ، وهي رواية إصلاح المنطق ، والحظة (بكسر الحاء) والحظوة (بضم الحاء وكسرها) المكانة والقبول عند الزوج. والصلف ضدها. والتعليق الهجران المستمر. والضمير في قولها : إن هي ، يعود إلى المرأة. ومعنى البيت أنها إذا تزوجت لا تدري أتكون ذات حظوة عند الزوج أو يطلقها أو يكرهها أو يعلقها.

٢٧٠

وَتَتَّقُوا) [النساء : ١٢٨] وقوله : (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا) [النساء : ١٢٩] وبين جملة (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا) الآية. فهذه الجملة تضمّنت تذييلات لتلك الجمل السابقة ، وهي مع ذلك تمهيد لما سيذكر بعدها من قوله : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) إلخ لأنها دليل لوجوب تقوى الله.

والمناسبة بين هذه الجملة والتي سبقتها : وهي جملة (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) [النساء : ١٣٠] أنّ الذي له ما في السماوات وما في الأرض قادر على أن يغني كلّ أحد من سعته. وهذا تمجيد لله تعالى ، وتذكير بأنّه ربّ العالمين ، وكناية عن عظيم سلطانه واستحقاقه للتقوى.

وجملة (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) عطف على جملة (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ١١٦].

وجعل الأمر بالتقوى وصية : لأنّ الوصية قول فيه أمر بشيء نافع جامع لخير كثير ، فلذلك كان الشأن في الوصية إيجاز القول لأنّها يقصد منها وعي السامع ، واستحضاره كلمة الوصية في سائر أحواله. والتقوى تجمع الخيرات ، لأنّها امتثال الأوامر واجتناب المناهي ، ولذلك قالوا : ما تكرّر لفظ في القرآن ما تكرّر لفظ التقوى ، يعنون غير الأعلام ، كاسم الجلالة. وفي الحديث عن العرباض بن سارية : وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا يا رسول الله : كأنّها موعظة مودّع فأوصنا ، قال : «أوصيكم بتقوى الله عزوجل والسمع والطاعة». فذكر التقوى في (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) إلخ تفسير لجملة (وَصَّيْنَا) ، فإن فيه تفسيرية. والإخبار بأنّ الله أوصى الذين أوتوا الكتاب من قبل بالتقوى مقصود منه إلهاب همم المسلمين للتهمّم بتقوى الله لئلّا تفضلهم الأمم الذين من قبلهم من أهل الكتاب ، فإنّ للائتساء أثرا بالغا في النفوس ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ١٨٣] ، والمراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى ، فالتعريف في الكتاب تعريف الجنس فيصدق بالمتعدّد.

والتقوى المأمور بها هنا منظور فيها إلى أساسها وهو الإيمان بالله ورسله ولذلك قوبلت بجملة (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

وبيّن بها عدم حاجته تعالى إلى تقوى الناس ، ولكنّها لصلاح أنفسهم ، كما قال (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧]. فقوله : (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كناية عن عدم التضرّر بعصيان من يعصونه ، ولذلك جعلها

٢٧١

جوابا للشرط ، إذ التقدير فإنّه غنيّ عنكم. وتأيّد ذلك القصد بتذييلها بقوله : (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) أي غنيّا عن طاعتكم ، محمودا لذاته ، سواء حمده الحامدون وأطاعوه ، أم كفروا وعصوه.

وقد ظهر بهذا أنّ جملة (وَإِنْ تَكْفُرُوا) معطوفة على جملة (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) فهي من تمام الوصية ، أي من مقول القول المعبّر عنه ب (وَصَّيْنَا) ، فيحسن الوقف على قوله (حَمِيداً).

وأمّا جملة (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) فهي عطف على جملة (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا) ، أتى بها تمهيدا لقوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) فهي مراد بها معناها الكنائي الذي هو التمكّن من التصرّف بالإيجاد والإعدام ، ولذلك لا يحسن الوقف على قوله : (وَكِيلاً). فقد تكرّرت جملة (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) هنا ثلاث مرّات متتاليات متّحدة لفظا ومعنى أصليا ، ومختلفة الأغراض الكنائية المقصودة منها ، وسبقتها جملة نظيرتهنّ : وهي ما تقدّم من قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) [النساء : ١٢٦]. فحصل تكرارها أربع مرات في كلام متناسق. فأمّا الأولى السابقة فهي واقعة موقع التعليل لجملة (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦] ، ولقوله : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء : ١١٦] ، والتذييل لهما ، والاحتراس لجملة (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) [النساء : ١٢٥] ، كما ذكرناه آنفا. وأما الثانية التي بعدها فواقعة موقع التعليل لجملة (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ). وأما الثالثة التي تليها فهي علّة للجواب المحذوف ، وهو جواب قوله : (وَإِنْ تَكْفُرُوا) ؛ فالتقدير : وإن تكفروا فإنّ الله غنيّ عن تقواكم وإيمانكم فإنّ له ما في السماوات وما في الأرض وكان ولا يزال غنيّا حميدا. وأمّا الرابعة التي تليها فعاطفة على مقدّر معطوف على جواب الشرط تقديره : وإن تكفروا بالله وبرسوله فإنّ الله وكيل عليكم ووكيل عن رسوله وكفى بالله وكيلا.

وجملة (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) واقعة موقع التفريع عن قوله : (غَنِيًّا حَمِيداً). والخطاب بقوله : (أَيُّهَا النَّاسُ) للناس كلّهم الذين يسمعون الخطاب تنبيها لهم بهذا النداء. ومعنى (يَأْتِ بِآخَرِينَ) يوجد ناسا آخرين يكونون خيرا منكم في تلقي الدين.

وقد علم من مقابلة قوله : (أَيُّهَا النَّاسُ) بقوله : (بِآخَرِينَ) أنّ المعنى بناس آخرين غير كافرين ، على ما هو الشائع في الوصف بكلمة آخر أو أخرى ، بعد ذكر مقابل

٢٧٢

للموصوف ، أن يكون الموصوف بكلمة آخر بعضا من جنس ما عطف هو عليه باعتبار ما جعله المتكلّم جنسا في كلامه ، بالتصريح أو التقدير. وقد ذهب بعض علماء اللغة إلى لزوم ذلك ، واحتفل بهذه المسألة الحريري في «درّة الغوّاص». وحاصلها : أنّ الأخفش الصغير ، والحريري ، والرضيّ ، وابن يسعون ، والصقلي ، وأبا حيان ، ذهبوا إلى اشتراط اتّحاد جنس الموصوف بكلمة آخر وما تصرّف منها مع جنس ما عطف هو عليه ، فلا يجوز عندهم أن تقول : ركبت فرسا وحمارا آخر ، ومثّلوا لما استكمل الشرط بقوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ١٨٤] ثم قال : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٥] وبقوله : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ، ٢٠] فوصف مناة بالأخرى لأنّها من جنس اللات والعزّى في أنّها صنم ، قالوا : ومثل كلمة آخر في هذا كلمات : سائر ، وبقية ، وبعض ، فلا تقول : أكرمت رجلا وتركت سائر النساء. ولقد غلا بعض هؤلاء النحاة فاشترطوا الاتحاد بين الموصوف بآخر وبين ما عطف هو عليه حتّى في الإفراد وضدّه. قاله ابن يسعون والصقلي ، وردّه ابن هشام في «التذكرة» محتجّا بقول ربيعة بن مكدم :

ولقد شفعتهما بآخر ثالث

وأبى الفرار لي الغداة تكرمي

وبقول أبي حيّة النميري :

وكنت أمشي على رجلين معتدلا

فصرت أمشي على أخرى من الشّجر

وقال قوم بلزوم الاتّحاد في التذكير وضدّه ، واختاره ابن جنّي ، وخالفهم المبرّد ، واحتجّ المبرّد بقول عنترة :

والخيل تقتحم الغبار عوابسا

من بين شيظمة وآخر شيظم

وذهب الزمخشري وابن عطية إلى عدم اشتراط اتّحاد الموصوف بآخر مع ما عطف هو عليه ، ولذلك جوزا في هذه الآية أن يكون المعنى : ويأت بخلق آخرين غير الإنس.

واتّفقوا على أنّه لا يجوز أن يوصف بكلمة آخر موصوف لم يتقدّمه ذكر مقابل له أصلا ، فلا تقول : جاءني آخر ، من غير أن تتكلّم بشيء قبل ، لأنّ معنى آخر معنى مغاير في الذات مجانس في الوصف. وأمّا قول كثير :

صلّى على عزّة الرحمن وابنتها

لبنى وصلّى على جاراتها الأخر

فمحمول على أنّه جعل ابنتها جارة ، أو أنّه أراد : صلى على حبائبي : عزّة وابنتها وجاراتها حبائبي الأخر.

٢٧٣

وقال أبو الحسن لا يجوز ذلك إلا في الشعر ، ولم يأت عليه بشاهد.

قال أبو الحسن : وقد يجوز ما امتنع من ذلك بتأويل. نحو : رأيت فرسا وحمارا آخر

بتأويل أنّه دابّة ، وقول امرئ القيس :

إذا قلت هذا صاحبي ورضيته

وقرّت به العينان بدّلت آخرا

قلت : وقد يجعل بيت كثير من هذا ، ويكون الاعتماد على القرينة.

وقد عدّ في هذا القبيل قول العرب : «تربت يمين الآخر» ، وفي الحديث : قال الأعرابي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الآخر وقع على أهله في رمضان» كناية عن نفسه ، وكأنّه من قبيل التجريد. أي جرّد من نفسه شخصا تنزيها لنفسه من أن يتحدّث عنها بما ذكره. وفي حديث الأسلمي في «الموطأ» : أنّه قال لأبي بكر «إنّ الآخر قد زنى» وبعض أهل الحديث يضبطونه ـ بالقصر وكسر الخاء ـ ،. وصوّبه المحقّقون.

وفي الآية إشارة إلى أنّ الله سيخلف من المشركين قوما آخرين مؤمنين ، فإنّ الله أهلك بعض المشركين على شركه بعد نزول هذه الآية ، ولم يشأ إهلاك جميعهم. وفي الحديث : لعلّ الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤))

لمّا كان شأن التقوى عظيما على النفوس ، لأنّها يصرفها عنها استعجال الناس لمنافع الدنيا على خيرات الآخرة ، نبّههم الله إلى أنّ خير الدنيا بيد الله ، وخير الآخرة أيضا ، فإن اتقوه نالوا الخيرين.

ويجوز أن تكون الآية تعليما للمؤمنين أن لا يصدّهم الإيمان عن طلب ثواب الدنيا ، إذ الكلّ من فضل الله. ويجوز أن تكون تذكيرا للمؤمنين بأن لا يلهيهم طلب خير الدنيا عن طلب الآخرة ، إذ الجمع بينهما أفضل ، وكلاهما من عند الله ، على نحو قوله : «فمنهم من يقول ربّنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب بما كسبوا» أو هي تعليم للمؤمنين أن لا يطلبوا خير الدنيا من طرق الحرام ، فإنّ في الحلال سعة لهم ومندوحة ، وليتطلّبوه من الحلال يسهّل لهم الله حصوله ، إذ الخير كلّه بيد الله ، فيوشك أن يحرم من

٢٧٤

يتطلّبه من وجه لا يرضيه أو لا يبارك له فيه. والمراد بالثواب في الآية معناه اللغوي دون الشرعي ، وهو الخير وما يرجع به طالب النفع من وجوه النفع ، مشتقّ من ثاب بمعنى رجع. وعلى الاحتمالات كلّها فجواب الشرط ب «من كان يريد ثواب الدنيا» محذوف ، تدلّ عليه علّته ، والتقدير : من كان يريد ثواب الدنيا فلا يعرض عن دين الله ، أو فلا يصدّ عن سؤاله ، أو فلا يقتصر على سؤاله ، أو فلا يحصّله من وجوه لا ترضي الله تعالى : كما فعل بنو أبيرق وأضرابهم ، وليتطلّبه من وجوه البرّ لأنّ فضل الله يسع الخيرين ، والكلّ من عنده. وهذا كقول القطامي :

فمن تكن الحضارة أعجبته

فأيّ رجال بادية ترانا

التقدير : فلا يغترر أو لا يبتهج بالحضارة ، فإنّ حالنا دليل على شرف البداوة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥))

انتقال من الأمر بالعدل في أحوال معيّنة من معاملات اليتامى والنساء إلى الأمر بالعدل الذي يعمّ الأحوال كلّها ، وما يقارنه من الشهادة الصادقة ، فإنّ العدل في الحكم وأداء الشهادة بالحقّ هو قوام صلاح المجتمع الإسلامي ، والانحراف عن ذلك ولو قيد أنملة يجرّ إلى فساد متسلسل.

وصيغة (قَوَّامِينَ) دالّة على الكثرة المراد لازمها ، وهو عدم الإخلال بهذا القيام في حال من الأحوال.

والقسط العدل ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) في سورة آل عمران [١٨]. وعدل عن لفظ العدل إلى كلمة القسط لأنّ القسط كلمة معرّبة أدخلت في كلام العرب لدلالتها في اللغة المنقولة منها على العدل في الحكم ، وأمّا لفظ العدل فأعمّ من ذلك ، ويدلّ لذلك تعقيبه بقوله : (شُهَداءَ لِلَّهِ) فإنّ الشهادة من علائق القضاء والحكم.

و (لِلَّهِ) ظرف مستقرّ حال من ضمير (شُهَداءَ) أي لأجل الله ، وليست لام تعدية (شُهَداءَ) إلى مفعوله ، ولم يذكر تعلّق المشهود له بمتعلّقه وهو وصف (شُهَداءَ) لإشعار الوصف بتعيينه ، أي المشهود له بحقّ. وقد جمعت الآية أصلي التحاكم ، وهما القضاء والشهادة.

٢٧٥

وجملة (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) حالية ، و (لو) فيها وصلية ، وقد مضى القول في تحقيق موقع (لو) الوصلية عند قوله تعالى : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في سورة آل عمران [٩١].

ويتعلّق (عَلى أَنْفُسِكُمْ) بكلّ من (قَوَّامِينَ) و (شُهَداءَ) ليشمل القضاء والشهادة.

والأنفس : جمع نفس ؛ وأصلها أن تطلق على الذات ، ويطلقها العرب أيضا على صميم القبيلة ، فيقولون : هو من بني فلان من أنفسهم.

فيجوز أن يكون (أَنْفُسِكُمْ) هنا بالمعنى المستعمل به غالبا ، أي : قوموا بالعدل على أنفسكم ، واشهدوا لله على أنفسكم ، أي قضاء غالبا لأنفسكم وشهادة غالبة لأنفسكم ، لأنّ حرف (على) مؤذن بأنّ متعلّقة شديد فيه كلفة على المجرور بعلى ، أي ولو كان قضاء القاضي منكم وشهادة الشاهد منكم بما فيه ضرّ وكراهة للقاضي والشاهد ، وهذا أقصى ما يبالغ عليه في الشدّة والأذى ، لأنّ أشقّ شيء على المرء ما يناله من أذى وضرّ في ذاته ، ثمّ ذكر بعد ذلك الوالدان والأقربون لأنّ أقضية القاضي وشهادة الشاهد فيما يلحق ضرّا ومشقّة بوالديه وقرابته أكثر من قضائه وشهادته فيما يؤول بذلك على نفسه.

ويجوز أن يراد : ولو على قبيلتكم أو والديكم وقرابتكم. وموقع المبالغة المستفادة من (لو) الوصلية أنّه كان من عادة العرب أن ينتصروا بمواليهم من القبائل ويدفعوا عنهم ما يكرهونه ، ويرون ذلك من إباء الضيم ، ويرون ذلك حقّا عليهم ، ويعدّون التقصير في ذلك مسبّة وعارا يقضي منه العجب. قال مرّة بن عداء الفقعسي :

رأيت مواليّ الآلى يخذلونني

على حدثان الدهر إذ يتقلب

ويعدّون الاهتمام بالآباء والأبناء في الدرجة الثانية ، حتّى يقولون في الدعاء : (فذاك أبي وأمي) ، فكانت الآية تبطل هذه الحميّة وتبعث المسلمين على الانتصار للحقّ والدفاع عن المظلوم. فإن أبيت إلّا جعل الأنفس بمعنى ذوات الشاهدين فاجعل عطف «الوالدين والأقربين» بعد ذلك لقصد الاحتراس لئلّا يظنّ أحد أنّه يشهد بالحقّ على نفسه لأنّ ذلك حقّه ، فهو أمير نفسه فيه ، وأنّه لا يصلح له أن يشهد على والديه أو أقاربه لما في ذلك من المسبّة والمعرّة أو التأثّم ، وعلى هذا تكون الشهادة مستعملة في معنى مشترك بين الإقرار والشهادة ، كقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) [آل عمران : ١٨].

٢٧٦

وقوله (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) استئناف واقع موقع العلّة لمجموع جملة (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) : أي إن يكن المقسط في حقّه ، أو المشهود له ، غنيّا أو فقيرا ، فلا يكن غناه ولا فقره سببا للقضاء له أو عليه والشهادة له أو عليه. والمقصود من ذلك التحذير من التأثّر بأحوال يلتبس فيها الباطل بالحقّ لما يحفّ بها من عوارض يتوهّم أنّ رعيها ضرب من إقامة المصالح ، وحراسة العدالة ، فلمّا أبطلت الآية التي قبلها التأثّر للحميّة أعقبت بهذه الآية لإبطال التأثّر بالمظاهر التي تستجلب النفوس إلى مراعاتها فيتمحّض نظرها إليها. وتغضي بسببها عن تمييز الحقّ من الباطل. وتذهل عنه ، فمن النفوس من يتوهّم أنّ الغنى يربأ بصاحبه عن أخذ حقّ غيره ، يقول في نفسه : هذا في غنية عن أكل حقّ غيره ، وقد أنعم الله عليه بعدم الحاجة. ومن الناس من يميل إلى الفقير رقّة له ، فيحسبه مظلوما ، أو يحسب أنّ القضاء له بمال الغنيّ لا يضرّ الغنيّ شيئا ؛ فنهاهم الله عن هذه التأثيرات بكلمة جامعة وهي قوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما). وهذا الترديد صالح لكلّ من أصحاب هذين التوهّمين ، فالذي يعظّم الغنيّ يدحض لأجله حقّ الفقير ، والذي يرقّ للفقير يدحض لأجله حقّ الغنيّ ، وكلا ذلك باطل ، فإنّ الذي يراعي حال الغنيّ والفقير ويقدّر إصلاح حال الفريقين هو الله تعالى.

فقوله : (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) ليس هو الجواب ، ولكنّه دليله وعلّته ، والتقدير : فلا يهمّكم أمرهما عند التقاضي ، فالله أولى بالنظر في شأنهما ، وإنّما عليكم النظر في الحقّ.

ولذلك فرّع عليه قوله : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) فجعل الميل نحو الموالي والأقارب من الهوى ، والنظر إلى الفقر والغنى من الهوى.

والغنيّ : ضد الفقير ، فالغنى هو عدم إلى الاحتياج إلى شيء ، وهو مقول عليه بالتفاوت ، فيعرف بالمتعلّق كقوله : «كلانا غنيّ عن أخيه حياته» ، ويعرف بالعرف يقال: فلان غني ، بمعنى له ثروة يستطيع بها تحصيل حاجاته من غير فضل لأحد عليه ، فوجدان أجور الأجراء غنى ، وإن كان المستأجر محتاجا إلى الأجراء ، لأنّ وجدان الأجور يجعله كغير المحتاج ، والغنى المطلق لا يكون إلّا لله تعالى.

والفقير : هو المحتاج إلّا أنه يقال افتقر إلى كذا ، بالتخصيص ، فإذا قيل : هو فقير ، فمعناه في العرف أنّه كثير الاحتياج إلى فضل الناس ، أو إلى الصبر على الحاجة لقلّة ثروته ، وكلّ مخلوق فقير فقرا نسبيا ، قال تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) [محمد : ٣٨].

واسم (يَكُنْ) ضمير مستتر عائد إلى معلوم من السياق ، يدلّ عليه قوله : (قَوَّامِينَ

٢٧٧

بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) من معنى التخاصم والتقاضي. والتقدير : أن يكن أحد الخصمين من أهل هذا الوصف أو هذا الوصف ، والمراد الجنسان ، و (أو) للتقسيم ، وتثنية الضمير في قوله : (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) لأنّه عائد إلى «غنيا وفقيرا» باعتبار الجنس ، إذ ليس القصد إلى فرد معيّن ذي غني ، ولا إلى فرد معيّن ذي فقر ، بل فرد شائع في هذا الجنس وفي ذلك الجنس.

وقوله : (أَنْ تَعْدِلُوا) محذوف منه حرف الجرّ ، كما هو الشأن مع أن المصدرية ، فاحتمل أن يكون المحذوف لام التعليل فيكون تعليلا للنهي ، أي لا تتّبعوا الهوى لتعدلوا ، واحتمل أن يكون المحذوف (عن) ، أي فلا تتّبعوا الهوى عن العدل ، أي معرضين عنه. وقد عرفت قاضيا لا مطعن في ثقته وتنزّهه ، ولكنّه كان مبتلى باعتقاد أنّ مظنّة القدرة والسلطان ليسوا إلّا ظلمة : من أغنياء أو رجال. فكان يعتبر هذين الصنفين محقوقين فلا يستوفي التأمّل من حججهما.

وبعد أن أمر الله تعالى ونهى وحذّر ، عقّب ذلك كلّه بالتهديد فقال : (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

وقرأ الجمهور : (تَلْوُوا) ـ بلام ساكنة وواوين بعدها ، أولاهما مضمومة ـ فهو مضارع لوى ، واللّي : الفتل والثّني. وتفرّعت من هذا المعنى الحقيقي معان شاعت فساوت الحقيقة ، منها : عدول عن جانب وإقبال على جانب آخر فإذا عدّي بعن فهو انصراف عن المجرور بعن ، وإذا عديّ بإلى فهو انصراف عن جانب كان فيه ، وإقبال على المجرور بعلى ، قال تعالى : (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) [آل عمران : ١٥٣] أي لا تعطفون على أحد. ومن معانيه : لوى عن الأمر تثاقل ، ولوى أمره عنّي أخفاه ، ومنها : ليّ اللسان ، أي تحريف الكلام في النطق به أو في معانيه ، وتقدّم عند قوله تعالى : (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) في سورة آل عمران [٧٨] ، وقوله : (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) في هذه السورة [٤٦]. فموقع فعل (تَلْوُوا) هنا موقع بليغ لأنّه صالح لتقدير متعلّقه المحذوف مجرورا بحرف (عن) أو مجرورا بحرف (على) فيشمل معاني العدول عن الحقّ في الحكم ، والعدول عن الصدق في الشهادة ، أو التثاقل في تمكين المحقّ من حقّه وأداء الشهادة لطالبها ، أو الميل في أحد الخصمين في القضاء والشهادة. وأمّا الإعراض فهو الامتناع من القضاء ومن أداء الشهادة والمماطلة في الحكم مع ظهور الحقّ ، وهو غير الليّ كما رأيت. وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وخلف : (وَإِنْ تَلْوُوا) ـ بلام مضمومة بعدها واو ساكنة ـ فقيل : هو مضارع ولي

٢٧٨

الأمر ، أي باشره. فالمعنى : وإن تلوا القضاء بين الخصوم ، فيكون راجعا إلى قوله : (أَنْ تَعْدِلُوا) ولا يتّجه رجوعه إلى الشهادة ، إذ ليس أداء الشهادة بولاية. والوجه أنّ هذه القراءة تخفيف (تَلْوُوا) نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فالتقى واوان ساكنان فحذف أحدهما ، ويكون معنى القراءتين واحدا.

وقوله : (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) كناية عن وعيد ، لأنّ الخبير بفاعل السوء ، وهو قدير ، لا يعوزه أن يعذّبه على ذلك. وأكّدت الجملة ب «إنّ» و «كان».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦))

تذييل عقّب به أمر المؤمنين بأن يكونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ، فأمرهم الله عقب ذلك بما هو جامع لمعاني القيام بالقسط والشهادة لله : بأن يؤمنوا بالله ورسله وكتبه ، ويدوموا على إيمانهم ، ويحذروا مسارب ما يخلّ بذلك.

ووصف المخاطبين بأنّهم آمنوا ، وإردافه بأمرهم بأن يؤمنوا بالله ورسله إلى آخره يرشد السامع إلى تأويل الكلام تأويلا يستقيم به الجمع بين كونهم آمنوا وكونهم مأمورين بإيمان ، ويجوز في هذا التأويل خمسة مسالك :

المسلك الأول : تأويل الإيمان في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بأنّه إيمان مختلّ منه بعض ما يحقّ الإيمان به ، فيكون فيها خطاب لنفر من اليهود آمنوا ، وهم عبد الله بن سلام ، وأسد وأسيد ابنا كعب ، وثعلبة بن قيس ، وسلام ابن أخت عبد الله بن سلام ، وسلمة ابن أخيه ، ويامين بن يامين ، سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يؤمنوا به وبكتابه ، كما آمنوا بموسى وبالتوراة ، وأن لا يؤمنوا بالإنجيل ، كما جاء في رواية الواحدي عن الكلبي ، ورواه غيره عن ابن عباس.

المسلك الثاني : أن يكون التأويل في الإيمان المأمور به أنّه إيمان كامل لا تشوبه كراهية بعض كتب الله ، تحذيرا من ذلك. فالخطاب للمسلمين لأنّ وصف الذين آمنوا صار كاللقب للمسلمين ، ولا شكّ أنّ المؤمنين قد آمنوا بالله وما عطف على اسمه هنا ، فالظاهر أنّ المقصود بأمرهم بذلك : إمّا زيادة تقرير ما يجب الإيمان به ، وتكرير استحضارهم إيّاه حتّى لا يذهلوا عن شيء منه اهتماما بجميعه ؛ وإمّا النهي عن إنكار الكتاب المنزّل على

٢٧٩

موسى وإنكار نبوءته ، لئلّا يدفعهم بغض اليهود وما بينهم وبينهم من الشنآن إلى مقابلتهم بمثل ما يصرّح به اليهود من تكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنكار نزول القرآن ؛ وإمّا أريد به التعريض بالذين يزعمون أنّهم يؤمنون بالله ورسله ثم ينكرون نبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينكرون القرآن ، حسدا من عند أنفسهم ، ويكرهون بعض الملائكة لذلك ، وهم اليهود ، والتنبيه على أنّ المسلمين أكمل الأمم إيمانا ، وأولى الناس برسل الله وكتبه ، فهم أحرياء بأن يسودوا غيرهم لسلامة إيمانهم من إنكار فضائل أهل الفضائل ، ويدلّ لذلك قوله عقبه «ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه» ، ويزيد ذلك تأييدا أنّه قال : (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فعطفه على الأشياء التي من يكفر بها فقد ضلّ ، مع أنّه لم يأمر المؤمنين بالإيمان باليوم الآخر فيما أمرهم به ، لأنّ الإيمان به يشاركهم فيه اليهود فلم يذكره فيما يجب الإيمان به ، وذكره بعد ذلك تعريضا بالمشركين.

المسلك الثالث : أن يراد بالأمر بالإيمان الدوام عليه تثبيتا لهم على ذلك ، وتحذيرا لهم من الارتداد ، فيكون هذا الأمر تمهيدا وتوطئة لقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ) ، ولقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) [النساء : ١٣٧] الآية.

المسلك الرابع : أنّ الخطاب للمنافقين ، يعني : يا أيّها الذين أظهروا الإيمان أخلصوا إيمانكم حقّا.

المسلك الخامس : روي عن الحسن تأويل الأمر في قوله : (آمِنُوا بِاللهِ) بأنّه طلب لثباتهم على الإيمان الذي هم عليه ، واختاره الجبائي. وهو الجاري على ألسنة أهل العلم ، وبناء عليه جعلوا الآية شاهدا لاستعمال صيغة الأمر في طلب الدوام. والمراد بالكتاب الذي أنزل من قبل الجنس ، والتعريف للاستغراق يعني : والكتب التي أنزل الله من قبل القرآن ، ويؤيّده قوله بعده «وكتبه ورسله».

وقرأ نافع. وعاصم. وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، وخلف : «نزّل ـ و ـ أنزل» ـ كليهما بالبناء للفاعل ـ وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ـ بالبناء للنائب ـ.

وجاء في صلة وصف الكتاب (الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) بصيغة التفعيل ، وفي صلة الكتاب (الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) بصيغة الإفعال تفنّنا ، أو لأنّ القرآن حينئذ بصدد النزول نجوما ، والتوراة يومئذ قد انقضى نزولها. ومن قال : لأنّ القرآن أنزل منجّما بخلاف غيره من الكتب فقد أخطأ إذ لا يعرف كتاب نزل دفعة واحدة.

٢٨٠