دروس في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

__________________

نفى الله تعالى الفعل فقال مثلا اننا لا نعذب حتى نبيّن لهم الاحكام ، لا مكن ان نقول عدم التعذيب لا ينافي استحقاق التعذيب ، ورفعه قد يكونه حينئذ من باب المنّ ، لكنّه تعالى أراد أن ينفي توهّم استحقاق التعذيب قبل ان يبعث رسولا يبين شريعة الله ، فنفى الصفة ولم ينف الفعل فقط ، وبينهما فرق ، فإن الله تعالى لا ينفي صفة معيّنة عنه إلّا إذا كان فيها نسبة نقص اليه تعالى ، وهذا أمارة عدم استحقاق العذاب قبل بعث الرّسول ، وان تعذيب الله تعالى لهم حينئذ يكون ظلما ، وحاشا لله ان يتّصف بالظلم.

راجع إن شئت الموارد المشابهة لهذا المورد كقوله تعالى (وما كنّا عن الخلق غافلين)(وماكنا ظالمين) وليتّضح الفرق عندك اكثر ـ بين نفي الفعل ونفي الصفة ـ لا حظهما معا في قوله تعالى (وما كان الله ليعذّبهم وانت فيهم ، وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون) فنفى في الحالة الأولى الفعل اشارة منه تعالى إلى استحقاق العذاب وانّ رفعه عنهم انما هو من باب المنّ ، ولذلك عقّب تعالى في الآية الثانية مباشرة بقوله (وما لهم ألّا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه ..).

لكن في الحالة الثانية ليس لله تعالى ان يعذبهم وهم يستغفرون فكان المناسب ان ينفي الله تعالى هنا الصفة إيماء منه أن ليس له تعذيبهم ، لأنّه حينئذ ظلم.

وما نحن فيه كهذه الحالة الثانية بلا فرق(*)

____________________________________

(*) انّ اعتراف السيد المصنّف رحمه‌الله بانّ مفاد الآية الكريمة هو (ان الجاهل بالحكم لا يستحق العذاب) يناقض مسلكه بحقّ الطاعة ويبطله بدليل الآية ، والقدر المتيقن من الجاهل بالحكم هو المجتهد الذي فحص ولم يجد دليلا محرزا على الحكم. (ثم) إنّ هاهنا نقطة يحسن الاشارة اليها وهي أن القدر المتيقّن من نظر هذه الآية هو مورد الشبهات

٦١

(الثاني) ، لأنّ النكتة مشتركة ، مضافا إلى منع نظر الآية إلى العقوبات الدنيوية ، بل سياقها سياق استعراض عدّة قوانين للجزاء الأخروي ، إذ وردت في سياق (ولا تزر وازرة وزر أخرى)(١) فانّ هذا شأن عقوبات الله في الآخرة لا في الدنيا ، ولا منشأ لدعوى النظر المذكور إلّا ورود التعبير بصيغة الماضي في قوله «وما كنّا» ، وهذا بنكتة إفادة الشأنيّة (٢) والمناسبة ، ولا يتعيّن ان يكون بلحاظ النظر إلى الزّمان الماضي خاصّة.

ولكن يرد على الاستدلال بالآية الكريمة ما تقدّم في الحلقة السابقة من أنّ الرسول إنما يمكن اخذه كمثال لصدور البيان (*) من الشارع ، لا

__________________

(١) فاطر : ١٨.

(٢) يظهر الجواب على الاعتراض الثاني على ضوء جوابنا الأوّل بنفي الصفة ، فإنّ نفي الصفة لا يفرّق فيه بين الدنيا والآخرة ، لأنّه ناظر إلى طبيعة الله تعالى وصفاته.

__________________

الحكمية اي مورد المجتهد الذي فحص ولم يجد دليلا محرزا على الحكم ، وذلك لان المنصرف من الرسول هو الرسول في مجال الشبهات الحكمية ، وليس من شأن الرسول بيان الموضوعات الخارجية كنجاسة هذا وطهارة ذاك إلا اذا رجع الى بيان الأحكام الكلية كبيان نجاسة الكلب وطهارة الذئب مثلا

(*) لا شكّ في أنّ المناط والملاك من بعث الرسول هو تبيين الاحكام للناس ، بل ان لفظة رسول تعني الشخص الذي يحمل رسالة من المرسل الى المرسل إليه وعليه ان يؤدّيها كأمانة في عنقه.

وعليه يكون المراد من هذه الآية الكريمة : .... حتى نبعث رسولا يبيّن لكم معالم الرسالة التي يحملها ، فاذا بحث المجتهد في الآيات والروايات عن حكم معيّن ولم يجد فيها دليلا حجّة فهو بمثابة من لم يبعث له رسول في هذا الحكم المجهول ، ولا سيّما انّ

٦٢

للوصول الفعلي ، فلا تنطبق الآية في موارد صدوره وعدم وصوله.

ثم إنّ البراءة اذا استفيدت من هذه الآية فهي براءة منوطة بعدم قيام دليل على وجوب الاحتياط (١) ، لأنّ هذا الدليل بمثابة الرّسول ايضا.

ومنها : قوله تعالى : (قل لّا أجد فى ما أوحى إلىّ محرّما على طاعم

__________________

(١) بمعنى أن تعاليم الرّسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمة الاطهار عليهم‌السلام متّبعة كيفما تكون ، واقعية ام ظاهرية ، فاذا بحث المجتهد عن حكم مسألة في مظانّها ولم يجد دليلا حجّة ليتّبعه ، ثمّ شكّ في شمول ادلّة الاحتياط لما هو فيه لأسباب ، إمّا لضعف فيها سندا أو دلالة أو غير ذلك ، فهو بمثابة من لم يبعث له رسول تماما ، فيكون حكم هذا حكم ذاك وهي براءة الذمّة ، وإن ثبت لديه وجوب الاحتياط في موارد الجهل يكون ممّن جاءه رسول وبلّغه به.

__________________

الرّسول الاعظم والائمّة الاطهار عليهم‌السلام قادرون على ايصال الاحكام لمن سيأتون من بعدهم ـ في عصر الغيبة ـ ولا سيما أيضا أننا لا نشكّ في ان اهتمام المعصومين عليهم‌السلام بالشيعة الذين يأتون في عصر الغيبة اكثر من اهتمامهم ببضع مئات من الرواة يبلّغونهم الحكم ثمّ يضيّعونه ، مع العلم انّ الائمة عليهم‌السلام يعلمون بأنّ بعض الرّوايات سوف تتلف ، فلو شاءوا لأوصلوا لنا الاحكام بالطرق المألوفة من عدّة طرق صحيحة ، إذن المراد. والله العالم. من هذه الآية المباركة : ليس من صفتنا التعذيب قبل ان نبعث رسولا يتبين لكم معالم الرّسالة وتفاصيلها لكل النّاس ـ من كان في ايّام البعثة ومن يأتي بعدها ـ لوحدة المناط في الجميع ، وانّ الله تعالى قادر على ايصال تعاليم الرسالة بالطرق الطبيعية لكلّ النّاس ، مع عدم تقصيرهم في البحث عن الاحكام ، ولذلك يرى المجتهد. مع عدم علمه بالاحكام رغم بحثه. أنّه لا يستحق العذاب ، ولذلك هذه الآية تكون مؤكّدة ومرشدة الى ما تبنيناه من «قبح العقاب بلا بيان».

٦٣

يطعمه إلّا أن يكون ميتة أو دما مّسفوحا أو لحم خنزير فإنّه رجس أو فسقا أهلّ لغير الله به فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فإنّ ربّك غفور رّحيم)(١). اذ دلّ على انّ عدم الوجدان كاف في إطلاق العنان (*) ...

__________________

(١) الانعام / ١٤٥. قال في مجمع البيان والتفسير الكاشف وغيرهما انّ «فسقا» معطوفة على لحم خنزير ، والمعنى ـ والله العالم ـ ... إلّا ان يكون ... أو لحم خنزير أو فسقا أهلّ لغير الله به ، وسمّي ـ ما ذكر عليه اسم الصنم ـ فسقا لخروجه عن أمر الله ، واصل الاهلال رفع الصوت بالشيء ، فكأنّه تعالى قال أو لحم خنزير أو ذبيحة لم يذكر عليها اسم الله

__________________

(*) لم يعط للتقريب حقّه ، ولذلك يرد عليه الايرادان الأوّلان ، والتقريب الصحيح الذي لا يرد عليه هذان الإيردان إنّما يتم بالبيان التالي : إنّ قوله تعالى (قل لا أجد فيما اوحي إليّ محرّما على طاعم يطعمه إلّا ..) إشارة إلى أنّ عدم وجدان الخبير تحريما ما كاف لاجراء الحلّية الظاهرية عقلائيا ، بيان ذلك : ان هذه الآيات الكريمة تفيدنا وجود حالة جدال بين علماء اليهود. الذين يعرفون الرّسول الأعظم بصدقه في الرسالة إلّا أنهم ينكرون ذلك ظاهرا. وبين الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يشير إلى ذلك اسلوب الآيات القائلة : ... (ومن الأنعام حمولة وفرشا ، كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنّه لكم عدو مبين (١٤٢) ثمانية ازواج ، من الضّأن اثنين ، ومن المعز اثنين ، قلءآلذكرين حرّم أم الانثيين ام ما اشتملت عليه ارحام الانثيين؟ نبؤوني بعلم إن كنتم صادقين (١٤٣) ومن الابل اثنين ، ومن البقر اثنين ، قل آلذكرين حرّم أم الانثيين أم ما اشتملت عليه ارحام الانثيين؟ أم كنتم شهداء إذ وصّاكم الله بهذا؟! فمن أظلم ممّن افترى على الله كذبا ليضلّ الناس بغير علم ، إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين (١٤٤) قل لا اجد فيما أوحي إليّ محرّما على طاعم يطعمه إلّا ان يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير ، فانّه رجسّ أو فسقا أهلّ لغير الله به ، فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فانّ ربّك غفور رحيم (١٤٥)) سورة الانعام

٦٤

__________________

فكأن الرّسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد ان يقول لهم كيف تنسبون إلى الله تعالى انّه حرّم ما في بطون الانعام على الاناث وحلّلها على الذكور؟ والحال انّها لو كانت حلالا لحلّت للذكور والاناث ولو كانت حراما لحرمت عليهم فان لم يكن لكم علم بالتحريم فعليكم باصالة البراءة العقلية أو قل الحلية الظاهرية ... الخ ، والكيفية الصحيحة لهذا الجدال ان يبرهن الرسول الاعظم على حلّية ما يدّعون حرمتها من دون ان يستعمل دعوى نبوّته. لاننا كما قلنا هم في هذا الجدال ينكرون نبوّته ولو ظاهرا. ، ويتمّ هذا البرهان بأحد نحوين يفهمان من هذه الآيات الشريفة وهما :

١. عدم شهادتهم للتحريم المدّعى بل عدم وجود علم لديهم ـ بما يشمل الدليل الحجّة ، لأنّه يعتبر بنظر العقلاء بمثابة العلم من حيث وجوب الاتباع ـ وهو كاف عقلائيا في اجراء الحلية الظاهرية.

٢. عدم وجدان الخبير الصادق لهذا التحريم على طاعم مطلق ـ سواء كان مسلما أم يهوديا ام غيرهما ـ فعدم وجدانهم بمعونة عدم وجدان النبي (ص) ـ مع عدم اعترافهم بنبوته ـ يدعوهم الى اجراء الحليّة الظاهرية ، لأنّه هو الاصل في الأمور المجهولة بالنسبة إلى الخبراء بعد البحث في الشريعة السماوية ، ولذلك لم يقل الله تعالى عنهم انهم ادّعوا اصالة الاشتغال ، وذلك لأنّ فرض الكلام هو حالة ما بعد فحص الخبراء.

هكذا يخصم اليهود ، امّا لو تكلّم الرّسول من حيث كونه رسولا فانّهم لا يخصمون ولا ينتهي الجدال وذلك امارة عدم الحكمة في الجدال ، وحاشا لله ولرسوله ذلك ، وذلك لأنّ الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو قال : أنا لم اجد في الوحي ان ذلك محرّم على احد ، وعدم وجداني يساوق عدم الوجود لكوني نبيا ، إذن لا حرمة واقعا لا علينا ولا عليكم ، فانّ لليهود ان يقولوا : نحن أصلا لا نؤمن بنبوّتك ، ولا أقل في مقام هذا الجدال. إذ وردت هذه الآيات في مكة المكرّمة باتفاق المفسّرين. فكان عليك ان تثبت لنا نبوّتك اوّلا ثم تقول عدم وجداني دليل على عدم الوجود ...

(فان قيل) : إذن كيف تفسّر استعمال الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلمة فيما أوحي إليّ في مقدّمات برهانه؟

٦٥

__________________

(قلنا) في هذه الكلمة فوائد رغم انّها لا يتوقف عليها الرّجوع إلى اصالة البراءة ، منها : انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد أن يشككهم ولو ظاهرا ، اضافة الى أنه لا علم لهم بالتحريم ، فعدم وجدان الرّسول الأعظم ـ مع عدم علمهم بالتحريم ـ قد يجعل عندهم ظنا او علما ولو في انفسهم ، ومنها : ان الرّسول الأعظم مضطرّ إلى هذا الاستعمال بعد ادّعائه للنبوّة ، ومنها : انه يريد ان يشير إليهم بقناعة بدعوى النبوّة وان انكروها. ومنها : أنّ تكرار مثل هذه الكلمات تقرّب ادّعاء النبوّة إلى اذهانهم لاستئناسهم بها مع كثرة ذكرها وذكر لوازمها ... الخ

وهكذا ظهر لك انّ هذه الآية الكريمة ترشدنا باسلوبها الى قاعدة الحلّية العقلية ، وبمعونة عدم وجود فرق عند العقل بين احتمال الحرمة واحتمال الوجوب. إن لم يكن في الثاني اولى. يثبت ان هذه الآية المباركة تنبهنا على اصالة البراءة عقلا.

ومثل هذه الآية الكريمة قوله تعالى في آخر سورة طه (وقالوا لو لا يأتينا بآية من ربّه أولم تأتهم بيّنة ما في الصحف الاولى (١٣٣) ولو أنّا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربّنا لو لا أرسلت الينا رسولا فنتّبع آياتك من قبل أن نذلّ ونخزى (١٣٤) قل كلّ متربّص فتربّصوا فستعلمون من اصحاب الصراط السّوي ومن اهتدى(١٣٥)) انتهت سورة طه.

ـ في كشف المحجة لابن طاووس رحمه‌الله حديث طويل عن امير المؤمنين (عليه‌السلام) وفيه قيل : فمن الوليّ يا رسول الله؟ قال : وليّكم في هذا الزمان أنا ، ومن بعدي وصيّي ، ومن بعد وصيّي لكل زمان حجج الله ، لكيلا يقولون كما قال الضّلّال من قبلكم فارقهم نبيهم (ربّنا لو لا ارسلت الينا رسولا فنتبع آياتك من قبل ان نذلّ ونخزى) ، وانما كان تمام ضلالتهم جهالتهم بالآيات وهم الاوصياء ، فاجابهم الله : (قل كلّ متربص فتربصوا فستعلمون من اصحاب الصراط السويّ ومن اهتدى) ، وانّما كان تربّصهم ان قالوا : نحن في سعة من معرفة الاوصياء حتّى يعلن إمام علمه.

ـ ويظهر من الآية الكريمة بمعونة هذه الرواية وتفسير العلّامة لها (ج ١٤ ص ٢٤٠) وقالوا ـ اي مشركو مكّة ـ لو لا يأتينا ـ اي الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بآية من ربّه تشهد بصدق القرآن وصحته ـ وهذا يعني عدم اعتبارهم القرآن دليلا بيّنا على صدق ادّعاء الرسول ـ فاجابهم الله تعالى أو لم يكفهم شاهدا بيّنة ما في الصحف الاولى من

٦٦

ويرد عليه :

أولا : إن عدم وجدان النبيّ فيما اوحي إليه يساوق عدم الحرمة واقعا.

وثانيا : إنّه إن لم يساوق عدم الحرمة واقعا فعلى الأقلّ يساوق عدم صدور بيان من الشارع ، إذ لا يحتمل صدوره واختفاؤه على النبي ، وأين هذا من عدم الوصول الناشئ من احتمال اختفاء البيان؟!

وثالثا : إنّ اطلاق العنان ، كما قد يكون بلحاظ أصل عملي ، قد يكون بلحاظ عمومات الحلّ التي لا ترفع اليد عنها إلّا بمخصّص واصل (١).

__________________

(١) يقول : إنّ إطلاق العنان الواضح في الآية يحتمل منه إرادة قاعدة البراءة كأصل عملي ، ويحتمل منه إرادة أن الحكم الواقعي الاوّلي في الاشياء الحلّية والّا لذكرها الله تعالى ، وذلك من قبيل قوله تعالى (يا ايها الناس كلوا ممّا في الأرض حلالا طيبا) ، وبما أنّ كلا المعنيين محتمل فلا معيّن لافادة خصوص البراءة الظاهرية.

__________________

الاخبار به واعطاء صفاته حتّى صاروا يعرفونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يعرفون أبناءهم وكذلك صفة اصحابه ومهاجرته ... (راجع الروايات إن شئت في ذلك) ، ولأهمية هذا الشاهد ذكره الله تعالى عدّة مرّات في القرآن الكريم لا تقلّ عن سبع مرّات من قبيل (الذين يتّبعون الرسول النبيّ الامّي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل) ، (ولو أنا اهلكناهم بعذاب من قبل ارسال الرسول لقالوا) ـ محتجّين على الله تبارك وتعالى بالبراءة العقلية ـ (لو لا ارسلت إلينا رسولا فنتّبع آياتك) ـ بمعنى تعاليمه التي يأتي بها اوصياؤه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في الرواية ، ولا شك ان اتّباعهم عليهم‌السلام هو من جملة تعاليمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من قبل ان نذلّ ونخزى. والآن وبعد ان اسقطنا حجّتكم بالبراءة العقلية بارسال الرسول فتربّصوا ـ اي انتظروا ...

٦٧

ومنها : قوله تعالى : (وما كان الله ليضلّ قوما بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم مّا يتّقون إنّ الله بكلّ شيء عليم (١١٥) (١).)

وتقريب الاستدلال (*) كما (٢) تقدّم في الحلقة السابقة ، وما يتّقى

__________________

(١) التوبة / ١١٥

(٢) «كم» خبر ل «تقريب»

__________________

(*) نظرة في تفسير هذه الآية المباركة :

قال في مجمع البيان : قيل مات قوم من المسلمين على الاسلام قبل أن تنزل الفرائض فقال المسلمون : يا رسول الله اخواننا الذين ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم؟ فنزل (وما كان الله ليضلّ قوما ..) الآية ، عن الحسن. وعن الكلبي قال : لما نسخت بعض الشرائع كجهة القبلة بقي من لم يعلم بالنسخ من الناس على عملهم بالأمر الأوّل ومات بعضهم على الأمر الاوّل ، فسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ، فأنزل الله الآية ، وبيّن أنّه لا يعذّب هؤلاء على التوجه إلى القبلة الأولى حتى يسمعوا بالنسخ ولا يعملوا بالناسخ فحينئذ يعذّبهم (انتهى كلامه رفع مقامه).

ولاضلال الله عدّة معان ،

(منها) بمعنى أضاع كما في قوله تعالى (الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله أضلّ أعمالهم) ، (والذين كفروا فتعسا لهم واضلّ أعمالهم)(والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضلّ أعمالهم).

(ومنها) بمعنى يضلّهم عن الصواب كقوله تعالى (أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله) و (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون) و (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم) وقوله تعالى (قل إنّ الله يضلّ من يشاء ويهدى اليه من أناب) وقوله (إن تحرص على هداهم فانّ الله لا يهدي من يضلّ) ، وهذا المعنى قريب من المعنى الاوّل.

. وقيل ان (منها) بمعنى يحكم باضلالهم ولم اجد لها شاهدا من القرآن الكريم ، بل هي

٦٨

(إن) أريد به ما يتّقى بعنوانه انحصر بالمخالفة الواقعية للمولى ، فتكون البراءة المستفادة من الآية الكريمة منوطة بعدم بيان الواقع ، (وإن) اريد به ما يتّقى ولو بعنوان ثانوي ظاهري كعنوان المخالفة

__________________

بعيدة عن الفهم العرفي.

(وإنّ) استظهار معنى أضاع يحتاج إلى تقدير «أعمال» ، والتقدير كقاعدة أوّلية على خلاف الأصل العقلائي ، ولا ضرورة تحوجنا إلى هذا التقدير بعد بعد هذا الوجه في نفسه أيضا ، ومثله المعنى الثالث الذي يحتاج أيضا إلى تقدير «يحكم».

(فكأنّ) المتعيّن ، بل هو الظاهر أن نحمل هذه الكلمة على المعنى الثاني ، وهو المتبادر الى الذهن منها ، فيصير معناها. والله العالم. وما كان الله ليضلّ من هداهم عنه وعن سبيله ، وما كان الله تعالى ليكلهم إلى أنفسهم فيضيعوا في الظلمات ... أعاذنا الله من ذلك ، أو قل : يصير معنى الآية الكريمة : وما كان الله ليضلّ من هداهم عنه وعن سبيله حتّى يبيّن لهم ما يتّقونه ، ولا شك أنّ في الاضلال عذابا ، فالمجتهد الذي يبذل جهده في البحث عن احكام الشريعة ولم يجد دليلا حجّة في مورد معيّن ، فهو لم يبيّن له حكم المورد ، فحينئذ لا يضله الله تعالى بمعنى لا يعذّبه إن خالف التكاليف الواقعية المجهولة عنده ولم يحتط ، بل يعفو ويرخّص. (وهذا) هو الوجه الأول في المتن وهو الظاهر عرفا من الآية بدليل قوله تعالى (ما يتقون) أي المورد الذي يتقونه او قل حتى يبيّن لهم الحكم الواقعي ، فاذا لم يبيّن لنا حكم شرب التتن لم يضلنا الله ...

(ثمّ) إنّه ينبغي أن يعلم ان هذه الآية الكريمة تفيد قاعدة البراءة الاعمّ من قاعدة الحلّ ، (وذلك) لأنّ الاتقاء كما يصحّ ان يتعلّق بوجود الشيء كشرب الخمر يصحّ ايضا ان يتعلّق بعدمه كترك الصلاة ، وهذا امر واضح ، ورغم وضوحه صرّحت اكثر من رواية عن الامام الصادق (عليه‌السلام) ـ في تفسير هذه الآية ـ انه قال (حتى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه).

٦٩

الاحتمالية (١) كان دليل وجوب الاحتياط واردا على هذه البراءة ، لأنّه بيان لما يتّقى بهذا المعنى.

__________________

(١) اي وان أريد ب «ما يتقون» موارد الاتقاء كالمخالفة الاحتمالية ـ كما يقول سيدنا المصنف بناء على مسلك حق الطاعة ـ فسيصير المعنى حتى يبين لكم وظيفتكم سواء الواقعية أم الظاهرية ، فاذا بيّن لنا لزوم الاحتياط في موارد المخالفة الاحتمالية وخالفناه ـ والعياذ بالله ـ كان لله أن يضلّنا ، ومعنى ذلك ان دليل الاحتياط يصير واردا على دليل البراءة ، لانّ معنى الآية سيصير هكذا : ... حتى يبيّن لهم الموارد التي يتقونها. فاذا وردنا لزوم الاحتياط في مورد المخالفة الاحتمالية فقد بيّنت لنا وظيفتنا وبالتالي ارتفع موضوع البراءة.

٧٠

(أدلّة البراءة من السّنّة)

واستدلّ من السنّة بروايات :

منها : ما روي عن الصادق (عليه‌السلام) من قوله : «كل شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (*).

__________________

(*) تجدها في جامع احاديث الشيعة ج ١ / ابواب المقدّمات / ص ٣٢٨ ح ١٥.

وهذه الرواية ساقطة سندا علميا وذلك لانّ الصدوق في الفقيه رواها بنحو «روي عن الصادق عليه‌السلام ، وبعد هذا لا نطمئن إلى صحّة نقل صاحب الوسائل لها عنه بنحو «قال الصادق عليه‌السلام» (وسائل ج ١٨ ص ١٢٧ ح ٦٠).

ورواها في المستدرك عن عوالي اللآلي : وعن الصادق عليه‌السلام .. حتى يرد فيه نص.

(نعم) لو قال الصدوق «قال الصادق» لكانت منه شهادة باستنادها إلى الإمام عليه‌السلام ولا اشكال حينئذ فيها من ناحية السند ، لأنّها تكون بمثابة قوله نقلتها بسند كلّ رجاله ثقات ، وهي شهادة لا يحتمل ان تكون ناشئة عن حسّ او قل حدس قريب إلى الحسّ ، وذلك من قبيل توثيقات النجاشي والشيخ تماما ، وح لا يبقى اشكال من ناحية السند ، وقد صرّح بمقالتنا بعض العلماء.

(إلّا) أنّه ـ ولأهمية هذه الرواية ـ نذكر بعض القرائن على صدقها منها :

١. ورودها في الفقيه الذي صرّح صاحبه في أوّله بقوله «وصنّفت له هذا الكتاب بحذف الاسانيد لئلّا تكثر طرقه وان كثرت فوائده ، ولم اقصد فيه قصد المصنّفين الى

٧١

وفي الرواية نقطتان لا بدّ من بحثهما :

الاولى : ان الورود هل هو بمعنى الوصول ليكون مفاد الرواية البراءة بالمعنى المقصود ، او الصدور لئلا يفيد في حالة احتمال صدور البيان من الشارع مع عدم وصوله؟

الثانية : ان النهي الذي جعل غاية هل يشمل النهي الظاهري المستفاد من أدلّة وجوب الاحتياط أو لا؟ فعلى الأوّل تكون البراءة المستفادة ثابتة بدرجة يصلح دليل وجوب الاحتياط للورود عليها ، وعلى الثاني تكون بنفسها نافية لوجوب الاحتياط.

أمّا النقطة الاولى : فقد يقال بتردّد الورود بين الصدور والوصول ،

__________________

ايراد جميع ما رووه بل قصدت الى ايراد ما افتي به واحكم بصحّته واعتقد انّه حجّة بيني وبين ربي عزوجل ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع ، مثل كتاب حريز ... وغيرها من الاصول والمصنّفات» ، هذا الكلام يعتبر قرينة على صدقها ، لا دليلا ، لاحتمال ان يكون قد وجدها في احدى هذه الكتب المشهورة التي عليها المعوّل وإليها المرجع مثل كتاب حريز بنحو «روي» ، وهي اشارة واضحة إلى عدم اطلاع حريز. مثلا. على السند.

٢. ورود رواية تشبهها في النصّ ويظن صدورها ايضا وهي عن الحسين بن ابي غندر (عن ابيه. مستدرك) عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «الاشياء مطلقة ما لم يرد عليك امر ونهي ، وكل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال ابدا ما لم تعرف الحرام منه فتدعه». (جامع احاديث الشيعة ج ١ ص ٣٩٢ ح ١٦).

٣. موافقة الكثير من الروايات لها مضمونا وان اختلفت معها نصّا ، راجع إن شئت جامع احاديث الشيعة ج ١ باب ٨ (الشبهة الوجوبية والتحريمية).

٧٢

وهو موجب للاجمال الكافي لاسقاط الاستدلال ،

وقد تعيّن ارادة الوصول بأحد وجهين :

الأوّل : ما ذكره السيد الاستاذ (١) من أنّ المغيّى (٢) حكم ظاهري فيتعيّن أن تكون الغاية هي الوصول لا الصدور ، لأن كون الصدور غاية يعني انّ الاباحة لا تثبت إلّا مع عدم الصدور واقعا ، ولا يمكن

__________________

(١) ذكره في المصباح ج ٢ : قال إنّ الاطلاق في قوله عليه‌السلام «كل شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» ظاهر في الفعلية ، ـ لا في الاخبار بمعنى انه قد كان مطلقا قبل ورود النهي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليختصّ بزمانه فقط ، وعليه فيصير معنى قوله عليه‌السلام هكذا : كل شيء مطلق ومباح لك فعلا حتى يرد عليك نهي ـ وهي البراءة الظاهرية.

أمّا لو فسّرنا الورود بالصدور فستكون الاباحة حينئذ واقعية ، وهذا سيكون مختصا بعصر الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا خلاف الظاهر ، وبتعبير آخر ان حملناه على ما يشمل عصر النص فقط فسيكون «من الوضوح بمكان بحيث كان بيانه لغوا لا يصدر من الامام عليه‌السلام ، فانه من جعل احد الضدّين غاية للآخر اي من قبيل ان يقال كل جسم ساكن حتّى يتحرّك» ... إذن لا يصح ان يكون المراد من الورود معنى حتى يصدر فيه نهي : «فتعين ان يكون المراد من الاطلاق هي الاباحة الظاهرية لا الواقعية ، وعليه فلا مناص من أن يكون المراد من الورود هو الوصول ، لأنّ صدور الحكم بالحرمة واقعا لا يكون رافعا للاباحة الظاهرية ما لم تصل الى المكلّف كما هو ظاهر ..» راجع تمام بيانه إن شئت ص ٢٨٠ ـ ٢٨١

(٢) اي الاطلاق والإباحة ، أي كل شيء مباح ظاهرا حتى تصلك الحرمة.

٧٣

إحرازها (١) إلّا باحراز عدم الصدور ، ومع احرازه (٢) لا شكّ ، فلا مجال للحكم الظاهري.

فإن قيل : لما ذا لا يفترض كون المغيّى اباحة واقعية؟

كان الجواب منه ان الاباحة الواقعية والنهي الواقعي الذي جعل غاية (٣) متضادّان ، فان اريد تعليق الاولى على عدم الثاني حقيقة فهو محال ، لاستحالة مقدّمية عدم احد الضدّين للضدّ الآخر ، وإن اريد مجرّد بيان انّ هذا الضدّ ثابت حيث لا يكون ضدّه ثابتا فهذا لغو من البيان لوضوحه.

ويرد على هذا الوجه أنّ النهي عبارة عن الخطاب الشرعي

__________________

(١) الاباحة.

(٢) ومع احراز عدم الصدور لا شك في الاباحة الواقعية.

(٣) كان الجواب من السيد الخوئي رحمه‌الله ان الاباحة والنهي الواقعيين متضادّان ، فان أريد تعليق الاباحة الواقعية على النهي الواقعي بنحو «اذا لم ينه المولى عن الشيء فانه يبيحه واقعا» فهو محال لاستحالة مقدّمية عدم أحد الضدين للضد الآخر كما مر معنا سابقا حينما قلنا «انه يستحيل أن تتوقف الإزالة على ترك الصلاة باعتبار أن ترك الصلاة مقدمة للازالة» وانما الإزالة متوقفة على ارادتها ، وإن أريد مجرّد بيان ان الحكم إن لم يكن التحريم فهو مطلق ومباح واقعا فهو لغو ، لانه سيكون من قبيل إنّ الجسم إن لم يكن متحرّكا فهو ساكن وهو لغو واضح. فاذا ليس المراد من الاباحة الإباحة الواقعية ، وانما المراد منها الإباحة الظاهرية ، أي اذا لم يصلك نهي فالحكم هو الإباحة ظاهرا.

٧٤

الكاشف عن التحريم ، وليس هو التحريم نفسه (١) ، والتضادّ نفسه لا

__________________

(١) هذا ردّ على كلام السيد الخوئي رحمه‌الله عند ما قال انه لا يصحّ أن تكون الاباحة واقعية لاستحالة مقدّمية عدم احد الضدّين (عدم الصلاة مثلا) للضد الآخر (الازالة مثلا) أو للّغوية. فقال هنا السيد الشهيد (قده) ردّا على عدم صحّة فرض معنى الصدور : أوّلا ينبغي أن يعلم أنّ التضادّ إنّما يقع بين الاباحة والحرمة لا بين الاباحة والنهي ، وذلك لانّ النهي هو الخطاب لا التحريم نفسه. وثانيا حتّى لو فرضنا حصول تضادّ في بعض الصور ـ بناء على معنى الصدور ـ فهذا لا يقتضي ما قاله السيد الخوئي في مصباحه ج ٢ ص ٢٨٠ من تعليق احد الضدّين على عدم الآخر اي يكون المعنى عنده (رضي الله عنه) «كل شيء مباح واقعا ما لم يصدر النهي عنه من المولى» ، ولا يقتضي تعليق احد الضدين على عدم الكاشف عن الضد الآخر ، فلا يرد ما قاله السيد الخوئي من انه سيكون «من قبيل أن يقال كل جسم ساكن حتّى يتحرّك» ، (بل) يمكن ان تكون هذه الرّواية بصدد بيان إناطة وتوقّف مبادئ الحرمة الفعلية في الواقع على صدور النهي من الله تعالى الى رسوله الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بمعنى أنّه إذا صدر نهي تصير الحرمة فعلية لتمامية مبادئ الحرمة الفعلية في الواقع ، وأمّا إذا لم يصدر نهي فلا تكون مبادئ الحرمة تامة ويبقى الشيء ح على اطلاقه وإباحته الواقعية ، وهذا ليس بعزيز في الشريعة ، فقد قال بعض الاخباريين بما يشبه هذا الكلام ـ في باب حجية القطع ـ قالوا بان العلم الحجة هو خصوص ما كان مأخوذا من طريق النّقل ، أي من الكتاب والسنّة ، فانه لا يتمّ ملاك الحجّة الا اذا حصل العلم من هذا الطريق. وهنا ايضا هكذا ، فقد لا يتمّ ملاك الحرمة الفعلية في الواقع إلّا إذا صدر خطاب بالحرمة (راجع تقريرات السيد الهاشمي ج ٥ ص ٣٧) ، (فاذن) لا إشكال عند السيد الشهيد في ان يكون المراد من الورود الصدور (*).

__________________

(*) ما ذكره سيّدنا الشهيد (رحمه‌الله) غير مقنع ، فاننا لا نفهم معنى محصّلا لقوله بامكان توقف

٧٥

يقتضي تعليق احد الضدّين على عدم الضدّ الآخر ولا على عدم الكاشف عن الضدّ الآخر ، ولكن لا محذور في أن توجد نكتة أحيانا تقتضي إناطة حكم بعدم الكاشف (*) عن الحكم المضادّ له ، ومرجع ذلك في المقام الى ان تكون فعلية الحرمة بمبادئها منوطة بصدور الخطاب الشرعي (١) الدّال عليها (٢) ، نظير ما قيل من أنّ العلم بالحكم من طريق مخصوص يؤخذ في موضوعه.

الثاني : ان الورود يستبطن دائما حيثيّة الوصول ، ولهذا لا يتصوّر بدون مورود عليه (٣). (ولكن) هذا المقدار لا يكفي أيضا ، إذ يكفي لاشباع

__________________

(١) اي اذا لم يصدر نهي واقعي تكون الاباحة واقعية وذلك لعدم تمامية ملاك التحريم او قل لعدم قابلية الناس لتلقي الحكم بحرمة الخمر ووجوب الزكاة

(٢) أي على فعلية الحرمة ـ بتوسّط العلم بتحقق شرائطه ـ

(٣) وهو المكلّف. فيصير المعنى هكذا «حتى يرد على المكلف فيه نهي» فتحلّ المشكلة ، وتثبت البراءة. فاجاب السيد الشهيد (قده) بقوله : ما الذي جعلك تحصر المورود عليه بالمكلّف ، فقد يكون المورود عليه نفس الشيء كالخمر ، أو الامّة بشكل اجمالي ، أو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا نستفيد

__________________

مبادئ الحرمة على صدور النهي ، فهل يمكن أن يصدّر الشارع المقدّس النهي عن شيء كالربا مثلا ثم بعد هذا النهي تتمّ مبادئ الحرمة؟!

(*) الصحيح أن يقال «... بعدم صدور الحكم ...» وذلك لأنّ كلامنا عن امكانية توقّف حكم ـ كالاباحة الواقعية ـ على عدم صدور حكم مضاد له. كالحرمة الواقعية. وعدم إمكانيّته.

٧٦

هذه الحيثية ملاحظة نفس المتعلق (١) مورودا عليه ، فالاستدلال بالرواية إذن غير تامّ ، وعليه فلا أثر للحديث عن النقطة الثانية.

ومنها : حديث الرّفع المروي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ونصّه : «رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطّيرة ، والتفكّر في الوسوسة (* ١) في الخلق ما لم ينطق بشفة» (٢).

__________________

البراءة ، لانه ح سيصير معنى الجملة ـ مثلا ـ هكذا كل شيء مطلق حتى يرد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه نهي ، فاذا صدر نهي إليه يأخذ المورد حكم التحريم ولا يجوز ح اجراء البراءة علم المكلّف أم لم يعلم(* ٢).

(١) كالكذب في مثال «لا تكذب».

(٢) جامع أحاديث الشيعة ج ١ باب ٨ من ابواب المقدّمات ص ٣٢٦ ح ٣.

__________________

(* ١) في بعض الروايات الاخرى ورد «والوسوسة في التفكر في الخلق ...» ولعلّها أصح.

(* ٢) (أقول) جواب السيد الشهيد رحمه‌الله وإن كان صحيحا إلّا انه ينبغي التدقيق اكثر ، فان قوله عليه‌السلام حتى يرد فيه نهي مردد بين إرادة حتى يرد في المورد ـ كالخمر مثلا. نهي (وهذا لا يفيد معنى البراءة لانه يصير بمعنى حتى يصدر فيه نهي) أو حتى يرد على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه نهي (وهو كالسابق لا يفيد البراءة) أو حتى يردنا فيه نهي (وهو الذي يفيد البراءة) ولذلك لا يتمّ الاستدلال بهذه الرّواية ، وإن كنّا نظنّ قويا بأنّها واردة في مقام افادة قاعدة البراءة ، وأن المورود عليه هم المكلّفون مطلقا سواء كانوا في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم بعده ولا سيّما ان القائل لهذه الرواية واشباهها هو الامام الصادق عليه‌السلام ، ولا سيما ايضا ورود كلمة «عليك» في الرواية التي ذكرناها في الحاشية الثانية ص ٧٢ ، ولخروجها عن الفائدة بالنسبة إلينا إن اريد احد الاحتمالين السابقين.

٧٧

والبحث حول هذا الحديث يقع على ثلاث مراحل (*) :

__________________

(*) ونضيف هنا بحثين آخرين ـ جريا على عادتنا في النظر الى كل جوانب المسألة ـ وهما البحث في سند هذا الحديث ومتنه : فأقول :

البحث الأوّل : نقل صاحب الوسائل في كتاب الجهاد باب ٥٦ من ابواب جهاد النفس ح ١ ص ٢٩٥ قال : محمد بن علي بن الحسين في التوحيد والخصال عن أحمد بن محمد بن يحيى (العطّار) عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن حمّاد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع ... ونقلها الصدوق مرّة ثالثة في كتاب الوضوء من الفقيه بعنوان قال ابو عبد الله (عليه‌السلام) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضع ...

وسند هذا الحديث صحيح سندا من جهات خاصّة على مسلكنا من تصحيح روايات الشيخ الصدوق إذا بدأ بها ب قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الامام عليه‌السلام لما ذكرناه في الحديث حول سند رواية «كل شيء مطلق» على أنه لا اشكال مهمّ فيه الا من جهة احمد بن محمد بن يحيى العطّار الغير موثّق بصراحة ، ويمكن إثبات وثاقته بكونه من مشايخ الصدوق المعروفين الذين اكثر عنهم الرواية ، واكثر عليهم الترحّم والترضي كلما يذكره بحيث يتعجّب الناظر في مدى اهتمام الشيخ الصدوق بشيخه هذا ـ وهذا أعلى من مرتبة الوثاقة ـ ولا سيّما ان الذي يكثر من الترحّم والترضي هو احد اعيان الطائفة ومراجعها في عصره فلا يحتمل كون احمد هذا مجهولا عند هذا العالم الخبير.

يؤيّد ذلك انّه ليس لاحمد هذا كتاب ولا أصل ، وانما هو شيخ اجازة ، وامّا الرواة الاربعة الباقون فكلّ منهم له اصل او كتاب ، فعلم ان الصدوق قد اخذ هذه الرواية من أحد كتب هؤلاء الاربعة ، وطرق الصدوق الى كلّ منهم صحيح ، فيمكن التعويض عن احمد ، بل يكفينا أن له طريقا صحيحا الى جميع كتب وروايات سعد بن عبد الله على ما قال في الفهرست ، فتصحّ هذه الرواية سندا. وقلنا «يؤيد» ولم نقل «نستدل» لان طريق التعويض ليس دليلا تاما لاحتمال اختلاف نسخ الطرق ، فقد تكون النسخة التي رواها عن أحمد

٧٨

__________________

عن سعد غير النسخة التي رواها عن غيره عن سعد ، وإن كان هذا الاحتمال ضعيفا في نفسه لبعد أن يختار الشيخ الصدوق ـ مع خبرته الواسعة ـ النسخة الضعيفة ويترك النسخة الصحيحة.

(ثمّ) نقل في الوسائل (كتاب الايمان : ج ١٦ باب ١٦ ص ١٤٤ ح ٣) قال : احمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن اسماعيل الجعفي عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : وضع عن هذه الامّة ست خصال : الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطرّوا اليه.

وطريق الوسائل الى النوادر هو طريقه الى الشيخ الطوسي (قده) الى نوادر احمد بن محمد بن عيسى ، لانه قد بيّن طرقه الى هذه الكتب في آخر الوسائل وكلّها تنتهي الى الشيخ الطوسي ، وطريقه اليه وطريق الشيخ الى احمد صحيح(*).

(إلّا) ان الكلام يقع في اسماعيل الجعفي ، وذلك في مرحلتين :

١. من هو إسماعيل هذا؟ هل هو ابن جابر ام ابن عبد الرحمن؟

٢. إن كان هو ابن جابر فهل هو ثقة؟ فان ثبتت وحدته مع اسماعيل بن جابر الخثعمي الثقة فيكون ثقة وإلّا فمجهول.

وسنبدأ بالمرحلة الثانية لتأثيرها في المرحلة الاولى فنقول :

لا شك في وحدة اسماعيل بن جابر الجعفي مع الخثعمي ، وان الصحيح هو الاوّل دون الثاني ، وذلك لقرائن عديدة :

فانّ من ذكره في ست (فهرست الشيخ الطوسي) هو عين من ذكره جش (الشيخ النجاشي في كتابه) ، ومن ذكره في ست هو عين من ذكره في جخ (رجال الطوسي) فنستنتج ان ما في جخ هو عين ما في جش ، وقد قال في جش : اسماعيل بن جابر

__________________

(*) لان طريق الطوسي إليه هو : جماعة (فيهم الثقات) عن محمّد بن علي بن الحسين (الشيخ الصدوق) عن ابيه ومحمد بن الحسن (ابن الوليد) عن احمد بن ادريس عن محمّد بن علي بن محبوب عنه.

٧٩

__________________

الجعفي ، وفي جخ (قسم اصحاب الباقر) اسماعيل بن جابر الخثعمي الكوفي ثقة ممدوح له اصول رواها عن صفوان بن يحيى ، فتثبت بذلك وثاقة الجعفي.

(بيان) ذلك :

. لم يتعرّض ست إلّا لرجل واحد هو اسماعيل بن جابر (من دون توصيف).

قال : اسماعيل بن جابر ، له كتاب ، اخبرنا به ابن ابي جيد عن (محمّد بن الحسن) ابن الوليد عن (محمد بن الحسن) الصفّار عن محمّد بن عيسى بن عبيد عن صفوان عن اسماعيل بن جابر.

وقال جش : اسماعيل بن جابر الجعفي ، روى عن ابي جعفر وابي عبد الله (عليهما‌السلام) ، وهو الذي روى حديث الاذان ، له كتاب ذكره محمد بن الحسن بن الوليد في فهرسته ، اخبرنا ابو الحسين علي بن احمد قال حدثنا محمّد بن الحسن (ابن الوليد) قال حدّثنا محمّد بن الحسن (الصفّار) عن محمّد بن عيسى (بن عبيد) عن صفوان بن يحيى عنه. ولم يتعرّض جش إلى إسماعيل بن جابر غير هذا.

(فوحدة) الطريق ، مع عدم تعرّض احدهما لمن يذكره الآخر يكشف عن وحدتهما.

(وبيان) وحدة ما ذكره في ست مع ما ذكره في جخ :

أنّه لم يتعرّض في جخ الا الإسماعيل بن جابر الخثعمي في اصحاب الباقر والصادق عليهم‌السلام ، قال الشيخ الطوسي عنه (في اصحاب الباقر من جخ) : اسماعيل بن جابر الخثعمي الكوفي ثقة ممدوح له اصول رواها عنه صفوان بن يحيى.

وقال في جخ (قسم اصحاب الكاظم) : اسماعيل بن جابر روى عنهما عليهم‌السلام ايضا (انتهى).

مما يعلم أنّ هذا هو عين من وصفه في اصحاب الصادقين بالخثعمي والذي يروي عنه صفوان ، وانه عين من ذكره في ست لوحدة الرّاوي عنه ولعدم توصيفه (لتمييزه على الأقل علي فرض التعدد) ولعدم تعرّضه لغير واحد في كل موضع ، مما يعلم منه. بما لا يشوبه شكّ. وحدتهما في ست وجخ ، لانهما كتاباه ، فنخرج بنتيجة واضحة ان الخثعمي والجعفي واحد ، وانّه ثقة ممدوح ، روى عن الصادقين الثلاثة عليهم‌السلام.

٨٠