تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

تعالى : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ) [فصلت : ١٩].

وقوله : (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي إن كان القتيل المؤمن. فجعل للقوم الذين بين المسلمين وبينهم ميثاق ، أيّ عهد من أهل الكفر ، دية قتيلهم المؤمن اعتدادا بالعهد الذي بيننا ـ وهذا يؤذن بأنّ الدية جبر لأولياء القتيل ، وليست مالا موروثا عن القاتل ، إذ لا يرث الكافر المسلم ، فلا حاجة إلى تأويل الآية بأن يكون للمقتول المؤمن وارث مؤمن في قوم معاهدين ، أو يكون المقتول معاهدا لا مؤمنا ، بناء على أنّ الضمير في «كان» عائد على القتيل بدون وصف الإيمان ، وهو تأويل بعيد لأنّ موضوع الآية فيمن قتل مؤمنا خطأ. ولا يهولنّكم التصريح بالوصف في قوله : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) لأنّ ذلك احتراس ودفع للتوهّم عند الخبر عنه بقوله : (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) أن يظن أحد أنّه أيضا عدوّ لنا في الدّين. وشرط كون القتيل مؤمنا في هذا لحكم مدلول بحمل مطلقه هنا على المقيّد في قوله هنالك (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ، ويكون موضوع هذا التفصيل في القتيل المسلم خطأ لتصدير الآية بقوله : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) ، وهذا قول مالك ، وأبي حنيفة.

وذهبت طائفة إلى إبقاء المطلق هنا على إطلاقه ، وحملوا معنى الآية على الذمّي والمعاهد ، يقتل خطأ فتجب الدية وتحرير رقبة ، وهو قول ابن عباس ، والشعبي ، والنخعي ، والشافعي ، ولكنّهم قالوا : إنّ هذا كان حكما في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين المسلمين صلح إلى أجل ، حتّى يسلموا أو يؤذنوا بحرب ، وإنّ هذا الحكم نسخ.

وقوله : (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) وصف الشهران بأنّهما متتابعان والمقصود تتابع أيامهما. لأنّ تتابع الأيام يستلزم توالي الشهرين.

وقوله : «توبة من الله» مفعول لأجله على تقدير : شرع الله الصيام توبة منه. والتوبة هنا مصدر تاب بمعنى قبل التوبة بقرينة تعديته ب (من) ، لأنّ تاب يطلق على معنى ندم وعلى معنى قبل منه ، كما تقدّم في قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) [النساء : ١٧] في هذه السورة ، أي خفّف الله عن القاتل فشرع الصيام ليتوب عليه فيما أخطأ فيه لأنّه أخطأ في عظيم. ولك أن تجعل (تَوْبَةً) مفعولا لأجله راجعا إلى تحرير الرقبة والدية وبدلهما ، وهو الصيام ، أي شرع الله الجميع توبة منه على القاتل ، ولو لم يشرع له ذلك لعاقبه على أسباب الخطأ ، وهي ترجع إلى تفريط الحذر والأخذ بالحزم. أو هو حال من «صيام» ، أي سبب توبة ، فهو حال مجازية عقلية.

٢٢١

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣))

هذا هو المقصود من التشريع لأحكام القتل ، لأنّه هو المتوقّع حصوله من الناس ، وإنّما أخّر لتهويل أمره ، فابتدأ بذكر قتل الخطأ بعنوان قوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [النساء : ٩٢].

والمتعمّد : القاصد للقتل ، مشتقّ من عمد إلى كذا بمعنى قصد وذهب. والأفعال كلّها لا تخرج عن حالتي عمد وخطأ ، ويعرف التعمّد بأن يكون فعلا لا يفعله أحد بأحد إلّا وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه بما تزهق به الأرواح في متعارف الناس ، وذلك لا يخفى على أحد من العقلاء. ومن أجل ذلك قال الجمهور من الفقهاء : القتل نوعان عمد وخطأ ، وهو الجاري على وفق الآية ، ومن الفقهاء من جعل نوعا ثالثا سمّاه شبه العمد ، واستندوا في ذلك إلى آثار مروية ، إن صحّت فتأويلها متعيّن وتحمل على خصوص ما وردت فيه. وذكر ابن جرير والواحدي أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ مقيسا بن صبابة (١) وأخاه هشام جاءا مسلمين مهاجرين فوجد هشام قتيلا في بني النجّار ، ولم يعرف قاتله ، فأمرهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعطاء أخيه مقيس مائة من الإبل ، دية أخيه ، وأرسل إليهم بذلك مع رجل من فهر فلمّا أخذ مقيس الإبل عدا على الفهري فقتله ، واستاق الإبل ، وانصرف إلى مكة كافرا ، وأنشد في شأن أخيه :

قتلت به فهرا وحمّلت عقله

سراة بني النجّار أرباب فارع (٢)

حللت به وترى وأدركت ثؤرتي

وكنت إلى الأوثان أوّل راجع

وقد أهدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دمه يوم فتح مكة ، فقتل بسوق مكة.

وقوله : (خالِداً فِيها) محمله عند جمهور علماء السنّة على طول المكث في النار لأجل قتل المؤمن عمدا ، لأنّ قتل النفس ليس كفرا بالله ورسوله ، ولا خلود في النار إلّا للكفر ، على قول علمائنا من أهل السنّة ، فتعيّن تأويل الخلود بالمبالغة في طول المكث ،

__________________

(١) مقيس بميم مسكورة وقاف وتحتية بوزن منبر. وصبابة بصاد مهملة وباءين موحدتين. قيل هو اسم أمه.

(٢) فارع اسم حصن في المدينة لبني النجار.

٢٢٢

وهو استعمال عربي. قال النابغة في مرض النعمان بن المنذر :

ونحن لديه نسأل الله خلده

يردّ ملكا وللأرض عامرا

ومحمله عند من يكفّر بالكبائر من الخوارج ، وعند من يوجب الخلود على أهل الكبائر ، على وتيرة إيجاب الخلود بارتكاب الكبيرة.

وكلا الفريقين متّفقون على أنّ التوبة ترد على جريمة قتل النفس عمدا ، كما ترد على غيرها من الكبائر ، إلّا أنّ نفرا من أهل السنّة شذّ شذوذا بيّنا في محمل هذه الآية : فروي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس : أنّ قاتل النفس متعمّدا لا تقبل له توبة ، واشتهر ذلك عن ابن عباس وعرف به ، أخذا بهذه الآية ، وأخرج البخاري أنّ سعيد بن جبير قال : آية اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلت فيها إلى ابن عباس ، فسألته عنها ، فقال: نزلت هذه الآية (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) الآية : هي آخر ما نزل وما نسخها شيء ، فلم يأخذ بطريق التأويل. وقد اختلف السلف في تأويل كلام ابن عباس : فحمله جماعة على ظاهره ، وقالوا : إنّ مستنده أنّ هذه الآية هي آخر ما نزل ، فقد نسخت الآيات التي قبلها ، التي تقتضي عموم التوبة ، مثل قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦] ، فقاتل النفس ممن لم يشإ الله يغفر له ومثل قوله (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) [طه : ٨٢] ، ومثل قوله : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً* إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) [الفرقان : ٦٨ ، ٦٩]. والحقّ أنّ محلّ التأويل ليس هو تقدّم النزول أو تأخّره ، ولكنّه في حمل مطلق الآية على الأدلّة التي قيّدت جميع أدلّة العقوبات الأخروية بحالة عدم التوبة. فأمّا حكم الخلود فحمله على ظاهره أو على مجازه ، وهو طول المدّة في العقاب ، مسألة أخرى لا حاجة إلى الخوض فيها حين الخوض في شأن توبة القاتل المتعمّد ، وكيف يحرم من قبول التوبة ، والتوبة من الكفر ، وهو أعظم الذنوب مقبولة ، فكيف بما هو دونه من الذنوب.

وحمل جماعة مراد ابن عبّاس على قصد التهويل والزجر ، لئلّا يجترئ الناس على قتل النفس عمدا ، ويرجون التوبة ، ويعضدون ذلك بأنّ ابن عباس روي عنه أنّه جاءه رجل فقال: «ألمن قتل مؤمنا متعمّدا توبة» فقال : «لا إلّا النار» ، فلمّا ذهب قال له جلساؤه «أهكذا كنت تفتينا فقد كنت تقول إنّ توبته مقبولة» فقال : «إنّي لأحسب السائل رجلا

٢٢٣

مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا» ، قل : فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك. وكان ابن شهاب إذا سأله عن ذلك من يفهم منه أنّه كان قتل نفسا يقول له : «توبتك مقبولة» وإذا سأله من لم يقتل ، وتوسّم من حاله أنّه يحاول قتل نفس ، قال له : لا توبة للقاتل.

وأقول : هذا مقام قد اضطربت فيه كلمات المفسّرين كما علمت ، وملاكه أنّ ما ذكره الله هنا في وعيد قاتل النفس قد تجاوز فيه الحدّ المألوف من الإغلاظ ، فرأى بعض السلف أنّ ذلك موجب لحمل الوعيد في الآية على ظاهره ، دون تأويل ، لشدّة تأكيده تأكيدا يمنع من حمل الخلود على المجاز ، فيثبت للقاتل الخلود حقيقة ، بخلاف بقية آي الوعيد ، وكأنّ هذا المعنى هو الذي جعلهم يخوضون في اعتبار هذه الآية محكمة أو منسوخة ، لأنّهم لم يجدوا ملجأ آخر يأوون إليه في حملها على ما حملت عليه آيات الوعيد : من محامل التأويل ، أو الجمع بين المتعارضات ، فآووا إلى دعوى نسخ نصّها بقوله تعالى في سورة الفرقان [٦٨ ، ٦٩] : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ـ إلى قوله ـ (إِلَّا مَنْ تابَ) لأنّ قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) إمّا أن يراد به مجموع الذنوب المذكورة ، فإذا كان فاعل مجموعها تنفعه التوبة ففاعل بعضها وهو القتل عمدا أجدر ، وإمّا أن يراد فاعل واحدة منها فالقتل عمدا مما عدّ معها. ولذا قال ابن عباس لسعيد بن جبير : إنّ آية النساء آخر آية نزلت وما نسخها شيء. ومن العجب أن يقال كلام مثل هذا ، ثم أن يطال وتتناقله الناس وتمرّ عليه القرون ، في حين لا تعارض بين هذه الآية التي هي وعيد لقاتل النفس وبين آيات قبول التوبة. وذهب فريق إلى الجواب بأنّها نسخت بآية : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] ، بناء على أنّ عموم (لِمَنْ يَشاءُ) نسخ خصوص القتل. وذهب فريق إلى الجواب بأنّ الآية نزلت في مقيس بن صبابة ، وهو كافر ـ فالخلود لأجل الكفر ، وهو جواب مبني على غلط لأنّ لفظ الآية عامّ إذ هو بصيغة الشرط فتعيّن أنّ «من» شرطية وهي من صيغ العموم فلا تحمل على شخص معيّن ؛ إلّا عند من يرى أنّ سبب العامّ يخصّصه بسببه لا غير ، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه. وهذه كلّها ملاجئ لا حاجة إليها ، لأنّ آيات التوبة ناهضة مجمع عليها متظاهرة ظواهرها ، حتّى بلغت حدّ النصّ المقطوع به ، فيحمل عليها آيات وعيد الذنوب كلّها حتّى الكفر. على أنّ تأكيد الوعيد في الآية إنّما يرفع احتمال المجاز في كونه وعيدا لا في تعيين المتوعّد به وهو الخلود. إذ المؤكّدات هنا مختلفة المعاني فلا يصحّ أن يعتبر أحدها مؤكّدا لمدلول الآخر بل إنّما أكّدت الغرض. وهو الوعيد ، لا أنواعه. وهذا هو الجواب القاطع لهاته الحيرة. وهو الذي يتعيّن اللجأ إليه ، والتعويل عليه.

٢٢٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤))

استئناف ابتدائي خوطب به المؤمنون ، استقصاء للتحذير من قتل المؤمن بذكر أحوال قد يتساهل فيها وتعرض فيها شبه. والمناسبة ما رواه البخاري ، عن ابن عبّاس ، قال : كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون ، فقال : السلام عليكم ، فقتلوه وأخذوا غنيمته ، فأنزل الله في ذلك هذه الآية. وفي رواية وقال : لا إله إلّا الله محمد رسول الله. وفي رواية أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حمل ديته إلى أهله وردّ غنيمته واختلف في اسم القاتل والمقتول ، بعد الاتّفاق على أنّ ذلك كان في سريّة ، فروى ابن القاسم ، عن مالك : أنّ القاتل أسامة بن زيد ، والمقتول مرداس بن نهيك الفزاري من أهل فدك ، وفي سيرة ابن إسحاق أنّ القاتل محلّم من جثامة ، والمقتول عامر بن الأضبط. وقيل : القاتل أبو قتادة ، وقيل أبو الدرداء ، وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبّخ القاتل ، وقال له : «فهلّا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه». ومخاطبتهم ب (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تلوّح إلى أنّ الباعث على قتل من أظهر الإسلام منهي عنه ، ولو كان قصد القاتل الحرص على تحقّق أنّ وصف الإيمان ثابت للمقتول ، فإنّ هذا التحقّق غير مراد للشريعة ، وقد ناطت صفة الإسلام بقول : «لا إله إلّا الله محمد رسول الله» أو بتحية الإسلام وهي «السلام عليكم».

والضرب : السير ، وتقدّم عند قوله تعالى : (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) في سورة آل عمران [١٥٦]. وقوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ) ظرف مستقر هو حال من ضمير (ضَرَبْتُمْ) وليس متعلّقا ب «ضربتم» لأنّ الضرب أي السّير لا يكون على سبيل الله إذ سبيل الله لقب للغزو ، ألا ترى قوله تعالى : (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى) الآية.

والتبيّن : شدّة طلب البيان ، أي التأمّل القويّ ، حسبما تقتضيه صيغة التفعّل. ودخول الفاء على فعل «تبيّنوا» لما في (إذا) من تضمّن معنى الاشتراط غالبا. وقرأ الجمهور : (فَتَبَيَّنُوا) ـ بفوقية ثم موحّدة ثم تحتيّة ثم نون ـ من التبيّن وهو تفعّل ، أي تثبّتوا واطلبوا بيان الأمور فلا تعجلوا فتتّبعوا الخواطر الخاطفة الخاطئة. وقرأه حمزة ، والكسائي،

٢٢٥

وخلف : فتثبتوا ـ بفاء فوقية فمثلّثة فموحّدة ففوقيّة ـ بمعنى اطلبوا الثابت ، أي الذي لا يتبدّل ولا يحتمل نقيض ما بدا لكم.

وقوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) قرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، وخلف «السّلم» ـ بدون ألف بعد اللام ـ وهو ضدّ الحرب ، ومعنى ألقى السلم أظهره بينكم كأنّه رماه بينهم ، وقرأ البقية «السّلام» ـ بالألف ـ وهو مشترك بين معنى السلم ضدّ الحرب ، ومعنى تحية الإسلام ، فهي قول : السلام عليكم ، أي من خاطبكم بتحية الإسلام علامة على أنّه مسلم.

وجملة (لَسْتَ مُؤْمِناً) مقول (لا تَقُولُوا). وقرأ الجمهور : (مُؤْمِناً) ـ بكسر الميم الثانية ـ بصيغة اسم الفاعل ، أي لا تنفوا عنه الإيمان وهو يظهره لكم ، وقرأه ابن وردان عن أبي جعفر ـ بفتح الميم الثانية ـ بصيغة اسم المفعول ، أي لا تقولوا له لست محصّلا تأميننا إياك ، أي إنّك مقتولا أو مأسور. و (عَرَضَ الْحَياةِ) : متاح الحياة ، والمراد به الغنيمة فعبّر عنها ب (عَرَضَ الْحَياةِ) تحقيرا لها بأنّها نفع عارض زائل.

وجملة (تَبْتَغُونَ) حالية ، أي ناقشتموه في إيمانه خشية أن يكون قصد إحراز ماله ، فكان عدم تصديقه آئلا إلى ابتغاء غنيمة ماله ، فأوخذوا بالمآل. فالمقصود من هذا القيد زيادة التوبيخ ، مع العلم بأنّه لو قال لمن أظهر الإسلام : لست مؤمنا ، وقتله غير آخذ منه مالا لكان حكمه أولى ممّن قصد أخذ الغنيمة ، والقيد ينظر إلى سبب النزول ، والحكم أعمّ من ذلك. وكذلك قوله : (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) أي لم يحصر الله مغانمكم في هذه الغنيمة.

وزاد في التوبيخ قوله : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي كنتم كفّارا فدخلتم الإسلام بكلمة الإسلام ، فلو أنّ أحدا أبى أن يصدّقكم في إسلامكم أكان يرضيكم ذلك. وهذه تربية عظيمة ، وهي أن يستشعر الإنسان عند مؤاخذته غيره أحوالا كان هو عليها تساوي أحوال من يؤاخذه ، كمؤاخذة المعلّم التلميذ بسوء إذا لم يقصّر في إعمال جهده. وكذلك هي عظيمة لمن يمتحنون طلبة العلم فيعتادون التشديد عليهم وتطلّب عثراتهم ، وكذلك ولاة الأمور وكبار الموظّفين في معاملة من لنظرهم من صغار الموظّفين ، وكذلك الآباء مع أبنائهم إذا بلغت بهم الحماقة أن ينتهروهم على اللعب المعتاد أو على الضجر من الآلام.

وقد دلّت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية ، وهي بثّ الثقة والأمان بين أفراد الأمّة ، وطرح ما من شأنه إدخال الشكّ لأنّه إذا فتح هذا الباب عسر سدّه ، وكما

٢٢٦

يتّهم المتّهم غيره فللغير أن يتّهم من اتّهمه ، وبذلك ترتفع الثقة ، ويسهل على ضعفاء الإيمان المروق ، إذ قد أصبحت التهمة تظلّ الصادق والمنافق ، وانظر معاملة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ المنافقين معاملة المسلمين. على أنّ هذا الدين سريع السريان في القلوب فيكتفي أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة ، إذ لا يلبثون أن يألفوه ، وتخالط بشاشته قلوبهم ، فهم يقتحمونه على شكّ وتردّد فيصير إيمانا راسخا ، وممّا يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين بهم.

ومن أجل ذلك أعاد الله الأمر فقال : (فَتَبَيَّنُوا) تأكيدا ل (تبيّنوا) المذكور قبله ، وذيّله بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) وهو يجمع وعيدا ووعدا.

[٩٥ ، ٩٦] (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦))

ولمّا لام الله بعض المجاهدين على ما صدر منهم من التعمّق في الغاية من الجهاد ، عقّب ذلك ببيان فضل المجاهدين كيلا يكون ذلك اللوم موهما انحطاط فضيلتهم في بعض أحوالهم ، على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالبشارة دفعا لليأس من الرحمة عن أنفس المسلمين.

يقول العرب «لا يستوي وليس سواء» بمعنى أنّ أحد المذكورين أفضل من الآخر. ويعتمدون في ذلك على القرينة الدالّة على تعيين المفضّل لأنّ من شأنه أن يكون أفضل. قال السموأل أو غيره :

فليس سواء عالم وجهول

وقال تعالى : (لَيْسُوا سَواءً) [آل عمران : ١١٣] ، وقد يتبعونه بما يصرّح بوجه نفي السوائية : إمّا لخفائه كقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) [الحديد : ١٠] ، وقد يكون التصريح لمجرّد التأكيد كقوله : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠]. وإذ قد كان وجه التفاضل معلوما في أكثر مواقع أمثال هذا التركيب ، صار في الغالب أمثال هذا التركيب مستعملة في معنى الكناية ، وهو التعريض بالمفضول في تفريطه

٢٢٧

وزهده فيما هو خير مع المكنة منه ، وكذلك هو هنا لظهور أنّ القاعد عن الجهاد لا يساوي المجاهد في فضيلة نصرة الدين ، ولا في ثوابه على ذلك ، فتعيّن التعريض بالقاعدين وتشنيع حالهم. وبهذا يظهر موقع الاستثناء بقوله : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) كيلا يحسب أصحاب الضرر أنهم مقصودون بالتحريض فيخرجوا مع المسلمين ، فيكلّفوهم مئونة نقلهم وحفظهم بلا جدوى ، أو يظنّوا أنّهم مقصودون بالتعريض فتنكسر لذلك نفوسهم ، زيادة على انكسارها بعجزهم ، ولأنّ في استثنائهم إنصافا لهم وعذرا بأنّهم لو كانوا قادرين لما قعدوا ، فذلك الظنّ بالمؤمن ، ولو كان المقصود صريح المعنى لما كان للاستثناء موقع. فاحفظوا هذا فالاستثناء مقصود ، وله موقع من البلاغة لا يضاع ، ولو لم يذكر الاستثناء لكان تجاوز التعريض أصحاب الضرر معلومات في سياق الكلام فالاستثناء عدول عن الاعتماد على القرينة إلى التصريح باللفظ. ويدلّ لهذا ما في «الصحيحين» ، عن زيد بن ثابت. أنّه قال : نزل الوحي على رسول الله وأنا إلى جنبه ثم سريّ عنه فقال : اكتب ، فكتبت في كتف (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) ، وخلف النبي ابن أمّ مكتوم فقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، فنزلت مكانها (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية. فابن أمّ مكتوم فهم المقصود من نفي الاستواء فظنّ أنّ التعريض يشمله وأمثاله ، فإنّه من القاعدين ، ولأجل هذا الظنّ عدل عن حراسة المقام إلى صراحة الكلام ، وهما حالان متساويان في عرف البلغاء ، هما حال مراعاة خطاب الذكي وخطاب الغبي ، فلذلك لم تكن زيادة الاستثناء مفيتة مقتضى حال من البلاغة ، ولكنها معوّضته بنظيره لأنّ السامعين أصناف كثيرة.

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، وخلف : (غَيْرُ) ـ بنصب الراء ـ على الحال من (الْقاعِدُونَ) ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ـ بالرفع ـ على النعت ل (الْقاعِدُونَ).

وجاز في «غير» الرفع على النعت ، والنصب على الحال ، لأنّ (القاعدون) تعريفه للجنس فيجوز فيه مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى.

والضرر : المرض والعاهة من عمّى أو عرج أو زمانة ، لأنّ هذه الصيغة لمصادر الأدواء ونحوها ، وأشهر استعماله في العمى ، ولذلك يقال للأعمى : ضرير ، ولا يقال ذلك للأعرج والزمن ، وأحسب أنّ المراد في هذه الآية خصوص العمى وأنّ غيره مقيس عليه.

٢٢٨

والضرر مصدر ضرر ـ بكسر الراء ـ مثل مرض ، وهذه الزنة تجيء في العاهات ونحوها ، مثل عمي وعرج وحصر ، ومصدرها مفتوح العين مثل العرج ، ولأجل خفّته ـ بفتح العين ـ امتنع إدغام المثلين فيه ، فقيل : ضرر بالفكّ ، وبخلاف الضرّ الذي هو مصدر ضرّه فهو واجب الإدغام إذ لا موجب للفكّ. ولا نعرف في كلام العرب إطلاق الضرر على غير العاهات الضارّة ؛ وأمّا ما روي من حديث «لا ضرر ولا ضرار» فهو نادر أو جرى على الاتباع والمزاوجة لاقترانه بلفظ ضرار وهو مفكّك. وزعم الجوهري أنّ ضرر اسم مصدر الضرّ ، وفيه نظر ؛ ولم يحفظ عن غيره ولا شاهد عليه.

وقوله : (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) لأنّ الجهاد يقتضي الأمرين : بذل النفس وبذل المال ، إلّا أنّ الجهاد على الحقيقة هو بذل النفس في سبيل الله ولو لم يتفق شيئا ، بل ولو كان كلّا على المؤمنين ، كما أنّ من بذل المال لإعانة الغزاة ، ولم يجاهد بنفسه ، لا يسمّى مجاهدا وإن كان له أجر عظيم ، وكذلك من حبسه العذر وكان يتمنّى زوال عذره واللحاق بالمجاهدين ، له فضل عظيم ، ولكن فضل الجهاد بالفعل لا يساويه فضل الآخرين.

وجملة : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ) بيان لجملة : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

وحقيقة الدرجة أنّها جزء من مكان يكون أعلى من جزء أخر متّصل به ، بحيث تتخطّى القدم إليه بارتقاء من المكان الذي كانت عليه بصعود ، وذلك مثل درجة العليّة ودرجة السلّم.

والدرجة هنا مستعارة للعلوّ المعنوي كما في قوله تعالى : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة : ٢٢٨] والعلوّ المراد هنا علوّ الفضل ووفرة الأجر.

وجيء ب (درجة) بصيغة الإفراد ، وليس إفرادها للوحدة ، لأنّ درجة هنا جنس معنوي لا أفراد له ، ولذلك أعيد التعبير عنها في الجملة التي جاءت بعدها تأكيدا لها بصيغة الجمع بقوله : (دَرَجاتٍ مِنْهُ) لأنّ الجمع أقوى من المفرد.

وتنوين (دَرَجَةً) للتعظيم. وهو يساوي مفاد الجمع في قوله الآتي (دَرَجاتٍ مِنْهُ).

وانتصب (دَرَجَةً) بالنيابة عن المفعول المطلق المبيّن للنوع في فعل (فَضَّلَ) إذ الدرجة هنا زيادة في معنى الفضل ، فالتقدير : فضل الله المجاهدين فضلا هو درجة ، أي درجة فضلا.

٢٢٩

وجملة (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) معترضة. وتنوين «كلا» تنوين عوض عن مضاف إليه ، والتقدير : وكلّ المجاهدين والقاعدين.

وعطف (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) على جملة (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ) ، وإن كان معنى الجملتين واحدا باعتبار ما في الجملة الثانية من زيادة (أَجْراً عَظِيماً) فبذلك غايرت الجملة المعطوفة الجملة المعطوف عليها مغايرة سوّغت العطف ، مع ما في إعادة معظم ألفاظها من توكيد لها.

والمراد بقوله : (الْمُجاهِدِينَ) المجاهدون بأموالهم وأنفسهم فاستغني عن ذكر القيد بما تقدّم من ذكره في نظيره السابق. وانتصب (أَجْراً عَظِيماً) على النيابة عن المفعول المطلق المبيّن للنوع لأنّ الأجر هو ذلك التفضيل ، ووصف بأنّه عظيم.

وانتصب درجات على البدل من قوله (أَجْراً عَظِيماً) ، أو على الحال باعتبار وصف درجات بأنّها (مِنْهُ) أي من الله.

وجمع (دَرَجاتٍ) لإفادة تعظيم الدرجة لأنّ الجمع لما فيه من معنى الكثرة تستعار صيغته لمعنى القوّة ، ألا ترى أنّ علقمة لمّا أنشد الحارث بن جبلة ملك غسان قوله يستشفع لأخيه شأس بن عبدة :

وفي كلّ حي قد خبطت بنعمة

فحقّ لشأس من نداك ذنوب

قال له الملك «وأذنبة».

[٩٧ ـ ٩٩] (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩))

فلمّا جاء ذكر القاعدين عن الجهاد من المؤمنين بعذر وبدونه ، في الآية السالفة ، كان حال القاعدين عن إظهار إسلامهم من الذين عزموا عليه بمكة ، أو اتّبعوه ثمّ صدّهم أهل مكة عنه وفتنوهم حتّى أرجعوهم إلى عبادة الأصنام بعذر وبدونه ، بحيث يخطر ببال السامع أن يتساءل عن مصيرهم إن هم استمرّوا على ذلك حتّى ماتوا ، فجاءت هذه الآية مجيبة عمّا يجيش بنفوس السّامعين من التساؤل عن مصير أولئك ، فكان موقعها استئنافا

٢٣٠

بيانيا لسائل متردّد ، ولذلك فصلت ، ولذلك صدّرت بحرف التأكيد ، فإنّ حالهم يوجب شكّا في أن يكونوا ملحقين بالكفّار ، كيف وهم قد ظهر ميلهم إلى الإسلام. ومنهم من دخل فيه بالفعل ثم صدّ عنه أو فتن لأجله.

والموصول هنا في قوّة المعرّف بلام الجنس ، وليس المراد شخصا أو طائفة بل جنس من مات ظالما نفسه ، ولما في الصلة من الإشعار بعلّة الحكم وهو قوله : (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) ، أي لأنّهم ظلموا أنفسهم.

ومعنى (تَوَفَّاهُمُ) تميتهم وتقبض أرواحهم ، فالمعنى : أنّ الذين يموتون ظالمي أنفسهم ، فعدل عن يموتون أو يتوفّون إلى توفّاهم الملائكة ليكون وسيلة لبيان شناعة فتنتهم عند الموت.

و «الملائكة» جمع أريد به الجنس ، فاستوى في إفادة معنى الجنس جمعه ، كما هنا ، ومفرده كما في قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السجدة : ١١] فيجوز أن يكون ملك الموت الذي يقبض أرواح الناس واحدا ، بقوة منه تصل إلى كلّ هالك ، ويجوز أن يكون لكلّ هالك ملك يقبض روحه ، وهذا أوضح ، ويؤيّده قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) إلى قوله : (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ).

و (تَوَفَّاهُمُ) فعل مضي يقال : توفّاه الله ، وتوفّاه ملك الموت ، وإنّما لم يقرن بعلامة تأنيث فاعل الفعل ، لأنّ تأنيث صيغ جموع التكسير تأنيث لفظي لا حقيقي فيجوز لحاق تاء التأنيث لفعلها ، تقول : غزت العرب ، وغزى العرب.

وظلم النفس أن يفعل أحد فعلا يؤول إلى مضرّته ، فهو ظالم لنفسه ، لأنّه فعل بنفسه ما ليس من شأن العقلاء أن يفعلوه لوخامة عقباه. والظلم هو الشيء الذي لا يحقّ فعله ولا ترضى به النفوس السليمة والشرائع ، واشتهر إطلاق ظلم النفس في القرآن على الكفر وعلى المعصية.

وقد اختلف في المراد به في هذه الآية ، فقال ابن عباس : المراد به الكفر ، وأنّها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا قد أسلموا حين كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، فلمّا هاجر أقاموا مع قومهم بمكة ففتنوهم فارتدّوا ، وخرجوا يوم بدر مع المشركين فكثّروا سواد المشركين ، فقتلوا ببدر كافرين ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ولكنّهم أكرهوا على الكفر والخروج ، فنزلت هذه الآية فيهم. رواه البخاري عن ابن عباس ،

٢٣١

قالوا : وكان منهم أبو قيس بن الفاكه ، والحارث بن زمعة ، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاص بن منبه بن الحجاج ؛ فهؤلاء قتلوا. وكان العباس بن عبد المطلب ، وعقيل ونوفل ابنا أبي طالب فيمن خرج معهم ، ولكن هؤلاء الثلاثة أسروا وفدوا أنفسهم وأسلموا بعد ذلك ، وهذا أصحّ الأقوال في هذه الآية.

وقيل : أريد بالظلم عدم الهجرة إذ كان قوم من أهل مكة أسلموا وتقاعسوا عن الهجرة. قال السديّ : كان من أسلم ولم يهاجر يعتبر كافرا حتّى يهاجر ، يعني ولو أظهر إسلامه وترك حال الشرك. وقال غيره : بل كانت الهجرة واجبة ولا يكفّر تاركها. فعلى قول السدّي فالظلم مراد به أيضا الكفر لأنّه معتبر من الكفر في نظر الشرع ، أي أنّ الشرع لم يكتف بالإيمان إذا لم يهاجر صاحبه مع التمكّن من ذلك ، وهذا بعيد فقد قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) [الأنفال : ٧٢] الآية ؛ فأوجب على المسلمين نصرهم في الدين إن استنصروهم ، وهذه حالة تخالف حالة الكفّار. وعلى قول غيره : فالظلم المعصية العظيمة ، والوعيد الذي في هذه الآية صالح للأمرين ، على أنّ المسلمين لم يعدّوا الذين لم يهاجروا قبل فتح مكة في عداد الصحابة. قال ابن عطية : لأنّهم لم يتعيّن الذين ماتوا منهم على الإسلام والذين ماتوا على الكفر فلم يعتدّوا بما عرفوا منهم قبل هجرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وجملة : (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) خبر (إنّ). والمعنى : قالوا لهم قول توبيخ وتهديد بالوعيد وتمهيد لدحض معذرتهم في قولهم : (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) ، فقالوا لهم (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها).

ويجوز أن يكون جملة : (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) موضع بدل الاشتمال من جملة (تَوَفَّاهُمُ) ، فإنّ توفّي الملائكة إيّاهم المحكي هنا يشتمل على قولهم لهم (فِيمَ كُنْتُمْ).

وأمّا جملة (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) فهي مفصولة عن العاطف جريا على طريقة المقاولة في المحاورة ، على ما بيّناه عند قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة. وكذلك جملة : (قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً). ويكون خبر (إنّ) قوله : (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) على أن يكون دخول الفاء في الخبر لكون اسم إنّ موصولا فإنّه يعامل معاملة أسماء الشروط كثيرا ، وقد تقدّمت نظائره. والإتيان بالفاء هنا أولى لطول الفصل بين اسم (إنّ) وخبرها بالمقاولة ، بحيث صار الخبر كالنتيجة لتلك المقاولة كما يدلّ عليه أيضا اسم الإشارة.

٢٣٢

والاستفهام في قوله : (فِيمَ كُنْتُمْ) مستعمل للتقرير والتوبيخ.

و (في) للظرفية المجازية. و (ما) استفهام عن حالة كما دلّ عليه (في). وقد علم المسئول أنّ الحالة المسئولون أنّ الحالة المسئول عنها حالة بقائهم على الكفر أو عدم الهجرة. فقالوا معتذرين (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ).

والمستضعف : المعدود ضعيفا فلا يعبأ بما يصنع به فليس هو في عزّة تمكّنه من إظهار إسلامه ، فلذلك يضطرّ إلى كتمان إسلامه. والأرض هي مكة. أرادوا : كنّا مكرهين على الكفر ما أقمنا في مكة ، وهذا جواب صادق إذ لا مطمع في الكذب في عالم الحقيقة وقد حسبوا ذلك عذرا يبيح البقاء على الشرك ، أو يبيح التخلّف عن الهجرة ، على اختلاف التفسيرين ، فلذلك ردّ الملائكة عليهم بقولهم : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) ، أي تخرجوا من الأرض التي تستضعفون فيها ، فبذلك تظهرون الإيمان ، أو فقد اتّسعت الأرض فلا تعدمون أرضا تستطيعون الإقامة فيها. وظاهر الآية أنّ الخروج إلى كلّ بلد غير بلد الفتنة يعدّ هجرة ، لكن دلّ قوله : (مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٠٠] أنّ المقصود الهجرة إلى المدينة وهي التي كانت واجبة ، وأمّا هجرة المؤمنين إلى الحبشة فقد كانت قبل وجوب الهجرة ؛ لأنّ النبي وفريقا من المؤمنين ، كانوا بعد بمكة ، وكانت بإذن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا ردّ مفحم لهم.

والمهاجرة : الخروج من الوطن وترك القوم ، مفاعلة من هجر إذا ترك ، وإنّما اشتقّ للخروج عن الوطن اسم المهاجرة لأنها في الغالب تكون عن كراهية بين الراحل والمقيمين ، فكلّ فريق يطلب ترك الآخر ، ثم شاع إطلاقها على مفارقة الوطن بدون هذا القيد.

والفاء في قوله : (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) [النساء : ٩٧] تفريع على ما حكى من توبيخ الملائكة إيّاهم وتهديدهم.

وجيء باسم الإشارة في قوله : (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) للتنبيه على أنّهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة من أجل الصفات المذكورة قبله ، لأنّهم كانوا قادرين على التخلّص من فتنة الشرك بالخروج من أرضه.

وقوله : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) استثناء من الوعيد ، والمعنى إلّا المستضعفين حقّا ، أي العاجزين عن الخروج من مكة لقلّة جهد ، أو لإكراه المشركين إيّاهم وإيثاقهم على البقاء :

٢٣٣

مثل عيّاش بن أبي ربيعة المتقدّم خبره في قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [النساء : ٩٢] ، ومثل سلمة بن هشام ، والوليد بن الوليد. وفي «البخاري» أنّ رسول الله كان يدعو في صلاة العشاء : «اللهمّ نجّ عيّاش بن أبي ربيعة اللهمّ نجّ الوليد بن الوليد ، اللهمّ نجّ سلمة بن هشام اللهمّ نجّ المستضعفين من المؤمنين». وعن ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين.

والتبيين بقوله : (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) لقصد التعميم. والمقصد التنبيه على أنّ من الرجال مستضعفين ، فلذلك ابتدئ بذكرهم ثم ألحق بذكرهم النساء والصبيان لأنّ وجودهم في العائلة يكون عذرا لوليّهم إذا كان لا يجد حيلة. وتقدّم ذكرهم بقوله تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) [النساء : ٧٥] ، وإعادة ذكرهم هنا ممّا يؤكّد أن تكون الآيات كلّها نزلت في التهيئة لفتح مكة.

وجملة : (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) حال من المستضعفين موضّحة للاستضعاف ليظهر أنّه غير الاستضعاف الذي يقوله الذين ظلموا أنفسهم (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) ، أي لا يستطيعون حيلة في الخروج إمّا لمنع أهل مكة إيّاهم ، أو لفقرهم : (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) أي معرفة للطريق كالأعمى.

وجملة (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) الفاء فيها للفصيحة ، والإتيان بالإشارة للتنبيه على أنّهم جديرون بالحكم المذكور من المغفرة.

وفعل (عَسَى) في قوله : (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) يقتضي أنّ الله يرجو أن يعفو عنهم ، وإذ كان الله هو فاعل العفو وهو عالم بأنّه يعفو عنهم أو عن بعضهم بالتعيين تعيّن أن يكون معنى الرجاء المستفاد من (عَسَى) هنا معنى مجازيا بأنّ عفوه عن ذنبهم عفو عزيز المنال ، فمثّل حال العفو عنهم بحال من لا يقطع بحصول العفو عنه ، والمقصود من ذلك تضييق تحقق عذرهم ، لئلّا يتساهلوا في شروطه اعتمادا على عفو الله ، فإنّ عذر الله لهم باستضعافهم رخصة وتوسعة من الله تعالى ، لأنّ البقاء على إظهار الشرك أمر عظيم ، وكان الواجب العزيمة أن يكلّفوا بإعلان الإيمان بين ظهراني المشركين ولو جلب لهم التعذيب والهلاك ، كما فعلت سميّة أمّ عمّار بن ياسر.

وهذا الاستعمال هو محمل موارد (عَسَى) و (لعلّ) إذا أسندا إلى اسم الله تعالى كما تقدّم عند قوله تعالى : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) في سورة البقرة [٥٣] ، وهو معنى قول أبي عبيدة : «عسى من الله إيجاب» وقول كثير من العلماء: أنّ عسى

٢٣٤

ولعلّ في القرآن لليقين ، ومرادهم إذا أسند إلى الله تعالى بخلاف نحو قوله : (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) [الكهف : ٢٤].

ومثل هذا ما قالوه في وقوع حرف (إن) الشرطية في كلام الله تعالى ، مع أنّ أصلها أن تكون للشرط المشكوك في حصوله.

وقد اتّفق العلماء على أنّ حكم هذه الآية انقضى يوم فتح مكة لأنّ الهجرة كانت واجبة لمفارقة أهل الشرك وأعداء الدين ، وللتمكّن من عبادة الله دون حائل يحول عن ذلك ، فلمّا صارت مكة دار إسلام ساوت غيرها ، ويؤيّده حديث : «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة» فكان المؤمنون يبقون في أوطانهم إلّا المهاجرين يحرم عليهم الرجوع إلى مكة. وفي الحديث : «اللهمّ امض لأصحابي هجرتهم ولا تردّهم على أعقابهم» قاله بعد أن فتحت مكة. غير أنّ القياس على حكم هذه الآية يفتح للمجتهدين نظرا في أحكام وجوب الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن في دينه ، وهذه أحكام يجمعها ستّة أحوال :

الحالة الأولى : أن يكون المؤمن ببلد يفتن فيه في إيمانه فيرغم على الكفر وهو يستطيع الخروج ، فهذا حكمه حكم الذين نزلت فيهم الآية ، وقد هاجر مسلمون من الأندلس حين أكرههم النصارى على التنصّر ، فخرجوا على وجوههم في كلّ واد تاركين أموالهم وديارهم ناجين بأنفسهم وإيمانهم ، وهلك فريق منهم في الطريق وذلك في سنة ٩٠٢ وما بعدها إلى أن كان الجلاء الأخير سنة ١٠١٦.

الحالة الثانية : أن يكون ببلد الكفر غير مفتون في إيمانه ولكن يكون عرضة للإصابة في نفسه أو ماله بأسر أو قتل أو مصادرة مال ، فهذا قد عرض نفسه للضرّ وهو حرام بلا نزاع ، وهذا مسمّى الإقامة ببلد الحرب المفسّرة بأرض العدوّ.

الحالة الثالثة : أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلّا أنّهم لم يفتنوا الناس في إيمانهم ولا في عباداتهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، ولكنّه بإقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له حادث مع واحد من أهل ذلك البلد الذين هم غير مسلمين ، وهذا مثل الذي يقيم اليوم ببلاد أوروبا النصرانية ، وظاهر قول مالك أنّ المقام في مثل ذلك مكروه كراهة شديدة من أجل أنّه تجري عليه أحكام غير المسلمين ، وهو ظاهر المدوّنة في كتاب التجارة إلى أرض الحرب والعتبية ، كذلك تأوّل قول مالك فقهاء القيروان ، وهو ظاهر الرسالة ، وصريح كلام اللخمي في طالعة كتاب التجارة إلى أرض

٢٣٥

الحرب من تبصرته ، وارتضاه ابن محرز وعبد الحقّ ، وتأوّله سحنون وابن حبيب على الحرمة وكذلك عبد الحميد الصائغ والمازري ، وزاد سحنون فقال : إنّ مقامه جرحة في عدالته ، ووافقه المازري وعبد الحميد ، وعلى هذا يجري الكلام في السفر في سفن النصارى إلى الحجّ وغيره. وقال البرزلي عن ابن عرفة : إن كان أمير تونس قويّا على النصارى جاز السفر ، وإلّا لم يجز ، لأنّهم يهينون المسلمين.

الحالة الرابعة : أن يتغلّب الكفّار على بلد أهله مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم ولا في عبادتهم ولا في أموالهم ، ولكنّهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط ، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام كما وقع في صقلية حين استولى عليها رجير النرمندي. وكما وقع في بلاد غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على شروط منها احترام دينهم ، فإنّ أهلها أقاموا بها مدّة وأقام منهم علماؤهم وكانوا يلون القضاء والفتوى والعدالة والأمانة ونحو ذلك ، وهاجر فريق منهم فلم يعب المهاجر على القاطن ، ولا القاطن على المهاجر.

الحالة الخامسة : أن يكون لغير المسلمين نفوذ وسلطان على بعض بلاد الإسلام ، مع بقاء ملوك الإسلام فيها ، واستمرار تصرّفهم في قومهم ، وولاية حكّامهم منهم ، واحترام أديانهم وسائر شعائرهم ، ولكنّ تصرف الأمراء تحت نظر غير المسلمين وبموافقتهم ، وهو ما يسمّى بالحماية والاحتلال والوصاية والانتداب ، كما وقع في مصر مدّة احتلال جيش الفرنسيس بها ، ثم مدّة احتلال الأنقليز ، وكما وقع بتونس والمغرب الأقصى من حماية فرانسا ، وكما وقع في سوريا والعراق أيّام الانتداب وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة منها.

الحالة السادسة : البلد الذي تكثر فيه المناكر والبدع ، وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام بحيث يخلط عملا صالحا وآخر سيّئا ولا يجبر المسلم فيها على ارتكابه خلاف الشرع ، ولكنه لا يستطيع تغييرها إلّا بالقول ، أو لا يستطيع ذلك أصلا وهذه روي عن مالك وجوب الخروج منها ، رواه ابن القاسم ، غير أنّ ذلك قد حدث في القيروان أيّام بني عبيد فلم يحفظ أنّ أحدا من فقهائها الصالحين دعا الناس إلى الهجرة. وحسبك بإقامة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد وأمثاله. وحدث في مصر مدّة الفاطميين أيضا فلم يغادرها أحد من علمائها الصالحين. ودون هذه الأحوال الستّة أحوال كثيرة هي أولى بجواز الإقامة ، وأنّها مراتب ، وإنّ لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم

٢٣٦

مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية.

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠))

جملة (وَمَنْ يُهاجِرْ) عطف على جملة (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) [النساء : ٩٧] ، و (من) شرطية. والمهاجرة في سبيل الله هي المهاجرة لأجل دين الله. والسبيل استعارة معروفة ، وزادها قبولا هنا أنّ المهاجرة نوع من السير ، فكان لذكر السبيل معها ضرب من التورية. والمراغم اسم مكان من راغم إذا ذهب في الأرض ، وفعل راغم مشتقّ من الرّغام ـ بفتح الراء ـ وهو التراب. أو هو من راغم غيره إذا غلبه وقهره ، ولعلّ أصله أنّه أبقاه على الرغام ، أي التراب ، أي يجد مكانا يرغم فيه من أرغمه ، أي يغلب فيه قومه باستقلاله عنهم كما أرغموه بإكراهه على الكفر ، قال الحارث بن وعلة الذهلي :

لا تأمنن قوما ظلمتهم

وبدأتهم بالشتم والرغم

إن يأبروا نخلا لغيرهم

والشيء تحقره وقد ينمي

أي أن يكونوا عونا للعدوّ على قومهم. ووصف المراغم بالكثير لأنّه أريد به جنس الأمكنة. والسعة ضد الضيق ، وهي حقيقة اتّساع الأمكنة ، وتطلق على رفاهية العيش ، فهي سعة مجازية. فإن كان المراغم هو الذهاب في الأرض فعطف السعة عليه عطف تفسير ، وإن كان هو مكان الإغاضة فعطف السعة للدلالة على أنّه يجده ملائما من جهة إرضاء النفس ، ومن جهة راحة الإقامة.

ثم نوّه الله بشأن الهجرة بأن جعل ثوابها حاصلا بمجرّد من بلد الكفر ، ولو لم يبلغ إلى البلد المهاجر إليه. بقوله : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) إلخ. ومعنى المهاجرة إلى الله المهاجرة إلى الموضع الذي يرضاه الله. وعطف الرسول على اسم الجلالة للإشارة إلى خصوص الهجرة إلى المدينة للالتحاق بالرسول وتعزيز جانبه ، لأنّ الذي يهاجر إلى غير المدينة قد سلم من إرهاق الكفر ولم يحصّل على نصرة الرسول ، ولذلك بادر أهل هجرة الحبشة إلى اللحاق بالرسول حين بلغهم مهاجره إلى المدينة.

ومعنى (يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) ، أي في الطريق ، ويجوز أن يكون المعنى : ثم يدركه الموت مهاجرا ، أي لا يرجع بعد هجرته إلى بلاد الكفر وهو الأصحّ ، وقد اختلف في

٢٣٧

الهجرة المرادة من هذه الآية : فقيل : الهجرة إلى المدينة ، وقيل : الهجرة إلى الحبشة. واختلف في المعني بالموصول من قوله : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ). فعند من قالوا إنّ المراد الهجرة إلى المدينة قالوا المراد بمن يخرج رجل من المسلمين كان بقي بعد هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، فلمّا نزل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) إلى قوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٧ ـ ١٠٠] كتب بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المسلمين من أهل مكة ، وكان هذا الرجل مريضا ، فقال : إني لذو مال وعبيد ، فدعا أبناءه وقال لهم : احملوني إلى المدينة. فحملوه على سرير ، فلمّا بلغ التنعيم توفّي ، فنزلت هذه الآية فيه ، وتعمّ أمثاله ، فهي عامّة في سياق الشرط لا يخصّصها سبب النزول.

وكان هذا الرجل من كنانة ، وقيل من خزاعة ، وقيل من جندع ، واختلف في اسمه على عشرة أقوال : جندب بن حمزة الجندعي ، حندج بن ضمرة الليثي الخزاعي. ضمرة بن بغيض الليثي ، ضمرة بن جندب الضمري ، ضمرة بن جندب الضمري ، ضمرة بن ضمرة بن نعيم. ضمرة من خزاعة (كذا). ضمرة بن العيص. العيص بن ضمرة بن زنباع ، حبيب بن ضمرة ، أكثم بن صيفي.

والذين قالوا : إنّها الهجرة إلى الحبشة قالوا : إنّ المعنيّ بمن يخرج من بيته خالد بن حزام بن خويلد الأسدي ابن أخي خديجة أمّ المؤمنين ، خرج مهاجرا إلى الحبشة فنهشته حيّة في الطريق فمات. وسياق الشرط يأبى هذا التفسير.

[١٠١ ، ١٠٢] (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢))

انتقال إلى تشريع آخر بمناسبة ذكر السفر للخروج من سلطة الكفر ، على عادة القرآن في تفنين أغراضه ، والتماس مناسباتها. والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. والضرب

٢٣٨

في الأرض : السفر.

(وإذا) مضمّنة معنى الشرط كما هو غالب استعمالها ، فلذلك دخلت الفاء على الفعل الذي هو كجواب الشرط. (وإذا) منصوبة بفعل الجواب.

وقصر الصلاة : النقص منها ، وقد علم أنّ أجزاء الصلاة هي الركعات بسجداتها وقراءاتها ، فلا جرم أن يعلم أنّ القصر من الصلاة هو نقص الركعات ، وقد بيّنه فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ صيّر الصلاة ذات الأربع الركعات ذات ركعتين. وأجملت الآية فلم تعيّن الصلوات التي يعتريها القصر ، فبيّنته السنّة بأنّها الظهر والعصر والعشاء. ولم تقصر الصبح لأنّها تصير ركعة واحدة فتكون غير صلاة ، ولم تقصر المغرب لئلّا تصير شفعا فإنّها وتر النهار ، ولئلّا تصير ركعة واحدة كما قلنا في الصبح.

وهذه الآية أشارت إلى قصر الصلاة الرباعية في السفر ، ويظهر من أسلوبها أنّها نزلت في ذلك ، وقد قيل : إنّ قصر الصلاة في السفر شرع في سنة أربع من الهجرة وهو الأصحّ ، وقيل : في ربيع الآخر من سنة اثنتين ، وقيل : بعد الهجرة بأربعين يوما. وقد روى أهل الصحيح قول عائشة ـ رضي‌الله‌عنها ـ : فرضت الصلاة ركعتين فأقرّت صلاة السفر وزيدت صلاة الحضر ، وهو حديث بيّن واضح. ومحمل الآية على مقتضاه : أنّ الله تعالى لمّا فرض الصلاة ركعتين فتقرّرت كذلك فلمّا صارت الظهر والعصر والعشاء أربعا نسخ ما كان من عددها ، وكان ذلك في مبدأ الهجرة ، وإذ قد كان أمر الناس مقاما على حالة الحضر وهي الغالب عليهم ، بطل إيقاع الصلوات المذكورات ركعتين ، فلمّا غزوا خفف الله عنهم فأذنهم أن يصلّوا تلك الصلوات ركعتين ركعتين ، فلذلك قال تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) وقال : (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) وإنّما قالت عائشة «أقرت صلاة السفر» حيث لم تتغيّر عن الحالة الأولى ، وهذا يدلّ على أنّهم لم يصلّوها تامّة في السفر بعد الهجرة ، فلا تعارض بين قولها وبين الآية.

وقوله : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) شرط دلّ على تخصيص الإذن بالقصر بحال الخوف من تمكّن المشركين منهم وإبطالهم عليهم صلاتهم ، وأنّ الله أذن في القصر لتقع الصلاة عن اطمئنان ، فالآية هذه خاصّة بقصر الصلاة عند الخوف ، وهو القصر الذي له هيئة خاصّة في صلاة الجماعة ، وهذا رأي مالك ، يدلّ عليه ما أخرجه في «الموطأ» : أنّ رجلا من آل خالد بن أسيد سأل عبد الله بن عمر «إنّا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر» ، فقال ابن عمر : «يا ابن أخي إنّ الله بعث إلينا

٢٣٩

محمدا ولا نعلم شيئا فإنّما نفعل كما رأيناه يفعل» ، يعني أنّ ابن عمر أقرّ السائل وأشعره بأنّ صلاة السفر ثبتت بالسنّة ، وكذلك كانت ترى عائشة وسعد بن أبي وقّاص أنّ هذه الآية خاصّة بالخوف ، فكانا يكمّلان الصلاة في السفر. وهذا التأويل هو البيّن في محمل هذه الآية ، فيكون ثبوت القصر في السفر بدون الخوف وقصر الصلاة في الحضر عند الخوف ثابتين بالسنّة ، وأحدهما أسبق من الآخر ، كما قال ابن عمر. وعن يعلى بن أمية أنّه قال: قلت لعمر بن الخطاب : إنّ الله تعالى يقول : (إِنْ خِفْتُمْ) وقد أمن الناس. فقال : عجبت ممّا عجبت منه فسألت رسول الله عن ذلك فقال «صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته». ولا شكّ أنّ محمل هذا الخبر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرّ عمر على فهمه تخصيص هذه الآية بالقصر لأجل الخوف ، فكان القصر لأجل الخوف رخصة لدفع المشقّة ، وقوله : له صدقة إلخ ، معناه أنّ القصر في السفر لغير الخوف صدقة من الله ، أي تخفيف ، وهو دون الرخصة فلا تردّوا رخصته ، فلا حاجة إلى ما تمحّلوا به في تأويل القيد الذي في قوله : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وتقتصر الآية على صلاة الخوف ، ويستغني القائلون بوجوب القصر في السفر مثل ابن عباس ، وأبي حنيفة ، ومحمد بن سحنون ، وإسماعيل بن إسحاق من المالكية ؛ والقائلون بتأكيد سنّة القصر مثل مالك بن أنس وعامّة أصحابه ، عن تأويل قوله : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) بما لا يلائم إطلاق مثل هذا اللفظ. ويكون قوله : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) إعادة لتشريع رخصة القصر في السفر لقصد التمهيد لقوله : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) الآيات.

أمّا قصر الصلاة في السفر فقد دلّت عليه السنّة الفعلية ، واتّبعه جمهور الصحابة إلّا عائشة وسعد بن أبي وقاص ، حتّى بالغ من قال بوجوبه من أجل حديث عائشة في «الموطأ» و «الصحيحين» لدلالته على أنّ صلاة السفر بقيت على فرضها ، فلو صلّاها رباعية لكانت زيادة في الصلاة ، ولقول عمر فيما رواه النسائي وابن ماجة : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر. وإنّما قال مالك بأنّه سنّة لأنّه لم يرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلاة السفر إلّا القصر ، وكذلك الخلفاء من بعده. وإنّما أتمّ عثمان بن عفّان الصلاة في الحج خشية أن يتوهّم الأعراب أنّ الصلوات كلّها ركعتان. غير أنّ مالكا لم يقل بوجوبه من أجل قوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) لمنافاته لصيغ الوجوب. ولقد أجاد محامل الأدلّة.

وأخبر عن الكافرين وهو جمع بقوله : (عَدُوًّا) وهو مفرد. وقد قدّمنا ذلك عند قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) [النساء : ٩٢].

٢٤٠