تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

في الشتاء والصيف فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء ويمسك كيف شاء».

وقرأ الجمهور : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) ـ برفع تجارة ـ على أنّه فاعل لكان من كان التامّة ، أي تقع. وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ـ بنصب تجارة ـ على أنّه خبر كان الناقصة ، وتقدير اسمها : إلّا أن تكون الأموال تجارة ، أي أموال تجارة.

وقوله : (عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) صفة ل (تجارة) ، و (عن) فيه للمجاوزة ، أي صادرة عن التراضي وهو الرضا من الجانبين بما يدلّ عليه من لفظ أو عرف. وفي الآية ما يصلح أن يكون مستندا لقول مالك من نفي خيار المجلس : لأنّ الله جعل مناط الانعقاد هو التراضي ، والتراضي يحصل عند التبايع بالإيجاب والقبول.

وهذه الآية أصل عظيم في حرمة الأموال ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس». وفي خطبة حجّة الوداع «إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام».

وتقديم النهي عن أكل الأموال على النهي عن قتل الأنفس ، مع أنّ الثاني أخطر ، إمّا لأنّ مناسبة ما قبله أفضت إلى النهي عن أكل الأموال فاستحقّ التقديم لذلك ، وإمّا لأنّ المخاطبين كانوا قريبي عهد بالجاهلية ، وكان أكل الأموال أسهل عليهم ، وهم أشدّ استخفافا به منهم بقتل الأنفس ، لأنّه كان يقع في مواقع الضعف حيث لا يدفع صاحبه عن نفسه كاليتيم والمرأة والزوجة. فآكل أموال هؤلاء في مأمن من التبعات بخلاف قتل النفس ، فإنّ تبعاته لا يسلم منها أحد ، وإن بلغ من الشجاعة والعزّة في قومه كلّ مبلغ ، ولا أمنع من كليب وائل ، لأنّ القبائل ما كانت تهدر دماء قتلاها.

(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٣٠).

قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) نهي عن أن يقتل الرجل غيره ، فالضميران فيه على التوزيع ، إذ قد علم أنّ أحدا لا يقتل نفسه فينهى عن ذلك ، وقتل الرجل نفسه داخل في النهي ، لأنّ الله لم يبح للإنسان إتلاف نفسه كما أباح له صرف ماله ، أمّا أن يكون المراد هنا خصوص النهي عن قتل المرء نفسه فلا. وأمّا ما في «مسند أبي داود» : أنّ عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه تيمّم في يوم شديد البرد ولم يغتسل ، وذلك في غزوة ذات السلاسل وصلّى بالناس ، وبلغ ذلك رسول الله ، فسأله وقال : يا رسول الله إنّ الله يقول : (وَلا

١٠١

تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، فلم ينكر عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذلك من الاحتجاج بعموم ضمير (تَقْتُلُوا) دون خصوص السبب.

وقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي المذكور : من أكل المال بالباطل والقتل : وقيل : الإشارة إلى ما ذكر من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) [النساء : ١٩] لأنّ ذلك كلّه لم يرد بعده وعيد ، وورد وعيد قبله ، قاله الطبري. وإنّما قيّده بالعدوان والظلم ليخرج أكل المال بوجه الحقّ ، وقتل النفس كذلك ، كقتل القاتل، وفي الحديث : «فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها».

والعدوان ـ بضمّ العين ـ مصدر بوزن كفران ، ويقال ـ بكسر العين ـ وهو التسلّط بشدّة ، فقد يكون بظلم غالبا ، ويكون بحقّ ، قال تعالى : (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٩٣] وعطف قوله : (وَظُلْماً) على (عُدْواناً) من عطف الخاصّ على العامّ.

و (سوف) حرف يدخل على المضارع فيمحّضه للزمن المستقبل ، وهو مرادف للسين على الأصحّ ، وقال بعض النحاة : (سوف) تدل على مستقبل بعيد وسمّاه : التسويف ، وليس في الاستعمال ما يشهد لهذا ، وقد تقدّم عند قوله : (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) في هذه السورة [النساء : ١٠]. و (نصليه) نجعله صاليا أو محترقا ، وقد مضى فعل صلي أيضا ، ووجه نصب (نارا) هنالك ، والآية دلّت على كلّيتين من كليّات الشريعة: وهما حفظ الأموال ، وحفظ الأنفس ، من قسم المناسب الضروري.

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١))

اعتراض ناسب ذكره بعد ذكر ذنبين كبيرين : وهما قتل النفس ، وأكل المال بالباطل ، على عادة القرآن في التفنّن من أسلوب إلى أسلوب ، وفي انتهاز الفرص في إلقاء التشريع عقب المواعظ وعكسه.

وقد دلّت إضافة (كَبائِرَ) إلىما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) على أنّ المنهيات قسمان : كبائر ، ودونها ؛ وهي التي تسمّى الصغائر ، وصفا بطريق المقابلة ، وقد سمّيت هنا سيّئات. ووعد بأنّه يغفر السيّئات للذين يجتنبون كبائر المنهيات ، وقال في آية النجم [٣٢] (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) فسمّى الكبائر فواحش وسمّى مقابلها اللّمم ، فثبت بذلك أنّ المعاصي عند الله قسمان : معاص كبيرة فاحشة ، ومعاص دون ذلك يكثر

١٠٢

أن يلمّ المؤمن بها ، ولذلك اختلف السلف في تعيين الكبائر. فعن علي : هي سبع الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، والفرار يوم الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة. واستدلّ لجميعها بما في القرآن من أدلّة جازم النهي عنها. وفي حديث البخاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اتّقوا السبع الموبقات ...» فذكر التي ذكرها عليّ إلّا أنّه جعل السحر عوض التعرّب. وقال عبد الله بن عمر : هي تسع بزيادة الإلحاد في المسجد الحرام ، وعقوق الوالدين. وقال ابن مسعود : هي ما نهي عنه من أول سورة النساء إلى هنا. وعن ابن عبّاس : كلّ ما ورد عليه وعيد نار أو عذاب أو لعنة فهو كبيرة. وعن ابن عباس : الكبائر ما نهى الله عنه في كتابه. وأحسن ضبط الكبيرة قول إمام الحرمين : هي كلّ جريمة تؤذن بقلّة اكتراث مرتكبها بالدين وبضعف ديانته. ومن السلف من قال : الذنوب كلّها سواء إن كانت عن عمد. وعن أبي إسحاق الأسفرائيني أنّ الذنوب كلّها سواء مطلقا ، ونفى الصغائر. وهذان القولان واهيان لأنّ الأدلّة شاهدة بتقسيم الذنوب إلى قسمين ، ولأنّ ما تشتمل عليه الذنوب من المفاسد متفاوت أيضا ، وفي الأحاديث الصحيحة إثبات نوع الكبائر وأكبر الكبائر.

ويترتّب على إثبات الكبائر والصغائر أحكام تكليفية : منها المخاطبة بتجنّب الكبيرة تجنّبا شديدا ، ومنها وجوب التوبة منها عند اقترابها ، ومنها أنّ ترك الكبائر يعتبر توبة من الصغائر ، ومنها سلب العدالة عن مرتكب الكبائر ، ومنها نقض حكم القاضي المتلبّس بها ، ومنها جواز هجران المتجاهر بها ، ومنها تغيير المنكر على المتلبّس بها. وتترتّب عليها مسائل في أصول الدين : منها تكفير مرتكب الكبيرة عند طائفة من الخوارج ، التي تفرّق بين المعاصي الكبائر والصغائر ؛ واعتباره منزلة بين الكفر والإسلام عند المعتزلة ، خلافا لجمهور علماء الإسلام. فمن العجائب أن يقول قائل : إنّ الله لم يميّز الكبائر عن الصغائر ليكون ذلك زاجرا للناس عن الإقدام على كلّ ذنب ، ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات ، وليلة القدر في ليالي رمضان ، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة ، هكذا حكاه الفخر في التفسير ، وقد تبيّن ذهول هذا القائل ، وذهول الفخر عن ردّه ، لأنّ الأشياء التي نظّروا بها ترجع إلى فضائل الأعمال التي لا يتعلّق بها تكليف ؛ فإخفاؤها يقصد منه الترغيب في توخّي مظانّها ليكثر الناس من فعل الخير ، ولكن إخفاء الأمر المكلّف به إيقاع في الضلالة ، فلا يقع ذلك من الشارع.

والمدخل ـ بفتح الميم ـ اسم مكان الدخول ، ويجوز أن يكون مصدرا ميميا.

١٠٣

والمعنى : ندخلكم مكانا كريما ، أو ندخلكم دخولا كريما. والكريم هو النفيس في نوعه. فالمراد إمّا الجنّة وإمّا الدخول إليها ، والمراد به الجنّة. والمدخل ـ بصمّ الميم ـ كذلك مكان أو مصدر أدخل. وقرأ نافع ، وأبو جعفر : «مدخلا» ـ بفتح الميم ـ وقرأ بقية العشرة ـ بضمّ الميم ـ.

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢))

عطف على جملة : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩].

والمناسبة بين الجملتين المتعاطفتين : أنّ التمنّي يحبّب للمتمنّي الشيء الذي تمنّاه ، فإذا أحبّه أتبعه نفسه فرام تحصيله وافتتن به ، فربما بعثه ذلك الافتتان إلى تدبير الحيل لتحصيله إن لم يكن بيده ، وإلى الاستئثار به عن صاحب الحقّ فيغمض عينه عن ملاحظة الواجب من إعطاء الحقّ صاحبه وعن مناهي الشريعة التي تضمّنتها الجمل المعطوف عليها. وقد أصبح هذا التمنّي في زماننا هذا فتنة لطوائف من المسلمين سرت لهم من أخلاق الغلاة في طلب المساواة ممّا جرّ أمما كثيرة إلى نحلة الشيوعية فصاروا يتخبّطون لطلب التساوي في كلّ شيء ويعانون إرهاقا لم يحصّلوا منه على طائل.

فالنهي عن التمنّي وتطلّع النفوس إلى ما ليس لها جاء في هذه الآية عامّا ، فكان كالتذييل للأحكام السابقة لسدّ ذرائعها وذرائع غيرها ، فكان من جوامع الكلم في درء الشرور. وقد كان التمنّي من أعظم وسائل الجرائم ، فإنّه يفضي إلى الحسد ، وقد كان أوّل جرم حصل في الأرض نشأ عن الحسد. ولقد كثر ما انتبهت أموال ، وقتلت نفوس للرغبة في بسطة رزق ، أو فتنة نساء ، أو نوال ملك ، والتاريخ طافح بحوادث من هذا القبيل.

والذي يبدو أنّ هذا التمنّي هو تمنّي أموال المثرين ، وتمنّي أنصباء الوارثين ، وتمنّي الاستئثار بأموال اليتامى ذكورهم وإناثهم ، وتمنّي حرمان النساء من الميراث ليناسب ما سبق من إيتاء اليتامى أموالهم. وإنصاف النساء في مهورهنّ ، وترك مضارّتهنّ إلجاء إلى إسقاطها ، ومن إعطاء أنصباء الورثة كما قسم الله لهم. وكلّ ذلك من تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق.

١٠٤

وقد أبدى القفّال مناسبة للعطف تندرج فيما ذكرته. وفي «سنن الترمذي» عن مجاهد ، عن أمّ سلمة أنّها قالت : «يا رسول الله يغزو الرجال ولا يغزو النساء ، وإنّما لنا نصف الميراث ، فأنزل الله (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ)». قال الترمذي : هذا حديث مرسل. قال ابن العربي : ورواياته كلّها حسان لم تبلغ درجة الصحّة. قلت : لمّا كان مرسلا يكون قوله : فأنزل الله (وَلا تَتَمَنَّوْا) إلخ. من كلام مجاهد ، ومعناه أنّ نزول هذه الآية كان قريبا من زمن قول أمّ سلمة ، فكان في عمومها ما يردّ على أمّ سلمة وغيرها.

وقد رويت آثار : بعضها في أنّ هذه الآية نزلت في تمنّي النساء الجهاد ؛ وبعضها في أنّها نزلت في قول امرأة «إنّ للذكر مثل حظّ الأنثيين وشهادة امرأتين برجل أفنحن في العمل كذلك» ؛ وبعضها في أنّ رجالا قالوا : إنّ ثواب أعمالنا على الضعف من ثواب النساء ؛ وبعضها في أنّ النساء سألن أجر الشهادة في سبيل الله وقلن لو كتب علينا القتال لقاتلنا. وكلّ ذلك جزئيات وأمثلة ممّا شمله عموم (ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ).

والتمنّي هو طلب حصول ما يعسر حصوله للطالب. وذلك له أحوال ؛ منها أن يتمنّى ما هو من فضل الله غير ملتفت فيه إلى شيء في يد الغير ، ولا مانع يمنعه من شرع أو عادة ، سواء كان ممكن الحصول كتمنّي الشهادة في سبيل الله ، أم كان غير ممكن الحصول كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليتنا نرى إخواننا» يعني المسلمين الذين يجيئون بعده.

ومنها أن يتمنّى ما لا يمكن حصوله لمانع عادي أو شرعي ، كتمنّي أمّ سلمة أن يغزو النساء كما يغزو الرجال ، وأن تكون المرأة مساوية الرجل في الميراث ؛ ومنها أن يتمنّى تمنيا يدلّ على عدم الرضا بما ساقه الله والضجر منه ، أو على الاضطراب والانزعاج ، أو على عدم الرضا بالأحكام الشرعية.

ومنها أن يتمنّى نعمة تماثل نعمة في يد الغير مع إمكان حصولها للمتمنّي بدون أن تسلب من التي هي في يده كتمنّي علم مثل علم المجتهد أو مال مثل مال قارون.

ومنها أن يتمنّى ذلك لكن مثله لا يحصل إلّا بسلب المنعم عليه به كتمنّي ملك بلدة معيّنة أو زوجة رجل معيّن.

ومنها أن يتمنّى زوال نعمة عن الغير بدون قصد مصيرها إلى المتمنّي.

١٠٥

وحاصل معنى النهي في الآية أنّه : إمّا نهي تنزيه لتربية المؤمنين على أن لا يشغلوا نفوسهم بما لا قبل لهم بنواله ضرورة أنّه سمّاه تمنّيا ، لئلا يكونوا على الحالة التي ورد فيها حديث : «يتمنى على الله الأماني» ، ويكون قوله : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) إرشاد إلى طلب الممكن ، إذ قد علموا أنّ سؤال الله ودعاءه يكون في مرجوّ الحصول ، وإلّا كان سوء أدب.

وإمّا نهي تحريم ، وهو الظاهر من عطفه على المنهيات المحرّمة ، فيكون جريمة ظاهرة ، أو قلبية كالحسد ، بقرينة ذكره بعد قوله : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩].

فالتمنّي الأوّل والرابع غير منهي عنهما ، وقد ترجم البخاري في صحيحه «باب تمني الشهادة في سبيل الله وباب الاغتباط في العلم والحكمة» ، وذكر حديث : «لا حسد إلّا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلّطه على هلكته في الحقّ ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها الناس».

وأمّا التمنّي الثاني والثالث فمنهي عنهما لأنّهما يترتّب عليهما اضطراب النفس وعدم الرضا بما قسم الله والشكّ في حكمة الأحكام الشرعية.

وأمّا التمنّي الخامس والسادس فمنهي عنهما لا محالة ، وهو من الحسد ، وفي الحديث «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها» ، ولذلك نهي عن أن يخطب الرجل على خطبة أخيه ، إلّا إذ كان تمنّيه في الحالة الخامسة تمنّي حصول ذلك له بعد من هي بيده بحيث لا يستعجل موته. وقد قال أبو بكر ، لمّا استخلف عمر ، يخاطب المهاجرين : «فكلّكم ورم أنفه يريد أن يكون له الأمر دونه».

والسادس أشدّ وهو شرّ الحسدين إلّا إذا كان صاحب النعمة يستعين به على ضرّ يلحق الدين أو الأمّة أو على إضرار المتمنّي.

ثم محلّ النهي في الآية : هو التمنّي ، وهو طلب ما لا قبل لأحد بتحصيله بكسبه ، لأنّ ذلك هو الذي يبعث على سلوك مسالك العداء ، فأمّا طلب ما يمكنه تحصيله من غير ضرّ بالغير فلا نهي عنه ، لأنّه بطلبه ينصرف إلى تحصيله فيحصل فائدة دينية أو دنيوية ، أمّا طلب ما لا قبل له بتحصيله فإن رجع إلى الفوائد الأخروية فلا ضير فيه.

وحكمة النهي عن الأقسام المنهي عنها من التمنّي أنّها تفسد ما بين الناس في

١٠٦

معاملاتهم فينشأ عنها التحاسد ، وهو أوّل ذنب عصي الله به ، إذ حسد إبليس آدم ، ثم ينشأ عن الحسد الغيظ والغضب فيفضي إلى أذى المحسود ، وقد قال تعالى : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) [الفلق : ٥]. وكان سبب أوّل جريمة في الدنيا الحسد : إذ حسد أحد ابني آدم أخاه فقتله ، ثم إنّ تمنّي الأحوال المنهي عنها ينشأ في النفوس أوّل ما ينشأ خاطرا مجرّدا ، ثم يربو في النفس رويدا رويدا حتّى يصير ملكة ، فتدعو المرء إلى اجترام الجرائم ليشفي غلّته ، فلذلك نهوا عنه ليزجروا نفوسهم عند حدوث هاته التمنّيات بزاجر الدين والحكمة فلا يدعوها تربو في النفوس. وما نشأت الثورات والدعايات إلى ابتراز الأموال بعناوين مختلفة إلّا من تمنّي ما فضّل به الله بعض الناس على بعض ، أو إلّا أثر من آثار ما فضّل الله به بعض الناس على بعض.

وقوله : (بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) صالح لأن يكون مرادا به آحاد الناس ، ولأن يكون مرادا به أصنافهم.

وقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) الآية : إن أريد بذكر الرجال والنساء هنا قصد تعميم الناس مثل ما يذكر المشرق والمغرب ، والبر والبحر ، والنجد والغور ، فالنهي المتقدّم على عمومه. وهذه الجملة مسوقة مساق التعليل للنهي عن التمنّي قطعا لعذر المتمنّين ، وتأنيسا بالنهي ، ولذلك فصلت ؛ وإن أريد بالرجال والنساء كلّا من النوعين بخصوصه بمعنى أنّ الرجال يختصّون بما اكتسبوه ، والنساء يختصصن بما اكتسبن من الأموال ، فالنهي المتقدّم متعلّق بالتمنّي الذي يفضي إلى أكل أموال اليتامى والنساء ، أي ليس للأولياء أكل أموال مواليهم وولاياهم إذ لكلّ من هؤلاء ما اكتسب. وهذه الجملة علّة لجملة محذوفة دلّت هي عليها ، تقديرها : ولا تتمنّوا فتأكلوا أموال مواليكم.

والنصيب : الحظّ والمقدار ، وهو صادق على الحظ في الآخرة والحظّ في الدنيا ، وتقدّم آنفا.

والاكتساب : السعي للكسب ، وقد يستعار لحصول الشيء ولو بدون سعي وعلاج. و (من) للتبعيض أو للابتداء ، والمعنى يحتمل أن يكون استحقّ الرجال والنساء كلّ حظّه من الأجر والثواب المنجرّ له من عمله ، فلا فائدة في تمنّي فريق أن يعمل عمل فريق آخر ، لأنّ الثواب غير منحصر في عمل معيّن ، فإنّ وسائل الثواب كثيرة فلا يسوءكم النهي عن تمنّي ما فضّل الله به بعضكم على بعض. ويحتمل أنّ المعنى : استحقّ كلّ شخص ، سواء كان رجلا أم امرأة ، حظّه من منافع الدنيا المنجرّ له ممّا سعى إليه بجهده ، أو الذي هو

١٠٧

بعض ما سعى إليه ، فتمنّى أحد شيئا لم يسع إليه ولم يكن من حقوقه ، هو تمنّ غير عادل ، فحقّ النهي عنه ؛ أو المعنى استحقّ أولئك نصيبهم ممّا كسبوا ، أي ممّا شرع لهم من الميراث ونحوه ، فلا يحسد أحد أحدا على ما جعل له من الحقّ ، لأنّ الله أعلم بأحقّيّة بعضكم على بعض.

وقوله : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) إن كان عطفا على قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) إلخ ، الذي هو علّة النهي عن التمنّي ، فالمعنى : للرجال مزاياهم وحقوقهم ، وللنساء مزاياهنّ وحقوقهنّ ، فمن تمنّى ما لم يعدّ لصنفه فقد اعتدى ، لكن يسأل الله من فضله أن يعطيه ما أعدّ لصنفه من المزايا ، ويجعل ثوابه مساويا لثواب الأعمال التي لم تعدّ لصنفه ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للنساء : «لكن أفضل الجهاد حجّ مبرور» ؛ وإن كان عطفا على النهي في قوله : و (لا تَتَمَنَّوْا) فالمعنى : لا تتمنّوا ما في يد الغير واسألوا الله من فضله فإنّ فضل الله يسع الإنعام على الكلّ ، فلا أثر للتمنّي إلّا تعب النفس. وقرأ الجمهور: (وَسْئَلُوا) ـ بإثبات الهمزة بعد السين الساكنة وهي عين الفعل ـ وقرأه ابن كثير ، والكسائي ـ بفتح السين وحذف الهمزة بعد نقل حركتها إلى السين الساكن قبلها تخفيفا ـ.

وقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) تذييل مناسب لهذا التكليف ، لأنّه متعلّق بعمل النفس لا يراقب فيه إلّا ربّه.

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣))

الجملة معطوفة على جملة (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) [النساء: ٣٢] باعتبار كونه جامعا لمعنى النهي عن الطمع في مال صاحب المال ، قصد منها استكمال تبيين من لهم حقّ في المال.

وشأن (كلّ) إذا حذف ما تضاف إليه أن يعوّض التنوين عن المحذوف ، فإن جرى في الكلام ما يدلّ على المضاف إليه المحذوف قدّر المحذوف من لفظه أو معناه ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) في سورة البقرة [١٤٨] ، وكذلك هنا فيجوز أن يكون المحذوف ممّا دلّ عليه قوله ـ قبله ـ (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) ـ (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ) [النساء : ٧] فيقدّر : ولكلّ الرجال والنساء جعلنا موالي ، أو لكلّ تارك جعلنا موالي.

ويجوز أن يقدّر : ولكلّ أحد أو شيء جعلنا موالي.

١٠٨

والجعل من قوله : (جَعَلْنا) هو الجعل التشريعي أي شرعنا لكلّ موالي لهم حقّ في ماله كما في قوله تعالى : (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) [الإسراء : ٣٣].

والموالي جمع مولى وهو محلّ الولي ، أي القرب ، وهو محلّ مجازي وقرب مجازي. والولاء اسم المصدر للولي المجازي.

وفي نظم الآية تقادير جديرة بالاعتبار ، وجامعة لمعان من التشريع :

الأوّل : ولكلّ تارك ، أي تارك مالا جعلنا موالي ، أي أهل ولاء له ، أي قرب ، أي ورثة. ويتعلّق (مِمَّا تَرَكَ) بما في موالي من معنى يلونه ، أي يرثونه ، ومن للتبعيض ، أي يرثون ممّا ترك. وما صدق (ما) الموصولة هو المال ، والصلة قرينة على كون المراد بالموالي الميراث ، وكون المضاف إليه (كلّ) هو الهالك أو التارك. (وَلِكُلٍ) متعلّق ب (جعلنا) ، قدّم على متعلّقه للاهتمام.

وقوله : (الْوالِدانِ) استئناف بياني بيّن به المراد في (موالي) ، ويصلح أن يبيّن به كلّ المقدّر له مضاف. تقديره : لكلّ تارك. وتبيين كلا اللفظين سواء في المعنى ، لأنّ التارك: والد أو قريب ، والموالي : والدون أو قرابة. وفي ذكر (الْوالِدانِ) غنية عن ذكر الأبناء لتلازمهما ، فإن كان الوالدان من الورثة فالهالك ولد وإلّا فالهالك والد. والتعريف في (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) عوض عن مضاف إليه أي : والداهم وأقربوهم ، والمضاف إليه المحذوف يدلّ عليه الموالي ، وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشئا عن قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) [النساء : ٣٢] ، أي ولكلّ من الصنفين جعلنا موالي يرثونه ، وهو الجعل الذي في آيات المواريث.

والتقدير الثاني : ولكلّ شيء ممّا تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي ، أي قوما يلونه بالإرث ، أي يرثونه ، أي يكون تراثا لهم ، فيكون المضاف إليه المحذوف اسما نكرة عامّا يبيّن نوعه المقام ، ويكون (مِمَّا تَرَكَ) بيانا لما في تنوين (كلّ) من الإبهام ، ويكون (وَالْأَقْرَبُونَ) فاعلا (لترك).

وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشئا عن قوله : (ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) [النساء : ٣٢] أي في الأموال ، أي ولكلّ من الذين فضّلنا بعضهم على بعض جعلنا موالي يؤول إليهم المال ، فلا تتمنّوا ما ليس لكم فيه حقّ في حياة أصحابه ، ولا ما جعلناه للموالي بعد موت أصحابه.

١٠٩

التقدير الثالث : ولكلّ منكم جعلنا موالي ، أي عاصبين من الذين تركهم الوالدان ، مثل الأعمام والأجداد والأخوال ، فإنّهم قرباء الأبوين ، وممّا تركهم الأقربون مثل أبناء الأعمام وأبنائهم وإن تعدّدوا ، وأبناء الأخوات كذلك ، فإنّهم قرباء الأقربين ، فتكون الآية مشيرة إلى إرجاع الأموال إلى العصبة عند الجمهور ، وإلى ذوي الأرحام عند بعض الفقهاء ، وذلك إذا انعدم الورثة الذين في آية المواريث السابقة ، وهو حكم مجمل بيّنه قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر» ، وقوله : «ابن أخت القوم منهم أو من أنفسهم» رواه أبو داود والنسائي ، وقوله : «الخال وارث من لا وارث له» أخرجه أبو داود والترمذي ، وقوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأنفال : ٧٥] ، وبذلك أخذ أبو حنيفة ، وأحمد ، وعليه ف (ما) الموصولة في قوله : (مِمَّا تَرَكَ) بمعنى (من) الموصولة ، ولا بدع في ذلك. وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشئا عن قوله تعالى بعد آية المواريث (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) [البقرة : ١٨٧] فتكون تكملة لآية المواريث.

التقدير الرابع : ولكلّ منكم أيّها المخاطبون بقولنا : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) [النساء : ٣٢] جعلنا موالي ، أي شرعنا أحكام الولاء لمن هم موال لكم ، فحكم الولاء الذي تركه لكم أهاليكم : الوالدان والأقربون ، أي أهل الولاء القديم في القبيلة المنجرّ من حلف قديم ، أو بحكم الولاء الذي عاقدته الأيمان ، أي الأحلاف بينكم وبينهم أيّها المخاطبون ، وهو الولاء الجديد الشامل للتبنّي المحدث ، وللحلف المحدث ، مثل المؤاخاة التي فرضها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار. فإنّ الولاء منه ولاء قديم في القبائل ، ومنه ما يتعاقد عليه الحاضرون ، كما أشار إليه أبو تمّام.

أعطيت لي دية القتيل وليس لي

عقل ولا حلف هناك قديم

وعلى هذا التقدير يكون (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) معطوفة على (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشئا عن قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) [البقرة : ١٨٧] فتكون هذه الآية تكملة لآيات المواريث.

وللمفسّرين تقادير أخرى لا تلائم بعض أجزاء النظم إلا بتعسّف فلا ينبغي التعريج عليها.

وقوله : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) قيل معطوف على قوله : (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) ، وقيل هو جملة مستأنفة استئنافا بيانيا ، كأنّه قيل : من هم الموالي؟ فقيل : (الْوالِدانِ

١١٠

وَالْأَقْرَبُونَ) إلخ ، على أنّ قوله : (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) خبر عن قوله : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ). وأدخلت الفاء في الخبر لتضمّن الموصول معنى الشرط ، ورجّح هذا بأنّ المشهور أنّ الوقت على قوله : (وَالْأَقْرَبُونَ) وليس على قوله : (أَيْمانُكُمْ). والمعاقدة : حصول العقد من الجانبين ، أي الذين تعاقدتم معهم على أن يكونوا بمنزلة الأبناء أو بمنزلة الإخوة أو بمنزلة أبناء العمّ. والأيمان جمع يمين : إمّا بمعنى اليد ، أسند العقد إلى الأيدي مجازا لأنّها تقارن المتعاقدين لأنّهم يضعون أيدي بعضهم في أيدي الآخرين ، علامة على انبرام العقد ، ومن أجل ذلك سمّي العقد صفقة أيضا ؛ لأنّه يصفّق فيه اليد على اليد ، فيكون من باب (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النساء : ٣] ؛ وإمّا بمعنى القسم لأنّ ذلك كان يصحبه قسم ، ومن أجل ذلك سمّي حلفا ، وصاحبه حليفا. وإسناد العقد إلى الأيمان بهذا المعنى مجاز أيضا ؛ لأنّ القسم هو سبب انعقاد الحلف.

والمراد ب (الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) : قيل موالي الحلف الذي كان العرب يفعلونه في الجاهلية ، وهو أن يحالف الرجل الآخر فيقول له «دمي دمك وهدمي هدمك ـ أي إسقاط أحدهما للدم الذي يستحقّه يمضي على الآخر ـ وثأري ثأرك وحربي حربك وسلمي سلمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عنّي وأعقل عنك». وقد جمع هذين الصنفين من الموالي الحصين بن الحمام من شعراء الحماسة في قوله :

مواليكم مولى الولادة منكم

ومولى اليمين حابس قد تقسّما

قيل : كانوا جعلوا للمولى السدس في تركة الميت ، فأقرّته هذه الآية ، ثم نسختها آية الأنفال : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأنفال : ٧٥] قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابن جبير ، ولعلّ مرادهم أنّ المسلمين جعلوا للمولى السدس وصية لأنّ أهل الجاهلية لم تكن عندهم مواريث معيّنة. وقيل : نزلت هذه الآية في ميراث الإخوة الذين آخى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم من المهاجرين والأنصار في أول الهجرة ، فكانوا يتوارثون بذلك دون ذوي الأرحام ، ثم نسخ الله ذلك بآية الأنفال ، فتكون هذه الآية منسوخة. وفي أسباب النزول للواحدي ، عن سعيد بن المسيّب ، أنّها نزلت في التبنّي الذي كان في الجاهلية ، فكان المتبنّي يرث المتبني (بالكسر) مثل تبنّي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيد بن حارثة الكلبي ، وتبنّي الأسود بن عبد يغوث المقداد الكندي ، المشهور بالمقداد بن الأسود ، وتبنّي الخطاب بن نفيل عامرا بن ربيعة ، وتبنّي أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة سالما بن معقل الأصطخري ، المشهور بسالم مولى أبي حذيفة ، ثم نسخ بالمواريث. وعلى القول بأنّ

١١١

(وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) جملة مستأنفة فالآية غير منسوخة ؛ فقال ابن عباس في رواية ابن جبير عنه في «البخاري» هي ناسخة لتوريث المتآخين من المهاجرين والأنصار ، لأنّ قوله : (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) حصر الميراث في القرابة ، فتعيّن على هذا أنّ قوله : (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) أي نصيب الذين عاقدت أيمانكم من النصر والمعونة ، أو فآتوهم نصيبهم بالوصية ، وقد ذهب الميراث. وقال سعيد بن المسيّب : نزلت في التبنّي أمرا بالوصية للمتبنّى. وعن الحسن أنّها في شأن الموصى له إذا مات قبل موت الموصي أن تجعل الوصية لأقاربه لزوما.

وقرأ الجمهور : عاقدت ـ بألف بعد العين ـ. وقرأه حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : (عَقَدَتْ) ـ بدون ألف ومع تخفيف القاف ـ.

والفاء في قوله : (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) فاء الفصيحة على جعل قوله : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) معطوفا على (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) ، أو هي زائدة في الخبر إن جعل (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ) مبتدأ على تضمين الموصول معنى الشرطية. والأمر في الضمير المجرور على الوجهين ظاهر.

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤))

استئناف ابتدائي لذكر تشريع في حقوق الرجال وحقوق النساء والمجتمع العائلي.

وقد ذكر عقب ما قبله لمناسبة الأحكام الراجعة إلى نظام العائلة ، لا سيما أحكام النساء ، فقوله : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) أصل تشريعي كلّيّ تتفرّع عنه الأحكام التي في الآيات بعده ، فهو كالمقدّمة.

وقوله : (فَالصَّالِحاتُ) تفريع عنه مع مناسبته لما ذكر من سبب نزول (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) [النساء : ٣٢] فيما تقدّم.

والحكم الذي في هذه الآية حكم عامّ جيء به لتعليل شرع خاصّ.

فلذلك فالتعريف في (الرِّجالُ) و (النِّساءِ) للاستغراق ، وهو استغراق عرفي مبني

١١٢

على النظر إلى الحقيقة ، كالتعريف في قول الناس «الرجل خير من المرأة» ، يؤول إلى الاستغراق العرفي ، لأنّ الأحكام المستقراة للحقائق أحكام أغلبية ، فإذا بني عليها استغراق فهو استغراق عرفي. والكلام خبر مستعمل في الأمر كشأن الكثير من الأخبار الشرعية.

والقوّام : الذي يقوم على شأن شيء ويليه ويصلحه ، يقال : قوّام وقيّام وقيّوم وقيّم ، وكلّها مشتقّة من القيام المجازي الذي هو مجاز مرسل أو استعارة تمثيلية ، لأنّ شأن الذي يهتمّ بالأمر ويعتني به أن يقف ليدير أمره ، فأطلق على الاهتمام القيام بعلاقة اللزوم. أو شبّه المهتم بالقائم للأمر على طريقة التمثيل. فالمراد من الرجال من كان من أفراد حقيقة الرجل ، أي الصنف المعروف من النوع الإنساني ، وهو صنف الذكور ، وكذلك المراد من النساء صنف الإناث من النوع الإنساني ، وليس المراد الرجال جمع الرجل بمعنى رجل المرأة ، أي زوجها ؛ لعدم استعماله في هذا المعنى ، بخلاف قولهم : امرأة فلان ، ولا المراد من النساء الجمع الذي يطلق على الأزواج الإناث وإن كان ذلك قد استعمل في بعض المواضع مثل قوله تعالى : (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) ، بل المراد ما يدلّ عليه اللفظ بأصل الوضع كما في قوله تعالى : (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) [النساء : ٣٢] ، وقول النابغة :

ولا نسوتي حتّى يمتن حرائرا

يريد أزواجه وبناته وولاياه.

فموقع (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) موقع المقدّمة للحكم بتقديم دليله للاهتمام بالدليل ، إذ قد يقع فيه سوء تأويل ، أو قد وقع بالفعل ، فقد روي أنّ سبب نزول الآية قول النساء «ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث وشركناهم في الغزو».

وقيام الرجال على النساء هو قيام الحفظ والدفاع ، وقيام الاكتساب والإنتاج المالي ، ولذلك قال : (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) أي : بتفضيل الله بعضهم على بعض وبإنفاقهم من أموالهم ، إن كانت (ما) في الجملتين مصدرية ، أو بالذي فضّل الله به بعضهم ، وبالذي أنفقوه من أموالهم ، إن كانت (ما) فيهما موصولة ، فالعائدان من الصلتين محذوفان : أمّا المجرور فلأنّ اسم الموصول مجرور بحرف مثل الذي جرّ به الضمير المحذوف ، وأمّا العائد المنصوب من صلة (وَبِما أَنْفَقُوا) فلأنّ العائد المنصوب يكثر حذفه من الصلة. والمراد بالبعض في قوله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ) هو فريق الرجال كما هو ظاهر من العطف في قوله : (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) فإنّ الضميرين

١١٣

للرجال.

فالتفضيل هو المزايا الجبلية التي تقتضي حاجة المرأة إلى الرجل في الذبّ عنها وحراستها لبقاء ذاتها ، كما قال عمرو بن كلثوم :

يقتن جيادنا ويقلن لستم

بعولتنا إذا لم تمنعونا

فهذا التفضيل ظهرت آثاره على مرّ العصور والأجيال ، فصار حقّا مكتسبا للرجال ، وهذه حجّة برهانية على كون الرجال قوّامين على النساء فإنّ حاجة النساء إلى الرجال من هذه الناحية مستمرّة وإن كانت تقوى وتضعف.

وقوله : (وَبِما أَنْفَقُوا) جيء بصيغة الماضي للإيماء إلى أنّ ذلك أمر قد تقرّر في المجتمعات الإنسانية منذ القدم ، فالرجال هم العائلون لنساء العائلة من أزواج وبنات. وأضيفت الأموال إلى ضمير الرجال لأنّ الاكتساب من شأن الرجال ، فقد كان في عصور البداوة بالصيد وبالغارة وبالغنائم والحرث ، وذلك من عمل الرجال ، وزاد اكتساب الرجال في عصور الحضارة بالغرس والتجارة والإجارة والأبنية ، ونحو ذلك ، وهذه حجّة خطابية لأنّها ترجع إلى مصطلح غالب البشر ، لا سيما العرب. ويندر أن تتولّى النساء مساعي من الاكتساب ، لكن ذلك نادر بالنسبة إلى عمل الرجل مثل استئجار الظئر نفسها وتنمية المرأة مالا ورثته من قرابتها.

ومن بديع الإعجاز صوغ قوله : (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) في قالب صالح للمصدرية وللموصولية ، فالمصدرية مشعرة بأنّ القيامة سببها تفضيل من الله وإنفاق ، والموصولية مشعرة بأنّ سببها ما يعلمه الناس من فضل الرجال ومن إنفاقهم ليصلح الخطاب للفريقين : عالمهم وجاهلهم ، كقول السموأل أو الحارثي :

سلي إن جهلت الناس عنّا وعنهم

فليس سواء عالم وجهول

ولأنّ في الإتيان ب (بما) مع الفعل على تقدير احتمال المصدرية جزالة لا توجد في قولنا : بتفضيل الله وبالإنفاق ، لأنّ العرب يرجّحون الأفعال على الأسماء في طرق التعبير.

وقد روي في سبب نزول الآية : أنّها قول النساء ، ومنهن أمّ سلمة أمّ المؤمنين : «أتغزو الرجال ولا نغزو وإنّما لنا نصف الميراث» فنزل قوله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) [النساء : ٣٢] إلى هذه الآية ، فتكون هذه الآية إكمالا لما يرتبط

١١٤

بذلك التمنّي. وقيل : نزلت هذه الآية بسبب سعد بن الربيع الأنصاري : نشزت منه زوجه حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها فشكاه أبوها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرها أن تلطمه كما لطمها ، فنزلت الآية في فور ذلك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أردت شيئا وأراد الله غيره ، ونقض حكمه الأول ، وليس في هذا السبب الثاني حديث صحيح ولا مرفوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكنّه ممّا روي عن الحسن ، والسدّي ، وقتادة.

والفاء في قوله : (فَالصَّالِحاتُ) للفصيحة ، أي إذا كان الرجال قوّامين على النساء فمن المهمّ تفصيل أحوال الأزواج منهنّ ومعاشرتهنّ أزواجهنّ وهو المقصود ، فوصف الله الصالحات منهن وصفا يفيد رضاه تعالى ، فهو في معنى التشريع ، أي ليكنّ صالحات. والقانتات : المطيعات لله. والقنوت : عبادة الله ، وقدّمه هنا وإن لم يكن من سياق الكلام للدلالة على تلازم خوفهنّ الله وحفظ حقّ أزواجهنّ ، ولذلك قال : (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) ، أي حافظات أزواجهنّ عند غيبتهم. وعلّق الغيب بالحفظ على سبيل المجاز العقلي لأنّه وقته. والغيب مصدر غاب ضدّ حضر. والمقصود غيبة أزواجهنّ ، واللام للتعدية لضعف العامل ، إذ هو غير فعل ، فالغيب في معنى المفعول ، وقد جعل مفعولا للحفظ على التوسّع لأنّه في الحقيقة ظرف للحفظ ، فأقيم مقام المفعول ليشمل كلّ ما هو مظنّة تخلّف الحفظ في مدّته : من كلّ ما شأنه أن يحرسه الزوج الحاضر من أحوال امرأته في عرضه وماله ، فإنّه إذا حضر يكون من حضوره وازعان : يزعها بنفسه ويزعها أيضا اشتغالها بزوجها أمّا حال الغيبة فهو حال نسيان واستخفاف ، فيمكن أن يبدو فيه من المرأة ما لا يرضي زوجها إن كانت غير صالحة أو سفيهة الرأي ، فحصل بإنابة الظرف عن المفعول إيجاز بديع ، وقد تبعه بشّار إذ قال :

ويصون غيبكم وإن نزحا

والباء في (بِما حَفِظَ اللهُ) للملابسة ، أي حفظا ملابسا لما حفظ الله ، و (ما) مصدرية أي بحفظ الله ، وحفظ الله هو أمره بالحفظ ، فالمراد الحفظ التكليفي ، ومعنى الملابسة أنهنّ يحفظن أزواجهنّ حفظا مطابقا لأمر الله تعالى ، وأمر الله يرجع إلى ما فيه حقّ للأزواج وحدهم أو مع حقّ الله ، فشمل ما يكرهه الزوج إذا لم يكن فيه حرج على المرأة ، ويخرج عن ذلك ما أذن الله للنساء فيه ، كما أذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هندا بنت عتبة : أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها وولدها بالمعروف. لذلك قال مالك : إنّ للمرأة أن تدخل الشهود إلى بيت زوجها في غيبته وتشهدهم بما تريد وكما أذن لهن النبي أن

١١٥

يخرجن إلى المساجد ودعوة المسلمين.

وقوله : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) هذه بعض الأحوال المضادّة للصلاح وهو النشوز ، أي الكراهية للزوج ، فقد يكون ذلك لسوء خلق المرأة ، وقد يكون لأنّ لها رغبة في التزوّج بآخر ، وقد يكون لقسوة في خلق الزوج ، وذلك كثير. والنشوز في اللغة الترفّع والنهوض ، وما يرجع إلى معنى الاضطراب والتباعد ، ومنه نشز الأرض ، وهو المرتفع منها.

قال جمهور الفقهاء : النشوز عصيان المرأة زوجها والترفّع عليه وإظهار كراهيته ، أي إظهار كراهية لم تكن معتادة منها ، أي بعد أن عاشرته ، كقوله : «وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا». وجعلوا الإذن بالموعظة والهجر والضرب مرتّبا على هذا العصيان ، واحتجّوا بما ورد في بعض الآثار من الإذن للزوج في ضرب زوجته الناشز ، وما ورد من الأخبار عن بعض الصحابة أنّهم فعلوا ذلك في غير ظهور الفاحشة. وعندي أنّ تلك الآثار والأخبار محمل الإباحة فيها أنّها قد روعي فيها عرف بعض الطبقات من الناس ، أو بعض القبائل ، فإنّ الناس متفاوتون في ذلك ، وأهل البدو منهم لا يعدّون ضرب المرأة اعتداء ، ولا تعدّه النساء أيضا اعتداء ، قال عامر بن الحارث النمري الملقّب بجران العود.

عمدت لعود فالتحيت جرانه

وللكيس أمضى في الأمور وأنجح

خذا حذرا يا خلّتيّ فإنّني

رأيت جران العود قد كاد يصلح

والتحيت : قشّرت ، أي قددت ، بمعنى : أنّه أخذ جلدا من باطن عنق بعير وعمله سوطا ليضرب به امرأتيه ، يهدّدهما بأنّ السوط قد جفّ وصلح لأن يضرب به.

وقد ثبت في «الصحيح» أنّ عمر بن الخطاب قال : (كنا معشر المهاجرين قوما نغلب نساءنا فإذا الأنصار قوم تغلبهم نساؤهم فأخذ نساؤنا يتأدّبن بأدب نساء الأنصار). فإذا كان الضرب مأذونا فيه للأزواج دون ولاة الأمور ، وكان سببه مجرّد العصيان والكراهية دون الفاحشة ، فلا جرم أنّه أذن فيه لقوم لا يعدّون صدوره من الأزواج إضرارا ولا عارا ولا بدعا من المعاملة في العائلة ، ولا تشعر نساؤهم بمقدار غضبهم إلّا بشيء من ذلك.

وقوله : (فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَ) مقصود منه الترتيب كما يقتضيه ترتيب ذكرها مع ظهور أنّه لا يراد الجمع بين الثلاثة ، والترتيب هو الأصل

١١٦

والمتبادر في العطف بالواو ، قال سعيد بن جبير : يعظها ، فإن قبلت ، وإلّا هجرها ، فإن هي قبلت ، وإلّا ضربها ، ونقل مثله عن علي.

واعلم أنّ الواو هنا مراد بها التقسيم باعتبار أقسام النساء في النشوز.

وقوله : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) احتمال ضمير الخطاب فيه يجري على نحو ما تقدّم في ضمائر (تَخافُونَ) وما بعده ، والمراد الطاعة بعد النشوز ، أي إن رجعن عن النشوز إلى الطاعة المعروفة. ومعنى : (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) فلا تطلبوا طريقا لإجراء تلك الزواجر عليهنّ ، والخطاب صالح لكلّ من جعل له سبيل على الزوجات في حالة النشوز على ما تقدّم.

والسبيل حقيقته الطريق ، وأطلق هنا مجازا على التوسّل والتسبّب والتذرّع إلى أخذ الحقّ ، وسيجيء عند قوله تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) في سورة براءة [٩١] ، وانظر قوله الآتي (وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً).

و (عَلَيْهِنَ) متعلّق ب (سبيلا) لأنّه ضمّن معنى الحكم والسلطان ، كقوله تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) [التوبة : ٩١].

وقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) تذييل للتهديد ، أي إنّ الله عليّ عليكم ، حاكم فيكم ، فهو يعدل بينكم ، وهو كبير ، أي قويّ قادر ، فبوصف العلوّ يتعيّن امتثال أمره ونهيه ، وبوصف القدرة يحذر بطشه عند عصيان أمره ونهيه.

ومعنى (تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) تخافون عواقبه السيّئة. فالمعنى أنّه قد حصل النشوز مع مخائل قصد العصيان والتصميم عليه لا مطلق المغاضبة أو عدم الامتثال ، فإنّ ذلك قلّما يخلو عنه حال الزوجين ، لأنّ المغاضبة والتعاصي يعرضان للنساء والرجال ، ويزولان ، وبذلك يبقى معنى الخوف على حقيقته من توقّع حصول ما يضرّ ، ويكون الأمر بالوعظ والهجر والضرب مراتب بمقدار الخوف من هذا النشوز والتباسه بالعدوان وسوء النية. والمخاطب بضمير (تَخافُونَ) إمّا الأزواج ، فتكون تعدية (خاف) إليه على أصل تعدية الفعل إلى مفعوله ، نحو (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ) [آل عمران : ١٧٥] ويكون إسناد (فَعِظُوهُنَّ ـ وَاهْجُرُوهُنَ) ـ (وَاضْرِبُوهُنَ) على حقيقته.

ويجوز أن يكون المخاطب مجموع من يصلح لهذا العمل من ولاة الأمور والأزواج ؛ فيتولّى كلّ فريق ما هو من شأنه ، وذلك نظير قوله تعالى في سورة البقرة

١١٧

[٢٢٩] (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) إلخ. فخاطب (لكم) للأزواج ، وخطاب (فَإِنْ خِفْتُمْ) [البقرة : ٢٢٩] لولاة الأمور ، كما في «الكشّاف». قال : ومثل ذلك غير عزيز في القرآن وغيره. يريد أنّه من قبيل قوله تعالى في سورة الصفّ [١١ ـ ١٣] : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) إلى قوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) فإنّه جعل (وَبَشِّرِ) عطفا على (تُؤْمِنُونَ) أي فهو خطاب للجميع لكنّه لمّا كان لا يتأتّى إلّا من الرسول خصّ به. وبهذا التأويل أخذ عطاء إذ قال : لا يضرب الزوج امرأته ولكن يغضب عليها. قال ابن العربي : هذا من فقه عطاء وفهمه الشريعة ووقوفه على مظانّ الاجتهاد علم أنّ الأمر بالضرب هنا أمر إباحة ، ووقف على الكراهية من طريق أخرى كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ولن يضرب خياركم». وأنا أرى لعطاء نظرا أوسع ممّا رآه له ابن العربي : وهو أنّه وضع هاته الأشياء مواضعها بحسب القرائن ، ووافقه على ذلك جمع من العلماء ، قال ابن الفرس : وأنكروا الأحاديث المرويّة بالضرب. وأقول : أو تأوّلوها. والظاهر أنّ الإذن بالضرب لمراعاة أحوال دقيقة بين الزوجين فأذن للزوج بضرب امرأته ضرب إصلاح لقصد إقامة المعاشرة بينهما ؛ فإن تجاوز ما تقتضيه حالة نشوزها كان معتديا.

ولذلك يكون المعنى (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) أي تخافون سوء مغبّة نشوزهنّ ، ويقتضي ذلك بالنسبة لولاة الأمور أنّ النشوز رفع إليهم بشكاية الأزواج ، وأنّ إسناد (فَعِظُوهُنَ) على حقيقته ، وأمّا إسناد (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) فعلى معنى إذن الأزواج بهجرانهنّ ، وإسناد (وَاضْرِبُوهُنَ) كما علمت.

وضمير المخاطب في قوله : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) يجري على التوزيع ، وكذلك ضمير (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً).

والحاصل أنّه لا يجوز الهجر والضرب بمجرّد توقّع النشوز قبل حصوله اتّفاقا ، وإذا كان المخاطب الأزواج كان إذنا لهم بمعاملة أزواجهم النواشز بواحدة من هذه الخصال الثلاث ، وكان الأزواج مؤتمنين على توخّي مواقع هذه الخصال بحسب قوّة النشوز وقدره في الفساد ، فأمّا الوعظ فلا حدّ له ، وأمّا الهجر فشرطه أن لا يخرج إلى حدّ الإضرار بما تجده المرأة من الكمد ، وقد قدّر بعضهم أقصاه بشهر.

وأمّا الضرب فهو خطير وتحديده عسير ، ولكنّه أذن فيه في حالة ظهور الفساد ؛ لأنّ المرأة اعتدت حينئذ ، ولكن يجب تعيين حدّ في ذلك ، يبيّن في الفقه ، لأنّه لو أطلق

١١٨

للأزواج أن يتولّوه ، وهم حينئذ يشفون غضبهم ، لكان ذلك مظنّة تجاوز الحدّ ، إذ قلّ من يعاقب على قدر الذنب ، على أن أصل قواعد الشريعة لا تسمح بأن يقضي أحد لنفسه لو لا الضرورة. بيد أنّ الجمهور قيّدوا ذلك بالسلامة من الإضرار ، وبصدوره ممّن لا يعدّ الضرب بينهم إهانة وإضرارا. فنقول : يجوز لولاة الأمور إذا علموا أنّ الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعها ، ولا الوقوف عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة ، ويعلنوا لهم أنّ من ضرب امرأته عوقب ، كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج ، لا سيما عند ضعف الوازع.

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥))

عطف على جملة (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) [النساء : ٣٤] وهذا حكم أحوال أخرى تعرض بين الزوجين ، وهي أحوال الشقاق من مخاصمة ومغاضبة وعصيان ، ونحو ذلك من أسباب الشقاق ، أي دون نشوز من المرأة.

والمخاطب هنا ولاة الأمور لا محالة ، وذلك يرجّح أن يكونوا هم المخاطبين في الآية التي قبلها.

والشّقاق مصدر كالمشاقّة ، وهو مشتقّ من الشّق ـ بكسر الشين ـ أي الناحية. لأنّ كلّ واحد يصير في ناحية ، على طريقة التخييل ، كما قالوا في اشتقاق العدوّ : إنّه مشتقّ من عدوة الوادي. وعندي أنّه مشتقّ من الشّقّ ـ بفتح الشين ـ وهو الصدع والتفرّع ، ومنه قولهم : شقّ عصا الطاعة ، والخلاف شقاق. وتقدّم في سورة البقرة [١٣٧] عند قوله تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) وأضاف الشقاق إلى (بين). إمّا لإخراج لفظ (بين) عن الظرفية إلى معنى البعد الذي يتباعده الشيئان ، أي شقاق تباعد ، أي تجاف ، وإمّا على وجه التوسّع ، كقوله «بل مكر الليل» وقول الشاعر :

يا سارق الليلة أهل الدار

ومن يقول بوقوع الإضافة على تقدير (في) يجعل هذا شاهدا له كقوله : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف : ٧٨] ، والعرب يتوسّعون في هذا الظرف كثيرا ، وفي القرآن من ذلك شيء كثير ، ومنه قوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] في قراءة الرفع.

وضمير (بَيْنِهِما) عائد إلى الزوجين المفهومين من سياق الكلام ابتداء من قوله :

١١٩

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) [النساء : ٤].

والحكم ـ بفتحتين ـ الحاكم الذي يرضى للحكومة بغير ولاية سابقة ، وهو صفة مشبّهة مشتقّة من قولهم : حكّموه فحكم ، وهو اسم قديم في العربية ، كانوا لا ينصبون القضاة ، ولا يتحاكمون إلّا إلى السيف ، ولكنّهم قد يرضون بأحد عقلائهم يجعلونه حكما في بعض حوادثهم ، وقد تحاكم عامر بن الطّفيل وعلقمة بن علاثة لدى هرم بن سنان العبسي ، وهي المحاكمة التي ذكرها الأعشى في قصيدته الرائية القائل فيها :

علقم ما أنت إلى عامر

الناقض الأوتار والواتر

وتحاكم أبناء نزار بن معدّ بن عدنان إلى الأفعى الجرهمي ، كما تقدّم في هذه السورة.

والضميران في قوله : (مِنْ أَهْلِهِ) ـ و (مِنْ أَهْلِها) عائدان على مفهومين من الكلام : وهما الزوج والزوجة ، واشترط في الحكمين أن يكون أحدهما من أهل الرجل والآخر من أهل المرأة ليكونا أعلم بدخلية أمرهما وأبصر في شأن ما يرجى من حالهما ، ومعلوم أنّه يشترط فيهما الصفات التي تخوّلهما الحكم في الخلاف بين الزوجين. قال ملك : إذا تعذّر وجود حكمين من أهلهما فيبعث من الأجانب ، قال ابن الفرس : «فإذا بعث الحاكم أجنبيّين مع وجود الأهل فيشبه أن يقال ينتقض الحكم لمخالفة النصّ ، ويشبه أن يقال ماض بمنزلة ما لو تحاكموا إليهما». قلت : والوجه الأوّل أظهر. وعند الشافعية كونهما من أهلهما مستحبّ فلو بعثا من الأجانب مع وجود الأقارب صحّ.

والآية دالّة على وجوب بعث الحكمين عند نزاع الزوجين النزاع المستمرّ المعبّر عنه بالشقاق ، وظاهرها أنّ الباعث هو الحاكم ووليّ الأمر ، لا الزوجان ، لأنّ فعل (فَابْعَثُوا) مؤذن بتوجيههما إلى الزوجين ، فلو كانا معيّنين من الزوجين لما كان لفعل البعث معنى. وصريح الآية : أنّ المبعوثين حكمان لا وكيلان ، وبذلك قال أئمّة العلماء من الصحابة والتابعين. وقضى به عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفّان ، وعلي بن أبي طالب ، وقاله ابن عباس ، والنخعي ، والشعبي ، ومالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وإسحاق. وعلى قول جمهور العلماء فما قضى به الحكمان من فرقة أو بقاء أو مخالعة يمضي ، ولا مقال للزوجين في ذلك لأنّ ذلك معنى التحكيم ، نعم لا يمنع هؤلاء من أن يوكّل الزوجان رجلين على النظر في شئونهما ، ولا من أن يحكّما حكمين على نحو تحكيم القاضي. وخالف في ذلك ربيعة فقال : لا يحكم إلّا القاضي دون الزوجين ، وفي كيفية حكمهما

١٢٠