تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

الاختلاف من أصله أكبر دليل على أنّه من عند الله ، وهذا القيد غير معتبر في الطرف المقابل لجواب (لو) ، فلا يقدّر ذلك الطرف مقيّدا بقوله : (كَثِيراً) بل يقدر هكذا : لكنّه من عند الله فلا اختلاف فيه أصلا.

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣))

عطف على جملة (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) [النساء : ٨١] فضمير الجمع راجع إلى الضمائر قبله ، العائدة إلى المنافقين ، وهو الملائم للسياق ، ولا يعكّر عليه إلّا قوله : (وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) ، وسنعلم تأويله ، وقيل : الضمير هذا راجع إلى فريق من ضعفة المؤمنين: ممّن قلّت تجربته وضعف جلده ، وهو المناسب لقوله : (وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) بحسب الظاهر ، فيكون معاد الضمير محذوفا من الكلام اعتمادا على قرينة حال النزول ، كما في قوله : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢].

والكلام مسوق مساق التوبيخ للمنافقين واللوم لمن يقبل مثل تلك الإذاعة ، من المسلمين الأغرار.

ومعنى (جاءَهُمْ أَمْرٌ) أي أخبروا به ، قال امرؤ القيس :

وذلك من نبإ جاءني فالمجيء

مجاز عرفي في سماع الأخبار ، مثل نظائره. وهي : بلغ ، وانتهى إليه وأتاه ، قال النابغة :

أتاني ـ أبيت اللعن ـ أنّك لمتني

والأمر هنا بمعنى الشيء ، وهو هنا الخبر ، بقرينة قوله : (أَذاعُوا بِهِ).

ومعنى (أَذاعُوا) أفشوا ، ويتعدّى إلى الخبر بنفسه ، وبالباء ، يقال : أذاعه وأذاع به ، فالباء لتوكيد اللصوق كما في (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦].

والمعنى إذا سمعوا خبرا عن سرايا المسلمين من الأمن ، أي الظّفر الذي يوجب أمن المسلمين أو الخوف وهو ما يوجب خوف المسلمين ، أي اشتداد العدوّ عليهم ، بادروا بإذاعته ، أو إذا سمعوا خبرا عن الرسول ـ عليه‌السلام ـ وعن أصحابه ، في تدبير أحوال

٢٠١

المسلمين من أحوال الأمن أو الخوف ، تحدّثوا بتلك الأخبار في الحالين ، وأرجفوها بين الناس لقصد التثبيط عن الاستعداد ، إذا جاءت أخبار أمن حتّى يؤخذ المؤمنون وهم غارّون ، وقصد التجبين إذا جاءت أخبار الخوف ، واختلاف المعاذير للتهيئة للتخلّف عن الغزو إذا استنفروا إليه ، فحذّر الله المؤمنين من مكائد هؤلاء ، ونبّه هؤلاء على دخيلتهم ، وقطع معذرتهم في كيدهم بقوله : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ) إلخ ، أي لو لا أنّهم يقصدون السوء لاستثبتوا الخبر من الرسول ومن أهل الرأي.

وعلى القول بأنّ الضمير راجع إلى المؤمنين فالآية عتاب للمؤمنين في هذا التسرّع بالإذاعة ، وأمرهم بإنهاء الأخبار إلى الرسول وقادة الصحابة ليضعوه مواضعه ويعلّموهم محامله.

وقيل : كان المنافقون يختلقون الأخبار من الأمن أو الخوف ، وهي مخالفة للواقع ، ليظنّ المسلمون الأمن حين الخوف فلا يأخذوا حذرهم ، أو الخوف حين الأمن فتضطرب أمورهم وتختلّ أحوال اجتماعهم ، فكان دهماء المسلمين إذا سمعوا ذلك من المنافقين راج عندهم فأذاعوا به ، فتمّ للمنافقين الدست ، وتمشّت المكيدة ، فلامهم الله وعلّمهم أن ينهوا الأمر إلى الرسول وجلّة أصحابه قبل إشاعته ليعلموا كنه الخبر وحاله من الصدق أو الكذب ، ويأخذوا لكلّ حالة حيطتها ، فيسلم المؤمنون من مكر المنافقين الذي قصدوه. وهذا بعيد من قوله : (جاءَهُمْ) وعلى هذا فقوله : (لَعَلِمَهُ) هو دليل جواب (لو) وعلّته ، فجعل عوضه وحذف المعلول ، إذ المقصود لعلمه الذين يستنبطونه من أولي الأمر فلبيّنوه لهم على وجهه.

ويجوز أن يكون المعنى : ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلم ذلك المنافقون الذين اختلقوا الخبر فلخابوا إذ يوقنون بأنّ حيلتهم لم تتمشّ على المسلمين ، فيكون الموصول صادقا على المختلقين بدلالة المقام ، ويكون ضمير (مِنْهُمْ) الثاني عائدا على المنافقين بقرينة المقام.

والردّ حقيقته إرجاع شيء إلى ما كان فيه من مكان أو يد. واستعمل هنا مجازا في إبلاغ الخبر إلى أولى الناس بعلمه. وأولو الأمر هم كبراء المسلمين وأهل الرأي منهم ، فإن كان المتحدّث عنهم المنافقين فوصف أولي الأمر بأنّهم منهم جار على ظاهر الأمر وإرخاء العنان ، أي أولو الأمر الذين يجعلون أنفسهم بعضهم ؛ وإن كان المتحدّث عنهم المؤمنين ، فالتبعيض ظاهر.

٢٠٢

والاستنباط حقيقته طلب النّبط ـ بالتحريك ـ ؛ وهو أول الماء الذي يخرج من البئر عند الحفر ؛ وهو هنا مجاز في العلم بحقيقة الشيء ومعرفة عواقبه ، وأصله مكنية : شبّه الخبر الحادث بحفير يطلب منه الماء ، وذكر الاستنباط تخييل. وشاعت هذه الاستعارة حتّى صارت حقيقة عرفية ، فصار الاستنباط بمعنى التفسير والتبيين ، وتعدية الفعل إلى ضمير الأمر على اعتبار المعنى العرفي ، ولو لا ذلك لقيل : يستنبطون منه ، كما هو ظاهر ، أو هو على نزع الخافض.

وإذا جريت على احتمال كون (يستنبطون) بمعنى يختلقون كما تقدّم كانت (يَسْتَنْبِطُونَهُ) تبعية ، بأن شبّه الخبر المختلق بالماء المحفور عنه ، وأطلق يستنبطون بمعنى يختلقون ، وتعدّى الفعل إلى ضمير الخبر لأنّه المستخرج. والعرب يكثرون الاستعارة من أحوال المياه كقولهم : يصدر ويورد ، وقولهم ضرب أخماسا لأسداس ، وقولهم : ينزع إلى كذا ، وقوله تعالى : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) [الذاريات : ٥٩] ، وقال عبدة بن الطبيب :

فحقّ لشأس من نداك ذنوب

ومنه قولهم : تساجل القوم ، أصله من السّجل ، وهو الدلو.

وقال قيس بن الخطيم :

إذا ما اصطبحت أربعا خطّ مئزري

وأتبعت دلوي في السماح رشاءها

فذكر الدلو والرشاء. وقال النابغة :

خطاطيف حجن في حبال متينة

تمدّ بها أيد إليك نوازع

وقال :

ولو لا أبو الشقراء ما زال ماتح

يعالج خطّافا بإحدى الجرائر

وقالوا أيضا : «انتهز الفرصة» ، والفرصة نوبة الشرب ، وقالوا : صدر ألوم عن رأي فلان ووردوا على رأيه.

وقوله : (مِنْهُمْ) وصف للذين يستنبطونه ، وهم خاصّة أولي الأمر من المسلمين ، أي يردّونه إلى جماعة أولي الأمر فيفهمه الفاهمون من أولي الأمر ، وإذا فهمه جميعهم فأجدر.

٢٠٣

وقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) امتنان بإرشادهم إلى أنواع المصالح ، والتحذير من المكائد ومن حبائل الشيطان وأنصاره.

واستثناء (إِلَّا قَلِيلاً) من عموم الأحوال المؤذن بها (لَاتَّبَعْتُمُ) ، أي إلّا في أحوال قليلة ، فإن كان المراد من فضل الله ورحمته ما يشمل البعثة فما بعدها ، فالمراد بالقليل الأحوال التي تنساق إليها النفوس في بعض الأحوال بالوازع العقلي أو العادي ، وإن أريد بالفضل والرحمة النصائح والإرشاد فالمراد بالقليل ما هو معلوم من قواعد الإسلام. ولك أن تجعله استثناء من ضمير (لَاتَّبَعْتُمُ) أي إلّا قليلا منكم ، فالمراد من الاتّباع اتّباع مثل هذه المكائد التي لا تروج على أهل الرأي من المؤمنين.

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤))

تفريع على ما تقدّم من الأمر بالقتال ، ومن وصف المثبطين عنه ، والمتذمّرين منه ، والذين يفتنون المؤمنين في شأنه ، لأنّ جميع ذلك قد أفاد الاهتمام بأمر القتال ، والتحريض عليه ، فتهيّأ الكلام لتفريع الأمر به. ولك أن تجعل الفاء فصيحة بعد تلك الجمل الكثيرة ، أي : إذا كان كما علمت فقاتل في سبيل الله ، وهذا عود إلى ما مضى من التحريض على الجهاد ، وما بينهما اعتراض. فالآية أوجبت على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم القتال ، وأوجبت عليه تبليغ المؤمنين الأمر بالقتال وتحريضهم عليه ، فعبّر عنه بقوله : (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ٨٤] وهذا الأسلوب طريق من طرق الحثّ والتحريض لغير المخاطب ، لأنّه إيجاب القتال على الرسول ، وقد علم إيجابه على جميع المؤمنين بقوله : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) [النساء : ٧٤] فهو أمر للقدوة بما يجب اقتداء الناس به فيه. وبيّن لهم علّة الأمر وهي رجاء كفّ بأس المشركين ، ف (عسى) هنا مستعارة للوعد. والمراد بهم هنا كفّار مكة ، فالآيات تهيئة لفتح مكة.

وجملة (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) تذييل لتحقيق الرجاء أو الوعد ، والمعنى أنه أشدّ بأسا إذا شاء إظهار ذلك ، ومن دلائل المشيئة امتثال أوامره التي منها الاستعداد وترقّب المسببات من أسبابها.

والتنكيل عقاب يرتدع به رائيه فضلا عن الذي عوقب به.

٢٠٤

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥))

استئناف فيه معنى التذييل والتعليل لقوله : (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ٨٤] وهو بشارة للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأن جهاد المجاهدين بدعوته يناله منه نصيب عظيم من الأجر ، فإنّ تحريضه إيّاهم وساطة بهم في خيرات عظيمة ، فجاءت هذه الآية بهذا الحكم العامّ على عادة القرآن في انتهاز فرص الإرشاد. ويعلم من عمومها أنّ التحريض على القتال في سبيل الله من الشفاعة الحسنة ، وأنّ سعي المثبطين للناس من قبيل الشفاعة السيّئة ، فجاءت هذه الآية إيذانا للفريقين بحالتهما. والمقصود مع ذلك الترغيب في التوسّط في الخير والترهيب من ضدّه.

والشفاعة : الوساطة في إيصال خير أو دفع شرّ ، سواء كانت بطلب من المنتفع أم لا ، وتقدّمت في قوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) في سورة البقرة [٤٨] ، وفي الحديث «اشفعوا فلتؤجروا». ووصفها بالحسنة وصف كاشف ؛ لأنّ الشفاعة لا تطلق إلّا على الوساطة في الخير ، وأمّا إطلاق الشفاعة على السعي في جلب شرّ فهو مشاكلة ، وقرينتها وصفها بسيّئة ، إذ لا يقال (شفع) للذي سعى بجلب سوء.

والنصيب : الحظّ من كلّ شيء : خيرا كان أو شرا ، وتقدّم في قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) في سورة البقرة [٢٠٢].

والكفل ـ بكسر الكاف وسكون الفاء ـ الحظ كذلك ، ولم يتبيّن لي وجه اشتقاقه بوضوح. ويستعمل الكفل بمعنى المثل ، فيؤخذ من التفسيرين أنّ الكفل هو الحظّ المماثل لحظّ آخر ، وقال صاحب «اللسان» : لا يقال هذا كفل فلان حتّى يكون قد هيّئ لغيره مثله ، ولم يعز هذا ، ونسبه الفخر إلى ابن المظفّر ، ولم يذكر ذلك أحد غير هذين فيما علمت ، ولعلّه لا يساعد عليه الاستعمال. وقد قال الله تعالى : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد : ٢٨]. وهل يحتجّ بما قاله ابن المظفّر ـ وابن المظفّر هو محمد بن الحسن بن المظفّر الحاتمي الأديب معاصر المتنبي ـ. وفي مفردات الراغب أنّ الكفل هو الحظّ من الشرّ والشدّة ، وأنّه مستعار من الكفل وهو الشيء الرديء ، فالجزاء في جانب الشفاعة الحسنة بأنّه نصيب إيماء إلى أنّه قد يكون له أجر أكثر من ثواب من شفع عنده.

وجملة (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) تذييل لجملة (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً)

٢٠٥

الآية ، لإفادة أنّ الله يجازي على كلّ عمل بما يناسبه من حسن أو سوء.

والمقيت الحافظ ، والرقيب ، والشاهد ، والمقتدر. وأصله عند أبي عبيدة الحافظ. وهو اسم فاعل من أقات إذا أعطى القوت ، فوزنه مفعل وعينه واو. واستعمل مجازا في معاني الحفظ والشهادة بعلاقة اللزوم ، لأنّ من يقيت أحدا فقد حفظه من الخصاصة أو من الهلاك ، وهو هنا مستعمل في معنى الاطلاع ، أو مضمّن معناه ، كما ينبئ عنه تعديته بحرف (على). ومن أسماء الله تعالى المقيت ، وفسّره الغزالي بموصل الأقوات. فيؤول إلى معنى الرازق ، إلّا أنّه أخصّ ، وبمعنى المستولي على الشيء القادر عليه ، وعليه يدلّ قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) فيكون راجعا إلى القدرة والعلم.

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦))

عطف على جملة (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً) [النساء : ٨٥] باعتبار ما قصد من الجملة المعطوفة عليها ، وهو الترغيب في الشفاعة الحسنة والتحذير من الشفاعة السيّئة ، وذلك يتضمّن الترغيب في قبول الشفاعة الحسنة وردّ الشفاعة السيّئة. وإذ قد كان من شأن الشفيع أن يدخل على المستشفع إليه بالسلام استئناسا له لقبول الشفاعة ، فالمناسبة في هذا العطف هي أنّ الشفاعة تقتضي حضور الشفيع عند المشفوع إليه ، وأنّ صفة تلقّي المشفوع إليه للشفيع تؤذن بمقدار استعداده لقبول الشفاعة ، وأنّ أول بوادر اللقاء هو السلام وردّه ، فعلّم الله المسلمين أدب القبول واللقاء في الشفاعة وغيرها ـ وقد كان للشفاعات عندهم شأن عظيم. وفي الحديث : مرّ رجل فقال رسول الله : ما ذا تقولون فيه؟ قالوا : هذا جدير إن شفع أن يشفّع ... الحديث ـ حتى إذا قبل المستشفع إليه الشفاعة كان قد طيّب خاطر الشفيع ، وإذا لم يقبل كان في حسن التحية مرضاة له على الجملة. وهذا دأب القرآن في انتهاز فرص الإرشاد والتأديب.

وبهذا البيان تنجلي عنك الحيرة التي عرضت في توجيه انتظام هذه الآية مع سابقتها ، وتستغني عن الالتجاء إلى المناسبات الضعيفة التي صاروا إليها.

وقد دلّ قوله : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) على الأمر بردّ السلام ، ووجوب الردّ لأنّ أصل صيغة الأمر أن يكون للوجوب على مقتضى مذهب الجمهور في محمل صيغة الأمر ،

٢٠٦

ولذلك اتّفق الفقهاء على وجوب ردّ السلام ، ثم اختلفوا إذا كان المسلّم عليهم جماعة هل يجب الردّ على كلّ واحد منهم : فقال مالك : هو واجب على الجماعة وجوب الكفاية فإذا رد واحد من الجماعة أجزأ عنهم ، وورد في ذلك حديث صحيح ؛ على أنّه إذا كانت الجماعة كثيرة يصير ردّ الجميع غوغاء. وقال أبو حنيفة : الردّ فرض على كلّ شخص من الجماعة بعينه. ولعلّ دليله في ذلك القياس.

ودلّ قوله : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) على أنّ ابتداء السلام شيء معروف بينهم ، ودليله قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) ، وسيأتي في سورة النور [٢٧].

وأفاد قوله : (بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) التخيير بين الحالين ، ويعلم من تقديم قوله : (بِأَحْسَنَ مِنْها) أنّ ذلك أفضل.

وحييّ أصله في اللغة دعا له بالحياة ، ولعلّه من قبيل النحت من قول القائل : حيّاك الله ، أي وهب لك طول الحياة. فيقال للملك : حياك الله. ولذلك جاء في دعاء التشهّد (التحيّات لله) أي هو مستحقّها لا ملوك الناس. وقال النابغة :

يحيّون بالرّيحان يوم السّباسب

أي يحيون مع تقديم الريحان في يوم عيد الشعانين ـ وكانت التحيّة خاصّة بالملوك بدعاء (حيّاك الله) غالبا ، فلذلك أطلقوا التحية على الملك في قول زهير بن جنّات الكلبي:

ولكلّ ما نال الفتى

قد نلته إلّا التحيّة

يريد أنّه بلغ غاية المجد سوى الملك. وهو الذي عناه المعريّ بقوله :

تحية كسرى في الثناء وتبّع

لربعك لا أرضى تحيّة أربع

وهذه الآية من آداب الإسلام : علّم الله بها أن يردّوا على المسلّم بأحسن من سلامه أو بما يماثله ، ليبطل ما كان بين الجاهلية من تفاوت السادة والدهماء. وتكون التحيّة أحسن بزيادة المعنى ، فلذلك قالوا في قوله تعالى : (فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ)[الذاريات : ٢٥] : أنّ تحية إبراهيم كانت أحسن إذ عبّر عنها بما هو أقوى في كلام العرب وهو رفع المصدر للدلالة على الثبات وتناسي الحدوث المؤذن به نصب المصدر ، وليس في لغة إبراهيم مثل ذلك ولكنّه من بديع الترجمة ، ولذلك جاء في تحيّة الإسلام : السلام عليكم ، وفي ردّها وعليكم السلام لأنّ تقديم الظرف فيه للاهتمام بضمير المخاطب. وقال بعض

٢٠٧

الناس : إنّ الواو في ردّ السلام تفيد معنى الزيادة فلو كان المسلّم بلغ غاية التحية أن يقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فإذا قال الرادّ : «وعليكم السلام» إلخ ، كان قد ردّها بأحسن منها بزيادة الواو ، وهذا وهم.

ومعنى (ردّوها) ردّوا مثلها ، وهذا كقولهم : عندي درهم ونصفه ، لظهور تعذّر ردّ ذات التحيّة ، وقوله تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها) [النساء : ١٧٦] فعاد ضمير «وهو» وهاء «يرثها» إلى اللفظين لا إلى الذاتين ، ودلّ الأمر على وجوب ردّ السلام ، ولا دلالة في الآية على حكم الابتداء بالسلام ، فذلك ثابت بالسنّة للترغيب فيه. وقد ذكروا أنّ العرب كانوا لا يقدّمون اسم المسلّم عليه المجرور بعلى في ابتداء السلام إلّا في الرثاء ، في مثل قول عبدة بن الطيب :

عليك السلام الله قيس بن عاصم

ورحمته ما شاء أن يترحّما

وفي قول الشمّاخ :

عليك سلام من أمير وباركت

يد الله في ذاك الأديم الممزّق

يرثي عثمان بن عفّان أو عمر بن الخطاب. روى أبو داود أنّ جابر بن سليم سلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : عليك السلام يا رسول الله ، فقال له : «إنّ عليك السلام تحية الموتى ، قل ، السلام عليك».

والتذييل بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) لقصد الامتنان بهذه التعليمات النافعة.

والحسيب : العليم وهو صفة مشبّهة : من حسب ـ بكسر السين ـ الذي هو من أفعال القلب ، فحوّل إلى فعل ـ بضمّ عينه ـ لمّا أريد به أنّ العلم وصف ذاتي له ، وبذلك نقصت تعديته فاقتصر على مفعول واحد ، ثمّ ضمّن معنى المحصي فعدي إليه بعلى. ويجوز كونه من أمثلة المبالغة. قيل : الحسيب هنا بمعنى المحاسب ، كالأكيل والشريب. فعلى كلامهم يكون التذييل وعدا بالجزاء على قدر فضل ردّ السلام ، أو بالجزاء السّيّئ على ترك الردّ من أصله ، وقد أكّد وصف الله بحسيب بمؤكّدين : حرف (إنّ) وفعل (كان) الدالّ على أنّ ذلك وصف مقرّر أزلي.

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧))

٢٠٨

استئناف ابتدائي ، جمع تمجيد الله ، وتهديدا ، وتحذيرا من مخالف أمره ، وتقريرا للإيمان بيوم البعث ، وردّا لإشراك بعض المنافقين وإنكارهم البعث.

فاسم الجلالة مبتدأ. وجملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) معترضة بين المبتدأ وخبره لتمجيد الله.

وجملة (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) جواب قسم محذوف واقع جميعه موقع الخبر عن اسم الجلالة. وأكّد هذا الخبر : بلام القسم ، ونون التوكيد ، وبتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي ، لتقوية تحقيق هذا الخبر. إبطالا لإنكار الذين أنكروا البعث.

ومعنى (لا رَيْبَ فِيهِ) نفي أن يتطرّقه جنس الريب والشكّ أي في مجيئه ، والمقصود لا ريب حقيقيا فيه ، أو أنّ ارتياب المرتابين لوهنه نزّل منزلة الجنس المعدوم.

والاستفهام عن أن يكون أحد أصدق من الله هو استفهام إنكاري. و «حديثا» تمييز لنسبة فعل التفضيل.

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨))

تفريع عن أخبار المنافقين التي تقدّمت ، لأنّ ما وصف من أحوالهم لا يترك شكا عند المؤمنين في حيث طويتهم وكفرهم ، أو هو تفريع عن قوله : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) [النساء : ٨٧]. وإذ قد حدّث الله عنهم بما وصف من سابق الآي ، فلا يحقّ التردّد في سوء نواياهم وكفرهم ، فموقع الفاء هنا نظير موقع الفاء في قوله : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) في سورة النساء [٨٤].

والاستفهام للتعجيب واللّوم. والتعريف في (الْمُنافِقِينَ) للعهد ، و (فِئَتَيْنِ) حال من الضمير المجرور باللام فهي قيد لعامله ، الذي هو التوبيخ ، فعلم أنّ محلّ التوبيخ هو الانقسام : (فِي الْمُنافِقِينَ) متعلّق بفئتين لتأويله بمعنى «منقسمين» ، ومعناه : في شأن المنافقين ، لأنّ الحكم لا يتعلّق بذوات المنافقين.

والفئة : الطائفة. وزنها فلة ، مشتقّة من الفيء وهو الرجوع ، لأنّهم يرجع بعضهم إلى بعض في شئونهم. وأصلها فيء ، فحذفوا الياء من وسطه لكثرة الاستعمال وعوّضوا عنها الهاء.

٢٠٩

وقد علم أنّ الانقسام إلى فئتين ما هو إلّا انقسام في حالة من حالتين ، والمقام للكلام في الإيمان والكفر ، أي فما لكم بين مكفّر لهم ومبرّر ، وفي إجراء أحكام الإيمان أو الكفر عليهم. قيل : نزلت هذه الآية في المنخزلين يوم أحد : عبد الله بن أبيّ وأتباعه ، اختلف المسلمون في وصفهم بالإيمان أو الكفر بسبب فعلتهم تلك. وفي «صحيح البخاري» عن زيد بن ثابت قال : رجع ناس من أصحاب النبي من أحد ، وكان الناس فيهم فريقين ، فريق يقول : اقتلهم ، وفريق يقول : لا ، فنزلت «فما لكم في المنافقين فئتين» ، وقال : «إنّها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضّة» أي ولم يقتلهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جريا على ظاهر حالهم من إظهار الإسلام. فتكون الآية لبيان أنّه ما كان ينبغي التردّد في أمرهم. وعن مجاهد : أنها نزلت في قوم من أهل مكة أظهروا الإيمان ، وهاجروا إلى المدينة ، ثمّ استأذنوا في الرجوع إلى مكة ، ليأتوا ببضاعة يتّجرون فيها ، وزعموا أنّهم لم يزالوا مؤمنين ، فاختلف المسلمون في شأنهم : أهم مشركون أم مسلمون. ويبيّنه ما روي عن ابن عباس أنّها نزلت في قوم كانوا من أهل مكة يبطنون الشرك ويظهرون الإسلام للمسلمين ، ليكونوا في أمن من تعرّض المسلمين لهم بحرب في خروجهم في تجارات أو نحوها ، وأنّه قد بلغ المسلمين أنّهم خرجوا من مكة في تجارة ، فقال فريق من المسلمين : نركب إليهم فنقاتلهم ، وقال فريق : كيف نقتلهم وقد نطقوا بالإسلام ، فاختلف المسلمون في ذلك ، ولم يغيّر رسول الله على أحد من الفريقين حتّى نزلت الآية.

وعن الضّحاك : نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة ولم يهاجروا ، وكانوا يظاهرون المشركين على المسلمين ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) [النساء : ٩٧] الآية. وأحسب أنّ هؤلاء الفرق كلّهم كانوا معروفين وقت نزول الآية ، فكانوا مثلا لعمومها وهي عامّة فيهم وفي غيرهم من كلّ من عرف بالنفاق يومئذ من أهل المدينة ومن أهل مكة.

والظاهر أنّ الآية نزلت بعد أن فات وقت قتالهم ، لقصد عدم التعرّض لهم وقت خروجهم استدراجا لهم إلى يوم فتح مكة.

وعلى جميع الاحتمالات فموقع الملام هو الخطأ في الاجتهاد لضعف دليل المخطئين لأنّ دلائل كفر المتحدّث عنهم كانت ترجح على دليل إسلامهم الذي هو مجرّد النطق بكلمة الإسلام ، مع التجرّد عن إظهار موالاة المسلمين. وهذه الآية دليل على أنّ المجتهد إذا استند إلى دليل ضعيف ما كان من شأنه أن يستدلّ به العالم لا يكون بعيدا عن

٢١٠

الملام ـ في الدنيا ـ على أن أخطأ فيما لا يخطئ أهل العلم في مثله.

وجملة (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) حالية ، أي إن كنتم اختلفتم فيهم فالله قد ردّهم إلى حالهم السوأى ، لأنّ معنى أركس رد إلى الرّكس ، والركس قريب من الرجس. وفي حديث الصحيح في الروث «إنّ هذا ركس» وقيل : معنى أركس نكس ، أي ردّ ردّا شنيعا ، وهو مقارب للأول. وقد جعل الله ردّهم إلى الكفر جزاء لسوء اعتقادهم وقلّة إخلاصهم مع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنّ الأعمال تتوالد من جنسها ، فالعمل الصالح يأتي بزيادة الصالحات ، والعمل السيّئ يأتي بمنتهى المعاصي ، ولهذا تكرّر في القرآن الإخبار عن كون العمل سببا في بلوغ الغايات من جنسه.

وقوله : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) استئناف بياني نشأ عن اللوم والتعجيب الذي في قوله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) ، لأنّ السامعين يترقّبون بيان وجه اللوم ، ويتساءلون عمّا ذا يتخذون نحو هؤلاء المنافقين. وقد دلّ الاستفهام الإنكاري المشوب باللوم على جملة محذوفة هي محلّ الاستئناف البياني ، وتقديرها : إنهم قد أضلّهم الله ، أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله ، بناء على أنّ قوله : (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) ليس المراد منه أنّه أضلّهم ، بل المراد منه أساء حالهم ، وسوء الحال أمر مجمل يفتقر إلى البيان ، فيكون فصل الجملة فصل الاستئناف.

وإن جعلت معنى (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) أنّه ردّهم إلى الكفر ، كانت جملة (أَتُرِيدُونَ) استئناف ابتدائيا ، ووجه الفصل أنّه إقبال على اللوم والإنكار ، بعد جملة (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) التي هي خبرية ، فالفصل لكمال الانقطاع لاختلاف الغرضين.

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩))

الأظهر أنّ ضمير «ودّوا» عائد إلى المنافقين في قوله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء : ٨٨]. فضح الله هذا الفريق فأعلم المسلمين بأنّهم مضمرون الكفر ، وأنّهم يحاولون ردّ من يستطيعون ردّه من المسلمين إلى الكفر.

وعليه فقوله : (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) إن حمل على ظاهر المهاجرة لا يناسب إلّا ما تقدّم في سبب النزول عن مجاهد وابن عباس ، ولا

٢١١

يناسب ما في «الصحيح» عن زيد بن ثابت ، فتعيّن تأويل المهاجرة بالجهاد في سبيل الله ، فالله نهى المسلمين عن ولايتهم إلى أن يخرجوا في سبيل الله في غزوة تقع بعد نزول الآية لأنّ غزوة أحد ، التي انخزل عنها عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، قد مضت قبل نزول هذه السورة.

وما أبلغ التعبير في جانب محاولة المؤمنين بالإرادة في قوله : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) [النساء : ٨٨] ، وفي جانب محاولة المنافقين بالودّ ، لأنّ الإرادة ينشأ عنها الفعل ، فالمؤمنون يستقربون حصول الإيمان من المنافقين ، لأنّ الإيمان قريب من فطرة الناس ، والمنافقون يعلمون أنّ المؤمنين لا يرتدّون عن دينهم ، ويرون منهم محبّتهم إيّاه ، فلم يكن طلبهم تكفير المؤمنين إلّا تمنيا ، فعبّر عنه بالودّ المجرّد.

وجملة (فَتَكُونُونَ سَواءً) تفيد تأكيد مضمون قوله : (كَما كَفَرُوا) قصد منها تحذير المسلمين من الوقوع في حبالة المنافقين.

وقوله : (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أقام الله للمسلمين به علامة على كفر المتظاهرين بالإسلام ، حتّى لا يعود بينهم الاختلاف في شأنهم ، وهي علامة بيّنة ، فلم يبق من النفاق شيء مستور إلّا نفاق منافقي المدينة. والمهاجرة في سبيل الله هي الخروج من مكة إلى المدينة بقصد مفارقة أهل مكة ، ولذلك قال : (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لأجل الوصول إلى الله ، أي إلى دينه الذي أراده.

وقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن المهاجرة. وهذا إنذار لهم قبل مؤاخذتهم ، إذ المعنى : فأبلغوهم هذا الحكم فإن أعرضوا عنه ولم يتقبّلوه فخذوهم واقتلوهم ، وهذا يدلّ على أنّ من صدر منه شيء يحتمل الكفر لا يؤاخذ به حتّى يتقدّم له ، ويعرّف بما صدر منه ، ويعذر إليه ، فإن التزمه يؤاخذ به ، ثمّ يستتاب. وهو الذي أفتى به سحنون.

والوليّ : الموالي الذي يضع عنده مولاه سرّه ومشورته. والنصير الذي يدافع عن وليّه ويعينه.

(إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠))

٢١٢

الاستثناء من الأمر في قوله : (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ) أي : إلّا الذين آمنوا ولم هاجروا. أو إلّا الذين ارتدّوا على أدبارهم إلى مكة بعد أن يهاجروا ، وهؤلاء يصلون إلى قوم ممّن عاهدوكم ، فلا تتعرّضوا لهم بالقتل ، لئلّا تنقضوا عهودكم المنعقدة مع قومهم.

ومعنى (يصلون) ينتسبون ، مثل معنى اتّصل في قول أحد بني نبهان :

ألا بلغا خلّني راشدا

وصنوي قديما إذا ما اتّصل

أي انتسب ، ويحتمل أن يكون بمعنى التحق ، أي إلّا الذين يلتحقون بقوم بينكم وبينهم ميثاق ، فيدخلون في عهدهم ، فعلى الاحتمال الأول هم من المعاهدين أصالة وعلى الاحتمال الثاني هم كالمعاهدين لأنّ معاهد المعاهد كالمعاهد. والمراد ب (الذين يصلون) قوم غير معيّنين ، بل كلّ من اتّصل بقوم لهم عهد مع المسلمين ، ولذلك قال مجاهد : هؤلاء من القوم الذين نزل فيهم (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء : ٨٨].

وأمّا قوله : (إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) فالمراد به القبائل التي كان لهم عهد مع المسلمين. قال مجاهد : لمّا نزلت : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) الآية خاف أولئك الذين نزلت فيهم ، فذهبوا ببضائعهم إلى هلال بن عويمر الأسلمي ، وكان قد حالف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على : أن لا يعينه ولا يعين عليه ، وأنّ من لجأ إلى هلال من قومه وغيرهم فله من الجوار مثل ما له. وقيل : أريد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق خزاعة ، وقيل : بنو بكر بن زيد مناءة كانوا في صلح وهدنة مع المسلمين ، ولم يكونوا آمنوا يومئذ وقيل : هم بنو مدلج إذ كان سراقة بن مالك المدلجي قد عقد عهدا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقومه بني مدلج بعد يوم بدر ، على أن لا يعينوا على رسول الله ، وأنّهم إن أسلمت قريش أسلموا وإن لم تسلم قريش فهم لا يسلمون ، لئلّا تخشن قلوب قريش عليهم. والأولى أنّ جميع هذه القبائل مشمول للآية.

ومعنى (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) إلخ : أو جاءوا إلى المدينة مهاجرين ولكنّهم شرطوا أن لا يقاتلوا مع المؤمنين قومهم فاقبلوا منهم ذلك. وكان هذا رخصة لهم أوّل الإسلام ، إذ كان المسلمون قد هادنوا قبائل من العرب تألّفا لهم ، ولمن دخل في عهدهم ، فلمّا قوي الإسلام صار الجهاد مع المؤمنين واجبا على كلّ من يدخل في الإسلام ، أمّا المسلمون الأوّلون من المهاجرين والأنصار ومن أسلموا ولم يشترطوا هذا الشرط فلا تشملهم الرخصة ، وهم الذين قاتلوا مشركي مكة وغيرها.

٢١٣

وقرأ الجمهور «حصرت» ـ بصيغة فعل المضي المقترن بتاء تأنيث الفعل ـ وقرأه يعقوب «حصرة» ـ بصيغة الصفة وبهاء تأنيث الوصف في آخره منصوبة منوّنة ـ.

و (حَصِرَتْ) بمعنى ضاقت وحرجت.

و (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) مجرور بحذف عن ، أي ضاقت عن قتالكم ، لأجل أنّهم مؤمنون لا يرضون قتال إخوانهم ، وعن قتال قومهم لأنّهم من نسب واحد ، فعظم عليهم قتالهم. وقد دلّ قوله : (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) على أنّ ذلك عن صدق منهم. وأريد بهؤلاء بنو مدلج : هدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ، وقد عذرهم الله بذلك إذ صدقوا ، وبيّن الله تعالى للمؤمنين فائدة هذا التسخير الذي سخّر لهم من قوم قد كانوا أعداء لهم فصاروا سلما يؤدّونهم. ولكنّهم يأبون قتال قومهم فقال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ). ولذلك أمر المؤمنين بكفّ أيديهم عن هؤلاء إن اعتزلوهم ولم يقاتلوهم ، وهو معنى قوله : (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) أي إذنا بعد أذن أمر المؤمنين بقتال غيرهم حيث وجدوهم.

والسبيل هنا مستعار لوسيلة المؤاخذة ، ولذلك جاء في خبره بحرف الاستعلاء دون حرف الغاية ، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) في سورة براءة [٩١].

(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١))

هؤلاء فريق آخر لا سعي لهم إلّا في خويصتهم ، ولا يعبئون بغيرهم ، فهم يظهرون المودّة للمسلمين ليأمنوا غزوهم ، ويظهرون الودّ لقومهم ليأمنوا غائلتهم ، وما هم بمخلصين الودّ لأحد الفريقين ، ولذلك وصفوا بإرادة أن يأمنوا من المؤمنين ومن قومهم ، فلا همّ لهم إلّا حظوظ أنفسهم ، يلتحقون بالمسلمين في قضاء لبانات لهم فيظهرون الإيمان ، ثم يرجعون إلى قومهم فيرتدّون إلى الكفر ، وهو معنى قوله : (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها) [النساء : ٩١]. وقد مر بيان معنى (أركسوا) قريبا. وهؤلاء هم غطفان وبنو أسد ممن كانوا حول المدينة قبل أن يخلص إسلامهم ، وبنو عبد الدار من أهل مكة ، كانوا يأتون المدينة فيظهرون الإسلام ويرجعون إلى مكة فيعبدون الأصنام. وأمر الله المؤمنين في

٢١٤

معاملة هؤلاء ومعاملة الفريق المتقدّم في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) [النساء : ٩٠] أمر واحد ، وهو تركهم إذا تركوا المؤمنين وسالموهم ، وقتالهم إذا ناصبوهم العداء ، إلّا أنّ الله تعالى جعل الشرط المفروض بالنسبة إلى الأوّلين : أنّهم يعتزلون المسلمين ، ويلقون إليهم السلم ، ولا يقاتلونهم ، وجعل الشرط المفروض بالنسبة إلى هؤلاء أنّهم لا يعتزلون المسلمين ، ولا يلقون إليهم السلم ، ولا يكفّون أيديهم عنهم ، نظرا إلى الحالة المترقبة من كلّ فريق من المذكورين. وهو افتنان بديع لم يبق معه اختلاف في الحكم ولكن صرّح باختلاف الحالين ، وبوصف ما في ضمير الفريقين.

والوجدان في قوله : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) بمعنى العثور والاطّلاع ، أي ستطّلعون على قوم آخرين ، وهو من استعمال وجد ، ويتعدّى إلى مفعول واحد ، فقوله : (يُرِيدُونَ) جملة في موضع الحال ، وسيأتي بيان تصاريف استعمال الوجدان في كلامهم عند قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا) في سورة المائدة [٨٢].

وجيء باسم الإشارة في قوله : (وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) لزيادة تمييزهم.

(والسلطان المبين) هو الحجّة الواضحة الدالّة على نفاقهم ، فلا يخشى أن ينسب المسلمون في قتالهم إلى اعتداء وتفريق الجامعة.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢))

انتقال الغرض يعيد نشاط السامع بتفنّن الأغراض ، فانتقل من تحديد أعمال المسلمين مع العدوّ إلى أحكام معاملة المسلمين بعضهم مع بعض : من وجوب كفّ عدوان بعضهم على بعض.

والمناسبة بين الغرض المنتقل منه والمنتقل إليه : أنّه قد كان الكلام في قتال المتظاهرين بالإسلام الذين ظهر نفاقهم ، فلا جرم أن تتشوف النفس إلى حكم قتل

٢١٥

المؤمنين الخلّص وقد روي أنّه حدث حادث قتل مؤمن خطأ بالمدينة ناشئ عن حزازات أيّام القتال في الشرك أخطأ فيه القاتل إذ ظنّ المقتول كافرا. وحادث قتل مؤمن عمدا ممّن كان يظهر الإيمان ، والحادث المشار إليه بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) [النساء : ٩٤] وأنّ هذه الآيات نزلت في ذلك ، فتزداد المناسبة وضوحا لأنّ هذه الآية تصير كالمقدمة لما ورد بعدها من الأحكام في القتل.

هوّل الله تعالى أمر قتل المسلم أخاه المسلم ، وجعله في حيّز ما لا يكون ، فقال : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) فجاء بصيغة المبالغة في النفي ، وهي صيغة الجحود ، أي ما وجد لمؤمن أن يقتل مؤمنا في حال من الأحوال إلّا في حال الخطأ ، أو أن يقتل قتلا من القتل إلّا قتل الخطأ ، فكان الكلام حصرا وهو حصر ادّعائي مراد به المبالغة كأنّ صفة الإيمان في القاتل والمقتول تنافي الاجتماع مع القتل في نفس الأمر منافاة الضدّين لقصد الإيذان بأنّ المؤمن إذا قتل مؤمنا فقد سلب عنه الإيمان وما هو بمؤمن ، على نحو «ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» فتكون هذه الجملة مستقلّة عمّا بعدها ، غير مراد بها التشريع ، بل هي كالمقدّمة للتشريع ، لقصد تفظيع حال قتل المؤمنِ المؤمنَ قتلا غير خطإ ، وتكون خبرية لفظا ومعنى ، ويكون الاستثناء حقيقيّا من عموم الأحوال ، أي ينتفي قتل المؤمن مؤمنا في كلّ حال إلّا في حال عدم القصد ، وهذا أحسن ما يبدو في معنى الآية.

ولك أن تجعل قوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) خبرا مرادا به النهي ، استعمل المركّب في لازم معناه على طريقة المجاز المرسل التمثيلي ، وتجعل قوله : (إِلَّا خَطَأً) ترشيحا للمجاز : على نحو ما قرّرناه في الوجه الأوّل ، فيحصل التنبيه على أنّ صورة الخطأ لا يتعلّق بها النهي ، إذ قد علم كلّ أحد أنّ الخطأ لا يتعلّق به أمر ولا نهي ، يعني إن كان نوع من قتل المؤمن مأذونا فيه للمؤمن ، فهو قتل الخطأ ، وقد علم أنّ المخطئ لا يأتي فعله قاصدا امتثالا ولا عصيانا ، فرجع الكلام إلى معنى : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا قتلا تتعلّق به الإرادة والقصد بحال أبدا ، فتكون الجملة مبدأ التشريع ، وما بعدها كالتفصيل لها ؛ وعلى هذين الوجهين لا يشكل الاستثناء في قوله : (إِلَّا خَطَأً). وذهب المفسّرون إلى أنّ (ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً) مراد به النهي ، أي خبر في معنى الإنشاء فالتجئوا إلى أنّ الاستثناء منقطع بمعنى (لكن) فرارا من اقتضاء مفهوم الاستثناء إباحة أن يقتل مؤمن مؤمنا خطأ ، وقد فهمت أنّه غير متوهّم هنا.

٢١٦

وإنّما جيء بالقيد في قوله : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) لأنّ قوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) مراد به ادّعاء الحصر أو النهي كما علمت ، ولو كان الخبر على حقيقته لاستغنى عن القيد لانحصار قتل المؤمن بمقتضاه في قتل الخطأ ، فيستغنى عن تقييده به.

روى الطبري ، والواحدي ، في سبب نزول هذه الآية : أنّ عيّاشا بن أبي ربيعة المخزومي كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة قبل هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان أخا أبي جهل لأمّه فخرج أبو جهل وأخوه الحارث بن هشام والحارث بن زيد بن أبي أنيسة في طلبه ، فأتوه بالمدينة وقالوا له : إنّ أمّك أقسمت أن لا يظلّها بيت حتّى تراك ، فارجع معنا حتّى تنظر إليك ثم ارجع ، وأعطوه موثقا من الله أن لا يهجوه ، ولا يحولوا بينه وبين دينه ، فخرج معهم فلمّا جاوزوا المدينة أوثقوه ، ودخلوا به مكة ، وقالوا له «لا نحلّك من وثاقك حتّى تكفر بالذي آمنت به». وكان الحارث بن زيد يجلده ويعذّبه ، فقال عيّاش للحارث «والله لا ألقاك خاليا إلّا قتلتك» فبقي بمكة حتّى خرج يوم الفتح إلى المدينة فلقي الحارث بن زيد بقباء ، وكان الحارث قد أسلم ولم يعلم عياش بإسلامه ، فضربه عياش فقتله ، ولما أعلم بأنّه مسلم رجع عيّاش إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بالذي صنع فنزلت : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) فتكون هذه الآية قد نزلت بعد فتح مكة.

وفي ابن عطية : قيل نزلت في اليمان ، والد حذيفة بن اليمان ، حين قتله المسلمون يوم أحد خطأ.

وفي رواية للطبري : أنّها نزلت في قضية أبي الدرداء حين كان في سريّة ، فعدل إلى شعب فوجد رجلا في غنم له ، فحمل عليه أبو الدرداء بالسيف ، فقال الرجل «لا إله إلّا الله» فضربه فقتله وجاء بغنمه إلى السرية ، ثم وجد في نفسه شيئا فأتى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له ، فنزلت الآية.

وقوله : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) الفاء رابطة لجواب الشرط ، و (تحرير) مرفوع على الخبرية لمبتدإ محذوف من جملة الجواب : لظهور أنّ المعنى : فحكمه أو فشأنه تحرير رقبة كقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف : ١٨]. والتحرير تفعيل من الحريّة ، أي جعل الرقبة حرّة. والرقبة أطلقت على الذات من إطلاق البعض على الكلّ ، كما يقولون ، الجزية على الرءوس على كل رأس أربعة دنانير.

ومن أسرار الشريعة الإسلامية حرصها على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة ،

٢١٧

فإنّ الله لمّا بعث رسوله بدين الإسلام كانت العبودية متفشّية في البشر ، وأقيمت عليها ثروات كثيرة ، وكانت أسبابها متكاثرة : وهي الأسر في الحروب ، والتصيير في الديوان ، والتخطّف في الغارات ، وبيع الآباء والأمّهات أبناءهم ، والرهائن في الخوف ، والتداين. فأبطل الإسلام جميع أسبابها عدا الأسر ، وأبقى الأسر لمصلحة تشجيع الأبطال ، وتخويف أهل الدعارة من الخروج على المسلمين ، لأنّ العربي ما كان يتقي شيئا من عواقب الحروب مثل الأسر ، قال النابغة :

حذارا على أن لا تنال مقادتي

ولا نسوتي حتّى يمتن حرائرا

ثم داوى تلك الجراح البشرية بإيجاد أسباب الحرية في مناسبات دينية جمّة : منها واجبة ، ومنها مندوب إليها. ومن الأسباب الواجبة كفّارة القتل المذكورة هنا. وقد جعلت كفّارة قتل الخطأ أمرين : أحدهما تحرير رقبة مؤمنة ، وقد جعل هذا التحرير بدلا من تعطيل حقّ الله في ذات القتيل ، فإنّ القتيل عبد من عباد الله ويرجى من نسله من يقوم بعبادة الله وطاعة دينه ، فلم يخل القاتل من أن يكون فوّت بقتله هذا الوصف ، وقد نبهت الشريعة بهذا على أنّ الحرية حياة ، وأنّ العبودية موت ؛ فمن تسبّب في موت نفس حيّة كان عليه السعي في إحياء نفس كالميتة وهي المستعبدة. وسنزيد هذا بيانا عند قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) في سورة المائدة [٢٠] ، فإنّ تأويله أنّ الله أنقذهم من استعباد الفراعنة فصاروا كالملوك لا يحكمهم غيرهم.

وثانيهما الدية. والدية مال يدفع لأهل القتيل خطأ ، جبرا لمصيبة أهله فيه من حيوان أو نقدين أو نحوهما ، كما سيأتي.

والدية معروفة عند العرب بمعناها ومقاديرها فلذلك لم يفصّلها القرآن. وقد كان العرب جعلوا الدية على كيفيات مختلفة ، فكانت عوضا عن دم القتيل في العمد وفي الخطأ ، فأمّا في العمد فكانوا يتعيّرون بأخذها. قال الحماسي :

فلو أنّ حيّا يقبل المال فدية

لسقنا لهم سيبا من المال مفعما

ولكن أبى قوم أصيب أخوهم

رضى العار فاختاروا على اللبن الدّما

وإذا رضى أولياء القتيل بدية بشفاعة عظماء القبيلة قدروها بما يتراضون عليه. قال زهير :

٢١٨

تعفّى الكلوم بالمئين فأصبحت

ينجّمها من ليس فيها بمجرم

وأمّا في الخطأ فكانوا لا يأبون أخذ الدية ، قيل : إنّها كانت عشرة من الإبل وأنّ أوّل من جعلها مائة من الإبل عبد المطلب بن هاشم ، إذ فدى ولده عبد الله بعد أن نذر ذبحه للكعبة بمائة من الإبل ، فجرت في قريش كذلك ، ثمّ تبعهم العرب ، وقيل : أوّل من جعل الدية مائة من الإبل أبو سيارة عميلة العدواني ، وكانت دية الملك ألفا من الإبل ، ودية السادة مائتين من الإبل ، ودية الحليف نصف دية الصّميم. وأوّل من ودي بالإبل هو زيد بن بكر بن هوازن. إذ قتله أخوه معاوية جدّ بني عامر بن صعصعة.

وأكثر ما ورد في السنّة من تقدير الدية من مائة من الإبل مخمسة أخماسا : عشرون حقّة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون.

ودية العمد ، إذا رضي أولياء القتيل بالدية ، مربّعة : خمس وعشرون من كلّ صنف من الأصناف الأربعة الأوّل. وتغلّظ الدية على أحد الأبوين تغليظا بالصنف لا بالعدد ، إذا قتل ابنه خطأ : ثلاثون جذعة ، وثلاثون حقة ، وأربعون خلفة ، أي نوقا في بطونها أجنّتها. وإذا كان أهل القتيل غير أهل إبل نقلت الدية إلى قيمة الإبل تقريبا فجعلت على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنّه جعل الدية على أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الغنم ألفي شاة. وفي حديث أبي داود أنّ الدية على أهل الحلل ، أي أهل النسيج مثل أهل اليمن ، مائة حلّة. والحلّة ثوبان من نوع واحد.

ومعيار تقدير الديات ، باختلاف الأعصار والأقطار ، الرجوع إلى قيمة مقدارها من الإبل المعيّن في السّنّة. ودية المرأة القتيلة على النصف من دية الرجل. ودية الكتابي على النصف من دية المسلم. ودية المرأة الكتابية على النصف من دية الرجل الكتابي. وتدفع الدية منجّمة في ثلاث سنين بعد كلّ سنة نجم ، وابتداء تلك النجوم من وقت القضاء في شأن القتل أو التراوض بين أولياء القتيل وعاقلة القاتل.

والدية بتخفيف الياء مصدر ودي ، أي أعطى ، مثل رمى ، ومصدره ودي مثل وعد ، حذفت فاء الكلمة تخفيفا ، لأنّ الواو ثقيلة ، كما حذفت في عدّة ، وعوّض عنها الهاء في آخر الكلمة مثل شية من الوشي.

وأشار قوله : (مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) إلى أنّ الدية ترضية لأهل القتيل. وذكر الأهل

٢١٩

مجملا فعلم أنّ أحقّ الناس بها أقرب الناس إلى القتيل ، فإنّ الأهل هو القريب ، والأحقّ بها الأقرب. وهي في حكم الإسلام يأخذها ورثة القتيل على حسب الميراث إلّا أنّ القاتل خطأ إذا كان وارثا للقتيل لا يرث من ديته. وهي بمنزلة تعويض المتلفات ، جعلت عوضا لحياة الذي تسبّب القاتل في قتله ، وربما كان هذا المعنى هو المقصود من عهد الجاهلية ، ولذلك قالوا : تكايل الدّماء ، وقالوا : هما بواء ، أي كفآن في الدم وزادوا في دية سادتهم.

وجعل عفو أهل القتيل عن أخذ الدية صدقة منهم ترغيبا في العفو.

وقد أجمل القرآن من يجب عليه دفع الدية وبيّنته السنّة بأنّهم العاقلة ، وذلك تقرير لما كان عليه الأمر قبل الإسلام.

والعاقلة : القرابة من القبيلة. تجب على الأقرب فالأقرب بحسب التقدّم في التعصيب.

وقوله : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) الآية أي إن كان القتيل مؤمنا وكان أهله كفارا ، بينهم وبين المسلمين عداوة ، يقتصر في الكفّارة على تحرير الرقبة دون دفع دية لهم ، لأنّ الدية : إذا اعتبرناها جبرا لأولياء الدم ، فلمّا كانوا أعداء لم تكن حكمة في جبر خواطرهم ، وإذا اعتبرناها عوضا عن منافع قتيلهم ، مثل قيم المتلفات ، يكون منعها من الكفّار ؛ لأنّه لا يرث الكافر المسلم ، ولأنّا لا نعطيهم مالنا يتقوون به علينا. وهذا الحكم متّفق عليه بين الفقهاء ، إن كان القتيل المؤمن باقيا في دار قومه وهم كفّار فأمّا إن كان القتيل في بلاد الإسلام وكان أولياؤه كفّارا ، فقال ابن عبّاس ، ومالك ، وأبو حنيفة : لا تسقط عن القاتل ديته ، وتدفع لبيت مال المسلمين. وقال الشافعي ، والأوزاعي ، والثّوري : تسقط الدية لأنّ سبب سقوطها أنّ مستحقيها كفّار. وظاهر قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ) أنّ العبرة بأهل القتيل لا بمكان إقامته ، إذ لا أثر لمكان الإقامة في هذا الحكم ولو كانت إقامته غير معذور فيها.

وأخبر عن (قَوْمٍ) بلفظ (عَدُوٍّ) وهو مفرد ، لأنّ فعولا بمعنى فاعل يكثر في كلامهم أن يكون مفردا مذكّرا غير مطابق لموصوفه ، كقوله : (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) [النساء : ١٠١] (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ)[الممتحنة : ١] (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ) [الأنعام : ١١٢] ، وامرأة عدوّ وشذّ قولهم عدوّة. وفي كلام عمر بن الخطاب في «صحيح البخاري» أنّه قال للنسوة اللاتي كنّ بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلمّا دخل عمر ابتدرن الحجاب لمّا رأينه «يا عدوّات أنفسهنّ». ويجمع بكثرة على أعداء ، قال

٢٢٠