تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

إلى أهله فقال : به جنون؟ قالوا : لا ، وأبكر هو أم ثيّب؟ قالوا : بل ثيّب. فأمر به فرجم.

الثاني : قضيّة الغامدية ، أنّها جاءت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعترفت بالزنا وهي حبلى فأمرها أن تذهب حتّى تضع ، ثم حتّى ترضعه ، فلمّا أتمّت رضاعه جاءت فأمر بها فرجمت.

الثالث : حديث أبي هريرة ، وخالد الجهني ، أنّ رجلين اختصما إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله. وقال الآخر ـ وهو أفقههما ـ : أجل يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله واذن لي في أن أتكلّم؟ قال : تكلّم. قال : إنّ ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي ، ثم إنّي سألت أهل العلم فأخبروني أنّما على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأخبروني أنّما الرجم على امرأته ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله ، أمّا غنمك وجاريتك فردّ عليك ـ وجلد ابنه مائة وغربه عاما ـ واغد يا أنيس (هو أنيس بن الضّحاك ويقال ابن مرثد الأسلمي) على زوجة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ، فاعترفت فرجمها. قال مالك والعسيف الأجير. هذه الأحاديث مرسل منها اثنان في «الموطأ» ، وهي مسندة في غيره ، فثبت بها وبالعمل حكم الرجم للمحصنين ، قال ابن العربي : هو خبر متواتر نسخ القرآن. يريد أنّه متواتر لدى الصحابة فلتواتره أجمعوا على العمل به. وأمّا ما بلغ إلينا وإلى ابن العربي وإلى من قبله فهو أخبار آحاد لا تبلغ مبلغ متواتر ، فالحقّ أنّ دليل رجم المحصنين هو ما نقل إلينا من إجماع الصحابة وسنتعرّض إلى ذلك في سورة النور ، ولذلك قال بالرجم الشافعي مع أنّه لا يقول بنسخ القرآن بالسّنة.

والقائلون بأنّ حكم الرجم ناسخ لحكم الحبس في البيوت قائلون بأنّ دليل النسخ هو حديث قد : (يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) وفيه (والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) فتضمنّ الجلد ، ونسب هذا القول للشافعي وجماعة ، وأورد الجصّاص على الشافعي أنّه يلزمه أنّ القرآن نسخ بالسنّة ، وأنّ السنّة نسخت بالقرآن ، وهو لا يرى الأمرين ، وأجاب الخطابي بأنّ آية النساء مغياة ، فالحديث بيّن الغاية ، وأنّ آية النور نزلت بعد ذلك ، والحديث خصّصها من قبل نزولها. قلت : وعلى هذا تكون آية النور نزلت تقريرا لبعض الحكم الذي في حديث الرجم ، على أنّ قوله : إنّ آية النساء مغيّاة ، لا يجدي لأنّ الغاية المبهمة لمّا كان بيانها إبطالا لحكم المغيّا فاعتبارها اعتبار النسخ ، وهل النسخ كلّه إلّا إيذان بوصول غاية الحكم المرادة لله غير مذكورة في اللفظ ، فذكرها في بعض الأحكام على إبهامها لا يكسو النزول غير شعار النسخ. وقال بعضهم شرع الأذى ثم نسخ بالحبس في

٦١

البيوت وإن كان في القراءة متأخّرا. وهذا قول لا ينبغي الالتفات إليه فلا مخلص من هذا الإشكال إلّا بأن نجعل إجماع الصحابة على ترك الإمساك في البيوت ، وعلى تعويضه بالحدّ في زمان النبوءة فيؤول إلى نسخ القرآن بالسنّة المتواترة ، ويندفع ما أورده الجصّاص على الشافعي ، فإنّ مخالفة الإجماع للنصّ تتضمّن أنّ مستند الإجماع ناسخ للنصّ.

ويتعيّن أن يكون حكم الرجم للمحصن شرع بعد الجلد ، لأنّ الأحاديث المروية فيه تضمّنت التغريب مع الجلد ، ولا يتصوّر تغريب بعد الرجم ، وهو زيادة لا محالة لم يذكرها القرآن ، ولذلك أنكر أبو حنيفة التغريب لأنّه زيادة على النصّ فهو نسخ عنده. قال ابن العربي في الأحكام : أجمع رأي خيار بني إسماعيل على أنّ من أحدث حدثا في الحرم يغرّب منه ، وتمادى ذلك في الجاهلية فكان كلّ من أحدث حدثا غرّب من بلده إلى أن جاء الإسلام فأقرّه في الزنا خاصّة. قلت : وكان في العرب الخلع وهو أن يخلع الرجل من قبيلته ، ويشهدون بذلك في الموسم ، فإن جرّ جريرة لا يطالب بها قومه ، وإن اعتدي عليه لا يطلب قومه دية ولا نحوها ، وقد قال امرؤ القيس :

به الذيب يعوي كالخليع المعيّل

واتّفقوا على أنّ المرأة لا تغرّب لأنّ تغريبها ضيعة ، وأنكر أبو حنيفة التغريب لأنّه نقل ضرّ من مكان إلى آخر وعوّضه بالسجن ولا يعرف بين أهل العلم الجمع بين الرجم والضرب ولا يظنّ بشريعة الإسلام ذلك وروي أنّ عليّا جلد شراحة الهمدانية ورجمها بعد الجلد ، وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله.

وقرن بالفاء خبر الموصولين من قوله : (فَاسْتَشْهِدُوا) وقوله (فَآذُوهُما) لأنّ الموصول أشرب معنى الشرط تنبيها على أنّ صلة الموصول سبب في الحكم الدالّ عليه خبره ، فصار خبر الموصول مثل جواب الشرط ويظهر لي أنّ ذلك عند ما يكون الخبر جملة ، وغير صالحة لمباشرة أدوات الشرط ، بحيث لو كانت جزاء للزم اقترانها بالفاء. هكذا وجدنا من استقراء كلامهم ، وهذا الأسلوب إنّما يقع في الصلاة التي تومئ إلى وجه بناء الخبر ، لأنّها التي تعطي رائحة التسبّب في الخبر الوارد بعدها. ولك أن تجعل دخول الفاء علامة على كون الفاء نائبة عن (أمّا).

ومن البيّن أنّ إتيان النساء بالفاحشة هو الذي سبّب إمساكهن في البيوت ، وإن كان قد بني نظم الكلام على جعل (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَ) هو الخبر ، لكنّه خبر صوري وإلّا فإنّ الخبر هو (فَأَمْسِكُوهُنَ) لكنّه جيء به جوابا لشرط هو متفرّع على (فَإِنْ شَهِدُوا) ففاء

٦٢

(فَاسْتَشْهِدُوا) هي الفاء المشبّهة لفاء الجواب ، وفاء (فَإِنْ شَهِدُوا) تفريعية ، وفاء (فَأَمْسِكُوهُنَ) جزائية ، ولو لا قصد الاهتمام بإعداد الشهادة قبل الحكم بالحبس في البيوت لقيل : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فأمسكوهنّ في البيوت إن شهد عليهنّ أربعة منكم.

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨))

استطراد جرّ إليه قوله : (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) [النساء : ١٦] والتوبة تقدّم الكلام عليها مستوفى في قوله ، في سورة آل عمران [٩٠] : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ).

و (إِنَّمَا) للحصر.

و (عَلَى) هنا حرف للاستعلاء المجازي بمعنى التعهّد والتحقّق كقولك : عليّ لك كذا فهي تفيد تحقّق التعهّد. والمعنى : التوبة تحقّ على الله ، وهذا مجاز في تأكيد الوعد بقبولها حتّى جعلت كالحقّ على الله ، ولا شيء بواجب على الله إلا وجوب وعده بفضله. قال ابن عطية : إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء سمعا وليس وجوبا.

وقد تسلّط الحصر على الخبر ، وهو (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ) ، وذكر له قيدان وهما (بِجَهالَةٍ) و (مِنْ قَرِيبٍ). والجهالة تطلق على سوء المعاملة وعلى الإقدام على العمل دون رويّة ، وهي ما قابل الحلم ، ولذلك تطلق الجهالة على الظلم. قال عمرو بن كلثوم :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وقال تعالى ، حكاية عن يوسف «وإلّا تصرف عنّي كيدهنّ أصب إليهن وأكن من الجاهلين». والمراد هنا ظلم النفس ، وذكر هذا القيد هنا لمجرّد تشويه عمل السوء ، فالباء للملابسة ، إذ لا يكون عمل السوء إلّا كذلك. وليس المراد بالجهالة ما يطلق عليه اسم الجهل ، وهو انتفاء العلم بما فعله ، لأنّ ذلك لا يسمّى جهالة ، وإنّما هو من معاني لفظ

٦٣

الجهل ، ولو عمل أحد معصية وهو غير عالم بأنّها معصية لم يكن آثما ولا يجب عليه إلّا أن يتعلّم ذلك ويتجنّبه.

وقوله : (مِنْ قَرِيبٍ) ، من فيه للابتداء و (قَرِيبٍ) صفة لمحذوف ، أي من زمن قريب من وقت عمل السوء.

وتأوّل بعضهم معنى (مِنْ قَرِيبٍ) بأنّ القريب هو ما قبل الاحتضار ، وجعلوا قوله بعده (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) يبيّن المراد من معنى (قريب).

واختلف المفسّرون من السلف ومن بعدهم في إعمال مفهوم القيدين «بجهالة ـ من قريب» حتّى قيل : إنّ حكم الآية منسوخ بآية (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] ، والأكثر على أنّ قيد (بجهالة) كوصف كاشف لعمل السوء لأنّ المراد عمل السوء مع الإيمان. فقد روى عبد الرزاق عن قتادة قال : اجتمع أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأوا أنّ كلّ عمل عصي الله به فهو جهالة عمدا كان أو غيره. والذي يظهر أنّهما قيدان ذكرا للتنبيه على أنّ شأن المسلم أن يكون عمله جاريا على اعتبار مفهوم القيدين وليس مفهوماهما بشرطين لقبول التوبة ، وأنّ قوله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) إلىوَهُمْ كُفَّارٌ) قسيم لمضمون قوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) إلخ ، ولا واسطة بين هذين القسمين.

وقد اختلف علماء الكلام في قبول التوبة ؛ هل هو قطعي أو ظني فيها لتفرّع أقوالهم فيها على أقوالهم في مسألة وجوب الصلاح والأصلح لله تعالى ووجوب العدل. فأمّا المعتزلة فقالوا : التوبة الصادقة مقبولة قطعا بدليل العقل ، وأحسب أنّ ذلك ينحون به إلى أنّ التائب قد أصلح حاله ، ورغب في اللحاق بأهل الخير ، فلو لم يقبل الله منه ذلك لكان إبقاء له في الضلال والعذاب ، وهو منزّه عنه تعالى على أصولهم ، وهذا إن أرادوه كان سفسطة لأنّ النظر هنا في العفو عن عقاب استحقّه التائب من قبل توبته لا في ما سيأتي به بعد التوبة.

وأمّا علماء السنّة فافترقوا فرقتين : فذهب جماعة إلى أنّ قبول التوبة مقطوع به لأدلّة سمعيّة ، هي وإن كانت ظواهر ، غير أنّ كثرتها أفادت القطع (كإفادة المتواتر القطع مع أنّ كلّ خبر من آحاد المخبرين به لا يفيد إلّا الظنّ ، فاجتماعها هو الذي فاد القطع ، وفي تشبيه ذلك بالتواتر نظر) ، وإلى هذا ذهب الأشعري ، والغزالي والرازي ، وابن عطية ووالده أبو بكر ابن عطية ، وذهب جماعة إلى أنّ القبول ظني لا قطعي ، وهو قول أبي بكر

٦٤

الباقلاني ، وإمام الحرمين ، والمازري والتفتازانيّ ، وشرف الدين الفهري وابن الفرس في أحكام القرآن بناء على أنّ كثرة الظواهر لا تفيد اليقين ، وهذا الذي ينبغي اعتماده نظرا. غير أنّ قبول التوبة ليس من مسائل أصول الدين فلما ذا نطلب في إثباته الدليل القطعي.

والذي أراه أنّهم لمّا ذكروا القبول ذكروه على إجماله ، فكان اختلافهم اختلافا في حالة ، فالقبول يطلق ويراد به معنى رضي الله عن التائب ، وإثباته في زمرة المتّقين الصالحين ، وكأنّ هذا هو الذي نظر إليه المعتزلة لمّا قالوا بأنّ قبولها قطعي عقلا. وفي كونه قطعيّا ، وكونه عقلا ، نظر واضح ، ويدلّ لذلك أنّهم قالوا : إنّ التوبة لا تصحّ إلّا بعد الإقلاع عن سائر الذنوب ليتحقّق معنى صلاحه. ويطلق القبول ويراد ما وعد الله به من غفران الذنوب الماضية قبل التوبة ، وهذا أحسبهم لا يختلفون في كونه سميعا لا عقليا ، إذ العقل لا يقتضي الصفح عن الذنوب الفارطة عند الإقلاع عن إتيان أمثالها في المستقبل ، وهذا هو المختلف في كونه قطعيّا أو ظنيّا ، ويطلق القبول على معنى قبول التوبة من حيث إنّها في ذاتها عمل مأمور به كلّ مذنب ، أي بمعنى أنّها إبطال الإصرار على الذنوب التي كان مصرّا على إتيانها ، فإنّ إبطال الإصرار مأمور به لأنّه من ذنوب القلب فيجب تطهير القلب منه ، فالتائب من هذه الجهة يعتبر ممتثلا لأمر شرعي ، فالقبول بهذا المعنى قطعي لأنّه صار بمعنى الإجزاء ، ونحن نقطع بأنّ من أتى عملا مأمورا به بشروطه الشرعية كان عمله مقبولا بمعنى ارتفاع آثار النهي عنه ، ولكن بمعنى الظنّ في حصول الثواب على ذلك. ولعلّ هذا المعنى هو الذي نظر إليه الغزالي إذ قال في كتاب التوبة «إنّك إذا فهمت معنى القبول لم تشكّ في أنّ كلّ توبة صحيحة هي مقبولة إذ القلب خلق سليما في الأصل ، إذ كلّ مولود يولد على الفطرة وإنّما تفوته السلامة بكدرة ترهقه من غيرة الذنوب ، وأنّ نور الندم يمحو عن القلب تلك الظلمة كما يمحو الماء والصابون عن الثواب الوسخ. فمن توهّم أنّ التوبة تصحّ ولا تقبل كمن توهّم أنّ الشمس تطلع والظلام لا يزول ، أو أنّ الثوب يغسل والوسخ لا يزول ، نعم قد يقول التائب باللسان تبت ولا يقلع ، فذلك كقول القصّار بلسانه غسلت الثوب وهو لم يغسله فذلك لا ينظّف الثوب». وهذا الكلام تقريب إقناعي. وفي كلامه نظر بيّن لأنّا إنّما نبحث عن طرح عقوبة ثابتة هل حدثان التوبة يمحوها.

والإشارة في المسند إليه في قوله : (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) للتنبيه على استحضارهم باعتبار الأوصاف المتقدّمة البالغة غاية الخوف من الله تعالى والمبادرة إلى

٦٥

طلب مرضاته ، ليعرف أنّهم أحرياء بمدلول المسند الوارد بعد الإشارة ، نظير قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] والمعنى : هؤلاء هم الذين جعلهم الله مستحقّين قبول التوبة منهم ، وهو تأكيد لقوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) إلى آخره.

وقوله : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ) إلخ تنبيه على نفي القبول عن نوع من التوبة وهي التي تكون عند اليأس من الحياة لأنّ المقصد من العزم ترتّب آثاره عليه وصلاح الحل في هذه الدار بالاستقامة الشرعية ، فإذا وقع اليأس من الحياة ذهبت فائدة التوبة.

وقوله : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) عطف الكفّار على العصاة في شرط قبول التوبة منهم لأنّ إيمان الكافر توبة من كفره ، والإيمان أشرف أنواع التوبة ، فبيّن أنّ الكافر إذا مات كافرا لا تقبل توبته من الكفر.

وللعلماء في تأويله قولان : أحدهما الأخذ بظاهره وهو أن لا يحول بين الكافر وبين قبول توبته من الكفر بالإيمان إلا حصول الموت ، وتأوّلوا معنى (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ) له بأنّ المراد بها ندمه يوم القيامة إذا مات كافرا ، ويؤخذ منه أنّه إذا آمن قبل أن يموت قبل إيمانه ، وهو الظاهر ، فقد ثبت في «الصحيح» : أنّ أبا طالب لمّا حضرته الوفاة دخل عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية فقال : أي عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله : أترغب عن ملّة عبد المطلب. فكان آخر ما قال أبو طالب أنّه على ملّة عبد المطلب ، فقال النبي : لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك. فنزلت (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) [التوبة : ١١٣] ويؤذن به عطف (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) بالمغايرة بين قوله : (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) الآية وقوله : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ). وعليه فوجه مخالفة توبته لتوبة المؤمن العاصي أنّ الإيمان عمل قلبي ، ونطق لساني ، وقد حصل من الكافر التائب وهو حي ، فدخل في جماعة المسلمين وتقوّى به جانبهم وفشت بإيمانه سمعة الإسلام بين أهل الكفر.

وثانيهما : أنّ الكافر والعاصي من المؤمنين سواء في عدم قبول التوبة ممّا هما عليه ، إذا حضرهما الموت. وتأوّلوا قوله : (يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) بأنّ معناه يشرفون على الموت على أسلوب قوله (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً) [النساء : ٩] أي لو أشرفوا على أن يتركوا ذرّيّة. والدّاعي إلى التأويل نظم الكلام لأنّ (لا) عاطفة على معمول لخبر التوبة المنفية ، فيصير المعنى : وليست التوبة للذين يموتون وهم كفّار فيتوبون ، ولا

٦٦

تعقل توبة بعد الموت فتعيّن تأويل (يموتون) بمعنى يشرفون كقوله (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) [البقرة : ٢٤٠] ، واحتجّوا بقوله تعالى في حقّ فرعون (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ* آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس : ٩٠ ، ٩١] المفيد أنّ الله لم يقبل إيمانه ساعتئذ. وقد يجاب عن هذا الاستدلال بأنّ ذلك شأن الله في الذين نزل بهم العذاب أنّه لا ينفعهم الإيمان بعد نزول العذاب إلّا قوم يونس قال تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨] فالغرق عذاب عذّب الله به فرعون وجنده.

قال ابن الفرس ، في أحكام القرآن : وإذا صحّت توبة العبد فإن كانت عن الكفر قطعنا بقبولها ، وإن كانت عن سواه من المعاصي ؛ فمن العلماء من يقطع بقبولها ، ومنهم من لم يقطع ويظنّه ظنّا ا ه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً).

استئناف تشريع في أحكام النساء التي كان سياق السورة لبيانها وهي التي لم تزل آيها مبيّنة لأحكامها تأسيسا واستطرادا ، وبدءا وعودا ، وهذا حكم تابع لإبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من جعل زوج الميّت موروثة عنه وافتتح بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) للتنويه بما خوطبوا به.

وخوطب الذين آمنوا ليعمّ الخطاب جميع الأمّة ، فيأخذ كلّ منهم بحظّه منه ، فمريد الاختصاص بامرأة الميّت يعلم ما يختصّ به منه ، والوليّ كذلك ، وولاة الأمور كذلك.

وصيغة (لا يَحِلُ) صيغة نهي صريح لأنّ الحلّ هو الإباحة في لسان العرب ولسان الشريعة ، فنفيه يرادف معنى التحريم.

والإرث حقيقته مصير الكسب إلى شخص عقب شخص آخر ، وأكثر ما يستعمل في مصير الأموال ، ويطلق الإرث مجازا على تمحّض الملك لأحد بعد المشارك فيه ، أو في

٦٧

حالة ادّعاء المشارك فيه ، ومنه «يرث الأرض ومن عليها» ، وهو فعل متعدّ إلى واحد يتعدّى إلى المتاع الموروث ، فتقول : ورثت مال فلان ، وقد يتعدى إلى ذات الشخص الموروث ، يقال : ورث فلان أباه ، قال تعالى : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) [مريم : ٦] وهذا هو الغالب فيه إذا تعدّى إلى ما ليس بمال.

فتعدية فعل (أَنْ تَرِثُوا) إلىالنِّساءَ) من استعماله الأوّل : بتنزيل النساء منزلة الأموال الموروثة ، لإفادة تبشيع الحالة التي كانوا عليها في الجاهلية. أخرج البخاري ، عن ابن عباس ، قال : «كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته إن شاء بعضهم تزوّجها ، وإن شاءوا زوّجوها ، وإن شاءوا لم يزوّجوها ، فهم أحقّ بها من أهلها فنزلت هذه الآية» وعن مجاهد ، والسدّي ، والزهري كان الابن الأكبر أحقّ بزوج أبيه إذا لم تكن أمّه ، فإن لم يكن أبناء فوليّ الميّت إذا سبق فألقى على امرأة الميّت ثوبه فهو أحقّ بها ، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحقّ بنفسها. وكان من أشهر ما وقع من ذلك في الجاهلية أنّه لمّا مات أمية بن عبد شمس وترك امرأته ولها أولاد منه : العيص ، وأبو العيص ، والعاص ، وأبو العاص ، وله أولاد من غيرها منهم أبو عمرو بن أمية فخلف أبو عمرو على امرأة أبيه ، فولدت له : مسافرا ، وأبا معيط ، فكان الأعياص أعماما لمسافر وأبي معيط وإخوتهما من الأمّ».

وقد قيل : نزلت الآية لمّا توفّي أبو قيس بن الأسلت رام ابنه أن يتزوّج امرأته كبشة بنت معن الأنصارية ، فنزلت هذه الآية. قال ابن عطية : وكانت هذه السيرة لازمة في الأنصار ، وكانت في قريش مباحة مع التراضي. وعلى هذا التفسير يكون قوله (كَرْهاً) حالا من النساء ، أي كارهات غير راضيات ، حتّى يرضين بأن يكنّ أزواجا لمن يرضينه ، مع مراعاة شروط النكاح ، والخطاب على هذا الوجه لورثة الميّت.

وقد تكرّر هذا الإكراه بعوائدهم التي تمالئوا عليها ، بحيث لو رامت المرأة المحيد عنها ، لأصبحت سبّة لها ، ولما وجدت من ينصرها ، وعلى هذا فالمراد بالنساء الأزواج ، أي أزواج الأموات.

ويجوز أن يكون فعل (تَرِثُوا) مستعملا في حقيقته ومتعدّيا إلى الموروث فيفيد النهي عن أحوال كانت في الجاهلية : منها أنّ الأولياء يعضلون النساء ذوات المال من التزوّج خشية أنّهنّ إذا تزوّجن يلدن فيرثهنّ أزواجهنّ وأولادهنّ ولم يكن للوليّ العاصب شيء من أموالهنّ ، وهنّ يرغبن أن يتزوّجن ؛ ومنها أنّ الأزواج كانوا يكرهون أزواجهم ويأبون أن

٦٨

يطلّقوهنّ رغبة في أن يمتن عندهم فيرثوهنّ ، فذلك إكراه لهنّ على البقاء على حالة الكراهية ، إذ لا ترضى المرأة بذلك مختارة ، وعلى هذا فالنساء مراد به جمع امرأة ، وقرأ الجمهور : كرها ـ بفتح الكاف ـ وقرأه حمزة ، والكسائي وخلف ـ بضم الكاف ـ وهما لغتان.

(وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ).

عطف النهي عن العضل على النهي عن إرث النساء كرها لمناسبة التماثل في الإكراه وفي أنّ متعلّقه سوء معاملة المرأة ، وفي أنّ العضل لأجل أخذ مال منهنّ.

والعضل : منع وليّ المرأة إيّاها أن تتزوّج ، وقد تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى : (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) في سورة البقرة [٢٣٢].

فإن كان المنهي عنه في قوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) هو المعنى المتبادر من فعل (تَرِثُوا) ، وهو أخذ مال المرأة كرها عليها ، فعطف (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) إمّا عطف خاصّ على عامّ ، إن أريد خصوص منع الأزواج نساءهم من الطلاق مع الكراهية ، رغبة في بقاء المرأة عنده حتّى تموت فيرث منها مالها ، أو عطف مباين إن أريد النهي عن منعها من الطلاق حتّى يلجئها إلى الافتداء منه ببعض ما آتاها ، وأيّا ما كان فإطلاق العضل على هذا الإمساك مجاز باعتبار المشابهة لأنّها كالتي لا زوج لها ولم تتمكّن من التزوّج.

وإن كان المنهي عنه في قوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ) المعنى المجازي لترثوا وهو كون المرأة ميراثا ، وهو ما كان يفعله أهل الجاهلية في معاملة أزواج أقاربهم وهو الأظهر فعطف (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) عطف حكم آخر من أحوال المعاملة ، وهو النهي عن أن يعضل الوليّ المرأة من أن تتزوّج لتبقى عنده فإذا ماتت ورثها ، ويتعيّن على هذا الاحتمال أن يكون ضمير الجمع في قوله : (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) راجعا إلى من يتوقّع منه ذلك من المؤمنين وهم الأزواج خاصّة ، وهذا ليس بعزيز أن يطلق ضمير صالح للجمع ويراد منه بعض ذلك الجمع بالقرينة ، كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] أي لا يقتل بعضكم أخاه ، إذ قد يعرف أنّ أحدا لا يقتل نفسه ، وكذلك (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] أي يسلم الداخل على الجالس. فالمعنى : ليذهب بعضكم ببعض ما آتاهنّ بعضكم ، كأن يريد الوليّ أن يذهب في ميراثه ببعض مال مولاته الذي ورثته من أمّها أو قريبها أو من زوجها ، فيكون في الضمير توزيع. وإطلاق العضل على هذا المعنى

٦٩

حقيقة. والذهاب في قوله : (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) مجاز في الأخذ ، كقوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧] ، أي أزاله.

(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).

ليس إتيانهنّ بفاحشة مبيّنة بعضا ممّا قبل الاستثناء لا من العضل ولا من الإذهاب ببعض المهر. فيحتمل أن يكون الاستثناء متّصلا استثناء من عموم أحوال الفعل الواقع في تعليل النهي ، وهو إرادة الإذهاب ببعض ما آتوهنّ ، لأنّ عموم الأفراد يستلزم عموم الأحوال ، أي إلّا حال الإتيان بفاحشة فيجوز إذهابكم ببعض ما آتيتموهنّ. ويحتمل أن يكون استثناء منقطعا في معنى الاستدراك ، أي لكن إتيانهنّ بفاحشة يحلّ لكم أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ ، فقيل : هذا كان حكم الزوجة التي تأتي بفاحشة وأنّه نسخ بالحدّ. وهو قول عطاء.

والفاحشة هنا عند جمهور العلماء هي الزنا ، أي أنّ الرجل إذا تحقّق زنى زوجه فله أن يعضلها ، فإذا طلبت الطلاق فله أن لا يطلّقها حتّى تفتدي منه ببعض صداقها ، لأنّها تسبّبت في بعثرة حال بيت الزوج ، وأحوجته إلى تجديد زوجة أخرى ، وذلك موكول لدينه وأمانة الإيمان. فإن حاد عن ذلك فللقضاة حمله على الحقّ. وإنّما لم يجعل المفاداة بجميع المهر لئلا تصير مدّة العصمة عريّة عن عوض مقابل ، هذا ما يؤخذ من كلام الحسن. وأبي قلابة ، وابن سيرين وعطاء ؛ لكن قال عطاء : هذا الحكم نسخ بحدّ الزنا وباللعان ، فحرّم الإضرار والافتداء.

وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، والضحّاك ، وقتادة : الفاحشة هنا البغض والنشوز ، فإذا نشزت جاز له أن يأخذ منها. قال ابن عطيّة : وظاهر قول مالك بإجازة أخذ الخلع عن الناشز يناسب هذا إلّا أنّي لا أحفظ لمالك نصّا في الفاحشة في هذه الآية.

وقرأ الجمهور : مبيّنة ـ بكسر التحتية ـ اسم فاعل من بيّن اللازم بمعنى تبيّن ، كما في قولهم في المثل «بيّن الصبح لذي عينين». وقرأه ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف ـ بفتح التحتية ـ اسم مفعول من بيّن المتعدي أي بيّنها وأظهرها بحيث أشهد عليهنّ بها.

(عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)

٧٠

أعقب النهي عن إكراه النساء والإضرار بهنّ بالأمر بحسن المعاشرة معهنّ ، فهذا اعتراض فيه معنى التذييل لما تقدّم من النهي ، لأنّ حسن المعاشرة جامع لنفي الإضرار والإكراه ، وزائد بمعاني إحسان الصحبة.

والمعاشرة مفاعلة من العشرة وهي المخالطة ، قال ابن عطية : وأرى اللفظة من أعشار الجزور لأنّها مقاسمة ومخالطة ، أي فأصل الاشتقاق من الاسم الجامد وهو عدد العشرة. وأنا أراها مشتقّة من العشيرة أي الأهل ، فعاشره جعله من عشيرته ، كما يقال : آخاه إذا جعله أخا. أمّا العشيرة فلا يعرف أصل اشتقاقها. وقد قيل : إنها من العشرة أي اسم العدد وفيه نظر.

والمعروف ضدّ المنكر وسمّي الأمر المكروه منكرا لأنّ النفوس لا تأنس به ، فكأنّه مجهول عندها نكرة ، إذ الشأن أنّ المجهول يكون مكروها ثمّ أطلقوا اسم المنكر على المكروه ، وأطلقوا ضدّه على المحبوب لأنّه تألفه النفوس. والمعروف هنا ما حدّده الشرع ووصفه العرف.

والتفريع في قوله : (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) على لازم الأمر الذي في قوله : (وَعاشِرُوهُنَ) وهو النهي عن سوء المعاشرة ، أي فإن وجد سبب سوء المعاشرة وهو الكراهية. وجملة (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا) نائبه مناب جواب الشرط ، وهي عليه له فعلم الجواب منها. وتقديره : فتثبتوا ولا تعجلوا بالطلاق ، لأن قوله (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً) يفيد إمكان أن تكون المرأة المكروهة سبب خيرات فيقتضي أن لا يتعجّل في الفراق.

و (فَعَسى) هنا للمقاربة المجازية أو الترجّي. (أَنْ تَكْرَهُوا) ساد مسدّ معموليها ، (وَيَجْعَلَ) معطوف على (تَكْرَهُوا) ، ومناط المقاربة والرجاء هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه ، بدلالة القرينة على ذلك.

وهذه حكمة عظيمة ، إذ قد تكره النفوس ما في عاقبته خير فبعضه يمكن التوصّل إلى معرفة ما فيه من الخير عند غوص الرأي. وبعضه قد علم الله أنّ فيه خيرا لكنّه لم يظهر للناس. قال سهل بن حنيف ، حين مرجعه من صفّين «اتّهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نردّ على رسول الله أمره لرددنا. والله ورسوله أعلم». وقد قال تعالى ، في سورة البقرة (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦].

٧١

والمقصود من هذا : الإرشاد إلى إعماق النظر وتغلغل الرأي في عواقب الأشياء ، وعدم الاغترار بالبوارق الظاهرة. ولا بميل الشهوات إلى ما في الأفعال من ملائم ، حتّى يسبره بمسبار الرأي ، فيتحقّق سلامة حسن الظاهر من سوء خفايا الباطن.

واقتصر هنا على مقاربة حصول الكراهية لشيء فيه خير كثير ، دون مقابلة ، كما في آية البقرة [٢١٦] (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) لأنّ المقام في سورة البقرة مقام بيان الحقيقة بطرفيها إذ المخاطبون فيها كرهوا القتال ، وأحبّوا السلم ، فكان حالهم مقتضيا بيان أنّ القتال قد يكون هو الخير لما يحصل بعده من أمن دائم ، وخضد شوكة العدوّ ، وأنّ السلم قد تكون شرّا لما يحصل معها من استخفاف الأعداء بهم ، وطمعهم فيهم ، وذهاب عزّهم المفضي إلى استعبادهم ، أمّا المقام في هذه السورة فهو لبيان حكم من حدث بينه وبين زوجه ما كرّهه فيها ، ورام فراقها ، وليس له مع ذلك ميل إلى غيرها ، فكان حاله مقتضيا بيان ما في كثير من المكروهات من الخيرات ، ولا يناسب أن يبيّن له أنّ في بعض الأمور المحبوبة شرورا لكونه فتحا لباب التعلّل لهم بما يأخذون من الطرف الذي يميل إليه هواهم. وأسند جعل الخير في المكروه هنا لله بقوله : (وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) المقتضى أنه جعل عارض لمكروه خاصّ ، وفي سورة البقرة [٢١٦] قال : (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لأنّ تلك بيان لما يقارن بعض الحقائق من الخفاء في ذات الحقيقة ، ليكون رجاء الخير من القتال مطّردا في جميع الأحوال غير حاصل بجعل عارض ، بخلاف هذه الآية ، فإنّ الصبر على الزوجة الموذية أو المكروهة إذا كان لأجل امتثال أمر الله بحسن معاشرتها ، يكون جعل الخير في ذلك جزاء من الله على الامتثال.

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١))

لا جرم أنّ الكراهية تعقبها إرادة استبدال المكروه بضدّه ، فلذلك عطف الشرط على الذي قبله استطرادا واستيفاء للأحكام.

فالمراد بالاستبدال طلاق المرأة السابقة وتزوّج امرأة أخرى.

والاستبدال : التبديل. وتقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى : (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) في سورة البقرة [٦١] أي إن لم يكن سبب للفراق إلّا إرادة استبدال

٧٢

زوج بأخرى فيلجئ التي يريد فراقها ، حتّى تخالعه ، ليجد ما لا يعطيه مهرا للتي رغب فيها ، نهى عن أن يأخذوا شيئا ممّا أعطوه أزواجهم من مهر وغيره والقنطار هنا مبالغة في مقدار المال المعطى صداقا أي ما لا كثيرا ، كثرة غير متعارفة. وهذه المبالغة تدلّ على أنّ إيتاء القنطار مباح شرعا لأنّ الله لا يمثّل بما لا يرضى شرعه مثل الحرام ، ولذلك لمّا خطب عمر بن الخطاب فنهى عن المغالاة في الصدقات ، قالت له امرأة من قريش بعد أن نزل «يا أمير المؤمنين كتاب الله أحقّ أن يتبع أو قولك» قال : «بل كتاب الله! بم ذلك؟» قالت : إنّك نهيت الناس آنفا أن يغالوا في صداق النساء ، والله يقول في كتابه (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) [النساء : ٢٠] فقال عمر «كلّ أحد أفقه من عمر». وفي رواية قال «امرأة أصابت وأمير أخطأ والله المستعان» ثم رجع إلى المنبر فقال : «إنّي كنت نهيتكم أن تغالوا في صدقات النساء فليفعل كلّ رجل في ماله ما شاء». والظاهر من هذه الرواية أنّ عمر رجع عن تحجير المباح لأنّه رآه ينافي الإباحة بمقتضى دلالة الإشارة وقد كان بدا له من قبل أنّ في المغالاة علّة تقتضي المنع ، فيمكن أن يكون نسي الآية بناء على أنّ المجتهد لا يلزمه البحث عن المعارض لدليل اجتهاده ، أو أن يكون حملها على قصد المبالغة فرأى أنّ ذلك لا يدلّ على الإباحة ، ثم رجع عن ذلك أو أن يكون رأى لنفسه أن يحجّر بعض المباح للمصلحة ثمّ عدل عنه لأنّه ينافي إذن الشرع في فعله أو نحو ذلك.

وضمير : (إِحْداهُنَ) راجع إلى النساء. وهذه هي المرأة التي يراد طلاقها.

وتقدّم الكلام على القنطار عند تفسير قوله تعالى : (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) في سورة آل عمران [١٤].

والاستفهام في (أَتَأْخُذُونَهُ) إنكاري.

والبهتان مصدر كالشّكران والغفران ، مصدر بهته كمنعه إذا قال عليه ما لم يفعل ، وتقدّم البهت عند قوله تعالى : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) في سورة البقرة [٢٥٨].

وانتصب (بُهْتاناً) على الحال من الفاعل في (تَأْخُذُونَهُ) بتأويله باسم الفاعل ، أي مباهتين. وإنّما جعل هذا الأخذ بهتانا لأنّهم كان من عادتهم إذا كرهوا المرأة وأرادوا طلاقها ، رموها بسوء المعاشرة ، واختلقوا عليها ما ليس فيها ، لكي تخشى سوء السمعة فتبذل للزوج ما لا فداء ليطلّقها ، حكى ذاك فخر الدين الرازي ، فصار أخذ المال من المرأة عند الطلاق مظنّة بأنّها أتت ما لا يرضي الزوج ، فقد يصدّ ذلك الراغبين في التزوّج عن خطبتها ، ولذلك لمّا أذن الله للأزواج بأخذ المال إذا أتت أزواجهم بفاحشة ، صار

٧٣

أخذ المال منهنّ بدون ذلك يوهم أنّه أخذه في محل الإذن بأخذه ، هذا أظهر الوجوه في جعل هذا الأخذ بهتانا.

وأمّا كونه إثما مبيّنا فقد جعل هنا حالا بعد الإنكار ، وشأن مثل هذا الحال أن تكون معلومة الانتساب إلى صاحبها حتّى يصبح الإنكار باعتبارها ، فيحتمل أنّ كونها إثما مبيّنا قد صار معلوما للمخاطبين من قوله : (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) ، أو من آية البقرة [٢٢٩] (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أو ممّا تقرّر عندهم من أنّ حكم الشريعة في الأموال أن لا تحلّ إلّا عن طيب نفس.

وقوله : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) استفهام تعجيبي بعد الإنكار ، أي ليس من المروءة أن تطمعوا في أخذ عوض عن الفراق بعد معاشرة امتزاج وعهد متين. والإفضاء الوصول ، مشتقّ من الفضاء ، لأنّ في الوصول قطع الفضاء بين المتواصلين والميثاق الغليظ عقدة النكاح على نيّة إخلاص النيّة ودوام الألفة ، والمعنى أنّكم كنتم على حال مودة وموالاة ، فهي في المعنى كالميثاق على حسن المعاملة.

والغليظ صفة مشبّهة من غلظ ـ بضمّ اللام ـ إذا صلب ، والغلظة في الحقيقة صلابة الذوات ، ثم استعيرت إلى صعوبة المعاني وشدّتها في أنواعها ، قال تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة : ١٢٣]. وقد ظهر أنّ مناط التحريم هو كون أخذ المال عند طلب استبدال الزوجة بأخرى ، فليس هذا الحكم منسوخا بآية البقرة خلافا لجابر بن زيد إذ لا إبطال لمدلول هذه الآية.

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢))

عطف على جملة (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) [النساء : ١٩] ، والمناسبة أنّ من جملة أحوال إرثهم النساء كرها ، أن يكون ابن الميّت أولى بزوجة أبيه ، إذا لم تكن أمّه ، فنهوا عن هذه الصورة نهيا خاصّا مغلّظا ، وتخلّص منه إلى إحصاء المحرّمات.

و (ما نَكَحَ) بمعنى الذي نكح مراد به الجنس ، فلذلك حسن وقع (ما) عوض (من) لأنّ (من) تكثير في الموصول المعلوم ، على أنّ البيان بقوله : (مِنَ النِّساءِ) سوّى بين (ما ـ ومن) فرجحت (ما) لخفّتها ، والبيان أيضا يعيّن أن تكون (ما) موصولة. وعدل عن أن يقال : لا تنكحوا نساء آبائكم ليدلّ بلفظ نكح على أنّ عقد الأب على المرأة كاف

٧٤

في حرمة تزوّج ابنه إياها. وذكر (مِنَ النِّساءِ) بيان لكون (ما) موصولة.

والنهي يتعلّق بالمستقبل ، والفعل المضارع مع النهي مدلوله إيجاد الحدث في المستقبل ، وهذا المعنى يفيد النهي عن الاستمرار على نكاحهنّ إذا كان قد حصل قبل ورود النهي. والنكاح حقيقة في العقد شرعا بين الرجل والمرأة على المعاشرة والاستمتاع بالمعنى الصحيح شرعا ، وتقدّم أنّه حقيقة في هذا المعنى دون الوطء عند تفسير قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) في سورة البقرة [٢٣٠] ، فحرام على الرجل أن يتزوّج امرأة عقد أبوه عليها عقد نكاح صحيح ، ولو لم يدخل بها ، وأمّا إطلاق النكاح على الوطء بعقد فقد حمل لفظ النكاح عليه بعض العلماء ، وزعموا أنّ قوله تعالى : (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) أطلق فيه النكاح على الوطء لأنّها لا يحلّها لمطلّقها ثلاثا مجرّد العقد أي من غير حاجة إلى الاستعانة ببيان السنّة للمقصود من قوله : (تَنْكِحَ) وقد بيّنت ردّ ذلك في سورة البقرة عند قوله تعالى : (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).

وأما الوطء الحرام من زنى فكونه من معاني النكاح في لغة العرب دعوى واهية.

وقد اختلف الفقهاء فيمن زنى بامرأة هل تحرم على ابنه أو على أبيه. فالذي ذهب إليه مالك في «الموطأ» ، والشافعي : أنّ الزنى لا ينشر الحرمة ، وهذا الذي حكاه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في «الرسالة» ، ويروى ذلك عن عكرمة عن ابن عباس ، وهو قول الزهري ، وربيعة ، والليث. وقال أبو حنيفة ، وابن الماجشون من أصحاب مالك : الزنى ينشر الحرمة. قال ابن الماجشون : مات مالك على هذا. وهو قول الأوزاعي والثوري. وقال ابن الموّاز : هو مكروه ، ووقع في المدوّنة (يفارقها) فحمله الأكثر على الوجوب. وتأوّله بعضهم على الكراهة. وهذه المسألة جرت فيها مناظرة بين الشافعي ومحمد بن الحسن أشار إليها الجصّاص في أحكامه ، والفخر في مفاتيح الغيب ، وهي طويلة.

و (ما قَدْ سَلَفَ) هو ما سبق نزول هذه الآية أي إلّا نكاحا قد سلف فتعيّن أنّ هذا النكاح صار محرّما. ولذلك تعيّن أن يكون الاستثناء في قوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) مؤوّلا إذ ما قد سلف كيف يستثنى من النهي عن فعله وهو قد حصل ، فتعيّن أنّ الاستثناء يرجع إلى ما يقتضيه النهي من الإثم ، أي لا إثم عليكم فيما قد سلف. ثم ينتقل النظر إلى أنّه هل يقرّر عليه فلا يفرّق بين الزوجين اللذين تزوّجا قبل نزول الآية ، وهذا لم يقل به إلّا بعض المفسّرين فيما نقله الفخر ، ولم أقف على أثر يثبت قضية معيّنة فرّق فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٧٥

بين رجل وزوج أبيه ممّا كان قبل نزول الآية ، ولا على تعيين قائل هذا القول ، ولعل الناس قد بادروا إلى فراق أزواج الآباء عند نزول هذه الآية.

وقد تزوّج قبل الإسلام كثير أزواج آبائهم : منهم عمر بن أمية بن عبد شمس ، خلف على زوج أبيه أميّة كما تقدّم ، ومنهم صفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد ، ومنهم منظور بن ريان بن سيار ، تزوّج امرأة أبيه ملكية بنت خارجة ، ومنهم حصن بن أبي قيس ، تزوّج بعد أبي قيس زوجه ، ولم يرو أنّ أحدا من هؤلاء أسلم وقرّر على نكاح زوج أبيه.

وجوّزوا أن يكون الاستثناء من لازم النهي وهو العقوبة أي لا عقوبة على ما قد سلف. وعندي أنّ مثل هذا ظاهر للناس فلا يحتاج للاستثناء ، ومتى يظنّ أحد المؤاخذة عن أعمال كانت في الجاهلية قبل مجيء الدين ونزول النهي.

وقيل : هو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه : أي إن كنتم فاعلين منه فانكحوا ما قد سلف من نساء الآباء البائدة ، كأنّه يوهم أنه يرخّص لهم بعضه ، فيجد السامع ما رخّص له متعذّرا فيتأكّد النهي كقول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

وقولهم (حتّى يئوب القارظان) و (حتّى يشيب الغراب) وهذا وجه بعيد في آيات التشريع.

والظاهر أنّ قوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) قصد منه بيان صحّة ما سلف من ذلك في عهد الجاهلية ، وتعذّر تداركه الآن ، لموت الزوجين ، من حيث إنّه يترتّب عليه. ثبوت أنساب ، وحقوق مهور ومواريث ، وأيضا بيان تصحيح أنساب الذين ولدوا من ذلك النكاح ، وأنّ المسلمين انتدبوا للإقلاع عن ذلك اختيارا منهم ، وقد تأوّل سائر المفسّرين قوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) بوجوه ترجع إلى التجوّز في معنى الاستثناء أو في معنى : (ما نَكَحَ) ، حملهم عليها أنّ نكاح زوج الأب لم يقرّره الإسلام بعد نزول الآية ، لأنّه قال : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) أي ومثل هذا لا يقرّر لأنّه فاسد بالذات.

والمقت اسم سمّت به العرب نكاح زوج الأب فقالوا نكاح المقت أي البغض ، وسمّوا فاعل ذلك الضيزن ، وسمّوا الابن من ذلك النكاح مقيتا.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ

٧٦

الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣))

تخلّص إلى ذكر المحرّمات بمناسبة ذكر تحريم نكاح ما نكح الآباء وغيّر أسلوب النهي فيه لأنّ (لا تفعل) نهي عن المضارع الدالّ على زمن الحال فيؤذن بالتلبّس بالمنهي ، أو إمكان التلبّس به ، بخلاف (حُرِّمَتْ) فيدلّ على أنّ تحريمه أمر مقرّر ، ولذلك قال ابن عباس : «كان أهل الجاهلية يحرّمون ما يحرّم الإسلام إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين» فمن أجل هذا أيضا نجد حكم الجمع بين الأختين عبّر فيه بلفظ الفعل المضارع فقيل : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ).

وتعلّق التحريم بأسماء الذوات يحمل على تحريم ما يقصد من تلك الذات غالبا فنحو (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) إلخ معناه حرّم أكلها ، ونحو : حرّم الله الخمر ، أي شربها ، وفي (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) معناه تزوجهنّ.

والأمّهات جمع أمّة أو أمّهة ، والعرب أماتوا أمّهة وأمّه وأبقوا جمعه ، كما أبقوا أمّ وأماتوا جمعه ، فلم يسمع منهم الأمّات ، وورد أمّة نادرا في قول شاعر أنشده ابن كيسان :

تقبلتها عن أمّة لك طالما

تنوزع في الأسواق منها خمارها

وورد أمهة نادرا في بيت يعزى إلى قصي بن كلاب :

عند تناديهم بهال وهبي

أمّهتي خندف وإلياس (١) أبي

وجاء في الجمع أمّهات بكثرة ، وجاء أمّات قليلا في قول جرير :

لقد ولد الأخيطل أمّ سوء

مقلّدة من الأمّات عارا

وقيل : إنّ أمّات خاصّ بما لا يعقل ، قال الراعي :

كانت نجائب منذر ومحرّق

أمّاتهنّ وطرقهنّ فحيلا

__________________

(١) أصله وإلياس بهمزة قطع ووصلت لإقامة الوزن وهو إلياس بن مضي ، ووقع هذا المصراع في طبعة تفسير القرطبي وفي نسخة مخطوطة و «الدّووس» وهو خطأ.

٧٧

فيحتمل أنّ أصل أم أمّا أو أمّها فوقع فيه الحذف ثمّ أرجعوها في الجمع.

ومن غريب الاتّفاق أنّ أسماء أعضاء العائلة لم تجر على قياس مثل أب ، إذ كان على حرفين ، وأخ ، وابن ، وابنة ، وأحسب أنّ ذلك من أثر أنّها من اللّغة القديمة التي نطق بها البشر قبل تهذيب اللغة ، ثمّ تطوّرت اللّغة عليها وهي هي. والمراد من الأمهات وما عطف عليها الدنيا وما فوقها ، وهؤلاء المحرّمات من النسب ، وقد أثبت الله تعالى تحريم من ذكرهنّ ، وقد كنّ محرّمات عند العرب في جاهليتها ، تأكيدا لذلك التحريم وتغليظا له ، إذ قد استقرّ ذلك في الناس من قبل ، فقد قالوا ما كانت الأمّ حلالا لابنها قطّ من عهد آدم عليه‌السلام ، وكانت الأخت التوأمة حراما وغير التوأمة حلالا ، ثمّ حرّم الله الأخوات مطلقا من عهد نوح عليه‌السلام ، ثم حرّمت بنات الأخ ، ويوجد تحريمهنّ في شريعة موسى عليه‌السلام ، وبقي بنات الأخت حلالا في شريعة موسى ، وثبت تحريمهنّ عند العرب في جاهليتها فيما روى ابن عطية في تفسيره ، عن ابن عباس : أنّ المحرّمات المذكورات هنا كانت محرّمة في الجاهلية ، إلّا امرأة الأب ، والجمع بين الأختين. ومثله نقله القرطبي عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة مع زيادة توجيه ذكر الاستثناء بقوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) في هذين خاصة ، وأحسب أن هذا كلّه توطئة لتأويل الاستثناء في قول (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) بأنّ معناه : إلّا ما سلف منكم في الجاهلية فلا إثم عليكم فيه ، كما سيأتي ، وكيف يستقيم ذلك فقد ذكر فيهنّ تحريم الربائب والأخوات من الرضاعة ، ولا أحسبهنّ كنّ محرّمات في الجاهلية.

واعلم أنّ شريعة الإسلام قد نوّهت ببيان القرابة القريبة ، فغرست لها في النفوس وقارا ينزّه عن شوائب الاستعمال في اللهو والرفث ، إذ الزواج ، وإن كانّ غرضا صالحا باعتبار غايته ، إلّا أنّه لا يفارق الخاطر الأوّل الباعث عليه ، وهو خاطر اللهو والتلذّذ.

فوقار الولادة ، أصلا وفرعا ، مانع من محاولة اللهو بالوالدة أو المولودة ، ولذلك اتّفقت الشرائع على تحريمه ، ثم تلا حق ذلك في بنات الإخوة وبنات الأخوات ، وكيف يسري الوقار إلى فرع الأخوات ولا يثبت للأصل ، وكذلك سرى وقار الآباء إلى أخوات الآباء ، وهنّ العمّات ، ووقار الأمّهات إلى أخواتهنّ وهنّ الخالات ، فمرجع تحريم هؤلاء المحرّمات إلى قاعدة المروءة التابعة لكليّة حفظ العرض ، من قسم المناسب الضروري ، وذلك من أوائل مظاهر الرقي البشري. و (ال) في قوله : (وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) عوض عن المضاف إليه أي بنات أخيكم وبنات أختكم.

٧٨

وقوله : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) سمّى المراضع أمّهات جريا على لغة العرب ، وما هنّ بأمّهات حقيقة. ولكنهنّ تنزّلن منزلة الأمّهات لأنّ بلبانهنّ تغذّت الأطفال ، ولما في فطرة الأطفال من محبّة لمرضعاتهم محبّة أمّهاتهم الوالدات ، ولزيادة تقرير هذا الإطلاق الذي اعتبره العرب ثم ألحق ذلك بقوله : (اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) دفعا لتوهّم أنّ المراد الأمّهات إذ لو لا قصد إرادة المرضعات لما كان لهذا الوصف جدوى.

وقد أجملت هنا صفة الإرضاع ومدّته وعدده إيكالا للناس إلى متعارفهم. وملاك القول في ذلك : أنّ الرضاع إنّما اعتبرت له هذه الحرمة لمعنى فيه وهو أنّه الغذاء الذي لا غذاء غيره للطفل يعيش به ، فكان له من الأثر في دوام حياة الطفل ما يماثل أثر الأمّ في أصل حياة طفلها. فلا يعتبر الرضاع سببا في حرمة المرضع على رضيعها إلّا ما استوفى هذا المعنى من حصول تغذية الطفل وهو ما كان في مدّة عدم استغناء الطفل عنه ، ولذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّما الرضاعة من المجاعة».

وقد حدّدت مدّة الحاجة إلى الرضاع بالحولين لقوله تعالى: (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) وقد تقدّم في سورة البقرة [٢٣٣]. ولا اعتداد بالرضاع الحاصل بعد مضي تجاوز الطفل حولين من عمره ، بذلك قال عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والزهري ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، والأوزاعي ، والثوري ، وأبو يوسف ، وقال أبو حنيفة : المدّة حولان وستّة أشهر. وروى ابن عبد الحكم عن مالك : حولان وأيّام يسيرة. وروى ابن القاسم عنه : حولان وشهران. وروى عنه الوليد بن مسلم : والشهران والثلاثة. والأصحّ هو القول الأوّل ؛ ولا اعتداد برضاع فيما فوق ذلك ، وما روي أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر سهلة بنت سهيل زوجة أبي حذيفة أن ترضع سالما مولى أبي حذيفة لمّا نزلت آية (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) [الأحزاب : ٤] إذ كان يدخل عليها كما يدخل الأبناء على أمّهاتهم ، فتلك خصوصيّة لها ، وكانت عائشة أمّ المؤمنين إذا أرادت أن يدخل عليها أحد الحجاب أرضعته ، تأوّلت ذلك من إذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسهلة زوج أبي حذيفة ، وهو رأي لم يوافقها عليه أمّهات المؤمنين ، وأبين أن يدخل أحد عليهنّ بذلك ، وقال به الليث بن سعد ، بإعمال رضاع الكبير. وقد رجع عنه أبو موسى الأشعري بعد أن أفتى به.

وأمّا مقدار الرضاع الذي يحصل به التحريم ، فهو ما يصدق عليه اسم الرضاع وهو ما وصل إلى جوف الرضيع في الحولين ولو مصّة واحدة عند أغلب الفقهاء ، وقد كان

٧٩

الحكم في أوّل أمر التحريم أن لا تقع الحرمة إلّا بعشر رضعات ثمّ نسخن بخمس ، لحديث عائشة «كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات يحرّمن ثمّ نسخن بخمس معلومات فتوفّي رسول الله وهي فيما يقرأ من القرآن» وبه أخذ الشافعي. وقال الجمهور : هو منسوخ ، وردّوا قولها (فتوفّي رسول الله وهي فيما يقرأ) بنسبة الراوي إلى قلّة الضبط لأنّ هذه الجملة مسترابة إذ أجمع المسلمون على أنها لا تقرأ ولا نسخ بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا فطم الرضيع قبل الحولين فطاما استغنى بعده عن لبن المرضع بالطعام والشراب لم تحرم عليه من أرضعته بعد ذلك.

وقوله تعالى : (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) إطلاق اسم الأخت على التي رضعت من ثدي مرضعة من أضيفت أخت إليه جرى على لغة العرب ، كما تقدّم في إطلاق الأمّ على المرضع. والرضاعة ـ بفتح الراء ـ اسم مصدر رضع ، ويجوز ـ كسر الراء ـ ولم يقرأ به. ومحلّ (مِنَ الرَّضاعَةِ) حال من (أَخَواتُكُمْ) و (مِنَ) فيه للتعليل والسببية ، فلا تعتبر أخوّة الرضاعة إلّا برضاعة البنت من المرأة التي أرضعت الولد.

وقوله : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) هؤلاء المذكورات إلى قوله : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) هنّ المحرّمات بسبب الصّهر ، ولا أحسب أنّ أهل الجاهلية كانوا يحرّمون شيئا منها ، كيف وقد أباحوا أزواج الآباء وهنّ أعظم حرمة من جميع نساء الصهر ، فكيف يظنّ أنهم يحرّمون أمّهات النساء والربائب وقد أشيع أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد أن يتزوّج درّة بنت أبي سلمة وهي ربيبته إذ هي بنت أمّ سلمة ، فسألته إحدى أمّهات المؤمنين فقال : «لو لم تكن ربيبتي لما حلّت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة» ، وكذلك حلائل الأبناء إذ هنّ أبعد من حلائل الآباء ، فأرى أنّ هذا من تحريم الإسلام وأنّ ما حكى ابن عطية عن ابن عباس (١) ليس على إطلاقه.

وتحريم هؤلاء حكمته تسهيل الخلطة ، وقطع الغيرة ، بين قريب القرابة حتّى لا تفضي إلى حزازات وعداوات ، قال الفخر : «لو لم يدخل على المرأة أبو الرجل وابنه ، ولم تدخل على الرجل امرأته وابنتها ، لبقيت المرأة كالمحبوسة. ولتعطّل على الزوج والزوجة أكثر المصالح ، ولو كان الإذن في دخول هؤلاء دون حكم المحرمية فقد تمتدّ عين البعض إلى البعض وتشتدّ الرغبة فتحصل النفرة الشديدة بينهنّ ، والإيذاء من الأقارب أشدّ إيلاما ،

__________________

(١) تقدم في صفحة ٧٨ (من هذه الصفحات).

٨٠