تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

الشكّ عن الحديث لا عن المحدّث عنه. وتعقّبه ابن عرفة بما يؤول إلى تأييد ردّ ابن عبد السلام.

وقوله : (رُسُلاً) حال من المذكورين ، وقد سمّاهم رسلا لما قدّمناه ، وهي حال موطّئة لصفتها ، أعني مبشّرين ؛ لأنّه المقصود من الحال.

وقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) تعليل لقوله : (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) ولا يصحّ جعله تعليلا لقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) لأنّ ذلك مسوق لبيان صحّة الرسالة مع الخلوّ عن هبوط كتاب من السماء ردّا على قولهم : (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣]. فموقع قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) موقع الإدماج تعليما للأمّة بحكمة من الحكم في بعثته الرسل.

والحجّة ما يدلّ على صدق المدّعي وحقّيّة المعتذر ، فهي تقتضي عدم المؤاخذة بالذنب أو التقصير. والمراد هنا العذر البيّن الذي يوجب التنصّل من الغضب والعقاب. فإرسال الرسل لقطع عذر البشر إذا سئلوا عن جرائم أعمالهم ، واستحقّوا غضب الله وعقابه. فعلم من هذا أنّ للنّاس قبل إرسال الرسل حجّة إلى الله أن يقولوا : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [القصص : ٤٧].

وأشعرت الآية أنّ من أعمال النّاس ما هو بحيث يغضب الله ويعاقب عليه ، وهي الأفعال التي تدلّ العقول السليمة على قبحها لإفضائها إلى الفساد والأضرار البيّنة. ووجه الإشعار أنّ الحجّة إنّما تقابل محاولة عمل ما ، فلمّا بعث الله الرسل لقطع الحجّة علمنا أنّ الله حين بعث الرسل كان بصدد أن يؤاخذ المبعوث إليهم ، فاقتضت رحمته أن يقطع حجّتهم ببعثة الرسل وإرشادهم وإنذارهم ، ولذلك جعل قطع الحجّة علّة غائيّة للتبشير والإنذار : إذ التبشير والإنذار إنّما يبيّنان عواقب الأعمال ، ولذلك لم يعلّل بعثه الرسل بالتنبيه إلى ما يرضي الله وما يسخطه.

فهذه الآية ملجئة جميع الفرق إلى القول بأنّ بعثة الرسل تتوقّف عليها المؤاخذة بالذنوب ، وظاهرها أنّ سائر أنواع المؤاخذة تتوقّف عليها ، سواء في ذلك الذنوب الراجعة إلى الاعتقاد ، والراجعة إلى العمل ، وفي وجوب معرفة الله. فإرسال الرسل عندنا من تمام العدل من الله لأنّه لو لم يرسلهم لكانت المؤاخذة بالعذاب مجرّد الإطلاق الذي تقتضيه الخالقية إذ لا يسأل عمّا يفعل ، وكانت عدلا بالمعنى الأعمّ.

٣٢١

فأمّا جمهور أهل السنّة ، الذين تترجم عن أقوالهم طريقة الأشعري ، فعمّموا وقالوا : لا يثبت شيء من الواجبات ، ولا مؤاخذة على ترك أو فعل إلّا ببعثة الرسل حتّى معرفة الله تعالى ، واستدلّوا بهذه الآية وغيرها : مثل (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] وبالإجماع. وفي دعوى الإجماع نظر ، وفي الاستدلال به على أصل من أصول الدين نظر آخر ، وفي الاستدلال بالآيات ، وهي ظواهر ، على أصل من أصول الدين نظر ثالث ، إلّا أن يقال : إنّها تكاثرت كثرة أبلغتها إلى مرتبة القطع ، وهذا أيضا مجال للنظر ، وهم ملجئون إلى تأويل هذه الآية ، لأنّهم قائلون بمؤاخذة أهل الفترة على إشراكهم بالله. والجواب أن يقال : إنّ الرسل في الآية كلّ إفرادي ، صادق بالرسول الواحد ، وهو يختلف باختلاف الدعوة. فأمّا الدعوة إلى جملة الإيمان والتوحيد فقد تقرّرت بالرسل الأوّلين ، الّذين تقرّر من دعواتهم عند البشر وجوب الإيمان والتوحيد ، وأمّا الدعوة إلى تفصيل الآيات والصفات وإلى فروع الشرائع ، فهي تتقرّر بمجيء الرسل الذين يختصّون بأمم معروفة.

وأمّا المعتزلة فقد أثبتوا الحسن والقبح الذاتيين في حالة عدم إرسال رسول ؛ فقالوا : إنّ العقل يثبت به وجوب كثير من الأحكام ، وحرمة كثير ، لا سيما معرفة الله تعالى ، لأنّ المعرفة دافعة للضرّ المظنون ، وهو الضرّ الأخروي ، من لحاق العذاب في الآخرة ، حيث أخبر عنه جمع كثير ، وخوف ما يترتّب على اختلاف الفرق في معرفة الصانع قبل المعرفة الصحيحة من المحاربات ، وهو ضرّ دنيويّ ، وكلّ ما يدفع الضرّ المظنون أو المشكوك واجب عقلا ، كمن أراد سلوك طريق فأخبر بأنّ فيه سبعا ، فإنّ العقل يقتضي أن يتوقّف ويبحث حتّى يعلم أيسلك ذلك الطريق أم لا ، وكذلك وجوب النظر في معجزة الرسل وسائر ما يؤدّي إلى ثبوت الشرائع. فلذلك تأوّلوا هذه الآية بما ذكره في «الكشاف» إذ قال : «فإن قلت : كيف يكون للنّاس على الله حجّة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلّة التي النظر فيها موصّل إلى المعرفة ، والرسل في أنفسهم لم يتوصّلوا إلى المعرفة بالنظر في تلك الأدلّة ، أي قبل الرسالة. قلت : الرسل منبّهون عن الغفلة وباعثون على النظر مع تبليغ ما حمّلوه من أمور الدّين وتعليم الشرائع ؛ فكان إرسالهم إزاحة للعلّة وتتميما لإلزام الحجّة». يعني أنّ بعثة الرسل رحمة من الله لا عدل ، ولو لم يبعثهم لكانت المؤاخذة على القبائح عدلا ، فبعثة الرسل إتمام للحجّة في أصل المؤاخذة ، وإتمام للحجّة في زيادة التزكية أن يقول النّاس: ربّنا لم لم ترشدنا إلى ما يرفع درجاتنا في مراتب الصدّيقين وقصرتنا على مجرّد النجاة من العذاب ، حين اهتدينا لأصل التّوحيد بعقولنا.

٣٢٢

وقال الماتريدي بموافقة الجمهور فيما عدا المعرفة بالله تعالى عند إرادة إفحام الرسل خاصّة لأنّه رآه مبنى أصول الدّين ، كما يشير إليه قول صدر الشريعة في «التوضيح» «أي يكون الفعل صفة يحمد فاعل الفعل ويثاب لأجلها أو يذمّ ويعاقب لأجلها ؛ لأنّ وجوب تصديق النبي إن توقّف على الشرع يلزم الدور» وصرّح أيضا بأنّها تعرف بالشرع أيضا.

وقد ضايق المعتزلة الأشاعرة في هذه المسألة بخصوص وجوب المعرفة فقالوا : لو لم تجب المعرفة إلّا بالشرع للزم إفحام الرسل ، فلم تكن للبعثة فائدة. ووجه اللزوم أنّ الرسول إذا قال لأحد : انظر في معجزتي حتّى يظهر صدقي لديك ، فله أن يقول : لا انظر ما لم يجب عليّ ، لأنّ ترك غير الواجب جائز ، ولا يجب عليّ حتّى يثبت عندي الوجوب بالشرع ، ولا يثبت الشرع ما دمت لم انظر ، لأنّ ثبوت الشرع نظريّ لا ضروري. وظاهرهم الماتريديّة وبعض الشافعيّة على هذا الاستدلال.

ولم أر للأشاعرة جوابا مقنعا ، سوى أنّ إمام الحرمين في «الإرشاد» أجاب : بأنّ هذا مشترك الإلزام لأنّ وجوب التأمّل في المعجزة نظري لا ضروريّ لا محالة ، فلمن دعاه الرسول أن يقول : لا أتأمل في المعجزة ما لم يجب ذلك عليّ عقلا ، ولا يجب عليّ عقلا ما لم انظر ، لأنّه وجوب نظري ، والنّظري يحتاج إلى ترتيب مقدّمات ، فأنا لا أرتّبها. وتبعه على هذا الجواب جميع المتكلّمين بعده من الأشاعرة مثل البيضاوي والعضد والتفتازانيّ. وقال ابن عرفة في «الشامل» : إنّه اعتراف بلزوم الإفحام فلا يزيل الشبهة بل يعمّمها بيننا وبينهم ، فلم يحصل دفع الإشكال وكلام ابن عرفة ردّ متمكّن. والظاهر أنّ مراد إمام الحرمين أن يسقط استدلال المعتزلة لأنفسهم على الوجوب العقلي بتمحّض الاستدلال بالأدلة الشرعيّة وهو مطلوبنا.

وأنا أرى أن يكون الجواب بأحد طريقين :

أولهما : بالمنع ، وهو أن نمنع أن يكون وجوب سماع دعوة الرسول متوقّفا على الإصغاء إليه ، والنظر في معجزته ، وأنّه لو لم يثبت وجوب ذلك بالعقل يلزم إفحام الرسول ، بل ندّعي أنّ ذلك أمر ثبت بالشرائع الّتي تعاقب ورودها بين البشر ، بحيث قد علم كلّ من له علاقة بالمدنيّة البشرية بأنّ دعاة أتوا إلى النّاس في عصور مختلفة ، ودعوتهم واحدة : كلّ يقول إنّه مبعوث من عند الله ليدعو النّاس إلى ما يريده الله منهم ، فاستقرّ في نفوس البشر كلّهم أنّ هنالك إيمانا وكفرا ، ونجاة وارتباقا ، استقرارا لا يجدون في نفوسهم سبيلا إلى دفعه ، فإذا دعا الرسول النّاس إلى الإيمان حضرت في نفس المدعوّ

٣٢٣

السامع تلك الأخبار الماضية والمحاورات ، فوجب عليه وجوبا اضطراريا استماعه والنظر في الأمر المقرّر في نفوس البشر ، ولذلك أخذ الله أهل الفترة بالإشراك كما دلّت عليه نصوص كثيرة من الكتاب والسنّة. ولذلك فلو قدّرنا أحدا لم يخالط جماعات البشر ، ولم يسبق له شعور بأنّ النّاس آمنوا وكفروا وأثبتوا وعطّلوا ، لما وجب عليه الإصغاء إلى الرسول لأنّ ذلك الانسياق الضروري مفقود عنده. وعلى هذا الوجه يكون الوجوب غير شرعي ، ولا عقلي نظري ، بل هو من الأمور الضرورية التي لا يستطاع دفعها فلا عجب أن تقع المؤاخذة بتعمّد مخالفتها.

وثاني الجوابين : بالتسليم ، غير أنّ ما وقر في جبلّة البشر من استطلاع الحوادث والأخبار الجديدة ، والإصغاء لكلّ صاحب دعوة ، أمر يحمل كلّ من دعاه الرسول إلى الدين على أن يستمع لكلامه ، ويتلقّى دعوته وتحدّيه ومعجزته ، فلا يشعر إلّا وقد سلكت دعوته إلى نفس المدعوّ ، فحرّكت فيه داعية النظر ، فهو ينجذب إلى تلقّي الدعوة ، رويدا رويدا ، حتّى يجد نفسه قد وعاها وعلمها علما لا يستطيع بعده أن يقول : إنّي لا انظر المعجزة ، أو لا أصغي إلى الدعوة. فإن هو أعرض بعد ذلك فقد اختار العمى على الهدى ، فكان مؤاخذا ، فلو قدّرنا أحدا مرّ برسول يدعو فشغله شاغل عن تعرّف أمره والإصغاء لكلامه والنظر في أعماله ، لسلّمنا أنّه لا يكون مخاطبا ، وأنّ هذا الواحد وأمثاله إذا أفحم الرسول لا تتعطّل الرسالة ، ولكنّه خسر هديه ، وسفه نفسه.

ولا يرد علينا أنّ من سمع دعوة الرسول فجعل أصابعه في أذنيه وأعرض هاربا حينئذ ، لا يتوجّه إليه وجوب المعرفة ، لأنّ هذا ما صنع صنعه إلّا بعد أن علم أنّه قد تهيّأ لتوجّه المؤاخذة عليه إذا سمع فعصى ، وكفى بهذا شعورا منه بتوجّه التكليف إليه فيكون مؤاخذا على استحبابه العمى على الهدى ، كما قال تعالى في قوم نوح : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) ـ أي إلى الإيمان ـ (لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) [نوح : ٧].

والإظهار في مقام الإضمار في قوله : (بَعْدَ الرُّسُلِ) دون أن يقال : بعدهم ، للاهتمام بهذه القضيّة واستقلالها في الدلالة على معناها حتّى تسير مسرى الأمثال.

ومناسبة التذييل بالوصفين في قوله : (عَزِيزاً حَكِيماً) : أمّا بوصف الحكيم فظاهرة ، لأنّ هذه الأخبار كلّها دليل حكمته تعالى ، وأمّا بوصف العزيز فلأنّ العزيز يناسب عزّته أن يكون غالبا من كلّ طريق فهو غالب من طريق المعبوديّة ، لا يسأل عما يفعل ، وغالب من طريق المعقوليّة إذ شاء أن لا يؤاخذ عبيده إلّا بعد الأدلّة والبراهين والآيات. وتأخير

٣٢٤

وصف الحكيم لأنّ إجراء عزّته على هذا التمام هو أيضا من ضروب الحكمة الباهرة.

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦))

هذا استدراك على معنى أثاره الكلام : لأنّ ما تقدّم من قوله : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ) [النساء : ١٥٣] مسوق مساق بيان تعنّتهم ومكابرتهم عن أن يشهدوا بصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحّة نسبة القرآن إلى الله تعالى ، فكان هذا المعنى يستلزم أنّهم يأبون من الشهادة بصدق الرسول ، وأنّ ذلك يحزن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء الاستدراك بقوله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ). فإنّ الاستدراك تعقيب الكلام برفع ما يتوهّم ثبوته أو نفيه. والمعنى : لم يشهد أهل الكتاب لكن الله شهد وشهادة الله خير من شهادتهم.

وقد مضى عند قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) في سورة البقرة [٢٨٢] ، أنّ حقيقة الشهادة إخبار لتصديق مخبر ، وتكذيب مخبر آخر. وتقدّم أنّها تطلق على الخبر المحقّق الذي لا يتطرّقه الشكّ عند قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في سورة آل عمران [١٨]. فالشهادة في قوله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) أطلقت على الإخبار بنزول القرآن من الله إطلاقا مجازيا ، لأنّ هذا الخبر تضمّن تصديق الرسول وتكذيب معانديه ، وهو إطلاق على وجه الاستعارة من الإطلاق الحقيقي هو غير الإطلاق الذي في قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١٨] فإنّه على طريقة المجاز المرسل. وعطف شهادة الملائكة على شهادة الله : لزيادة تقرير هذه الشهادة بتعدّد الشهود ، ولأنّ شهادة الله مجاز في العلم وشهادة الملائكة حقيقة. وإظهار فعل (يَشْهَدُونَ) مع وجود حرف العطف للتّأكيد. وحرف (لكن) بسكون النون مخفّف لكنّ المشدّدة النون التي هي من أخوات (إنّ) وإذا خفّفت بطل عملها.

وقوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) يجري على الاحتمالين.

وقوله : (بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) وقع تحويل في تركيب الجملة لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل ، ليكون أوقع في النفس. وأصل الكلام : يشهد بإنزال ما أنزله إليك بعلمه ؛ لأنّ قوله : (بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) لم يفد المشهود به إلّا ضمنا مع المشهود فيه إذ جيء باسم الموصول ليوصل بصلة فيها إيماء إلى المقصود ، ومع ذلك لم يذكر المقصود من الشهادة الذي هو حقّ مدخول الباء بعد مادّة شهد ، فتكون جملة (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) مكمّلة معنى الشهادة. وهذا قريب من التحويل الذي يستعمله العرب في تمييز النسبة. وقال

٣٢٥

الزمخشري : «موقع قوله : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) من قوله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) موقع الجملة المفسّرة لأنّه بيان للشهادة وأنّ شهادته بصحّته أنّه أنزله بالنظم المعجز». فلعلّه يجعل جملة (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) مستقلة بالفائدة ، وأنّ معنى (بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) بصحّة ما أنزل إليك ، وما ذكرته أعرق في البلاغة.

ومعنى (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي متلبّسا بعلمه ، أي بالغا الغاية في باب الكتب السماوية ، شأن ما يكون بعلم من الله تعالى ، ومعنى ذلك أنّه معجز لفظا ومعنى ، فكما أعجز البلغاء من أهل اللّسان أعجز العلماء من أهل الحقائق العالية.

والباء في قوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) زائدة للتّأكيد ، وأصله : كفى الله شهيدا كقوله :

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

أو يضمّن (كفى) معنى اقتنعوا ، فتكون الباء للتعدية.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧))

يجوز أن يكون المراد بالذين كفروا هنا أهل الكتاب ، أي اليهود ، فتكون الجملة بمنزلة الفذلكة للكلام السابق الرّادّ على اليهود من التحاور المتقدّم. وصدّهم عن سبيل الله يحتمل أن يكون من صدّ القاصر الذي قياس مضارعه يصدّ ـ بكسر الصاد ـ ، أي أعرضوا عن سبيل الله. أي الإسلام ، أو هو من صدّ المتعدي الذي قياس مضارعه ـ بضمّ الصاد ـ ، أي صدّوا النّاس. وحذف المفعول لقصد التكثير. فقد كان اليهود يتعرّضون للمسلمين بالفتنة ، ويقوون أوهام المشركين بتكذيبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويجوز أن يكون المراد بالذين كفروا المشركين ، كما هو الغالب في إطلاق هذا الوصف في القرآن ، فتكون الجملة استئنافا ابتدائيا ، انتقل إليه بمناسبة الخوض في مناواة أهل الكتاب للإسلام. وصدّهم عن سبيل الله ، أي صدّهم النّاس عن الدخول في الإسلام مشهور.

والضلال الكفر لأنّه ضياع عن الإيمان ، الذي هو طريق الخير والسعادة ، فإطلاق الضلال على الكفر استعارة مبنيّة على استعارة الطريق المستقيم للإيمان. ووصف الضلال بالبعيد مع أنّ البعد من صفات المسافات هو استعارة البعد لشدّة الضلال وكماله في نوعه ، بحيث لا يدرك مقداره ، وهو تشبيه شائع في كلامهم : أن يشبّهوا بلوغ الكمال بما يدلّ على المسافات والنهايات كقولهم : بعيد الغور ، وبعيد القعر ، ولا نهاية له ، ولا غاية له ، ورجل بعيد الهمّة ، وبعيد المرمى ، ولا منتهى لكبارها ، وبحر لا ساحل له ، وقولهم :

٣٢٦

هذا إغراق في كذا.

ومن بديع مناسبته هنا أنّ الضلال الحقيقي يكون في الفيافي والموامي ، فإذا اشتدّ التيه والضلال بعد صاحبه عن المعمور ، فكان في وصفه بالبعيد تعاهد للحقيقة ، وإيماء إلى أنّ في إطلاقه على الكفر والجهل نقلا عرفيا.

[١٦٨ ، ١٦٩] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩))

الجملة بيان لجملة (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) [النساء : ١٦٧] ، لأنّ السامع يترقّب معرفة جزاء هذا الضلال فبيّنته هذه الجملة.

وإعادة الموصول وصلته دون أن يذكر ضميرهم لتبنى عليه صلة (وَظَلَمُوا) ، ولأنّ في تكرير الصّلة تنديدا عليهم. ويجيء على الوجهين في المراد من الذين كفروا في الآية الّتي قبلها أن يكون عطف الظلم على الكفر في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) إمّا أن يراد به ظلم النّفس ، وظلم النبي والمسلمين ، وذلك اللائق بأهل الكتاب ؛ وإمّا أن يراد به الشرك ، كما هو شائع في استعمال القرآن كقوله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، فيكون من عطف الأخصّ على الأعمّ في الأنواع ؛ وإمّا أن يراد به التعدّي على النّاس ، كظلمهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإخراجه من أرضه ، وتأليب النّاس عليه ، وغير ذلك ، وظلمهم المؤمنين بتعذيبهم في الله ، وإخراجهم ، ومصادرتهم في أموالهم ، ومعاملتهم بالنفاق والسخريّة والخداع ؛ وإمّا أن يراد به ارتكاب المفاسد والجرائم ممّا استقرّ عند أهل العقول أنّه ظلم وعدوان.

وقوله : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) صيغة جحود ، وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ) في سورة آل عمران [٧٩] ، فهي تقتضي تحقيق النفي ، وقد نفي عن الله أن يغفر لهم تحذيرا من البقاء على الكفر والظلم ، لأنّ هذا الحكم نيط بالوصف ولم ينط بأشخاص معروفين ، فإن هم أقلعوا عن الكفر والظلم لم يكونوا من الّذين كفروا وظلموا. ومعنى نفي أن يهديهم طريقا : إن كان طريقا يوم القيامة فهو واضح : أي لا يهديهم طريقا بوصلهم إلى مكان إلّا طريقا يوصل إلى جهنّم. ويجوز أن يراد من الطريق الآيات في الدنيا ، كقوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦]. فنفي هديهم إليه إنذار بأنّ الكفر والظلم من شأنهما أن يخيّما على القلب بغشاوة تمنعه من وصول الهدي إليه ، ليحذر المتلبّس بالكفر والظلم من التوغّل فيهما ، فلعلّه أن يصبح ولا

٣٢٧

مخلّص له منهما. ونفي هدى الله إيّاهم على هذا الوجه مجاز عقلي في نفي تيسير أسباب الهدى بحسب قانون حصول الأسباب وحصول آثارها بعدها. وعلى أي الاحتمالين فتوبة الكافر الظالم بالإيمان مقبولة ، وكثيرا ما آمن الكافرون الظالمون وحسن إيمانهم ، وآيات قبول التّوبة ، وكذلك مشاهدة الواقع ، ممّا يهدي إلى تأويل هذه الآية ، وتقدّم نظير هذه الآية قريبا ، أي (الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) [النساء : ١٣٧] الآية.

وقوله : (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) استثناء متّصل إن كان الطريق الذي نفي هديهم إليه الطريق الحقيقي ، ومنقطع إن أريد بالطريق الأوّل الهدى. وفي هذا الاستثناء تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه : لأنّ الكلام مسوق للإنذار ، والاستثناء فيه رائحة إطماع ، ثمّ إذا سمع المستثنى تبيّن أنّه من قبيل الإنذار. وفيه تهكّم لأنّه استثنى من الطريق المعمول (لِيَهْدِيَهُمْ) ، وليس الإقحام بهم في طريق جهنّم بهدي لأنّ الهدي هو إرشاد الضالّ إلى المكان المحبوب.

ولذلك عقّبه بقوله : (وَكانَ ذلِكَ) أي الإقحام بهم في طريق النّار على الله يسيرا إذ لا يعجزه شيء ، وإذ هم عبيده يصرفهم إلى حيث يشاء.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠))

بعد استفراغ الحوار مع أهل الكتاب ، ثمّ خطاب أهل الكفر بما هو صالح لأن يكون شاملا لأهل الكتاب ، وجّه الخطاب إلى النّاس جميعا : ليكون تذييلا وتأكيدا لما سبقه ، إذ قد تهيّأ من القوارع السالفة ما قامت به الحجّة ، واتّسعت المحجّة ، فكان المقام للأمر باتّباع الرسول والإيمان. وكذلك شأن الخطيب إذا تهيّأت الأسماع ، ولانت الطباع. ويسمّى هذا بالمقصد من الخطاب ، وما يتقدّمه بالمقدّمة. على أنّ الخطاب بيا أيّها النّاس يعني خصوص المشركين في الغالب ، وهو المناسب لقوله : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ).

والتعريف في (الرَّسُولُ) للعهد ، وهو المعهود بين ظهرانيهم. (والحقّ) هو الشريعة والقرآن ، و (مِنْ رَبِّكُمْ) متعلّق ب (جاءَكُمُ) ، أو صفة للحقّ ، و (من) للابتداء المجازي فيهما ، وتعدية جاء إلى ضمير المخاطبين ترغيب لهم في الإيمان لأنّ الذي يجيء مهتمّا بناس يكون حقّا عليهم أن يتّبعوه ، وأيضا في طريق الإضافة من قوله (رَبِّكُمْ) ترغيب ثان لما تدلّ عليه من اختصاصهم بهذا الدّين الذي هو آت من ربّهم ، فلذلك أتي بالأمر

٣٢٨

بالإيمان مفرّعا على هاته الجمل بقوله : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ).

وانتصب (خَيْراً) على تعلّقه بمحذوف لازم الحذف في كلامهم لكثرة الاستعمال ، فجرى مجرى الأمثال ، وذلك فيما دلّ على الأمر والنهي من الكلام نحو (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) [النساء : ١٧١] ، ووراءك أوسع لك ، أي تأخّر ، وحسبك خيرا لك ، وقول عمر بن أبي ربيعة :

فواعديه سرحتي مالك

أو الرّبا بينهما. أسهلا

فنصبه ممّا لم يختلف فيه عن العرب ، واتّفق عليه أئمّة النحو ، وإنّما اختلفوا في المحذوف : فجعله الخليل وسيبويه فعلا أمرا مدلولا عليه من سياق الكلام ، تقديره : ايت أو اقصد ، قالا : لأنّك لمّا قلت له : انته ، أو افعل ، أو حسبك ، فأنت تحمله على شيء آخر أفضل له. وقال الفرّاء من الكوفيّين : هو في مثله صفة مصدر محذوف ، وهو لا يتأتّى فيما كان منتصبا بعد نهي ، ولا فيما كان منتصبا بعد غير متصرّف ، نحو : وراءك وحسبك.

وقال الكسائي والكوفيّون : نصب بكان محذوفة مع خبرها ، والتقدير : يكن خيرا. وعندي : أنّه منصوب على الحال من المصدر الذي تضمّنه الفعل ، وحده ، أو مع حرف النهي ، والتقدير : فآمنوا حال كون الإيمان خيرا ، وحسبك حال كون الاكتفاء خيرا ، ولا تفعل كذا حال كون الانتهاء خيرا. وعود الحال إلى مصدر الفعل في مثله كعود الضمير إليه في قوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ، لا سيما وقد جرى هذا مجرى الأمثال ، وشأن الأمثال قوّة الإيجاز. وقد قال بذلك بعض الكوفيين وأبو البقاء.

وقوله (وَإِنْ تَكْفُرُوا) أريد به أن تبقوا على كفركم.

وقوله : (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هو دليل على جواب الشرط ، والجواب محذوف لأنّ التقدير : إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عن إيمانكم لأنّ لله ما في السموات وما في الأرض ، وصرّح بما حذف هنا في سورة الزمر [٧] في قوله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) وفيه تعريض بالمخاطبين ، أي أنّ كفركم لا يفلتكم من عقابه ، لأنّكم عبيده ، لأنّ له ما في السموات وما في الأرض.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ

٣٢٩

لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١))

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ).

استئناف ابتدائي بخطاب موجّه إلى النصارى خاصّة. وخوطبوا بعنوان أهل الكتاب تعريضا بأنّهم خالفوا كتابهم. وقرينة أنّهم المراد هي قوله : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) إلى قوله : (أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) [النساء : ١٧٢] فإنّه بيان للمراد من إجمال قوله : (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) وابتدئت موعظتهم بالنّهي عن الغلوّ لأنّ النّصارى غلوا في تعظيم عيسى ـ فادّعوا له بنوّة الله ، وجعلوه ثالث الآلهة.

والغلوّ : تجاوز الحدّ المألوف ، مشتقّ من غلوة السهم ، وهي منتهى اندفاعه ، واستعير للزيادة على المطلوب من المعقول ، أو المشروع في المعتقدات ، والإدراكات ، والأفعال. والغلوّ في الدّين أن يظهر المتديّن ما يفوت الحدّ الّذي حدّد له الدين. ونهاهم عن الغلوّ لأنّه أصل لكثير من ضلالهم وتكذيبهم للرسل الصّادقين. وغلوّ أهل الكتاب تجاوزهم الحدّ الذي طلبه دينهم منهم : فاليهود طولبوا باتّباع التّوراة ومحبّة رسولهم ، فتجاوزوه إلى بغضة الرسل كعيسى ومحمّد ـ عليهما‌السلام ـ ، والنّصارى طولبوا باتّباع المسيح فتجاوزوا فيه الحدّ إلى دعوى إلهيّته أو كونه ابن الله ، مع الكفر بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) عطف خاصّ على عامّ للاهتمام بالنهي عن الافتراء الشنيع. وفعل القول إذا عدّي بحرف (على) دلّ على أنّ نسبة القائل القول إلى المجرور ب (على) نسبة كاذبة ، قال تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) [آل عمران : ٧٨]. ومعنى القول على الله هنا : أن يقولوا شيئا يزعمون أنّه من دينهم ، فإنّ الدين من شأنه أن يتلقّى من عند الله.

وقوله : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) جملة مبيّنة للحدّ الذي كان الغلوّ عنده ، فإنّه مجمل ؛ ومبيّنة للمراد من قول الحقّ.

ولكونها تتنزّل من الّتي قبلها منزلة البيان فصلت عنها. وقد أفادت الجملة قصر المسيح على صفات ثلاث : صفة الرسالة ، وصفة كونه كلمة الله ألقيت إلى مريم ، وصفة كونه روحا من عند الله. فالقصر قصر موصوف على صفة. والقصد من هذا القصر إبطال ما أحدثه غلوّهم في هذه الصّفات غلوّا أخرجها عن كنهها ؛ فإنّ هذه الصّفات ثابتة

٣٣٠

لعيسى ، وهم مثبتون لها فلا ينكر عليهم وصف عيسى بها ، لكنّهم تجاوزوا الحدّ المحدود لها فجعلوا الرسالة النبوّة ، وجعلوا الكلمة اتّحاد حقيقة الإلهيّة بعيسى في بطن مريم فجعلوا عيسى ابنا لله ومريم صاحبة لله ـ سبحانه ـ ، وجعلوا معنى الروح على ما به تكوّنت حقيقة المسيح في بطن مريم من نفس الإلهية.

والقصر إضافي ، وهو قصر إفراد ، أي عيسى مقصور على صفة الرسالة والكلمة والروح ، لا يتجاوز ذلك إلى ما يزاد على تلك الصّفات من كون المسيح ابنا لله واتّحاد الإلهيّة به وكون مريم صاحبة.

ووصف المسيح بأنّه كلمة الله وصف جاء التّعبير به في الأناجيل ؛ ففي صدر إنجيل يوحنا «في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان عند الله ، وكان الكلمة الله ـ ثم قال ـ والكلمة صار جسدا وحلّ بيننا». وقد حكاه القرآن وأثبته فدلّ على أنّه من الكلمات الإنجيلية ، فمعنى ذلك أنّه أثر كلمة الله. والكلمة هي التكوين ، وهو المعبّر عنه في الاصطلاح ب (كن). فإطلاق الكلمة على التكوين مجاز ، وليس هو بكلمة ، ولكنّه تعلّق القدرة. ووصف عيسى بذلك لأنّه لم يكن لتكوينه التأثير الظاهر المعروف في تكوين الأجنّة ، فكان حدوثه بتعلّق القدرة ، فيكون في (كَلِمَتُهُ) في الآية مجازان : مجاز حذف ، ومجاز استعارة صار حقيقة عرفيّة.

ومعنى (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) أوصلها إلى مريم ، وروعي في الضمير تأنيث لفظ الكلمة ، وإلّا فإنّ المراد منها عيسى ، أو أراد كلمة أمر التكوين. ووصف عيسى بأنّه روح الله وصف وقع في الأناجيل. وقد أقرّه الله هنا ، فهو ممّا نزل حقّا.

ومعنى كون عيسى روحا من الله أنّ روحه من الأرواح الّتي هي عناصر الحياة ، لكنّها نسبت إلى الله لأنّها وصلت إلى مريم بدون تكوّن في نطفة فبهذا امتاز عن بقيّة الأرواح. ووصف بأنّه مبتدأ من جانب الله ، وقيل : لأنّ عيسى لمّا غلبت على نفسه الملكية وصف بأنّه روح ، كأنّ حظوظ الحيوانية مجرّدة عنه. وقيل : الروح النفخة. والعرب تسمّى النفس روحا والنفخ روحا. قال ذو الرمّة يذكر لرفيقه أن يوقد نارا بحطب :

فقلت له ارفعها إليك فأحيها

بروحك واقتته لها قيتة قدرا

(أي بنفخك).

٣٣١

وتلقيب عيسى بالروح طفحت به عبارات الأناجيل. و (من) ابتدائية على التقادير.

فإن قلت : ما حكمة وقوع هذين الوصفين هنا على ما فيهما من شبهة ضلّت بها النّصارى ، وهلّا وصف المسيح في جملة القصر بمثل ما وصف به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ) [الكهف : ١١٠] فكان أصرح في بيان العبوديّة ، وأنفى للضلال.

قلت : الحكمة في ذلك أنّ هذين الوصفين وقعا في كلام الإنجيل ، أو في كلام الحواريّين وصفا لعيسى ـ عليه‌السلام ـ ، وكانا مفهومين في لغة المخاطبين يومئذ ، فلمّا تغيّرت أساليب اللّغات وساء الفهم في إدراك الحقيقة والمجاز تسرّب الضلال إلى النّصارى في سوء وضعهما فأريد التنبيه على ذلك الخطأ في التأويل ، أي أنّ قصارى ما وقع لديكم من كلام الأناجيل هو وصف المسيح بكلمة الله وبروح الله ، وليس في شيء من ذلك ما يؤدّي إلى اعتقاد أنّه ابن الله وأنّه إله.

وتصدير جملة القصر بأنّه (رَسُولُ اللهِ) ينادي على وصف العبوديّة إذ لا يرسل الإله إلها مثله ، ففيه كفاية من التنبيه على معنى الكلمة والروح.

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً).

الفاء للتفريع عن جملة القصر وما بنيت عليه. أي إذا وضح كلّ ما بيّنه الله من وحدانيّته ، وتنزيهه ، وصدق رسله ، يتفرّع أن آمركم بالإيمان بالله ورسله. وأمروا بالإيمان بالله مع كونهم مؤمنين ، أي النصارى ، لأنّهم لمّا وصفوا الله بما لا يليق فقد أفسدوا الإيمان ، وليكون الأمر بالإيمان بالله تمهيدا للأمر بالإيمان برسله ، وهو المقصود ، وهذا هو الظاهر عندي. وأريد بالرسل جميعهم ، أي لا تكفروا بواحد من رسله. وهذا بمنزلة الاحتراس عن أن يتوهّم متوهّمون أن يعرضوا عن الإيمان برسالة عيسى ـ عليه‌السلام ـ مبالغة في نفي الإلهية عنه.

وقوله : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) أي لا تنطقوا بهذه الكلمة ، ولعلّها كانت شعارا للنصارى في دينهم ككلمة الشهادة عند المسلمين ، ومن عوائدهم الإشارة إلى التثليث بالأصابع الثلاثة : الإبهام والخنصر والبنصر. والمقصود من الآية النهي عن النطق بالمشتهر

٣٣٢

من مدلول هذه الكلمة وعن الاعتقاد. لأنّ أصل الكلام الصدق فلا ينطق أحد إلّا عن اعتقاد ، فالنهي هنا كناية بإرادة المعنى ولازمه. والمخاطب بقوله : (وَلا تَقُولُوا) خصوص النّصارى.

و (ثَلاثَةٌ) خبر مبتدأ محذوف كان حذفه ليصلح لكلّ ما يصلح تقديره من مذاهبهم من التثليث ، فإنّ النصارى اضطربوا في حقيقة تثليث الإله كما سيأتي ، فيقدر المبتدأ المحذوف على حسب ما يقتضيه المردود من أقوالهم في كيفية التثليث ممّا يصحّ الإخبار عنه بلفظ (ثَلاثَةٌ) من الأسماء الدّالة على الإله ، وهي عدّة أسماء. ففي الآية الأخرى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٣]. وفي آية آخر هذه السورة (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] ، أي إلهين مع الله ، كما سيأتي ، فالمجموع ثلاثة : كلّ واحد منهم إله ؛ ولكنّهم يقولون : أنّ مجموع الثلاثة إله واحد أو اتّحدت الثلاثة فصار إله واحد. قال في «الكشّاف» : (ثلاثة) خبر مبتدأ محذوف فإن صحّت الحكاية عنهم أنّهم يقولون : هو جوهر واحد وثلاثة أقانيم ، فتقديره الله ثلاثة وإلّا فتقديره الآلهة ثلاثة ا ه.

والتثليث أصل في عقيدة النصارى كلّهم ، ولكنّهم مختلفون في كيفيته. ونشأ من اعتقاد قدماء الإلهيّين من نصارى اليونان أنّ الله تعالى (ثالوث) ، أي أنّه جوهر واحد ، وهذا الجوهر مجموع ثلاثة أقانيم ، واحدها أقنوم ـ بضم الهمزة وسكون القاف ـ. قال في «القاموس» : هو كلمة رومية ، وفسّره القاموس بالأصل ، وفسّره التفتازانيّ في كتاب «المقاصد» بالصفة. ويظهر أنّه معرّب كلمة (قنوم بقاف معقد عجمي) وهو الاسم ، أي (الكلمة). وعبّروا عن مجموع الأقانيم الثلاثة بعبارة (آبا ـ ابنا ـ روحا قدسا) وهذه الأقانيم يتفرّع بعضها عن بعض : فالأقنوم الأول أقنوم الذات أو ـ الوجود القديم وهو الأب وهو أصل الموجودات.

والأقنوم الثاني أقنوم العلم ، وهو الابن ، وهو دون الأقنوم الأول ، ومنه كان تدبير جميع القوى العقلية.

والأقنوم الثالث أقنوم الروح القدس ، وهو صفة الحياة ، وهي دون أقنوم العلم ومنها كان إيجاد عالم المحسوسات.

وقد أهملوا ذكر صفات تقتضيها الإلهية ، مثل القدم والبقاء ، وتركوا صفة الكلام والقدرة والإرادة ، ثمّ أرادوا أن يتأوّلوا ما يقع في الإنجيل من صفات الله فسمّوا أقنوم

٣٣٣

الذات بالأب ، وأقنوم العلم بالابن ، وأقنوم الحياة بالروح القدس ، لأنّ الإنجيل أطلق اسم الأب على الله ، وأطلق اسم الابن على المسيح رسوله ، وأطلق الروح القدس على ما به كوّن المسيح في بطن مريم ، على أنّهم أرادوا أن ينبّهوا على أنّ أقنوم الوجود هو مفيض الأقنومين الآخرين فراموا أن يدلّوا على عدم تأخّر بعض الصّفات عن بعض فعبّروا بالأب والابن ، (كما عبّر الفلاسفة اليونان بالتولّد). وسمّوا أقنوم العلم بالكلمة لأنّ من عبارات الإنجيل إطلاق الكلمة على المسيح ، فأرادوا أنّ المسيح مظهر علم الله ، أي أنّه يعلم ما علمه الله ويبلّغه ، وهو معنى الرسالة إذ كان العلم يوم تدوين الأناجيل مكلّلا بالألفاظ الاصطلاحية للحكمة الإلهية الروميّة ، فلمّا اشتبهت عليهم المعاني أخذوا بالظواهر فاعتقدوا أنّ الأرباب ثلاثة وهذا أصل النصرانيّة ، وقاربوا عقيدة الشرك.

ثمّ جرّهم الغلوّ في تقديس المسيح فتوهّموا أنّ علم الله اتّحد بالمسيح ، فقالوا : إنّ المسيح صار ناسوته لاهوتا ، باتّحاد أقنوم العلم به ، فالمسيح جوهران وأقنوم واحد ، ثمّ نشأت فيهم عقيدة الحلول ، أي حلول الله في المسيح بعبارات متنوّعة ، ثمّ اعتقدوا اتّحاد الله بالمسيح ، فقالوا : الله هو المسيح. هذا أصل التثليث عند النّصارى ، وعنه تفرّعت مذاهب ثلاثة أشار إلى جميعها قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) ـ وقوله ـ (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [المائدة : ٧٢] وقوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] وكانوا يقولون : في عيسى لاهوتية من جهة الأب وناسوتيّة ـ أي إنسانية ـ من جهة الأمّ.

وظهر بالإسكندرية راهب اسمه (آريوس) قالوا بالتوحيد وأنّ عيسى عبد الله مخلوق ، وكان في زمن (قسطنطينوس سلطان الرّون باني القسطنطينية). فلمّا تديّن قسطنطينوس المذكور بالنصرانية سنة ٣٢٧ تبع مقالة (آريوس) ، ثمّ رأى مخالفة معظم الرهبان له فأراد أن يوحّد كلمتهم ، فجمع مجمعا من علماء النصارى في أواخر القرن الرابع من التّاريخ المسيحي ، وكان في هذا المجمع نحو ألفي عالم من النصارى فوجدهم مختلفين اختلافا كثيرا ووجد أكثر طائفة منهم على قول واحد ثلاثمائة وبضعة عشر عالما فأخذ قولهم وجعله أصل المسيحيّة ونصره ، وهذه الطائفة تلقّب (الملكانيّة) نسبة للملك.

واتّفق قولهم على أنّ كلمة الله اتّحدت بجسد عيسى ، وتقمّصت في ناسوته ، أي إنسانيته ، ومازجته امتزاج الخمر بالماء ، فصارت الكلمة ذاتا في بطن مريم ، وصارت تلك الذات ابنا لله تعالى ، فالإله مجموع ثلاثة أشياء :

٣٣٤

الأوّل الأب ذو الوجود ، والثاني الابن ذو الكلمة ، أي العلم ، والثالث روح القدس.

ثمّ حدثت فيهم فرقة اليعقوبية وفرقة النّسطوريّة (١) في مجامع أخرى انعقدت بين الرهبان. فاليعقوبيّة ، ويسمّون الآن (أرثودكس) ، ظهروا في أواسط القرن السادس المسيحي ، وهم أسبق من النسطورية ؛ قالوا : انقلبت الإلهية لحما ودما ؛ فصار الإله هو المسيح فلأجل ذلك صدرت عن المسيح خوارق العادات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فأشبه صنعه صنع الله تعالى ممّا يعجز عنه غير الله تعالى. وكان نصارى الحبشة يعاقبه ، وسنتعرّض لذكرها عند قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) في سورة المائدة [٧٢] ، وعند قوله تعالى : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) [مريم : ٣٧].

والنّسطوريّة قالت : اتّحدت الكلمة بجسد المسيح بطريق الإشراق كما تشرق الشّمس من كوة من بلّور ، فالمسح إنسان ، وهو كلمة الله ، فلذلك هو إنسان إله ، أو هو له ذاتيتان ذات إنسانيّة وأخرى إلهيّة ، وقد أطلق على الرئيس الديني لهذه النّحلة لقب (جاثليق). وكانت النحلة النسطورية غالبة على نصارى العرب. وكان رهبان اليعاقبة ورهبان النسطوريين يتسابقون لبث كلّ فريق نحلته بين قبائل العرب. وكان الأكاسرة حماة للنسطورية. وقياصرة الرّوم حماة لليعقوبية. وقد شاعت النّصرانيّة بنحلتيها في بكر ، وتغلب ، وربيعة ، ولخم ، وجذام ، وتنوخ ، وكلب ، ونجران ، واليمن ، والبحرين. وقد بسطت هذا ليعلم حسن الإيجاز في قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) وإتيانه على هذه المذاهب كلّها. فلله هذا الإعجاز العلمي.

والقول في نصب (خيرا) من قوله : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) كالقول في قوله تعالى : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) [النساء : ١٧٠]. والقصر في قوله : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) قصر موصوف

__________________

(١) اليعقوبية منسوبة إلى راهب اسمه يعقوب البرذعاني ، كان راهبا بالقسطنطينية. والنسطورية نسبة إلى نسطور الحكيم ، راهب ظهر في زمن الخليفة المأمون وشرح الأناجيل ، كذا قال الشهرستاني في كتاب «الملل والنحل» ، والظاهر أنّه من اشتباه الأسماء في أخبار هذه النحلة. والذي يقوله مؤرخو الكنيسة أنّ نحلة النسطورية موجودة من أوائل القرن الخامس من التاريخ المسيحي وأنّ مؤسسها هو البطريق نسطوريوس ، بطريق القسطنطينية السوري ، المولود في حدود سنة ٣٨٠ مسيحية والمتوفّى في برقة في حدود سنة ٤٤٠. وهاتان النحلتان تعتبران عند الملكانية مبتدعين.

٣٣٥

على صفة ، لأنّ (إنّما) يليها المقصور ، وهو هنا قصر إضافي ، أي ليس الله بثلاثة.

وقوله : (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) إظهار لغلطهم في أفهامهم ، وفي إطلاقاتهم لفظ الأب والابن كيفما كان محملهما لأنّهما إمّا ضلالة وإمّا إيهامها ، فكلمة (سبحانه) تفيد قوة التنزيه لله تعالى عن أن يكون له ولد ، والدلالة على غلط مثبتيه ، فإنّ الإلهية تنافي الكون أبا واتّخاذ ابن ، لاستحالة الفناء ، والاحتياج ، والانفصال ، والمماثلة للمخلوقات عن الله تعالى. والبنوّة تستلزم ثبوت هذه المستحيلات لأنّ النسل قانون كوني للموجودات لحكمة استبقاء النوع ، والناس يتطلّبونها لذلك ، وللإعانة على لوازم الحياة ، وفيها انفصال المولود عن أبيه ، وفيها أنّ الابن مماثلة لأبيه فأبوه مماثل له لا محالة.

و (سبحان) اسم مصدر سبّح ، وليس مصدرا ، لأنّه لم يسمع له فعل سالم. وجزم ابن جني بأنّه علم على التسبيح ، فهو من أعلام الأجناس ، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والزيادة. وتقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) في سورة البقرة [٣٢].

وقوله : (أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) متعلّق ب (سبحان) حرف الجرّ ، وهو حرف (عن) محذوفا.

وجملة (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تعليل لقوله : (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) لأنّ الذي له ما في السموات وما في الأرض قد استغنى عن الولد ، ولأنّ من يزعم أنّه ولد له هو ممّا في السماوات والأرض كالملائكة أو المسيح ، فالكلّ عبيده وليس الابن بعبد.

وقوله : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) تذييل ، والوكيل الحافظ ، والمراد هنا حافظ ما في السماوات والأرض ، أي الموجودات كلّها. وحذف مفعول (كفى) للعموم ، أي كفى كلّ أحد ، أي فتوكّلوا عليه ، ولا تتوكّلوا على من تزعمونه ابنا له. وتقدّم الكلام على هذا التركيب عند قوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) في هذه السورة.

[١٧٢ ، ١٧٣] (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣))

٣٣٦

استئناف واقع موقع تحقيق جملة (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [النساء : ١٧١] أو موقع الاستدلال على ما تضمّنته جملة (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) [النساء : ١٧١].

والاستنكاف : التكبّر والامتناع بأنفة ، فهو أشد من الاستكبار ، ونفي استنكاف المسيح : إمّا إخبار عن اعتراف عيسى بأنّه عبد الله ، وإمّا احتجاج على النّصارى بما يوجد في أناجيلهم. قال الله تعالى حكاية عنه (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) [مريم : ٣٠] إلخ. وفي نصوص الإنجيل كثير ممّا يدلّ على أنّ المسيح عبد الله وأنّ الله إلهه وربّه ، كما في مجادلته مع إبليس ، فقد قال له المسيح «للربّ إلهك تسجد وإيّاه وحده تعبد».

وعدل عن طريق الإضافة في قوله : (عَبْداً لِلَّهِ) فأظهر الحرف الّذي تقدّر الإضافة عليه : لأنّ التنكير هنا أظهر في العبودية ، أي عبدا من جملة العبيد ، ولو قال : عبد الله لأوهمت الإضافة أنّه العبد الخصّيص ، أو أنّ ذلك علم له. وأمّا ما حكى الله عن عيسى ـ عليه‌السلام ـ في قوله (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) [مريم : ٣٠] فلأنّه لم يكن في مقام خطاب من ادّعوا له الإلهية.

وعطف الملائكة على المسيح مع أنّه لم يتقدّم ذكر لمزاعم المشركين بأنّ الملائكة بنات الله حتّى يتعرّض لردّ ذلك ، إدماج لقصد استقصاء كلّ من ادعيت له بنوة الله ، ليشمله الخبر بنفي استنكافه عن أن يكون عبدا لله ، إذ قد تقدّم قبله قوله : (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) [النساء : ١٧١] ، وقد قالت العرب : إنّ الملائكة بنات الله من نساء الجنّ ، ولأنّه قد تقدّم أيضا قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [النساء : ١٧١] ، ومن أفضل ما في السماوات الملائكة ، فذكروا هنا للدلالة على اعترافهم بالعبوديّة. وإن جعلت قوله : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) استدلالا على ما تضمّنه قوله : (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) [النساء : ١٧١] كان عطف (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) محتملا للتتميم كقوله : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة : ٣] فلا دلالة فيه على تفضيل الملائكة على المسيح ، ولا على العكس ؛ ومحتملا للترقّي إلى ما هو الأولى بعكس الحكم في أوهام المخاطبين ، وإلى هذا الأخير مال صاحب «الكشّاف» ومثله بقوله تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة : ١٢٠] وجعل ، الآية دليلا على أنّ الملائكة أفضل من المسيح ، وهو قول المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء ، وزعم أنّ علم المعاني لا يقتضي غير ذلك ، وهو تضييق لواسع ، فإنّ الكلام محتمل لوجوه ، كما علمت ، فلا ينهض به الاستدلال.

واعلم أنّ تفضيل الأنبياء على الملائكة مطلقا هو قول جمهور أهل السنّة ، وتفضيل

٣٣٧

الملائكة عليهم قول جمهور المعتزلة والباقلّاني والحليمي من أهل السنّة ، وقال قوم بالتفصيل في التفضيل ، ونسب إلى بعض الماتريدية ، ولم يضبط ذلك التفصيل ، والمسألة اجتهادية ، ولا طائل وراء الخوض فيها ، وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخوض في تفاضل الأنبياء ، فما ظنّك بالخوض في التفاضل بين الأنبياء وبين مخلوقات عالم آخر لا صلة لنا به.

و (الْمُقَرَّبُونَ) ، يحتمل أن يكون وصفا كاشفا ، وأن يكون مقيّدا ، فيراد بهم الملقّبون (بالكروبيين) وهم سادة الملائكة : جبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل. ووصفهم بالكروبيين وصف قديم وقع في بيت نسب إلى أميّة بن أبي الصلت. وقد قالوا : إنّه وصف مشتقّ من كرب مرادف قرب ، وزيد فيه صيغتا مبالغة ، وهي زنة فعول وياء النسب. والّذي أظنّ أنّ هذا اللّفظ نقل إلى العربيّة من العبرانيّة : لوقوع هذا اللّفظ في التّوراة في سفر اللاويين وفي سفر الخروج ، وأنّه في العبرانيّة بمعنى القرب ، فلذلك عدل عنه القرآن وجاء بمرادفه الفصيح فقال : (الْمُقَرَّبُونَ) ، وعليه فمن دونهم من الملائكة يثبت لهم عدم الاستنكاف عن العبوديّة لله بدلالة الأحرى.

وقوله : (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ) الآية تخلّص إلى تهديد المشركين كما أنبأ عنه قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

وضمير الجمع في قوله : (فَسَيَحْشُرُهُمْ) عائد إلى غير مذكور في الكلام ، بل إلى معلوم من المقام ، أي فسيحشر النّاس إليه جميعا كما دلّ عليه التفصيل المفرّع عليه وهو قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إلخ. وضمير (وَلا يَجِدُونَ) عائد إلى (الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا) ، أي لا يجدون وليّا حين يحشر الله النّاس جميعا. ويجوز أن يعود إلى الّذين (اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا) ويكون (جَمِيعاً) بمعنى مجموعين إلى غيرهم ، منصوبا ، فإنّ لفظ جميع له استعمالات جمّة : منها أن يكون وصفا بمعنى المجتمع ، وفي كلام عمر للعبّاس وعليّ : «ثم جئتماني وأمركما جميع» أي متّفق مجموع ، فيكون منصوبا على الحال وليس تأكيدا. وذكر فريق المؤمنين في التفصيل يدلّ على أحد التقديرين.

والتوفية أصلها إعطاء الشيء وافيا ، أي زائدا على المقدار المطلوب ، ولمّا كان تحقّق المساواة يخفى لقلّة الموازين عندهم ، ولاعتمادهم على الكيل ، جعلوا تحقّق المساواة بمقدار فيه فضل على المقدار المساوي ، أطلقت التوفية على إعطاء المعادل ؛

٣٣٨

وتقابل بالخسار وبالغبن ، قال تعالى حكاية عن شعيب (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) [الشعراء : ١٨١] ولذلك قال هنا : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) ، وهذه التوفية والزيادة يرجعان إلى تقدير يعلمه الله تعالى.

وقوله : (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) تأييس لهم إذ قد عرف عند العرب وغيرهم ، من أمم ذلك العصر ، الاعتماد عند الضيق على الأولياء والنصراء ليكفّوا عنهم المصائب بالقتال أو الفداء ، قال النابغة :

يأملن رحلة نصر وابن سيّار

ولذلك كثر في القرآن نفي الوليّ ، والنصير ، والفداء ـ (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [آل عمران : ٩١].

[١٧٤ ، ١٧٥] (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥))

فذلكة للكلام السابق بما هو جامع للأخذ بالهدى ونبذ الضلال ، بما اشتمل عليه القرآن من دلائل الحقّ وكبح الباطل. فالجملة استئناف وإقبال على خطاب النّاس كلّهم بعد أن كان الخطاب موجّها إلى أهل الكتاب خاصّة. والبرهان : الحجّة ، وقد يخصّص بالحجّة الواضحة الفاصلة ، وهو غالب ما يقصد به في القرآن ، ولهذا سمّى حكماء الإسلام أجلّ أنواع الدليل ، برهانا.

والمراد هنا دلائل النبوءة. وأمّا النور المبين فهو القرآن لقوله : (وَأَنْزَلْنا) والقول في (جاءَكُمْ) كالقول في نظيره المتقدّم في قوله : (قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) [النساء : ١٧٠] ؛ وكذلك القول في (أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ).

و (أمّا) في قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ) يجوز أن يكون للتفصيل : تفصيلا لما دلّ عليه (يا أَيُّهَا النَّاسُ) من اختلاف الفرق والنزعات : بين قابل للبرهان والنّور ، ومكابر جاحد ، ويكون معادل هذا الشقّ محذوفا للتهويل ، أي : وأمّا الذين كفروا فلا تسل عنهم ، ويجوز أن يكون (أمّا) لمجرد الشرط دون تفصيل ، وهو شرط لعموم الأحوال ، لأنّ (أمّا) في الشرط بمعنى (مهما يكن من شيء) وفي هذه الحالة لا تفيد التفصيل ولا تطلب

٣٣٩

معادلا.

والاعتصام : اللوذ ، والاعتصام بالله استعارة للوذ بدينه ، وتقدّم في قوله (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) في سورة آل عمران [١٠٣]. والإدخال في الرحمة والفضل عبارة عن الرضى.

وقوله : (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) : تعلّق الجار والمجرور ب (يهدي) فهو ظرف لغو ، و (صِراطاً) مفعول (يهدي) ، والمعنى يهديهم صراطا مستقيما ليصلوا إليه ، أي إلى الله ، وذلك هو متمنّاهم ، إذ قد علموا أنّ وعدهم عنده.

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))

لا مناسبة بين هذه الآية وبين اللّاتي قبلها ، فوقوعها عقبها لا يكون إلّا لأجل نزولها عقب نزول ما تقدّمها من هذه السورة مع مناسبتها لآية الكلالة السابقة في أثناء ذكر الفرائض ؛ لأنّ في هذه الآية بيانا لحقيقة الكلالة أشار إليه قوله تعالى : (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ، وقد تقدّم في أوّل السورة أنّه ألحق بالكلالة المالك الّذي ليس له والد ، وهو قول الجمهور ومالك بن أنس.

فحكم الكلالة قد بيّن بعضه في آية أول هذه السورة ، ثمّ إنّ النّاس سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صورة أخرى من صور الكلالة. وثبت في الصحيح أنّ الّذي سأله هو جابر بن عبد الله قال : عادني رسول الله وأبو بكر ماشيين في بني سلمة فوجداني مغمى عليّ فتوضّأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصبّ عليّ وضوءه فأفقت وقلت : كيف أصنع في مالي فإنّما يرثني كلالة. فنزل قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) الآية. وقد قيل : إنّها نزلت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متجهّز لحجّة الوداع في قضية جابر بن عبد الله.

فضمير الجماعة في قوله : (يَسْتَفْتُونَكَ) غير مقصود به جمع ، بل أريد به جنس السائلين ، على نحو : «ما بال أقوام يشترطون شروطا» وهذا كثير في الكلام. ويجوز أن يكون السؤال قد تكرّر وكان آخر السائلين جابر بن عبد الله فتأخّر الجواب لمن سأل قبله ، وعجّل البيان له لأنّه وقت الحاجة لأنّه كان يظنّ نفسه ميّتا من ذلك المرض وأراد أن

٣٤٠