تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٤ ـ سورة النساء

سمّيت هذه السورة في كلام السلف سورة النّساء ؛ ففي «صحيح البخاري» عن عائشة قالت : «ما نزلت سورة البقرة وسورة النّساء إلّا وأنا عنده». وكذلك سمّيت في المصاحف وفي كتب السنّة وكتب التفسير ، ولا يعرف لها اسم آخر ، لكن يؤخذ ممّا روي في «صحيح البخاري» عن ابن مسعود من قوله : «لنزلت سورة النساء القصرى» يعنى سورة الطلاق ـ أنّها شاركت هذه السورة في التسمية بسورة النساء ، وأنّ هذه السورة تميّز عن سورة الطلاق باسم سورة النّساء الطّولى ، ولم أقف عليه صريحا. ووقع في كتاب «بصائر ذوي التمييز» للفيروزآبادي أنّ هذه السورة تسمّى سورة النساء الكبرى ، واسم سورة الطلاق سورة النساء الصغرى. ولم أره لغيره (١).

ووجه تسميتها بإضافة إلى النساء أنّها افتتحت بأحكام صلة الرحم ، ثم بأحكام تخصّ النّساء ، وأنّ فيها أحكاما كثيرة من أحكام النساء : الأزواج ، والبنات ، وختمت بأحكام تخصّ النساء.

وكان ابتداء نزولها بالمدينة ، لما صحّ عن عائشة أنّها قالت : ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلّا وأنا عنده. وقد علم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى بعائشة في المدينة في شوال ، لثمان أشهر خلت من الهجرة ، واتّفق العلماء على أنّ سورة النساء نزلت بعد البقرة ، فتعيّن أن يكون نزولها متأخّرا عن الهجرة بمدّة طويلة. والجمهور قالوا : نزلت بعد آل عمران ، ومعلوم أنّ آل عمران نزلت في خلال سنة ثلاث أي بعد وقعة أحد ، فيتعيّن أن تكون سورة النساء نزلت بعدها. وعن ابن عباس : أنّ أول ما نزل بالمدينة سورة البقرة ، ثم الأنفال ثم

__________________

(١) صفحة ١٦٩ جزء ١ مطابع شركة الإعلانات الشرقية بالقاهرة سنة ١٣٨٤.

٥

آل عمران ، ثم سورة الأحزاب ، ثم الممتحنة ، ثم النساء ، فإذا كان كذلك تكون سورة النساء نازلة بعد وقعة الأحزاب التي هي في أواخر سنة أربع أو أوّل سنة خمس من الهجرة ، وبعد صلح الحديبية الذي هو في سنة ستّ حيث تضمّنت سورة الممتحنة شرط إرجاع من يأتي المشركين هاربا إلى المسلمين عدا النساء ، وهي آية : (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) [الممتحنة : ١٠] الآية. وقد قيل : إنّ آية : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٢] نزلت في رجل من غطفان له ابن أخ له يتيم ، وغطفان أسلموا بعد وقعة الأحزاب ، إذ هم من جملة الأحزاب ، أي بعد سنة خمس. ومن العلماء من قال : نزلت سورة النساء عند الهجرة. وهو بعيد. وأغرب منه من قال : إنّها نزلت بمكّة لأنّها افتتحت بيا أيّها الناس ، وما كان فيه يا أيها النّاس فهو مكّي ، ولعلّه يعني أنّها نزلت بمكّة أيام الفتح لا قبل الهجرة لأنّهم يطلقون المكّي بإطلاقين. وقال بعضهم : نزل صدرها بمكّة وسائرها بالمدينة. والحقّ أنّ الخطاب بيا أيّها الناس لا يدلّ إلّا على إرادة دخول أهل مكّة في الخطاب ، ولا يلزم أن يكون ذلك بمكّة ، ولا قبل الهجرة ، فإنّ كثيرا ممّا فيه يا أيها الناس مدني بالاتّفاق. ولا شكّ في أنّها نزلت بعد آل عمران لأنّ في سورة النساء من تفاصيل الأحكام ما شأنه أن يكون بعد استقرار المسلمين بالمدينة ، وانتظام أحوالهم وأمنهم من أعدائهم. وفيها آية التيمّم ، والتيمّم شرع يوم غزاة المريسيع سنة خمس ، وقيل : سنة ستّ. فالذي يظهر أنّ نزول سورة النساء كان في حدود سنة سبع وطالت مدّة نزولها ، ويؤيّد ذلك أنّ كثيرا من الأحكام التي جاءت فيها مفصّلة تقدّمت مجملة في سورة البقرة من أحكام الأيتام والنساء والمواريث ، فمعظم ما في سورة النساء شرائع تفصيلية في معظم نواحي حياة المسلمين الاجتماعية من نظم الأموال والمعاشرة والحكم وغير ذلك ، على أنّه قد قيل : إنّ آخر آية منها ، وهي آية الكلالة ، هي آخر آية نزلت من القرآن ، على أنّه يجوز أن يكون بين نزول سائر سورة النساء وبين نزول آية الكلالة ، التي في آخرها مدّة طويلة ، وأنّه لمّا نزلت آية الكلالة الأخيرة أمروا بإلحاقها بسورة النساء التي فيها الآية الأولى. ووردت في السنّة تسمية آية الكلالة الأولى آية الشتاء ، وآية الكلالة الأخيرة آية الصيف. ويتعيّن ابتداء نزولها قبل فتح مكّة لقوله تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) [النساء : ٧٥] يعني مكّة. وفيها آية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨] نزلت يوم فتح مكّة في قصة عثمان بن طلحة الشيبي ، صاحب مفتاح الكعبة ، وليس فيها جدال مع المشركين سوى تحقير دينهم ، نحو قوله : «ومن يشرك بالله فقد افترى إثما

٦

عظيما ـ فقد ضلّ ضلالا بعيدا» إلخ ، وسوى التهديد بالقتال ، وقطع معذرة المتقاعدين عن الهجرة ، وتوهين بأسهم عن المسلمين ، ممّا يدلّ على أنّ أمر المشركين قد صار إلى وهن ، وصار المسلمون في قوة عليهم ، وأنّ معظمها ، بعد التشريع ، جدال كثير مع اليهود وتشويه لأحوال المنافقين ، وجدال مع النصارى ليس بكثير ، ولكنّه أوسع ممّا في سورة آل عمران ، ممّا يدلّ على أنّ مخالطة المسلمين للنصارى أخذت تظهر بسبب تفشّي الإسلام في تخوم الحجاز الشامية لفتح معظم الحجاز وتهامة.

وقد عدّت الثالثة والتسعين من السور. نزلت بعد سورة الممتحنة وقبل سورة : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) [الزلزلة : ١].

وعدد آيها مائة وخمس وسبعون في عدد أهل المدينة ومكّة والبصرة ، ومائة وست وسبعون في عدد أهل الكوفة ، ومائة وسبع وسبعون في عدد أهل الشام.

وقد اشتملت على أغراض وأحكام كثيرة أكثرها تشريع معاملات الأقرباء وحقوقهم ، فكانت فاتحتها مناسبة لذلك بالتذكير بنعمة خلق الله ، وأنّهم محقوقون بأن يشكروا ربّهم على ذلك ، وأن يراعوا حقوق النوع الذي خلقوا منه ، بأن يصلوا أرحامهم القريبة والبعيدة ، وبالرفق بضعفاء النوع من اليتامى ، ويراعوا حقوق صنف النساء من نوعهم بإقامة العدل في معاملاتهنّ ، والإشارة إلى عقود النكاح والصداق ، وشرع قوانين المعاملة مع النساء في حالتي الاستقامة والانحراف من كلا الزوجين ، ومعاشرتهنّ والمصالحة معهنّ ، وبيان ما يحلّ للتزوّج منهنّ ، والمحرّمات بالقرابة أو الصهر ، وأحكام الجواري بملك اليمين. وكذلك حقوق مصير المال إلى القرابة ، وتقسيم ذلك ، وحقوق حفظ اليتامى في أموالهم وحفظها لهم والوصاية عليهم.

ثم أحكام المعاملات بين جماعة المسلمين في الأموال والدماء وأحكام القتل عمدا وخطأ ، وتأصيل الحكم الشرعي بين المسلمين في الحقوق والدفاع عن المعتدى عليه ، والأمر بإقامة العدل بدون مصانعة ، والتحذير من اتّباع الهوى ، والأمر بالبرّ ، والمواساة ، وأداء الأمانات ، والتمهيد لتحريم شرب الخمر.

وطائفة من أحكام الصلاة ، والطهارة ، وصلاة الخوف. ثم أحوال اليهود ، لكثرتهم بالمدينة ، وأحوال المنافقين وفضائحهم ، وأحكام الجهاد لدفع شوكة المشركين. وأحكام معاملة المشركين ومساويهم ، ووجوب هجرة المؤمنين من مكّة ، وإبطال مآثر الجاهلية.

٧

وقد تخلّل ذلك مواعظ ، وترغيب ، ونهي عن الحسد ، وعن تمنّي ما للغير من المزايا التي حرم منها من حرم بحكم الشرع ، أو بحكم الفطرة. والترغيب في التوسّط في الخير والإصلاح. وبثّ المحبّة بين المسلمين.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً).

جاء الخطاب بيا أيّها الناس : ليشمل جميع أمّة الدعوة الذين يسمعون القرآن يومئذ وفيما يأتي من الزمان. فضمير الخطاب في قوله : (خَلَقَكُمْ) عائد إلى الناس المخاطبين بالقرآن ، أي لئلّا يختصّ بالمؤمنين ، ـ إذ غير المؤمنين حينئذ هم كفّار العرب ـ وهم الذين تلقّوا دعوة الإسلام قبل جميع البشر لأنّ الخطاب جاء بلغتهم ، وهم المأمورون بالتبليغ لبقية الأمم ، وقد كتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتبه للروم وفارس ومصر بالعربية لتترجم لهم بلغاتهم. فلمّا كان ما بعد هذا النداء جامعا لما يؤمر به الناس بين مؤمن وكافر ، نودي جميع الناس ، فدعاهم الله إلى التذكّر بأنّ أصلهم واحد ، إذ قال : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) دعوة تظهر فيها المناسبة بين وحدة النوع ووحدة الاعتقاد ، فالمقصود من التقوى في (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) اتّقاء غضبه ، ومراعاة حقوقه ، وذلك حقّ توحيده والاعتراف له بصفات الكمال ، وتنزيهه عن الشركاء في الوجود والأفعال والصفات.

وفي هذه الصلة براعة استهلال مناسبة لما اشتملت عليه السورة من الأغراض الأصلية ، فكانت بمنزلة الديباجة.

وعبّر ب (ربّكم) ، دون الاسم العلم ، لأنّ في معنى الربّ ما يبعث العباد على الحرص في الإيمان بوحدانيته ، إذ الربّ هو المالك الذي يربّ مملوكه أي ، يدبّر شئونه ، وليتأتّى بذكر لفظ (الربّ) طريق الإضافة الدالّة على أنّهم محقوقون بتقواه حقّ التقوى ، والدالّة على أنّ بين الربّ والمخاطبين صلة تعدّ إضاعتها حماقة وضلالا. وأمّا التقوى في قوله:(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) فالمقصد الأهمّ منها : تقوى المؤمنين بالحذر من التساهل في حقوق الأرحام واليتامى من النساء والرجال. ثم جاء باسم الموصول (الَّذِي خَلَقَكُمْ) للإيماء إلى وجه بناء الخبر لأنّ الذي خلق الإنسان حقيق بأن يتّقى.

٨

ووصل (خَلَقَكُمْ) بصلة (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) إدماج للتنبيه على عجيب هذا الخلق وحقّه بالاعتبار. وفي الآية تلويح للمشركين بأحقّيّة اتّباعهم دعوة الإسلام ، لأنّ الناس أبناء أب واحد ، وهذا الدين يدعو الناس كلّهم إلى متابعته ولم يخصّ أمّة من الأمم أو نسبا من الأنساب ، فهو جدير بأن يكون دين جميع البشر ، بخلاف بقية الشرائع فهي مصرّحة باختصاصها بأمم معيّنة. وفي الآية تعريض للمشركين بأنّ أولى الناس بأن يتّبعوه هو محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّه من ذوي رحمهم. وفي الآية تمهيد لما سيبيّن في هذه السورة من الأحكام المرتّبة على النسب والقرابة.

والنفس الواحدة : هي آدم. والزوج : حوّاء ، فإنّ حوّاء أخرجت من آدم. من ضلعه، كما يقتضيه ظاهر قوله : (مِنْها).

و (من) تبعيضية. ومعنى التبعيض أنّ حوّاء خلقت من جزء من آدم. قيل : من بقية الطينة التي خلق منها آدم. وقيل : فصلت قطعة من ضلعه وهو ظاهر الحديث الوارد في «الصحيحين».

ومن قال : إنّ المعنى وخلق زوجها من نوعها لم يأت بطائل ، لأنّ ذلك لا يختصّ بنوع الإنسان فإنّ أنثى كلّ نوع هي من نوعه.

وعطف قوله : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) على (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ، فهو صلة ثانية. وقوله : (وَبَثَّ مِنْهُما) صلة ثالثة لأنّ الذي يخلق هذا الخلق العجيب جدير بأن يتّقى ، ولأنّ في معاني هذه الصلات زيادة تحقيق اتّصال الناس بعضهم ببعض ، إذ الكلّ من أصل واحد ، وإن كان خلقهم ما حصل إلّا من زوجين فكلّ أصل من أصولهم ينتمي إلى أصل فوقه.

وقد حصل من ذكر هذه الصلات تفصيل لكيفية خلق الله الناس من نفس واحدة. وجاء الكلام على هذا النظم توفية بمقتضى الحال الداعي للإتيان باسم الموصول ، ومقتضى الحال الداعي لتفصيل حالة الخلق العجيب. ولو غير هذا الأسلوب فجيء بالصورة المفصّلة دون سبق إجمال ، فقيل : الذي خلقكم من نفس واحدة وبثّ منها رجالا كثيرا ونساء لفاتت الإشارة إلى الحالة العجيبة. وقد ورد في الحديث : أنّ حواء خلقت من ضلع آدم ، فلذلك يكون حرف (من) في قوله : (وَخَلَقَ مِنْها) للابتداء ، أي أخرج خلق حواء من ضلع آدم. والزوج هنا أريد به الأنثى الأولى التي تناسل منها البشر ، وهي حوّاء. وأطلق عليها اسم الزوج لأنّ الرجل يكون منفردا فإذا اتّخذ امرأة فقد صارا زوجا

٩

في بيت ، فكلّ واحد منهما زوج للآخر بهذا الاعتبار ، وإن كان أصل لفظ الزوج أن يطلق على مجموع الفردين ، فإطلاق الزوج على كلّ واحد من الرجل والمرأة المتعاقدين تسامح صار حقيقة عرفية ، ولذلك استوى فيه الرجل والمرأة لأنّه من الوصف بالجامد ، فلا يقال للمرأة (زوجة) ، ولم يسمع في فصيح الكلام ، ولذلك عدّه بعض أهل اللغة لحنا. وكان الأصمعي ينكره أشد الإنكار قيل له : فقد قال ذو الرمّة :

أذو زوجة بالمصر أم ذو خصومة

أراك لها بالبصرة العام ثاويا

فقال : إنّ ذا الرّمة طالما أكل المالح والبقل في حوانيت البقّالين ، يريد أنّه مولّد.

وقال الفرزدق :

وإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي

كساع إلى أسد الشرى يستبيلها

وشاع ذلك في كلام الفقهاء ، قصدوا به التفرقة بين الرجل والمرأة عند ذكر الأحكام ، وهي تفرقة حسنة. وتقدّم عند قوله تعالى : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) في سورة البقرة [٣٥].

وقد شمل (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) العبرة بهذا الخلق العجيب الذي أصله واحد ، ويخرج هو مختلف الشكل والخصائص ، والمنّة على الذكران بخلق النساء لهم ، والمنّة على النساء بخلق الرجال لهنّ ، ثم منّ على النوع بنعمة النسل في قوله : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) مع ما في ذلك من الاعتبار بهذا التكوين العجيب.

والبثّ : النشر والتفريق للأشياء الكثيرة قال تعالى : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) [القارعة : ٤].

ووصف الرجال ، وهو جمع ، بكثير ، وهو مفرد ، لأنّ كثير يستوي فيه المفرد والجمع ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) في سورة آل عمران [١٤٦]. واستغنى عن وصف النساء بكثير لدلالة وصف الرجل به ما يقتضيه فعل البث من الكثرة.

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).

شروع في التشريع المقصود من السورة ، وأعيد فعل (اتَّقُوا) : لأنّ هذه التقوى مأمور بها المسلمون خاصّة ، فإنّهم قد بقيت فيهم بقية من عوائد الجاهلية لا يشعرون بها ،

١٠

وهي التساهل في حقوق الأرحام والأيتام.

واستحضر اسم الله العلم هنا دون ضمير يعود إلى ربّكم لإدخال الرّوع في ضمائر السامعين. لأنّ المقام مقام تشريع يناسبه إيثار المهابة بخلاف مقام قوله : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) فهو مقام ترغيب. ومعنى (تَسائَلُونَ بِهِ) يسأل بعضكم بعضا به في القسم فالمساءلة به تؤذن بمنتهى العظمة ، فكيف لا تتّقونه.

وقرأ الجمهور تسائلون ـ بتشديد السين ـ لإدغام التاء الثانية ، وهي تاء التفاعل في السين ، لقرب المخرج واتّحاد الصفة ، وهي الهمس. وقرأ حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : تساءلون ـ بتخفيف السين ـ على أنّ تاء الافتعال حذفت تخفيفا.

(وَالْأَرْحامَ) قرأه الجمهور ـ بالنصب ـ عطفا على اسم الله. وقرأه حمزة ـ بالجرّ ـ عطفا على الضمير المجرور. فعلى قراءة الجمهور يكون الأرحام مأمورا بتقواها على المعنى المصدري أي اتّقائها ، وهو على حذف مضاف ، أي اتّقاء حقوقها ، فهو من استعمال المشترك في معنييه ، وعلى هذه القراءة فالآية ابتداء تشريع وهو ممّا أشار إليه قوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) وعلى قراءة حمزة يكون تعظيما لشأن الأرحام أي التي يسأل بعضكم بعضا بها ، وذلك قول العرب : «ناشدتك الله والرحم» كما روى في «الصحيح» : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قرأ على عتبة بن ربيعة سورة فصّلت حتّى بلغ : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣] فأخذت عتبة رهبة وقال : ناشدتك الله والرحم. وهو ظاهر محمل هذه الرواية وإن أباه جمهور النحاة استعظاما لعطف الاسم على الضمير المجرور بدون إعادة الجارّ ، حتّى قال المبرّد : «لو قرأ الإمام بهاته القراءة لأخذت نعلي وخرجت من الصلاة» وهذا من ضيق العطن وغرور بأنّ العربية منحصرة فيما يعلمه ، ولقد أصاب ابن مالك في تجويزه العطف على المجرور بدون إعادة الجارّ ، فتكون تعريضا بعوائد الجاهلية ، إذ يتساءلون بينهم بالرحم وأواصر القرابة ثم يهملون حقوقها ولا يصلونها ، ويعتدون على الأيتام من إخوتهم وأبناء أعمامهم ، فناقضت أفعالهم أقوالهم ، وأيضا هم قد آذوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظلموه ، وهو من ذوي رحمهم وأحقّ الناس بصلتهم كما قال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] وقال : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [آل عمران : ١٦٤]. وقال : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣]. وعلى قراءة حمزة يكون معنى الآية تتمّة لمعنى التي قبلها.

١١

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢))

مناسبة عطف الأمر على ما قبله أنّه من فروع تقوى الله في حقوق الأرحام ، لأنّ المتصرّفين في أموال اليتامى في غالب الأحوال هم أهل قرابتهم ، أو من فروع تقوى الله الذي يتساءلون به وبالأرحام فيجعلون للأرحام من الحظّ ما جعلهم يقسمون بها كما يقسمون بالله. وشيء هذا شأنه حقيق بأن تراعى أواصره ووشائجه وهم لم يرقبوا ذلك. وهذا ممّا أشار إليه قوله تعالى : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً ...) [النساء : ١].

والإيتاء حقيقته الدفع والإعطاء الحسي ، ويطلق على تخصيص الشيء بالشيء وجعله حقّا له ، مثل إطلاق الإعطاء في قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) [الكوثر : ١] وفي الحديث : «رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحقّ ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها».

واليتامى جمع يتيم وجمع يتيمة ، فإذا جمعت به يتيمة فهو فعائل أصله يتائم ، فوقع فيه قلب مكانيّ فقالوا يتامئ ثم خفّفوا الهمزة فصارت ألفا وحرّكت الميم بالفتح ، وإذا جمع به يتيم فهو إمّا جمع الجمع بأن جمع أوّلا على يتمى ، كما قالوا : أسير وأسرى ، ثم جمع على يتامى مثل أسارى بفتح الهمزة ، أو جمع فعيل على فعائل لكونه صار اسما مثل أفيل وأفائل ، ثم صنع به من القلب ما ذكرناه آنفا. وقد نطقت العرب بجمع يتيمة على يتائم ، وبجمع فعيل على فعائل في قول بشر النجدي :

أأطلال حسن في البراق اليتائم

سلام على أطلالكنّ القدائم

واشتقاق اليتيم من الانفراد ، ومنه الدرّة اليتيمة أي المنفردة بالحسن ، وفعله من باب ضرب وهو قاصر ، وأطلقه العرب على من فقد أبوه في حال صغره كأنّه بقي منفردا لا يجد من يدفع عنه ، ولم يعتدّ العرب بفقد الأمّ في إطلاق وصف اليتيم إذ لا يعدم الولد كافلة ، ولكنّه يعدم بفقد أبيه من يدافع عنه وينفقه. وقد ظهر ممّا راعوه في الاشتقاق أنّ الذي يبلغ مبلغ الرجال لا يستحقّ أن يسمّى يتيما إذ قد بلغ مبلغ الدفع عن نفسه ، وذلك هو إطلاق الشريعة لاسم اليتيم ، والأصل عدم النقل.

وقيل : هو في اللغة من فقد أبوه ، ولو كان كبيرا ، أو كان صغيرا وكبر ، ولا أحسب هذا الإطلاق صحيحا. وقد أريد باليتامى هنا ما يشمل الذكور والإناث وغلب في ضمير

١٢

التذكير في قوله : (أَمْوالَهُمْ).

وظاهر الآية الأمر بدفع المال لليتيم ، ولا يجوز في حكم الشرع أن يدفع المال له ما دام مطلقا عليه اسم اليتيم ، إذ اليتيم خاصّ بمن لم يبلغ ، وهو حينئذ غير صالح للتصرّف في ماله ، فتعيّن تأويل الآية إمّا بتأويل لفظ الإيتاء أو بتأويل اليتيم ، فلنا أن نؤوّل (آتُوا) بغير معنى ادفعوا. وذلك بما نقل عن جابر بن زيد أنّه قال : نزلت هذه الآية في الذين لا يورّثون الصغار مع وجود الكبار في الجاهلية ، فيكون (آتُوا) بمعنى عيّنوا لهم حقوقهم ، وليكون هذا الأمر وما يذكر بعده تأسيسات أحكام ، لا تأكيد بعضها لبعض ، أو تقييد بعضها لبعض. وقال صاحب «الكشاف» : «يراد بإيتائهم أموالهم أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفّوا عنها أيديهم الخاطفة حتّى تأتي اليتامى إذا بلغوا سالمة» فهو تأويل للإيتاء بلازمه وهو الحفظ الذي يترتّب عليه الإيتاء كناية بإطلاق اللازم وإرادة الملزوم ، أو مجاز بالمآل إذ الحفظ يؤول إلى الإيتاء ، وعليه فيكون هو معنى قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ). وعلى هذين الوجهين فالمراد هنا الأمر بحفظ حقوق اليتامى من الإضاعة لا تسليم المال إليهم وهو الظاهر من الآية إذ سيجيء في قوله : (وَابْتَلُوا الْيَتامى) [النساء : ٦] الآية. ولنا أن نؤوّل اليتامى بالذين جاوزوا حدّ اليتم ويبقى الإيتاء بمعنى الدفع ، ويكون التعبير عنهم باليتامى للإشارة إلى وجوب دفع أموالهم إليهم في فور خروجهم من حدّ اليتيم ، أو يبقى على حاله ويكون هذا الإطلاق مقيّدا بقوله الآتي : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٦]. ومن الناس من قال : اليتيم يطلق على الصغير والكبير لأنّه مشتقّ من معنى الانفراد أي انفراده عن أبيه ، ولا يخفى أنّ هذا القول جمود على توهّم أنّ الانفراد حقيقيّ وإنّما وضع اللفظ للانفراد المجازي ، وهو انعدام الأب المنزّل منزلة بقاء الولد منفردا وما هو بمنفرد فإنّ له أمّا وقوما.

قيل : نزلت هذه الآية في رجل من غطفان كان له ابن أخ في حجره ، فلمّا بلغ طلب ماله ، فمنعه عمّه ، فنزلت هذه الآية ، فردّ المال لابن أخيه ، وعلى هذا فهو المراد من قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ).

وقوله : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أي لا تأخذوا الخبيث وتعطوا الطيّب. والقول في تعدية فعل تبدّل ونظائره مضى عند قوله تعالى في سورة فالبقرة [٦١] قال : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) وعلى ما تقرّر هناك يتعيّن أن يكون الخبيث هو

١٣

المأخوذ ، والطيّب هو المتروك.

والخبيث والطيّب أريد بهما الوصف المعنوي دون الحسي ، وهما استعارتان ؛ فالخبيث المذموم أو الحرام ، والطيّب عكسه وهو الحلال : وتقدّم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) في البقرة [١٦٨]. فالمعنى : ولا تكسبوا المال الحرام وتتركوا الحلال أي لو اهتممتم بإنتاج أموالكم وتوفيرها بالعمل والتجر لكان لكم من خلالها ما فيه غنية عن الحرام ، فالمنهي عنه هنا هو ضدّ المأمور به من قبل تأكيدا للأمر ، ولكنّ النهي بيّن ما فيه من الشناعة إذا لم يمتثل الأمر ، وهذا الوجه ينبئ عن جعل التبدّل مجازا والخبيث والطيّب كذلك ، ولا ينبغي حمل الآية على غير هذا المعنى وهذا الاستعمال. وعن السديّ ما يقتضي خلاف هذا المعنى وهو غير مرضي.

وقوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) نهي ثالث عن أخذ أموال اليتامى وضمّها إلى أموال أوليائهم ، فينتسق في الآية أمر ونهيان : أمروا أن لا يمنعوا اليتامى من مواريثهم ثم نهوا عن اكتساب الحرام ، ثم نهوا عن الاستيلاء على أموالهم أو بعضها ، والنهي والأمر الأخير تأكيدان للأمر الأول.

والأكل استعارة للانتفاع المانع من انتفاع الغير وهو الملك التامّ ، لأنّ الأكل هو أقوى أحوال الاختصاص بالشيء لأنّه يحرزه في داخل جسده ، ولا مطمع في إرجاعه ، وضمّن (تَأْكُلُوا) معنى تضمّوا فلذلك عدي بإلى أي : لا تأكلوها بأن تضمّوها إلى أموالكم.

وليس قيد (إِلى أَمْوالِكُمْ) محطّ النهي ، بل النهي واقع على أكل أموالهم مطلقا سواء كان للآكل مال يضمّ إليه مال يتيمه أم لم يكن ، ولكن لمّا كان الغالب وجود أموال للأوصياء ، وأنّهم يريدون من أكل أموال اليتامى التكثّر ، ذكر هذا القيد رعيا للغالب ، ولأنّه أدخل في النهي لما فيه من التشنيع عليهم حيث يأكلون حقوق الناس مع أنّهم أغنياء ؛ على أنّ التضمين ليس من التقييد بل هو قائم مقام نهيين ، ولذلك روي : أنّ المسلمين تجنّبوا بعد هذه الآية مخالطة أموال اليتامى فنزلت آية البقرة [٢٢٠] : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) فقد فهموا أنّ ضمّ مال اليتيم إلى مال الوصيّ حرام ، مع علمهم بأنّ ذلك ليس مشمولا للنهي عن الأكل ولكن للنهي عن الضمّ. وهما في فهم العرب نهيان ، وليس هو نهيا عن أكل الأغنياء أموال اليتامى حتى يكون النهي عن أكل الفقراء ثابتا بالقياس لا بمفهوم الموافقة إذ ليس الأدون بصالح لأن يكون مفهوم موافقة.

والحوب ـ بضمّ الحاء ـ لغة الحجاز ، و ـ بفتحها ـ لغة تميم ، وقيل : هي حبشية ،

١٤

ومعناه الإثم ، والجملة تعليل للنهي : لموقع إنّ منها ، أي نهاكم الله عن أكل أموالهم لأنّه إثم عظيم. ولكون إنّ في مثله لمجرد الاهتمام لتفيد التعليل أكّد الخبر بكان الزائدة.

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣))

اشتمال هذه الآية على كلمة (الْيَتامى) يؤذن بمناسبتها للآية السابقة ، بيد أنّ الأمر بنكاح النساء وعددهنّ في جواب شرط الخوف من عدم العدل في اليتامى ممّا خفي وجهه على كثير من علماء سلف الأمة ، إذ لا تظهر مناسبة أي ملازمة بين الشرط وجوابه. واعلم أنّ في الآية إيجازا بديعا إذ أطلق فيها لفظ اليتامى في الشرط وقوبل بلفظ النساء في الجزاء فعلم السامع أنّ اليتامى هنا جمع يتيمة وهي صنف من اليتامى في قوله السابق:(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٢]. وعلم أنّ بين عدم القسط في يتامى النساء ، وبين الأمر بنكاح النساء ، ارتباطا لا محالة وإلّا لكان الشرط عبثا. وبيانه ما في «صحيح البخاري» :أنّ عروة بن الزبير سأل عائشة عن هذه الآية فقالت : «يا بن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليّها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فلا يعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهنّ إلّا أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى سنتهنّ في الصداق فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء غيرهنّ. ثم إنّ الناس استفتوا رسول الله بعد هذه الآية فأنزل الله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) [النساء : ١٢٧]. فقول الله تعالى : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) [النساء : ١٢٧] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال ، فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلّا بالقسط من أجل رغبتهم عنهنّ إذا كنّ قليلات المال والجمال». وعائشة لم تسند هذا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن سياق كلامها يؤذن بأنّه عن توقيف ، ولذلك أخرجه البخاري في باب تفسير سورة النساء بسياق الأحاديث المرفوعة اعتدادا بأنها ما قالت ذلك إلّا عن معاينة حال النزول ، وأفهام المسلمين التي أقرّها الرسولعليه‌السلام ، لا سيما وقد قالت : ثمّ إنّ الناس استفتوا رسول الله ، وعليه فيكون إيجاز لفظ الآية اعتدادا بما فهمه الناس ممّا يعلمون من أحوالهم ، وتكون قد جمعت إلى حكم حفظ حقوق اليتامى في أموالهم الموروثة حفظ حقوقهم في الأموال التي يستحقّها البنات اليتامى من مهور أمثالهنّ ، وموعظة الرجال بأنّهم لمّا لم يجعلوا أواصر القرابة

١٥

شافعة النساء اللاتي لا مرغّب فيهنّ لهم فيرغبون عن نكاحهنّ ، فكذلك لا يجعلون القرابة سببا للإجحاف بهنّ في مهورهنّ. وقولها : ثمّ إنّ الناس استفتوا رسول الله ، معناه استفتوه طلبا لإيضاح هذه الآية. أو استفتوه في حكم نكاح اليتامى ، وله يهتدوا إلى أخذه من هذه الآية ، فنزل قوله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) الآية ، وأنّ الإشارة بقوله : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ) أي ما يتلى من هذه الآية الأولى ، أي كان هذا الاستفتاء في زمن نزول هذه السورة. وكلامها هذا أحسن تفسير لهذه الآية. وقال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والسدّي ، وقتادة : كانت العرب تتحرّج في أموال اليتامى ولا تتحرّج في العدل بين النساء ، فكانوا يتزوّجون العشر فأكثر فنزلت هذه الآية في ذلك ، وعلى هذا القول فمحلّ الملازمة بين الشرط والجزاء إنّما هو فيما تفرّع عن الجزاء من قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) ، فيكون نسج الآية قد حيك على هذا الأسلوب ليدمج في خلاله تحديد النهاية إلى الأربع. وقال عكرمة : نزلت في قريش ، كان الرجل يتزوّج العشر فأكثر فإذا ضاق ماله عن إنفاقهنّ أخذ مال يتيمه فتزوّج منه ، وعلى هذا الوجه فالملازمة ظاهرة ، لأنّ تزوّج ما لا يستطاع القيام به صار ذريعة إلى أكل أموال اليتامى ، فتكون الآية دليلا على مشروعية سدّ الذرائع إذا غلبت. وقال مجاهد : الآية تحذير من الزنا ، وذلك أنّهم كانوا يتحرّجون من أكل أموال اليتامى ولا يتحرّجون من الزنا ، فقيل لهم : إن كنتم تخافون من أموال اليتامى فخافوا الزنا ، لأنّ شأن المتنسّك أن يهجر جميع المآثم لا سيما ما كانت مفسدته أشدّ. وعلى هذا الوجه تضعف الملازمة بين الشرط وجوابه ويكون فعل الشرط ماضيا لفظا ومعنى. وقيل في هذا وجوه أخر هي أضعف ممّا ذكرنا.

ومعنى (ما طابَ) ما حسن بدليل قوله : (لَكُمْ) ويفهم منه أنّه ممّا حلّ لكم لأن الكلام في سياق التشريع.

وما صدق (ما طابَ) النساء فكان الشأن أن يؤتى ب (من) الموصولة لكن جيء ب (ما) الغالبة في غير العقلاء ، لأنّها نحي بها منحى الصفة وهو الطيّب بلا تعيين ذات ، ولو قال (من) لتبادر إلى إرادة نسوة طيّبات معروفات بينهم ، وكذلك حال (ما) في الاستفهام ، كما قال صاحب «الكشاف» وصاحب «المفتاح». فإذا قلت : ما تزوجت؟ فأنت تريد ما صفتها أبكرا أم ثيّبا مثلا ، وإذا قلت : من تزوجت؟ فأنت تريد تعيين اسمها ونسبها.

والآية ليست هي المثبتة لمشروعية النكاح ، لأنّ الأمر فيها معلّق على حالة الخوف من الجور في اليتامى ، فالظاهر أنّ الأمر فيها للإرشاد ، وأنّ النكاح شرع بالتقرير للإباحة

١٦

الأصلية لما عليه الناس قبل الإسلام مع إبطال ما لا يرضاه الدين كالزيادة على الأربع ، وكنكاح المقت ، والمحرّمات من الرضاعة ، والأمر بأن لا يخلوه عن الصداق ، ونحو ذلك.

وقوله : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أحوال من (طابَ) ولا يجوز كونها أحوالا من النساء لأنّ النساء أريد به الجنس كلّه لأن (من) إمّا تبعيضية أو بيانية وكلاهما تقتضي بقاء البيان على عمومه ، ليصلح للتبعيض وشبهه ، والمعنى : أنّ الله وسّع عليكم فلكم في نكاح غير أولئك اليتامى مندوحة عن نكاحهنّ مع الإضرار بهنّ في الصداق ، وفي هذا إدماج لحكم شرعي آخر في خلال حكم القسط لليتامى إلى قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا).

وصيغة مفعل وفعال في أسماء الأعداد من واحد إلى أربعة ، وقيل إلى ستة وقيل إلى عشرة ، وهو الأصح ، وهو مذهب الكوفيّين ، وصحّحه المعرّي في «شرح ديوان المتنبيّ» عند قول أبي الطّيب :

أحاد أم سداس في آحاد

ليبلتنا المنوطة بالتنادي

تدلّ كلّها على معنى تكرير اسم العدد لقصد التوزيع كقوله تعالى : (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [فاطر : ١] أي لطائفة جناحان ، ولطائفة ثلاثة ، ولطائفة أربعة. والتوزيع هنا باعتبار اختلاف المخاطبين في السعة والطّول ، فمنهم فريق يستطيع أن يتزوّجوا اثنتين ، فهؤلاء تكون أزواجهم اثنتين اثنتين ، وهلمّ جرّا ، كقولك لجماعة : اقتسموا هذا المال در همين در همين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، على حسب أكبركم سنّا. وقد دل على ذلك قوله بعد : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً). والظاهر أنّ تحريم الزيادة على الأربع مستفاد من غير هذه الآية لأنّ مجرّد الاقتصار غير كاف في الاستدلال ولكنّه يستأنس به ، وأنّ هذه الآية قرّرت ما ثبت من الاقتصار ، على أربع زوجات كما دلّ على ذلك الحديث الصحيح : إنّ غيلان بن سلمة أسلم على عشر نسوة فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمسك أربعا وفارق سائرهنّ». ولعلّ الآية صدرت بذكر العدد المقرّر من قبل نزولها ، تمهيدا لشرع العدل بين النساء ، فإنّ قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) صريح في اعتبار العدل في التنازل في مراتب العدد ينزل بالمكلّف إلى الواحدة. فلا جرم أن يكون خوفه في كلّ مرتبة من مراتب العدد ينزل به إلى التي دونها. ومن العجيب ما حكاه ابن العربي في الأحكام عن قوم من الجهّال ـ لم يعيّنهم ـ أنّهم توهّموا أنّ هذه الآية تبيح للرجال تزوّج تسع نساء توهّما بأنّ مثنى وثلاث ورباع مرادفة لاثنين وثلاثا وأربعا ، وأنّ الواو للجمع ، فحصلت

١٧

تسعة وهي العدد الذي جمعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين نسائه ، وهذا جهل شنيع في معرفة الكلام العربي. وفي «تفسير القرطبي» نسبة هذا القول إلى الرافضة ، وإلى بعض أهل الظاهر ، ولم يعيّنه. وليس ذلك قولا لداود الظاهري ولا لأصحابه ، ونسبه ابن الفرس في أحكام القرآن إلى قوم لا يعبأ بخلافهم ، وقال الفخر : هم قوم سدى ، ولم يذكر الجصّاص مخالفا أصلا. ونسب ابن الفرس إلى قوم القول بأنّه لا حصر في عدد الزوجات وجعلوا الاقتصار في الآية بمعنى : إلى ما كان من العدد ، وتمسّك هذان الفريقان بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات عن تسع نسوة ، وهو تمسّك واه ، فإنّ تلك خصوصية له ، كما دلّ على ذلك الإجماع ، وتطلّب الأدلّة القواطع في انتزاع الأحكام من القرآن تطلّب لما يقف بالمجتهدين في استنباطهم موقف الحيرة ، فإنّ مبنى كلام العرب على أساس الفطنة. ومسلكه هو مسلك اللمحة الدالّة.

وظاهر الخطاب للناس يعم الحرّ والعبد ، فللعبد أن يتزوّج أربع نسوة على الصحيح ، وهو قول مالك ، ويعزى إلى أبي الدرداء ، والقاسم بن محمد ، وسالم ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، ومجاهد ، وذهب إليه داود الظاهري. وقيل : لا يتزوّج العبد أكثر من اثنتين ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وينسب إلى عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وابن سيرين ، والحسن. وليس هذا من مناسب التنصيف للعبيد ، لأنّ هذا من مقتضى الطبع الذي لا يختلف في الأحرار والعبيد. ومن ادّعى إجماع الصحابة على أنّه لا يتزوّج أكثر من اثنتين فقد جازف القول.

وقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) ، أي فواحدة لكلّ من يخاف عدم العدل. وإنّما لم يقل فأحاد أو فموحد لأنّ وزن مفعل وفعال في العدد لا يأتي إلّا بعد جمع ولم يجر جمع هنا. وقرأ الجمهور : فواحدة ـ بالنصب ـ ، وانتصب واحدة على أنّه مفعول لمحذوف أي فانكحوا واحدة. وقرأه أبو جعفر ـ بالرفع ـ على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي كفاية.

وخوف عدم العدل معناه عدم العدل بين الزوجات ، أي عدم التسوية ، وذلك في النفقة والكسوة والبشاشة والمعاشرة وترك الضرّ في كلّ ما يدخل تحت قدرة المكلّف وطوقه دون ميل القلب.

وقد شرع الله تعدّد النساء للقادر العادل لمصالح جمّة : منها أنّ في ذلك وسيلة إلى تكثير عدد الأمة بازدياد المواليد فيها ، ومنها أنّ ذلك يعين على كفالة النساء اللائي هنّ

١٨

أكثر من الرجال في كلّ أمّة لأنّ الأنوثة في المواليد أكثر من الذكورة ، ولأنّ الرجال يعرض لهم من أسباب الهلاك في الحروب والشدائد ما لا يعرض للنساء ، ولأنّ النساء أطول أعمارا من الرجال غالبا ، بما فطرهنّ الله عليه ، ومنها أنّ الشريعة قد حرّمت الزنا وضيّقت في تحريمه لمّا يجرّ إليه من الفساد في الأخلاق والأنساب ونظام العائلات ، فناسب أن توسّع على الناس في تعدّد النساء لمن كان من الرجال ميّالا للتعدّد مجبولا عليه ، ومنها قصد الابتعاد عن الطلاق إلّا لضرورة.

ولم يكن في الشرائع السالفة ولا في الجاهلية حدّ للزوجات ، ولم يثبت أن جاء عيسىعليه‌السلام بتحديد للتزوّج ، وإن كان ذلك توهّمه بعض علمائنا مثل القرافي ، ولا أحسبه صحيحا ، والإسلام هو الذي جاء بالتحديد ، فأمّا أصل التحديد فحكمته ظاهرة : من حيث إنّ العدل لا يستطيعه كلّ أحد ، وإذا لم يقم تعدّد الزوجات على قاعدة العدل بينهنّ اختلّ نظام العائلة ، وحدثت الفتن فيها ، ونشأ عقوق الزوجات أزواجهنّ ، وعقوق الأبناء آباءهم بأذاهم في زوجاتهم وفي أبنائهم ، فلا جرم أن كان الأذى في التعدّد لمصلحة يجب أن تكون مضبوطة غير عائدة على الأصل بالإبطال.

وأمّا الانتهاء في التعدّد إلى الأربع فقد حاول كثير من العلماء توجيهه فلم يبلغوا إلى غاية مرضية ، وأحسب أنّ حكمته ناظرة إلى نسبة عدد النساء من الرجال في غالب الأحوال ، وباعتبار المعدّل في التعدّد فليس كلّ رجل يتزوّج أربعا ، فلنفرض المعدّل يكشف عن امرأتين لكلّ رجل ، يدلّنا ذلك على أنّ النساء ضعف الرجال. وقد أشار إلى هذا ما جاء في «الصحيح» : أنه يكثر النساء في آخر الزمان حتّى يكون لخمسين امرأة القيّم الواحد.

وقوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) إن عطف على قوله : (فَواحِدَةً) ، فقد خيّر بينه وبين الواحدة باعتبار التعدّد ، أي فواحدة من الأزواج أو عدد ممّا ملكت أيمانكم ، وذلك أنّ المملوكات لا يشترط فيهنّ من العدل ما يشترط في الأزواج ، ولكن يشترط حسن المعاملة وترك الضرّ ، وإن عطفته على قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ) كان تخييرا بين التزوّج والتسرّي بحسب أحوال الناس ، وكان العدل في الإماء المتّخذات للتسرّي مشروطا قياسا على الزوجات ، وكذلك العدد بحسب المقدرة غير أنّه لا يمتنع في التسرّي الزيادة على الأربع لأنّ القيود المذكورة بين الجمل ترجع إلى ما تقدّم منها. وقد منع الإجماع من قياس الإماء على الحرائر في نهاية العدد ، وهذا الوجه أدخل في حكمة التشريع وأنظم في

١٩

معنى قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) والإشارة بقوله (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) إلى الحكم المتقدّم ، وهو قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) إلى قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) باعتبار ما اشتمل عليه من التوزيع على حسب العدل. وإفراد اسم الإشارة باعتبار المذكور كقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً).

و (أَدْنى) بمعنى أقرب ، وهو قرب مجازي أي أحقّ وأعون على أن لا تعولوا ، و «تعولوا» مضارع عال عولا ، وهو فعل واوي العين ، بمعنى جار ومال ، وهو مشهور في كلام العرب ، وبه فسّر ابن عباس وجمهور السلف ، يقال : عال الميزان عولا إذا مال ، وعال فلان في حكمه أي جار ، وظاهر أنّ نزول المكلّف إلى العدد الذي لا يخاف معه عدم العدل أقرب إلى عدم الجور ، فيكون قوله : (أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) في معنى قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) فيفيد زيادة تأكيد كراهية الجور.

ويجوز أن تكون الإشارة إلى الحكم المتضمّن له قوله : (فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي ذلك أسلم من الجور ، لأنّ التعدّد يعرّض المكلّف إلى الجور وإن بذل جهده في العدل ، إذ للنفس رغبات وغفلات ، وعلى هذا الوجه لا يكون قوله : (أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) تأكيدا لمضمون (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) ويكون ترغيبا في الاقتصار على المرأة الواحدة أو التعدّد بملك اليمين ، إذ هو سدّ ذريعة الجور ، وعلى هذا الوجه لا يكون العدل شرطا في ملك اليمين ، وهو الذي نحاه جمهور فقهاء الأمصار في ملك اليمين.

وقيل : «معنى ألا تعولوا» أن لا تكثر عيالكم ، مأخوذ من قولهم عال الرجل أهله يعولهم بمعنى مالهم ، يعني فاستعمل نفي كثرة العيال على طريق الكناية لأنّ العول يستلزم وجود العيال ، والإخبار عن الرجل بأنّه يعول يستلزم كثرة العيال ، لأنّه إخبار بشيء لا يخلو عنه أحد فما يخبر المخبر به إلّا إذا رآه تجاوز الحدّ المتعارف. كما تقول فلان يأكل ، وفلان ينام ، أي يأكل كثيرا وينام كثيرا ، ولا يصحّ أن يراد كونه معنى لعال صريحا ، لأنّه لا يقال عال بمعنى كثرت عياله ، وإنّما يقال أعال. وهذا التفسير مأثور عن زيد بن أسلم ، وقاله الشافعي ، وقال به ابن الأعرابي من علماء اللغة وهو تفسير بعيد ، وكناية خفيّة ، لا يلائم إلّا أن تكون الإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تضمنه قوله : (فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ويكون في الآية ترغيب في الاقتصار على الواحدة لخصوص الذي لا يستطيع السعة في الإنفاق ، لأنّ الاقتصار على الواحدة يقلل النفقة ويقلّل النسل فيبقي عليه ماله ، ويدفع عنه الحاجة ، إلّا أنّ هذا الوجه لا يلائم قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)

٢٠