تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

وقوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) هذه صفة صلاة الخوف في الجماعة لقوله : (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ). واتّفق العلماء على أنّ هذه الآية شرعت صلاة الخوف. وأكثر الآثار تدلّ على أنّ مشروعيتها كانت في غزوة ذات الرّقاع بموضع يقال له : نخلة بين عسفان وضجنان من نجد ، حين لقوا جموع غطفان : محارب وأنمار وثعلبة. وكانت بين سنة ستّ وسنة سبع من الهجرة ، وأنّ أوّل صلاة صلّيت بها هي صلاة العصر ، وأنّ سببها أنّ المشركين لما رأوا حرص المسلمين على الصلاة قالوا : هذه الصلاة فرصة لنا لو أغرنا عليهم لأصبناهم على غرّة ، فأنبأ الله بذلك نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزلت الآية. غير أنّ الله تعالى صدّر حكم الصلاة بقوله : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) فاقتضى ببادئ الرأي أنّ صلاة الخوف لا تقع على هذه الصفة إلّا إذا كانت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهي خصوصية لإقامته. وبهذا قال إسماعيل بن علية ، وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة في أحد أقواله ، وعلّلوا الخصوصية بأنّها لحرص الناس على فضل الجماعة مع الرسول ، بخلاف غيره من الأئمّة ، فيمكن أن تأتمّ كلّ طائفة بإمام. وهذا قول ضعيف : لمخالفته فعل الصحابة ، ولأنّ مقصد شرع الجماعة هو اجتماع المسلمين في الموطن الواحد ، فيؤخذ بهذا المقصد بقدر الإمكان. على أنّ أبا يوسف لا يرى دلالة مفهوم المخالفة فلا تدلّ الآية على الاختصاص بإمامة الرسول ، ولذلك جزم جمهور العلماء بأنّ هذه الآية شرعت صلاة الخوف للمسلمين أبدا. ومحمل هذا الشرط عندهم جار على غالب أحوالهم يومئذ من ملازمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغزواتهم وسراياهم إلّا للضرورة ، كما في الحديث «لو لا أنّ قوما لا يتخلّفون بعدي ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلّفت عن سريّة سارت في سبيل الله» ، فليس المراد الاحتراز عن كون غيره فيهم ولكن التنويه بكون النبي فيهم. وإذ قد كان الأمراء قائمين مقامه في الغزوات فالذي رخّص الله للمسلمين معه يرخّصه لهم مع أمرائه ، وهذا كقوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٣].

وفي نظم الآية إيجاز بديع فإنّه لمّا قال : «فلتقم طائفة منهم معك» علم أنّ ثمة طائفة أخرى ، فالضمير في قوله : (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) للطائفة باعتبار أفرادها ، وكذلك ضمير قوله : (فَإِذا سَجَدُوا) للطائفة التي مع النبي ، لأن المعية معية الصلاة ، وقد قال : (فَإِذا سَجَدُوا). وضمير قوله : (فَلْيَكُونُوا) للطائفة الأخرى المفهومة من المقابلة ، لظهور أنّ الجواب وهو (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) متعيّن لفعل الطائفة المواجهة العدوّ.

وقوله : (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى) هذه هي المقابلة لقوله : (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ).

٢٤١

وقد أجملت الآية ما تصنعه كلّ طائفة في بقية الصلاة. ولكنّها أشارت إلى أنّ صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدة لأنّه قال : (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ). فجعلهم تابعين لصلاته ، وذلك مؤذن بأنّ صلاته واحدة ، ولو كان يصلّي بكل طائفة صلاة مستقلّة لقال تعالى فلتصلّ بهم. وبهذا يبطل قول الحسن البصري : بأنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صلّى ركعتين بكلّ طائفة ، لأنّه يصير متمّا للصلاة غير مقصّر ، أو يكون صلّى بإحدى الطائفتين الصلاة المفروضة وبالطائفة الثانية صلاة : نافلة له ، فريضة للمؤمنين ، إلّا أن يلتزم الحسن ذلك. ويرى جواز ائتمام المفترض بالمتنفّل. ويظهر أنّ ذلك الائتمام لا يصحّ ، وإن لم يكن في السنّة دليل على بطلانه.

وذهب جمهور العلماء إلى أنّ الإمام يصلّي بكلّ طائفة ركعة ، وإنّما اختلفوا في كيفية تقسيم الصلاة : بالنسبة للمأمومين. والقول الفصل في ذلك هو ما رواه مالك في «الموطأ» ، عن سهل بن أبي حثمة : إنه صلّى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع ، فصفّت طائفة معه وطائفة وجاه العدوّ ، فصلّى بالذين معه ركعة ثم قام ، وأتمّوا ركعة لأنفسهم ، ثم انصرفوا فوقفوا وجاه العدوّ ، وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم الركعة التي بقيت له ، ثم سلّم ، ثم قضوا الركعة التي فاتتهم وسلّموا وهذه الصفة أوفق بلفظ الآية ، والروايات غير هذه كثيرة.

والطائفة : الجماعة من الناس ذات الكثرة. والحقّ أنّها لا تطلق على الواحد والاثنين ، وإن قال بذلك بعض المفسّرين من السلف. وقد تزيد على الألف كما في قوله تعالى : (عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) [الأنعام : ١٥٦]. وأصلها منقولة من طائفة الشيء وهي الجزء منه.

وقوله : (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) استعمل الأخذ في حقيقته ومجازه : لأنّ أخذ الحذر مجاز ، إذ حقيقة الأخذ التناول ، وهو مجاز في التلبّس بالشيء والثبات عليه. وأخذ الأسلحة حقيقة ، ونظيره قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الحشر : ٩] ، فإنّ تبوّأ الإيمان الدخول فيه والاتّصاف به بعد الخروج من الكفر. وجاء بصيغة الأمر دون أن يقول : ولا جناح عليكم أن تأخذوا أسلحتكم ، لأنّ أخذ السلاح فيه مصلحة شرعية.

وقوله : (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلخ ، ودّهم هذا معروف إذ هو شأن كلّ محارب ، فليس ذلك المعنى المعروف هو المقصود من الآية ، إنّما المقصود أنّهم ودّوا ودّا مستقربا عندهم، لظنّهم أنّ اشتغال المسلمين بأمور دينهم يباعد بينهم وبين مصالح دنياهم جهلا من

٢٤٢

المشركين لحقيقة الدين ، فطمعوا أن تلهيهم الصلاة عن الاستعداد لأعدائهم ، فنبه الله المؤمنين إلى ذلك كيلا يكونوا عند ظنّ المشركين ، وليعوّدهم بالأخذ بالحزم في كلّ الأمور ، وليريهم أنّ صلاح الدين والدنيا صنوان.

والأسلحة جمع سلاح ، وهو اسم جنس لآلة الحرب كلّها من الحديد ، وهي السيف والرمح والنبل والحربة وليس الدرع ولا الخوذة ولا التّرس بسلاح. وهو يذكّر ويؤنث. والتذكير أفصح ، ولذلك جمعوه على أسلحة وهو من زنات جمع المذكّر.

والأمتعة جمع متاع وهو كلّ ما ينتفع به من عروض وأثاث ، ويدخل في ذلك ما له عون في الحرب كالسروج ولامة الحرب كالدروع والخوذات. (فَيَمِيلُونَ) مفرّع عن قوله : (لَوْ تَغْفُلُونَ) إلخ ، وهو محلّ الودّ ، أي ودّوا غفلتكم ليميلوا عليكم. والميل : العدول عن الوسط إلى الطرف ، ويطلق على العدول عن شيء كان معه إلى شيء آخر ، كما هنا ، أي فيعدلون عن معسكرهم إلى جيشكم. ولمّا كان المقصود من الميل هنا الكرّ والشدّ ، عدّي ب (على) ، أي فيشدّون عليكم في حال غفلتكم.

وانتصب (ميلة) على المفعولية المطلقة لبيان العدد ، أي شدّة مفردة. واستعملت صيغة المرّة هنا كناية عن القوّة والشدّة ، وذلك أنّ الفعل الشديد القويّ يأتي بالغرض منه سريعا دون معاودة علاج ، فلا يتكرّر الفعل لتحصيل الغرض ، وأكّد معنى المرّة المستفاد من صيغة فعلة بقوله : (واحِدَةً) تنبيها على قصد معنى الكناية لئلّا يتوهّم أنّ المصدر لمجرّد التأكيد لقوله : (فَيَمِيلُونَ).

وقوله : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ) إلخ رخصة لهم في وضع الأسلحة عند المشقّة ، وقد صار ما هو أكمل في أداء الصلاة رخصة هنا ، لأنّ الأمور بمقاصدها وما يحصل عنها من المصالح والمفاسد ، ولذلك قيّد الرخصة مع أخذ الحذر. وسبب الرخصة أنّ في المطر شاغلا للفريقين كليهما ، وأمّا المرض فموجب للرخصة لخصوص المريض.

وقوله : (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) تذييل لتشجيع المسلمين ؛ لأنّه لمّا كرّر الأمر بأخذ السلاح والحذر ، خيف أن تثور في نفوس المسلمين مخافة من العدوّ من شدّة التحذير منه ، فعقّب ذلك بأنّ الله أعدّ لهم عذابا مهينا ، وهو عذاب الهزيمة والقتل والأسر ، كالذي في قوله : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) [التوبة : ١٤] ، فليس الأمر بأخذ الحذر والسلاح إلّا لتحقيق أسباب ما أعدّ الله لهم ، لأنّ الله إذا أراد أمرا هيّأ أسبابه. وفيه

٢٤٣

تعليم المسلمين أن يطلبوا المسبّبات من أسبابها ، أي إن أخذتم حذركم أمنتم من عدوّكم.

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣))

القضاء : إتمام الشيء كقوله : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) [البقرة : ٢٠٠]. والظاهر من قوله : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) أنّ المراد من الذكر هنا النوافل ، أو ذكر اللسان كالتسبيح والتحميد ، (فقد كانوا في الأمن يجلسون إلى أن يفرغوا من التسبيح ونحوه) ، فرخّص لهم حين الخوف أن يذكروا الله على كلّ حال والمراد القيام والقعود والكون على الجنوب ما كان من ذلك في أحوال الحرب لا لأجل الاستراحة.

وقوله : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) تفريع عن قوله : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ) [النساء : ١٠١] إلى آخر الآية. فالاطمئنان مراد به القفول من الغزو ، لأنّ في الرجوع إلى الأوطان سكونا من قلاقل السفر واضطراب البدن ، فإطلاق الاطمئنان عليه يشبه أن يكون حقيقة ، وليس المراد الاطمئنان الذي هو عدم الخوف لعدم مناسبته هنا ، وقد تقدّم القول في الاطمئنان عند قوله تعالى : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) من سورة البقرة [٢٦٠].

ومعنى : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) صلّوها تامّة ولا تقصروها ، هذا قول مجاهد وقتادة ، فيكون مقابل قوله : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) [النساء : ١٠١] ، وهو الموافق لما تقدّم من كون الوارد في القرآن هو حكم قصر الصلاة في حال الخوف ، دون قصر السفر من غير خوف. فالإقامة هنا الإتيان بالشيء قائما أي تامّا ، على وجه التمثيل كقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) [الرحمن : ٩] وقوله : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى : ١٣]. وهذا قول جمهور الأئمّة : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وسفيان. وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يؤدّي المجاهد الصلاة حتّى يزول الخوف ، لأنّه رأى مباشرة القتال فعلا يفسد الصلاة. وقوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) إلى قوله : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) [النساء : ١٠١ ـ ١٠٣] يرجح قول الجمهور ، لأنّ قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) مسوق مساق التعليل للحرص على أدائها في أوقاتها.

والموقوت : المحدود بأوقات ، والمنجّم عليها ، وقد يستعمل بمعنى المفروض على طريق المجاز. والأول أظهر هنا.

٢٤٤

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤))

عطف على جملة (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) [النساء : ١٠٢] زيادة في تشجيعهم على قتال الأعداء ، وفي تهوين الأعداء في قلوب المسلمين ، لأنّ المشركين كانوا أكثر عددا من المسلمين وأتمّ عدّة ، وما كان شرع قصر الصلاة وأحوال صلاة الخوف ، إلّا تحقيقا لنفي الوهن في الجهاد.

والابتغاء مصدر ابتغى بمعنى بغي المتعدّي ، أي الطلب ، وقد تقدّم عند قوله : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) في سورة آل عمران [٨٣].

والمراد به هنا المبادأة بالغزو ، وأن لا يتقاعسوا ، حتّى يكون المشركون هم المبتدئين بالغزو. تقول العرب : طلبنا بني فلان ، أي غزوناهم. والمبادئ بالغزو له رعب في قلوب أعدائه. وزادهم تشجيعا على طلب العدوّ بأنّ تألّم الفريقين المتحاربين واحد ، إذ كل يخشى بأس الآخر ، وبأنّ للمؤمنين مزية على الكافرين ، وهي أنّهم يرجون من الله ما لا يرجوه الكفّار ، وذلك رجاء الشهادة إن قتلوا ، ورجاء ظهور دينه على أيديهم إذا انتصروا ، ورجاء الثواب في الأحوال كلّها. وقوله : (مِنَ اللهِ) متعلّق ب (تَرْجُونَ). وحذف العائد المجرور بمن من جملة (ما لا يَرْجُونَ) لدلالة حرف الجرّ الذي جرّ به اسم الموصول عليه ، ولك أن تجعل ما صدق (ما لا يَرْجُونَ) هو النصر ، فيكون وعدا للمسلمين بأنّ الله ناصرهم ، وبشارة بأنّ المشركين لا يرجون لأنفسهم نصرا ، وأنّهم آيسون منه بما قذف الله في قلوبهم من الرعب ، وهذا ممّا يفتّ في ساعدهم. وعلى هذا الوجه يكون قوله : (مِنَ اللهِ) اعتراضا أو حالا مقدّمة على المجرور بالحرف ، والمعنى على هذا كقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١].

[١٠٥ ـ ١٠٩] (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ

٢٤٥

يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩))

اتّصال هذه الآية بما قبلها يرجع إلى ما مضى من وصف أحوال المنافقين ومناصريهم ، وانتقل من ذلك إلى الاستعداد لقتال المناوين للإسلام من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا) [النساء : ٧١] الآية ، وتخلّل فيه من أحوال المنافقين في تربّصهم بالمسلمين الدوائر ومختلف أحوال القبائل في علائقهم مع المسلمين ، واستطرد لذكر قتل الخطأ والعمد ، وانتقل إلى ذكر الهجرة ، وعقّب بذكر صلاة السفر وصلاة الخوف ، عاد الكلام بعد ذلك إلى أحوال أهل النفاق.

والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا.

وجمهور المفسّرين على أنّ هاته الآية نزلت بسبب حادثة رواها الترمذي حاصلها : أنّ إخوة ثلاثة يقال لهم : بشر وبشير ومبشّر ، أبناء أبيرق ، وقيل : أبناء طعمة بن أبيرق ، وقيل : إنّما كان بشير أحدهم يكنى أبا طعمة ، وهم من بني ظفر من أهل المدينة ، وكان بشير شرّهم ، وكان منافقا يهجو المسلمين بشعر يشيعه وينسبه إلى غيره ، وكان هؤلاء الإخوة في فاقة ، وكانوا جيرة لرفاعة بن زيد ، وكانت عير قد أقبلت من الشام بدرمك ـ وهو دقيق الحوّارى أي السميذ ـ فابتاع منها رفاعة بن زيد حملا من درمك لطعامه ، وكان أهل المدينة يأكلون دقيق الشعير ، فإذا جاء الدرمك ابتاع منه سيّد المنزل شيئا لطعامه فجعل الدرمك في مشربة له وفيها سلاح ، فعدى بنو أبيرق عليه فنقبوا مشربته وسرقوا الدقيق والسلاح ، فلمّا أصبح رفاعة ووجد مشربته قد سرقت أخبر ابن أخيه قتادة بن النعمان بذلك ، فجعل يتحسّس ، فأنبئ بأنّ بني أبيرق استوقدوا في تلك الليلة نارا ، ولعلّه على بعض طعام رفاعة ، فلمّا افتضح بنو أبيرق طرحوا المسروق في دار أبي مليل الأنصاري. وقيل : في دار يهودي اسمه زيد بن السمين ، وقيل : لبيد بن سهل ، وجاء بعض بني ظفر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاشتكوا إليه أنّ رفاعة وابن أخيه اتّهما بالسرقة أهل بيت إيمان وصلاح ، قال قتادة : فأتيت رسول الله ، فقال لي «عمدت إلى أهل بيت إسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة على غير بيّنة». وأشاعوا في الناس أنّ المسروق في دار أبي مليل أو دار اليهودي. فما لبث أن نزلت هذه الآية ، وأطلع الله رسوله على جليّة الأمر ، معجزة له ، حتى لا يطمع أحد في أن يروّج على الرسول باطلا. هذا هو الصحيح في سوق هذا الخبر. ووقع في «كتاب أسباب النزول» للواحدي ، وفي بعض روايات الطبري سوق القصة ببعض مخالفة لما ذكرته : وأنّ بني ظفر سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجادل عن أصحابهم كي

٢٤٦

لايفتضحوا ويبرأ اليهودي ، وأنّ رسول الله همّ بذلك ، فنزلت الآية. وفي بعض الروايات أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لام اليهودي وبرّأ المتّهم ، وهذه الرواية واهية ، وهذه الزيادة خطأ بيّن من أهل القصص دون علم ولا تبصّر بمعاني القرآن. والظاهر أنّ صدر الآية تمهيد للتلويح إلى القصة ، فهو غير مختصّ بها ، إذ ليس في ذلك الكلام ما يلوّح إليها ، ولكن مبدأ التلويح إلى القصة من قوله : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ).

وقوله : (بِما أَراكَ اللهُ) الباء للآلة جعل ما أراه الله إيّاه بمنزلة آلة للحكم لأنّه وسيلة إلى مصادفة العدل والحقّ ونفي الجور ، إذ لا يحتمل علم الله الخطأ. والرؤية في قوله : (أَراكَ اللهُ) عرفانية ، وحقيقتها الرؤية البصرية ، فأطلقت على ما يدرك بوجه اليقين لمشابهته الشيء المشاهد. والرؤية البصرية تنصب مفعولا واحدا فإذ أدخلت عليها همزة التعدية نصبت مفعولين كما هنا ، وقد حذف المفعول الثاني لأنّه ضمير الموصول ، فأغنى عنه الموصول ، وهو حذف كثير ، والتقدير : بما أراكه الله.

فكلّ ما جعله الله حقّا في كتابه فقد أمر بالحكم به بين الناس ، وليس المراد أنّه يعلمه الحقّ في جانب شخص معيّن بأنّ يقول له : إن فلانا على الحقّ ، لأنّ هذا لا يلزم اطّراده ، ولأنّه لا يلفى مدلولا لجميع آيات القرآن وإن صلح الحمل عليه في مثل هذه الآية ، بل المراد أنّه أنزل عليه الكتاب ليحكم بالطرق والقضايا الدالّة على وصف الأحوال التي يتحقّق بها العدل فيحكم بين الناس على حسب ذلك ، بأن تندرج جزئيات أحوالهم عند التقاضي تحت الأوصاف الكلية المبيّنة في الكتاب ، مثل قوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) [الأحزاب : ٤] ، فقد أبطل حكم التبنّي الذي كان في الجاهلية ، فأعلمنا أنّ قول الرجل لمن ليس ولده : هذا ولدي ، لا يجعل للمنسوب حقّا في ميراثه. ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخطئ في إدراج الجزئيات تحت كليّاتها ، وقد يعرض الخطأ لغيره ، وليس المراد أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يصادف الحقّ من غير وجوهه الجارية بين الناس ، ولذلك قال «إنّما أنا بشر وإنّكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحقّ أخيه فلا يأخذه فإنّما أقتطع له قطعة من نار».

وغير الرسول يخطئ في الاندراج ، ولذلك وجب بذل الجهد واستقصاء الدليل ، ومن ثمّ استدلّ علماؤنا بهذه الآية على وجوب الاجتهاد في فهم الشريعة. وعن عمر بن الخطاب أنّه قال : «لا يقولنّ أحد قضيت بما أراني الله تعالى فإنّ الله تعالى لم يجعل ذلك إلّا لنبيّه وأمّا الواحد منّا فرأيه يكون ظنّا ولا يكون علما» ، ومعناه هو ما قدّمناه من

٢٤٧

عروض الخطأ في الفهم لغير الرسول دون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

واللام في قوله : (لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) لام العلّة وليست لام التقوية. ومفعول (خَصِيماً) محذوف دلّ عليه ذكر مقابله وهو (لِلْخائِنِينَ) أي لا تكن تخاصم من يخاصم الخائنين ، أي لا تخاصم عنهم. فالخصيم هنا بمعنى المنتصر المدافع كقوله : «كنت أنا خصمه يوم القيامة». والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد الأمّة ، لأنّ الخصام عن الخائنين لا يتوقّع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنّما المراد تحذير الذين دفعتهم الحميّة إلى الانتصار لأبناء أبيرق.

والأمر باستغفار الله جرى على أسلوب توجيه الخطاب إلى الرسول ، فالمراد بالأمر غيره ، أرشدهم إلى ما هو أنفع لهم وهو استغفار الله ممّا اقترفوه ، أو أراد : واستغفر الله للخائنين ليلهمهم إلى التوبة ببركة استغفارك لهم فذلك أجدر من دفاع المدافعين عنهم. وهذا نظير قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) [النساء : ٦٤] وليس المراد بالأمر استغفار النبي لنفسه ، كما أخطأ فيه من توهّم ذلك ، فركّب عليه أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خطر بباله ما أوجب أمره بالاستغفار ، وهو همّه أن يجادل عن بني أبيرق ، مع علمه بأنّهم سرقوا ، خشية أن يفتضحوا ، وهذا من أفهام الضعفاء وسوء وضعهم الأخبار لتأييد سقيم أفهامهم.

والخطاب في قوله : (وَلا تُجادِلْ) للرسول ، والمراد نهي الأمّة عن ذلك ، لأنّ مثله لا يترقّب صدوره من الرسول عليه الصلاة والسلام كما دلّ عليه قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).

و (يَخْتانُونَ) بمعنى يخونون ، وهو افتعال دالّ على التكلّف والمحاولة لقصد المبالغة في الخيانة. ومعنى خيانتهم أنفسهم أنّهم بارتكابهم ما يضرّ بهم كانوا بمنزلة من يخون غيره كقوله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ١٨٧]. ولك أن تجعل (أَنْفُسَهُمْ) هنا بمعنى بني أنفسهم ، أي بني قومهم ، كقوله (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) [البقرة : ٨٥] ، وقوله (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] ، أي الذين يختانون ناسا من أهلهم وقومهم. والعرب تقول : هو تميمي من أنفسهم ، أي ليس بمولى ولا لصيق.

والمجادلة مفاعلة من الجدل ، وهو القدرة على الخصام والحجّة فيه ، وهي منازعة بالقول لإقناع الغير برأيك ، ومنه سمّي علم قواعد المناظرة والاحتجاج في الفقه علم الجدل ، (وكان يختلط بعلم أصول الفقه وعلم آداب البحث وعلم المنطق). ولم يسمع

٢٤٨

للجدل فعل مجرّد أصلي ، والمسموع منه جادل لأنّ الخصام يستدعي خصمين. وأمّا قولهم : جدله فهو بمعنى غلبه في المجادلة ، فليس فعلا أصليا في الاشتقاق. ومصدر المجادلة ، الجدال ، قال تعالى : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧]. وأمّا الجدل بفتحتين فهو اسم المصدر ، وأصله مشتقّ من الجدل ، وهو الصرع على الأرض ، لأنّ الأرض تسمّى الجدالة ـ بفتح الجيم ـ يقال : جدله فهو مجدول.

وجملة : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) بيان ل (يَخْتانُونَ). وجملة : (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) حال ، وذلك هو محلّ الاستغراب من حالهم وكونهم يختانون أنفسهم. والاستخفاء من الله مستعمل مجازا في الحياء ، إذ لا يعتقد أحد يؤمن بالله أنّه يستطيع أن يستخفي من الله.

وجملة : (وَهُوَ مَعَهُمْ) حال من اسم الجلالة ، والمعية هنا معية العلم والاطّلاع و (إِذْ يُبَيِّتُونَ) ظرف ، والتبييت جعل الشيء في البيات ، أي الليل ، مثل التصبيح ، يقال: بيّتهم العدوّ وصبّحهم العدوّ وفي القرآن : (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [النمل : ٤٩] أي لنأتينّهم ليلا فنقلتهم. والمبيّت هنا هو ما لا يرضي من القول ، أي دبّروه وزوّروه ليلا لقصد الإخفاء ، كقول العرب : هذا أمر قضي بليل ، أو تشوور فيه بليل ، والمراد هنا تدبير مكيدتهم لرمي البراء بتهمة السرقة.

وقوله (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ) استئناف أثاره قوله : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) ، والمخاطب كلّ من يصلح للمخاطبة من المسلمين. والكلام جار مجرى الفرض والتقدير ، أو مجرى التعريض ببعض بني ظفر الذين جادلوا عن بني أبيرق.

والقول في تركيب (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) تقدّم في سورة البقرة [٨٥] عند قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) ، وتقدّم نظيره في آل عمران [١١٩] (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ).

و (أم) في قوله : (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) منقطعة للإضراب الانتقالي. و (من) استفهام مستعمل في الإنكار.

والوكيل مضى الكلام عليه عند قوله تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) في سورة آل عمران [١٧٣].

[١١٠ ـ ١١٣] (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً

٢٤٩

رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣))

اعتراض بتذييل بين جملة (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ) وبين جملة : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) [النساء : ١٠٩ ـ ١١٣].

وعمل السوء هو العصيان ومخالفة ما أمر به الشرع ونهى عنه. وظلم النفس شاع إطلاقه في القرآن على الشرك والكفر ، وأطلق أيضا على ارتكاب المعاصي. وأحسن ما قيل في تفسير هذه الآية : أنّ عمل السوء أريد به عمل السوء مع الناس ، وهو الاعتداء على حقوقهم ، وأنّ ظلم النفس هو المعاصي الراجعة إلى مخالفة المرء في أحواله الخاصّة ما أمر به أو نهي عنه.

والمراد بالاستغفار التوبة وطلب العفو من الله عمّا مضى من الذنوب قبل التوبة ، ومعنى (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) يتحقّق ذلك ، فاستعير فعل (يَجِدِ) للتحقّق لأنّ فعل وجد حقيقته الظفر بالشيء ومشاهدته ، فأطلق على تحقيق العفو والمغفرة على وجه الاستعارة. ومعنى (غَفُوراً رَحِيماً) شديد الغفران وشديد الرحمة وذلك كناية عن العموم والتعجيل ، فيصير المعنى يجد الله غافرا له راحما له ، لأنّه عامّ المغفرة والرحمة فلا يخرج منها أحد استغفره وتاب إليه ، ولا يتخلّف عنه شمول مغفرته ورحمته زمنا ، فكانت صيغة (غَفُوراً رَحِيماً) مع (يَجِدِ) دالّة على القبول من كلّ تائب بفضل الله.

وذكر الخطيئة والإثم هنا يدلّ على أنّهما متغايران ، فالمراد بالخطيئة المعصية الصغيرة ، والمراد بالإثم الكبيرة.

والرمي حقيقته قذف شيء من اليد ، ويطلق مجازا على نسبة خبر أو وصف لصاحبه بالحقّ أو الباطل ، وأكثر استعماله في نسبة غير الواقع ، ومن أمثالهم «رمتني بدائها وانسلّت» وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) [النور : ٤] وكذلك هو هنا ، ومثله في ذلك القذف حقيقة ومجازا.

ومعنى (يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) ينسبه إليه ويحتال لترويج ذلك ، فكأنّه ينزع ذلك الإثم عن

٢٥٠

نفسه ويرمي به البريء. والبهتان : الكذب الفاحش. وجعل الرمي بالخطيئة وبالإثم مرتبة واحدة في كون ذلك إثما مبينا : لأنّ رمي البريء بالجريمة في ذاته كبيرة لما فيه من الاعتداء على حقّ الغير. ودلّ على عظم هذا البهتان بقوله : (احْتَمَلَ) تمثيلا لحال فاعله بحال عناء الحامل ثقلا. والمبين الذي يدلّ كلّ أحد على أنّه إثم ، أي إثما ظاهرا لا شبهة في كونه إثما.

وقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) عطف على (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) [النساء : ١٠٥].

والمراد بالفضل والرحمة هنا نعمة إنزال الكتاب تفصيلا لوجوه الحقّ في الحكم وعصمته من الوقوع في الخطأ فيه. وظاهر الآية أنّ همّ طائفة من الذين يختانون أنفسهم بأن يضلّون الرسول غير واقع من أصله فضلا عن أن يضلّوه بالفعل. ومعنى ذلك أنّ علمهم بأمانته يزعهم عن محاولة ترويج الباطل عليه إذ قد اشتهر بين الناس ، مؤمنهم وكافرهم ، أنّ محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمين فلا يسعهم إلّا حكاية الصدق عنده ، وأنّ بني ظفر لما اشتكوا إليه من صنيع قتادة بن النعمان وعمّه كانوا يظنّون أنّ أصحابهم بني أبيرق على الحقّ ، أو أنّ بني أبيرق لمّا شكوا إلى رسول الله بما صنعه قتادة كانوا موجسين خيفة أن يطلع الله رسوله على جليّة الأمر ، فكان ما حاولوه من تضليل الرسول طمعا لا همّا ، لأنّ الهمّ هو العزم على الفعل والثقة به ، وإنّما كان انتفاء همّهم تضليله فضلا ورحمة ، لدلالته على وقاره في نفوس الناس ، وذلك فضل عظيم.

وقيل في تفسير هذا الانتفاء : إنّ المراد انتفاء أثره ، أي لو لا فضل الله لضللت بهمّهم أن يضلّوك ، ولكن الله عصمك عن الضلال ، فيكون كناية. وفي هذا التفسير بعد من جانب نظم الكلام ومن جانب المعنى.

ومعنى : (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أنّهم لو همّوا بذلك لكان الضلال لا حقا بهم دونك ، أي يكونون قد حاولوا ترويج الباطل واستغفال الرسول ، فحقّ عليهم الضلال بذلك ، ثم لا يجدونك مصغيا لضلالهم ، و (مِنْ) زائدة لتأكيد النفي. و (شَيْءٍ) أصله النّصب على أنّه مفعول مطلق لقوله (يَضُرُّونَكَ) أي شيئا من الضرّ ، وجرّ لأجل حرف الجرّ الزائد.

وجملة : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) عطف على (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ). وموقعها لزيادة تقرير معنى قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) ولذلك ختمها

٢٥١

بقوله : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) ، فهو مثل ردّ العجز على الصدر. والكتاب : والقرآن. والحكمة : النبوءة. وتعليمه ما لم يكن يعلم هو ما زاد على ما في الكتاب من العلم الوارد في السنّة والإنباء بالمغيّبات.

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤))

لم تخل الحوادث التي أشارت إليها الآي السابقة ، ولا الأحوال التي حذّرت منها ، من تناج وتحاور ، سرّا وجهرا ، لتدبير الخيانات وإخفائها وتبييتها ، لذلك كان المقام حقيقا بتعقيب جميع ذلك بذكر النجوى وما تشتمل عليه ، لأنّ في ذلك تعليما وتربية وتشريعا ، إذ النجوى من أشهر الأحوال العارضة للناس في مجتمعاتهم ، لا سيما في وقت ظهور المسلمين بالمدينة ، فقد كان فيها المنافقون واليهود وضعفاء المؤمنين ، وكان التناجي فاشيا لمقاصد مختلفة ، فربما كان يثير في نفوس الرائين لتلك المناجاة شكّا ، أي خوفا ، إذ كان المؤمنون في حال مناواة من المشركين وأهل الكتاب ، فلذلك تكرّر النهي عن النجوى في القرآن نحو (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) [المجادلة : ٨] الآيات ، وقوله : (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى) [الإسراء : ٤٧] وقوله : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ)[البقرة : ١٤] ، فلذلك ذمّ الله النجوى هنا أيضا ، فقال : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ). فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا لإفادة حكم النجوى ، والمناسبة قد تبيّنت.

والنجوى مصدر ، هي المسارّة في الحديث ، وهي مشتقّة من النجو ، وهو المكان المستتر الذي المفضي إليه ينجو من طالبه ، ويطلق النجوى على المناجين ، وفي القرآن (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى) ، وهو ـ وصف بالمصدر ـ والآية تحتمل المعنيين. والضمير الذي أضيف إليه (نَجْوى) ضمير جماعة الناس كلّهم ، نظير قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) إلى قوله : (وَما يُعْلِنُونَ) في سورة هود [٥] ، وليس عائدا إلى ما عادت إليه الضمائر التي قبله في قوله : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) [النساء : ١٠٨] إلى هنا ؛ لأنّ المقام مانع من عوده إلى تلك الجماعة إذ لم تكن نجواهم إلّا فيما يختصّ بقضيتهم ، فلا عموم لها يستقيم معه الاستثناء في قوله : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ). وعلى هذا فالمقصود من الآية تربية اجتماعية دعت إليها المناسبة ، فإنّ شأن المحادثات والمحاورات أن تكون جهرة ، لأنّ الصراحة من أفضل الأخلاق لدلالتها على ثقة المتكلّم برأيه ، وعلى شجاعته في إظهار ما يريد إظهاره من تفكيره ، فلا

٢٥٢

يصير إلى المناجاة إلّا في أحوال شاذّة يناسبها إخفاء الحديث. فمن يناجي في غير تلك الأحوال رمي بأنّ شأنه ذميم ، وحديثه فيما يستحيي من إظهاره ، كما قال صالح بن عبد القدوس :

الستر دون الفاحشات ولا

يغشاك دون الخير من ستر

وقد نهى الله المسلمين عن النجوى غير مرّة ، لأنّ التناجي كان من شأن المنافقين فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) [المجادلة : ٨] وقال : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [المجادلة : ١٠].

وقد ظهر من نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتناجى اثنان دون ثالث أنّ النجوى تبعث الريبة في مقاصد المتناجين ، فعلمنا من ذلك أنّها لا تغلب إلّا على أهل الريب والشبهات ، بحيث لا تصير دأبا إلّا لأولئك ، فمن أجل ذلك نفى الله الخير عن أكثر النجوى.

ومعنى (لا خَيْرَ) أنّه شرّ ، بناء على المتعارف في نفي الشيء أن يراد به إثبات نقيضه ، لعدم الاعتداد بالواسطة ، كقوله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس: ٣٢] ، ولأنّ مقام التشريع إنّما هو بيان الخير والشرّ. وقد نفى الخير عن كثير من نجواهم أو متناجيهم ، فعلم من مفهوم الصفة أنّ قليلا من نجواهم فيه خير ، إذ لا يخلو حديث الناس من تناج فيما فيه نفع. والاستثناء في قوله : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) على تقدير مضاف ، أي : إلّا نجوى من أمر ، أو بدون تقدير إن كانت النجوى بمعنى المتناجين ، وهو مستثنى من (كَثِيرٍ) ، فحصل من مفهوم الصفة ومفهوم الاستثناء قسمان من النجوى يثبت لهما الخير ، ومع ذلك فهما قليل من نجواهم. أمّا القسم الذي أخرجته الصفة ، فهو مجمل يصدق في الخارج على كلّ نجوى تصدر منهم فيها نفع ، وليس فيها ضرر ، كالتناجي في تشاور فيمن يصلح لمخالطة ، أو نكاح أو نحو ذلك.

وأمّا القسم الذي أخرجه الاستثناء فهو مبيّن في ثلاثة أمور : الصدقة ، والمعروف ، والإصلاح بين الناس. وهذه الثلاثة لو لم تذكر لدخلت في القليل من نجواهم الثابت له الخير ، فلمّا ذكرت بطريق الاستثناء علمنا أنّ نظم الكلام جرى على أسلوب بديع فأخرج ما فيه الخير من نجواهم ابتداء بمفهوم الصفة ، ثم أريد الاهتمام ببعض هذا القليل من نجواهم ، فأخرج من كثير نجواهم بطريق الاستثناء ، فبقي ما عدا ذلك من نجواهم ، وهو

٢٥٣

الكثير ، موصوفا بأن لا خير فيه وبذلك يتّضح أنّ الاستثناء متّصل ، وأن لا داعي إلى جعله منقطعا. والمقصد من ذلك كلّه الاهتمام والتنويه بشأن هذه الثلاثة ، ولو تناجى فيها من غالب أمره قصد الشرّ.

وقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) إلخ وعد بالثواب على فعل المذكورات إذا كان لابتغاء مرضاة الله. فدلّ على أنّ كونها خيرا وصف ثابت لها لما فيها من المنافع ، ولأنّها مأمور بها في الشرع ، إلّا أنّ الثواب لا يحصل إلّا عن فعلها ابتغاء مرضاة الله كما في حديث : «إنما الأعمال بالنيات».

وقرأ الجمهور : (نؤتيه) ـ بنون العظمة ـ على الالتفات من الغيبة في قوله : (مَرْضاتِ اللهِ).

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥))

عطف على (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) [النساء : ١١٤] بمناسبة تضادّ الحالين. والمشاقّة : المخالفة المقصودة ، مشتقّة من الشّقّ لأنّ المخالف كأنّه يختار شقّا يكون فيه غير شقّ الآخر.

فيحتمل قوله : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) أن يكون أراد به من بعد ما آمن بالرسول فتكون الآية وعيدا للمرتدّ. ومناسبتها هنا أن بشير بن أبيرق صاحب القصّة المتقدّمة ، لمّا افتضح أمره ارتدّ ولحق بمكة ، ويحتمل أن يكون مرادا به من بعد ما ظهر صدق الرسول بالمعجزات ، ولكنّه شاقّه عنادا ونواء للإسلام.

وسبيل كلّ قوم طريقتهم التي يسلكونها في وصفهم الخاصّ ، فالسبيل مستعار للاعتقادات والأفعال والعادات ، التي يلازمها أحد ولا يبتغي التحوّل عنها ، كما يلازم قاصد المكان طريقا يبلغه إلى قصده ، قال تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) [يوسف : ١٠٨] ومعنى هذه الآية نظير معنى قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ٣٢] ، فمن اتّبع سبيل المؤمنين في الإيمان واتّبع سبيل غيرهم في غير الكفر مثل اتّباع سبيل يهود خبير في غراسة النخيل ، أو بناء الحصون ، لا يحسن أن يقال فيه اتّبع غير سبيل المؤمنين. وكأنّ فائدة عطف اتّباع غير سبيل المؤمنين على مشاقّة الرسول الحيطة لحفظ الجامعة الإسلامية بعد

٢٥٤

الرسول ، فقد ارتدّ بعض العرب بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الحطيئة في ذلك :

أطعنا رسول الله إذ كان بيننا

فيا لعباد الله ما لأبي بكر

فكانوا ممّن اتّبع غير سبيل المؤمنين ولم يشاقّوا الرسول.

ومعنى قوله : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) الإعراض عنه ، أي نتركه وشأنه لقلّة الاكتراث به ، كما ورد في الحديث «وأمّا الآخر فأعرض الله عنه».

وقد شاع عند كثير من علماء أصول الفقه الاحتجاج بهذه الآية ، لكون إجماع علماء الإسلام على حكم من الأحكام حجّة ، وأوّل من احتجّ بها على ذلك الشافعي. قال الفخر : «روي أنّ الشافعي سئل عن آية في كتاب الله تدلّ على أنّ الإجماع حجّة فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتّى وجد هذه الآية. وتقرير الاستدلال أنّ اتّباع غير سبيل المؤمنين حرام ، فوجب أن يكون اتّباع سبيل المؤمنين واجبا. بيان المقدمة الأولى : أنّه تعالى ألحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتّبع غير سبيل المؤمنين ، ومشاقّة الرسول وحدها موجبة لهذا الوعيد ، فلو لم يكن اتّباع غير سبيل المؤمنين موجبا له ، لكان ذلك ضمّا لما لا أثر له في الوعيد إلى ما هو مستقلّ باقتضاء ذلك الوعيد ، وأنّه غير جائز ، فثبت أنّ اتّباع غير سبيل المؤمنين حرام ، فإذا ثبت هذا لزم أن يكون اتّباع سبيلهم واجبا». وقد قرّر غيره الاستدلال بالآية على حجّيّة الإجماع بطرق أخرى ، وكلّها على ما فيها من ضعف في التقريب ، وهو استلزام الدليل للمدّعي ، قد أوردت عليها نقوض أشار إليها ابن الحاجب في «المختصر». واتّفقت كلمة المحقّقين : الغزالي ، والإمام في «المعالم» ، وابن الحاجب ، على توهين الاستدلال بهذه الآية على حجّيّة الإجماع.

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦))

استئناف ابتدائي ، جعل تمهيدا لما بعده من وصف أحوال شركهم. وتعقيب الآية السابقة بهذه مشير إلى أنّ المراد باتّباع غير سبيل المؤمنين اتّباع سبيل الكفر من شرك وغيره ، فعقّبه بالتحذير من الشرك ، وأكّده بأنّ للدلالة على رفع احتمال المبالغة أو المجاز. وتقدّم القول في مثل هذه الآية قريبا. غير أنّ الآية السابقة قال فيها (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) [النساء : ٤٨] وقال في هذه (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) وإنّما قال في السابقة (فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) لأنّ المخاطب فيها أهل الكتاب بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ

٢٥٥

أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) [النساء : ٤٧] فنبّهوا على أنّ الشرك من قبيل الافتراء تحذيرا لهم من الافتراء وتفظيعا لجنسه. وأمّا في هذه الآية فالكلام موجه إلى المسلمين فنبّهوا على أنّ الشرك من الضلال تحذيرا لهم من مشاقة الرسول وأحوال المنافقين فإنها من جنس الضلال. وأكّد الخبر هنا بحرف (قد) اهتماما به لأنّ المواجه بالكلام هنا المؤمنون ، وهم لا يشكّون في تحقّق ذلك.

والبعيد أريد به القويّ في نوعه الذي لا يرجى لصاحبه اهتداء ، فاستعير له البعيد لأنّ

البعيد يقصي الكائن فيه عن الرجوع إلى حيث صدر.

[١١٧ ـ ١٢١] (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١))

كان قوله : (إِنْ يَدْعُونَ) بيانا لقوله : (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء : ١١٦] ، وأي ضلال أشدّ من أن يشرك أحد بالله غيره ثم أن يدّعي أنّ شركاءه إناث ، وقد علموا أنّ الأنثى أضعف الصنفين من كلّ نوع. وأعجب من ذلك أن يكون هذا صادرا من العرب ، وقد علم الناس حال المرأة بينهم ، وقد حرموها من حقوق كثيرة واستضعفوها. فالحصر في قوله : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) قصر ادّعائي لأنّه أعجب أحوال إشراكهم ، ولأنّ أكبر آلهتهم يعتقدونها أنثى وهي : اللّات ، والعزّى ، ومناة ، فهذا كقولك لا عالم إلّا زيد. وكانت العزّى لقريش ، وكانت مناة للأوس والخزرج ، ولا يخفى أنّ معظم المعاندين للمسلمين يومئذ كانوا من هذين الحيّين : مشركو قريش هم أشدّ الناس عداء للإسلام : ومنافقوا المدينة ومشركوها أشدّ الناس فتنة في الإسلام.

ومعنى (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) أنّ دعوتهم الأصنام دعوة للشيطان ، والمراد جنس الشيطان ، وإنما جعلوا يدعون الشيطان لأنه الذي سوّل لهم عبادة الأصنام. والمريد : العاصي والخارج عن الملك ، وفي المثل «تمرّد مارد وعزّ الأبلق» اسما حصنين للسموأل ، فالمريد صفة مشبّهة مشتقّة من مرد ـ بضم الراء ـ إذا عتا في العصيان.

وجملة (لَعَنَهُ اللهُ) صفة لشيطان ، أي أبعده ؛ وتحتمل الدعاء عليه ، لكن المقام ينبو

٢٥٦

عن الاعتراض بالدعاء في مثل هذا السياق. وعطف (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَ) عليه يزيد احتمال الدعاء بعدا. وسياق هذه الآية كسياق أختها في قوله : (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ* قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف : ١٣ ـ ١٦] الآية فكلّها أخبار. وهي تشير إلى ما كان في أول خلق البشر من تنافر الأحوال الشيطانية لأحوال البشر ، ونشأة العداوة عن ذلك التنافر ، وما كوّنه الله من أسباب الذود عن مصالح البشر أن تنالها القوى الشيطانية نوال إهلاك بحرمان الشياطين من رضا الله تعالى ، ومن مداخلتهم في مواقع الصلاح ، إلّا بمقدار ما تنتهز تلك القوى من فرض ميل القوى البشرية إلى القوى الشيطانية وانجذابها ، فتلك خلس تعمل الشياطين فيها عملها ، وهو ما أشار إليه قوله تعالى : (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ* إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٤١ ، ٣٢]. وتلك ألطاف من الله أودعها في نظام الحياة البشرية عند التكوين ، فغلب بسببها الصلاح على جماعة البشر في كلّ عصر ، وبقي معها من الشرور حظّ يسير ينزع فيه الشيطان منازعه وكل الله أمر الذياد عنه إلى إرادة البشر ، بعد تزويدهم بالنصح والإرشاد بواسطة الشرائع والحكمة.

فمعنى الحكاية عنه بقوله : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) أنّ الله خلق في الشيطان علما ضروريا أيقن بمقتضاه أنّ فيه المقدرة على فتنة البشر وتسخيرهم ، وكانت في نظام البشر فرص تدخل في خلالها آثار فتنة الشيطان ، فذلك هو النصيب المفروض ، أي المجعول بفرض الله وتقديره في أصل الجبلّة. وليس قوله : (مِنْ عِبادِكَ) إنكارا من الشيطان لعبوديته لله ، ولكنّها جلافة الخطاب النّاشئة عن خباثة التفكير المتأصّلة في جبلّته ، حتّى لا يستحضر الفكر من المعاني المدلولة إلّا ما له فيه هوى ، ولا يتفطّن إلى ما يحفّ بذلك من الغلظة ، ولا إلى ما يفوته من الأدب والمعاني الجميلة ، فكلّ حظّ كان للشيطان في تصرّفات البشر من أعمالهم المعنوية : كالعقائد والتفكيرات الشريرة ، ومن أعمالهم المحسوسة : كالفساد في الأرض ، والإعلان بخدمة الشيطان : كعبادة الأصنام ، والتقريب لها ، وإعطاء أموالهم لضلالهم ، كلّ ذلك من النصيب المفروض.

ومعنى (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) إضلالهم عن الحق. ومعنى : (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) لأعدنّهم مواعيد كاذبة ، ألقيها في نفوسهم ، تجعلهم يتمنّون ، أي يقدّرون غير الواقع واقعا ، أغراقا ، في الخيال ، ليستعين بذلك على تهوين انتشار الضلالات بينهم. يقال : منّاه ، إذا وعده المواعيد الباطلة ، وأطمعه في وقوع ما يحبّه ممّا لا يقع ، قال كعب :

٢٥٧

فلا يغرنك ما منّت وما وعدت

ومنه سمّي بالتمنّي طلب ما لا طمع فيه أو ما فيه عسر.

ومعنى : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) أي آمرنّهم بأن يبتّكوا آذان الأنعام فليبتّكنها ، أي يأمرهم فيجدهم ممتثلين ، فحذف مفعول أمر استغناء عنه بما رتّب عليه. والتبتيك : القطع. قال تأبّط شرا :

ويجعل عينيه ربيئة قلبه

إلى سلّة من حدّ أخلق باتك

وقد ذكر هنا شيئا ممّا يأمر به الشيطان ممّا يخصّ أحوال العرب ، إذ كانوا يقطعون آذان الأنعام التي يجعلونها لطواغيتهم ، علامة على أنّها محرّرة للأصنام ، فكانوا يشقّون آذان البحيرة والسائبة والوصيلة ، فكان هذا الشقّ من عمل الشيطان ، إذ كان الباعث عليه غرضا شيطانيا.

وقوله : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) تعريض بما كانت تفعله أهل الجاهلية من تغيير خلق الله لدواع سخيفة ، فمن ذلك ما يرجع إلى شرائع الأصنام مثل فقء عين الحامي ، وهو البعير الذي حمى ظهره من الركوب لكثرة ما أنسل ، ويسيّب للطواغيت. ومنه ما يرجع إلى أغراض ذميمة كالوشم إذ أرادوا به التزيّن ، وهو تشويه ، وكذلك وسم الوجوه بالنار.

ويدخل في معنى تغيير خلق الله وضع المخلوقات في غير ما خلقها الله له ، وذلك من الضلالات الخرافية. كجعل الكواكب آلهة. وجعل الكسوفات والخسوفات دلائل على أحوال الناس ، ويدخل فيه تسويل الإعراض عن دين الإسلام ، الذي هو دين الفطرة ، والفطرة خلق الله ؛ فالعدول عن الإسلام إلى غيره تغيير لخلق الله.

وليس من تغيير خلق الله التصرّف في المخلوقات بما أذن الله فيه ولا ما يدخل في معنى الحسن ؛ فإنّ الختان من تغيير خلق الله ولكنّه لفوائد صحيّة ، وكذلك حلق الشعر لفائدة دفع بعض الأضرار ، وتقليم الأظفار لفائدة تيسير العمل بالأيدي ، وكذلك ثقب الآذان للنساء لوضع الأقراط والتزيّن ، وأمّا ما ورد في السنّة من لعن الواصلات والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن فممّا أشكل تأويله. وأحسب تأويله أنّ الغرض منه النهي عن سمات كانت تعدّ من سمات العواهر في ذلك العهد ، أو من سمات المشركات ، وإلّا فلو فرضنا هذه منهيّا عنها لما بلغ النهي إلى حدّ لعن فاعلات ذلك. وملاك الأمر أن تغيير

٢٥٨

خلق الله إنّما يكون إنما إذا كان فيه حظّ من طاعة الشيطان ، بأن يجعل علامة لنحلة شيطانيّة ، كما هو سياق الآية واتّصال الحديث بها. وقد أوضحنا ذلك في كتابي المسمّى : «النظر الفسيح على مشكل الجامع الصحيح».

وجملة (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) تذييل دالّ على أنّ ما دعاهم إليه الشيطان : من تبتيك آذان الأنعام ، وتغيير خلق الله ، إنّما دعاهم إليه لما يقتضيه من الدلالة على استشعارهم بشعاره ، والتديّن بدعوته ، وإلّا فإنّ الشيطان لا ينفعه أن يبتّك أحد أذن ناقته ، أو أن يغيّر شيئا من خلقته ، إلّا إذا كان ذلك للتأثّر بدعوته.

وقوله : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) استئناف لبيان أنّه أنجز عزمه فوعد ومنّى وهو لا يزال يعد ويمنّي ، فلذلك جيء بالمضارع. وإنّما لم يذكر أنّه يأمرهم فيبتّكون آذان الأنعام ويغيّرون خلق الله لظهور وقوعه لكلّ أحد.

وجيء باسم الإشارة في قوله : (أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) لتنبيه السامعين إلى ما يرد بعد اسم الإشارة من الخبر وأنّ المشار إليهم أحرياء به عقب ما تقدّم من ذكر صفاتهم.

والمحيص : المراغ والملجأ ، من حاص إذا نفر وراغ ، وفي حديث هرقل «فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب». وقال جعفر بن علبة الحارثي :

ولم ندر إن حصنا من الموت حيصة

كم العمر باق والمدى متطاول

روي : حصنا وحيصة ـ بالحاء والصاد المهملتين ـ ويقال : جاض أيضا ـ بالجيم والضاد المعجمة ـ ، وبهما روي بيت جعفر أيضا.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢))

عطف على جملة (أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) [النساء : ١٢١] جريا على عادة القرآن في تعقيب الإنذار بالبشارة ، والوعيد بالوعد.

وقوله : (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكّد لمضمون جملة : (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي) إلخ ، وهي بمعناه ، فلذلك يسمّي النحاة مثله مؤكّدا لنفسه ، أي مؤكّدا لما هو بمعناه.

وقوله : (حَقًّا) مصدر مؤكّد لمضمون (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ) ، إذ كان هذا في معنى الوعد ، أي هذا الوعد أحقّقه حقّا ، أي لا يتخلّف. ولمّا كان مضمون الجملة التي قبله

٢٥٩

خاليا عن معنى الإحقاق كان هذا المصدر ممّا يسمّيه النحاة مصدرا مؤكّدا لغيره.

وجملة (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ) تذييل للوعد وتحقيق له : أي هذا من وعد الله ، ووعود الله وعود صدق ، إذ لا أصدق من الله قيلا. فالواو اعتراضية لأنّ التذييل من أصناف الاعتراض وهو اعتراض في آخر الكلام ، وانتصب (قِيلاً) على تمييز نسبة من (أَصْدَقُ مِنَ اللهِ).

والاستفهام إنكاري.

والقيل : القول ، وهو اسم مصدر بوزن فعل يجيء في الشرّ والخير.

[١٢٣ ، ١٢٤] (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤))

الأظهر أنّ قوله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) استئناف ابتدائي للتنويه بفضائل الأعمال ، والتشويه بمساويها ، وأنّ في (ليس) ضميرا عائدا على الجزاء المفهوم من قوله : (يُجْزَ بِهِ) ، أي ليس الجزاء تابعا لأماني الناس ومشتهاهم ، بل هو أمر مقدّر من الله تعالى تقديرا بحسب الأعمال ، وممّا يؤيّد أن يكون قوله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) استئنافا ابتدائيا أنّه وقع بعد تذييل مشعر بالنهاية وهو قوله : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) [النساء : ١٢٢]. وممّا يرجّحه أنّ في ذلك الاعتبار إبهاما في الضمير ، ثم بيانا له بالحملة بعده ، وهي : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ؛ وأنّ فيه تقديم جملة (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) عن موقعها الذي يترقّب في آخر الكلام ، فكان تقديمها إظهارا للاهتمام بها ، وتهيئة لإبهام الضمير. وهذه كلّها خصائص من طرق الإعجاز في النظم. وجملة (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) استئناف بياني ناشئ عن جملة (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) لأنّ السامع يتساءل عن بيان هذا النفي المجمل. ولهذا الاستئناف موقع من البلاغة وخصوصية تفوت بغير هذا النظم الذي فسّرناه. وجعل صاحب «الكشاف» الضمير المستتر عائدا على وعد الله ، أي ليس وعدّ الله بأمانيّكم ؛ فتكون الجملة من تكملة الكلام السابق حالا من (وَعْدَ اللهِ) [النساء : ١٢٢] ، وتكون جملة (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) استئنافا ابتدائيا محضا.

روي الواحدي في أسباب النزول بسنده إلى أبي صالح ، وروى ابن جرير بسنده إلى مسروق ، وقتادة ، والسدّي ، والضحاك ، وبعض الروايات يزيد على بعض ، أنّ سبب

٢٦٠