دروس في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

(تحديد مفاد البراءة)

وبعد ان اتّضح ان البراءة تجري عند الشكّ (١) لوجود الدليل عليها وعدم المانع .. يجب ان نعرف ان الضابط في جريانها ان يكون الشكّ في التكليف ، لأنّ هذا هو موضوع دليل البراءة ، وأمّا إذا كان التكليف معلوما والشكّ في الامتثال فلا تجري البراءة وانّما تجري أصالة الاشتغال ، لأن الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وهذا واضح على مسلكنا المتقدّم القائل بأنّ الامتثال والعصيان ليسا من مسقطات التكليف بل من أسباب انتهاء فاعليته (٢) ، إذ على هذا المسلك لا يكون الشكّ في الامتثال

__________________

(١) اي ان البراءة تجري عند الشكّ في الحكم الواقعي لوجود الدليل على البراءة وعند عدم وجود مانع ـ عقلي أو عقلائي ـ من جريانها.

(٢) مراد السيد الشهيد هو انه على مسلكه المتقدّم في الجزء الأول (وهو ان الامتثال يسقط فاعلية التكليف ولا يسقط فعليّته) إذا صلى المكلّف من دون قراءة السورة عامدا وشك في صحّة صلاته يصحّ ان نتساءل عن حكم العقل في هذه الحالة ، فيجيب العقل بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني لكون التكليف فعليا حتى بعد الامتثال ، فكأن هذا التكليف الفعلي هو الذي يستدعي ويطالب بالفراغ اليقيني بخلاف ما لو قلنا بأنّ الامتثال يسقط الفعلية فالشكّ ينقلب ـ بعد الامتثال المشكوك ـ إلى الشكّ في وجود تكليف فعلي في ذمّة الممتثل وعدم

١٢١

__________________

وجوده ، فقد يتوهم حينئذ تحقق موضوع قاعدة البراءة ، مع أننا نعلم بأنّ هذا المورد ليس مورد جريان البراءة بل مورد اصالة الاشتغال ، فكيف تحل هذه المشكلة؟

وقد أجاب السيد الشهيد (قده) بالجوابين الآتيين وهما «دعوى انصراف أدلّة البراءة إلى حالة الشك الناشئ من غير ناحية الامتثال والتمسّك باستصحاب عدم الامتثال».

بعد هذا يحسن ان نذكر امورا تفيد فيما نحن فيه فنقول :

* اما بالنسبة إلى الامتثال

ـ فقد يفنى الملاك به ، كأن نؤمر بقتل مرتد فطري فقتلناه ، أو بشراء خبز للمولى فاشترينا له ، ففي هذه الحالة يفنى الملاك وبالتالي يسقط التكليف جعلا وفعلية كما هو واضح.

ـ وقد نعلم ببقاء الملاك ، كما في العبادات ، فمن صلّى الظهر لم يفن محبوبية هذه العبادة ومقرّبيتها الى الله تعالى ، ولذلك ترى في الروايات الصحيحة استحباب إعادتها جماعة «فان له صلاة اخرى» وأنّ إعادة الصلاة جماعة «أفضل» وله ان «يجعلها الفريضة ان شاء» ...

وإلى هذه الحالة نظر السيد الشهيد رحمه‌الله من قوله ببقاء فعلية التكليف وعدم سقوطها بالامتثال ، ولازم قوله هذا أنّ الاكتفاء بالمرّة منّ من الله سبحانه وتعالى ، لأنّ بقاء فعلية التكليف يقتضي التكرار قدر الاستطاعة ، ويؤيّد هذا اللازم بعض روايات وردت في باب الحج عن الامام الرضا عليه‌السلام انه قال : «انما امروا بحجة واحدة لا اكثر من ذلك ، لأنّ الله وضع الفرائض على ادنى القوّة ، كما قال» فما استيسر من الهدي «يعني شاة ليسع القويّ والضعيف ، وكذلك سائر الفرائض انما وضعت على ادنى القوم قوّة ، فكان من تلك الفرائض الحج المفروض واحدا ، ثمّ رغّب بعد أهل القوّة بقدر طاقتهم» (باب ٣ من أبواب وجوب الحج ـ ح ٢).

١٢٢

شكّا في فعليّة التكليف فلا موضوع لدليل البراءة بوجه ، وأمّا إذا قيل بأنّ الامتثال من مسقطات التكليف فالشكّ فيه شكّ في التكليف (١) لا محالة ، ومن هنا قد يتوهّم تحقق موضوع البراءة واطلاق ادلّتها لمثل ذلك ، ولا بدّ للتخلّص من ذلك إما من دعوى انصراف ادلّة البراءة إلى الشك الناشئ من غير ناحية الامتثال او التمسك باصل موضوعي (٢) حاكم وهو استصحاب عدم الامتثال (*).

__________________

ولا فائدة من بحث بقية الفروض كفرض الشك ببقاء الملاك ....

* وأمّا بالنسبة إلى العصيان فقد مرّ الكلام فيه في الجزء الأوّل تحت عنوان «استحالة التكليف بغير المقدور» فلا نعيد.

(١) أي فالشك في هذا المورد ـ بعد الامتثال ـ شك في أصل وجود تكليف فعلي ...

(٢) قال «موضوعي» لان الشك في تحقق موضوع التكليف كالصلاة مثلا في قولنا «الصلاة واجبة» فيكون مورد الاستصحاب هنا هو الموضوع ـ وليس الحكم كما لو شككنا بأصل وجوب الصلاة فنستصحب عدم وجوبها فانّ الاستصحاب سيكون ح أصلا حكميا ـ فان الشك في تحقق الامتثال يسمّونه شبهة موضوعية ، والاصل الجاري فيها يسمّونه أصلا موضوعيا. وقال «حاكم» لان الاستصحاب يتقدّم على البراءة لأنه

__________________

(*) أي ان المكلّف إذا أتى بامتثال مشكوك كصلاة الظهر بدون السورة فانه على مبنى هؤلاء من سقوط التكليف الفعلي بالامتثال يكون المورد موردا لجريان أصالة الاشتغال بلا إشكال ، لانّ شكنا إنّما يكون هكذا : هل سقط التكليف الفعلي بصلاة الظهر ام لا يزال باقيا؟

فالشك في فراغ الذمّة بعد اشتغالها بتكليف فعلي ، فحينئذ ترى ان العقل يحكم بلزوم العلم بفراغ الذمّة ، وحكم العقل هذا يرجع إلى استصحاب العدم الازلي.

١٢٣

ثمّ بعد الفراغ عن الفرق بين الشك في التكليف والشك في الامتثال ـ اي المكلف به ـ باتخاذ الأوّل ضابطا للبراءة والثاني ضابطا لاصالة الاشتغال ... يقع الكلام في ميزان التمييز الذي به يعرف كون الشك في التكليف لكي تجري البراءة (١) ، وهذا الميزان إنما يراد في الشبهات الموضوعية التي قد يحتاج التمييز فيها إلى دقّة دون الشبهات الحكمية التي يكون الشك فيها عادة شكا في التكليف كما هو واضح.

وتوضيح الحال في المقام : انّ الشبهة الموضوعية تستبطن دائما الشكّ في أحد اطراف الحكم الشرعي ، إذ لو كانت كلّها معلومة فلا يتصوّر شك إلّا من أصل حكم الشارع ، وتكون الشبهة حينئذ حكمية ، وهذه الأطراف هي عبارة عن قيد التكليف ومتعلّقه ومتعلّق المتعلّق له المسمّى بالموضوع الخارجي ، فحرمة شرب الخمر المشروطة بالبلوغ قيدها «البلوغ» ومتعلّقها «الشرب» ومتعلق متعلّقها «الخمر» ، وخطاب «اكرم عالما إذا جاء العيد» قيد الوجوب فيه «مجيء العيد» ومتعلّقه «الاكرام» ومتعلّق متعلّقه «العالم».

فان كان الشك في صدور المتعلّق مع احراز القيود والموضوع الخارجي فهذا شك في الامتثال بلا إشكال وتجري اصالة الاشتغال ، لان التكليف معلوم ولا شك فيه ، لبداهة انّ فعلية التكليف غير منوطة (٢)

__________________

لأنه يجعل الجاهل عالما ـ تعبدا ـ بعدم الامتثال فلا تجري حينئذ البراءة.

(١) تراه في تقريرات السيد الهاشمي ج ٥ ص ١٤١ فما بعد مفصّلا

(٢) وإنّما فعلية التكليف منوطة بوجود مقدّمات وجوبه في الخارج كالبلوغ

١٢٤

بوجود متعلّقه خارجا ، وإنّما الشك في الخروج عن عهدته فلا مجال للبراءة.

وأمّا إذا كان الشك في الموضوع الخارجي ، كما إذا لم يحرز كون فرد ما مصداقا للموضوع الخارجي ، فان كان اطلاق التكليف بالنسبة إليه شموليا جرت البراءة لان الشك حينئذ يستبطن الشك في التكليف

__________________

والزوال.

(ثمّ) إنّ مصبّ نظر سيدنا الشهيد في هذه الفقرة القائلة «فان كان الشك في صدور المتعلّق ....» إلى خطاب «اكرم عالما إذا جاء العيد» وأشباهه من الاوامر ، بمعنى أننا إذا شككنا في كون السلام إكراما او لا ، فانه ح لا يكتفى به لكون هذا الشك موردا لجريان اصالة الاشتغال كما هو واضح(*)

__________________

(*) (أقول) وهناك فرع آخر لهذه المسألة لم يذكره السيد المصنّف رحمه‌الله هنا وذكره في أواخر هذا البحث بقوله «وعلى هذا الضوء نستطيع ان نعمّم ...» وهي حالة حصول شك في انطباق عمل معيّن على المتعلّق ، كما في التورية ، فإذا ورد «لا تكذب» وشككنا في انطباق التورية على الكذب مثلا فانه يكون ح شكّا في تحريم التورية ، فيرفع بالبراءة بلا شك ، فانّ مرجع كلتا الحالتين إلى أصل واحد ، وهو أن العمل المجهول الهوية لا يأخذ حكم عنوان معيّن اصلا (إلّا أن يتعبّدنا الشارع المقدّس بحكم معيّن كما تعبّدنا في بعض الموارد بالبناء على الحالة السابقة وفي بعضها الآخر بالبناء على الصحة ...) ، وإنّما يأخذ حكم الشيء المجهول العنوان فقط لا غير ، فان شككنا في كون السلام. في الحالة الأولى. إكراما لا يكتفى بالسلام ح ، بل تجري اصالة الاشتغال ، وإن شككنا في كون التورية كذبا مثلا كما في الحالة الثانية فانّها ح لا تاخذ حكم الكذب بل يكون حكمها مجهولا وهو مجرى للبراءة وعدم التحريم ، وهكذا إن شككنا في مفطّرية شرب التتن فانّ البراءة تجري عن وجوب قضاء الصيام.

١٢٥

الزائد (١) ، كما إذا قيل" لا تشرب الخمر" و" اكرم الفقراء" وشكّ في انّ هذا خمر وفي انّ ذاك فقير. وإن كان اطلاق التكليف بالنسبة إليه بدليا لم تجر البراءة ، كما إذا ورد" أكرم فقيرا" وشك في أن زيدا فقير ، فلا يجوز الاكتفاء باكرامه ، لأنّ الشك المذكور لا يستبطن الشك في تكليف زائد بل في سعة دائرة البدائل الممكن امتثال التكليف المعلوم ضمنها (٢).

وعلى هذا الضوء يعرف انّ لجريان البراءة إذن ميزانين :

أحدهما : أن يكون المشكوك من قيود التكليف (٣) الدخيلة في فعليّته.

__________________

(١) وجه هذا التعبير هو ان حرمة الشرب متعلّقة بالخمر والقدر المتيقّن منه معلوم الخمرية ، وهل هي متعلّقة ايضا بالخمر المشكوك الخمرية ، فهو شكّ في التكليف الزائد.

(٢) اي ان الشك إنما هو في شمول عنوان الفقير لزيد(*).

(٣) اي ما به يصير التكليف فعليا كالبلوغ والعقل والزّوال والاستطاعة للحج ... فاذا شك الشخص في الزوال أو الاستطاعة لا يجب عليه الصلاة ولا الحج.

__________________

(*) (أقول) ليس الميزان في جريان الاشتغال أو البراءة كون المتعلّق (كشرب الخمر) أو متعلّق المتعلّق (كالفقراء) شموليا أو بدليا كما في المتن ، وانما الميزان ان المجهول العنوان لا يأخذ حكم عنوان ما إلّا إذا تعبّدنا الشارع بذلك كما تعبّدنا في الاستصحاب ، وأمّا في غير ذلك فلا يأخذ حكمه ، وهذا أمر واضح عرفا ، فالمجهول الخمرية لا يأخذ حكم الخمر ولا حكم الخل ولا حكم ايّ عنوان معين آخر ، بل يبقى مجهولا فيأخذ حكم المجهول العنوان ، كما ذكرنا في الحاشية السابقة.

١٢٦

والآخر : ان يكون اطلاق التكليف بالنسبة إليه (١) شموليا لا بدليا.

فان قيل إنّ مردّ الشك في الموضوع الخارجي إلى الشك في قيد التكليف (٢) ـ لأنّ الموضوع قيد فيه ـ فحرمة شرب الخمر مقيّدة بوجود الخمر خارجا ، فمع الشك في خمرية المائع يشك في فعلية التكليف المقيد وتجري البراءة ، وبهذا يمكن الاقتصار على الميزان الأوّل فقط ، كما يظهر من كلمات المحقق النّائيني (قدس الله روحه).

__________________

(١) كأن يرد «لا تشرب الخمر» أو «اكرم العالم» فاننا إذا شككنا في خمرية مائع معيّن او في عالمية شخص معيّن فمعنى ذلك اننا نشك في حرمة شربه وفي وجوب اكرام الشخص فتجري قاعدة البراءة فيه لا محالة. بخلاف ما لو ورد «اكرم عالما» ثمّ شككنا في عالميته ، فاننا في هذه الحالة نشك في تحقيق الامتثال فتجري اصالة الاشتغال.

والخلاصة : انّ السيد يقول إذا حصلت إحدى حالتين تجري البراءة ، فاذا شككنا في البلوغ او الزوال من قيود التكليف تجري البراءة ولا يجب على الانسان ان يصلّي ، واذا كان اطلاق التكليف شموليا ـ لا بدليا ـ ولو لم يكن المشكوك من قيود التكليف فانه تجري البراءة أيضا ، فمثلا : «لا توجد الخمر» ، ليس فيه شيء من قيود التكليف ومع ذلك تجري البراءة اذا شككنا في ان هذا الفعل الفلاني يؤدّي الى الخمر أو لا.

(٢) يقول المحقق النائيني (قده) في رسالته في اللباس المشكوك من تقرير الكاظمي للصلاة ج ١ ص ٢٧٢ : إن قول الشارع مثلا «لا تشرب الخمر» معناه إذا وجد خمر في الخارج فهو حرام فعلا ، وبالتالي إذا شككنا في مائع مجهول الهويّة فحينئذ نشك في تحقق قيد فعلية التكليف (وهو الخمرية) فهو مجرى لقاعدة البراءة ويكون بمثابة الشك في تحقق البلوغ والزوال تماما ، وذكر هذا الامر ايضا في فوائد الاصول ج ٣ ص ٣٩٢.

١٢٧

كان الجواب انّه ليس من الضروري دائما ان يكون متعلّق المتعلّق (١) مأخوذا قيدا في التكليف ، سواء كان إيجابا او تحريما (٢) ، وإنّما قد تتّفق ضرورة ذلك فيما إذا كان امرا غير اختياري كالقبلة (٣) مثلا ،

__________________

(١) كالخمر ، أي ليس من الضروري أن يؤخذ دائما وجود متعلّق المتعلّق خارجا قيدا في فعلية التكليف.

(٢) ايجابا مثل «اكرم العالم» و «صلّ» وتحريما مثل «لا تشرب الخمر» و «لا تكذب» ، فانك اذا شككت في كون كلام صاحبك كذبا فلا يجب نهيه عن المنكر للبراءة.

(٣) والبلوغ وزوال الشمس ونحو ذلك ، فان هذه الامور الغير اختيارية كما مرّ عليك سابقا لا يمكن ان تعتبر واجبا لخروجها عن قدرة المكلّف ، ويمكن اخذها في مقدمات الوجوب. فيقول مثلا «صلّ الى هذه الجهة إن كانت هي جهة القبلة» فان جهة القبلة أمر غير اختياري.

بيان مراد السيد الشهيد رحمه‌الله : صحيح يا أيها المحقق النائيني انّ مرد الشك في الموضوع الخارجي الى الشك في قيد التكليف ، فاذا شككنا في خمرية مائع فانها تجري البراءة فيجوز شرب المجهول الخمرية ... لكن ما ذكرتموه ليس هو الحالة المتصوّرة الوحيدة لامكان أن ينهى الشارع المقدّس عن الخمر ايجادا أيضا ـ كما ورد في بعض الروايات ـ ففي هذه الحالة اذا شك في كون عمل ما يؤدي الى انتاج الخمر أو لا ، فانها تجري في حقّه البراءة ، لا لما يقوله المحقق النائيني فانّ المحقق لم ينظر الى هذا الفرض وانما نظر الى فرض قول المولى «لا تشرب الخمر» ففسّره بقوله : اذا وجد خمر في الخارج فلا تشربه ، واذا شككت في خمريته فيجوز شربه للبراءة ، ونظر السيد الشهيد الى فرض «لا توجد الخمر» ، فاذا شككنا في كون عمل ما ينتج الخمر فانه يجوز فعله ، لان القدر المتيقّن من المحرّم هو ما كان من المعلوم انه ينتج

١٢٨

وعليه فاذا افترضنا ان حرمة شرب الخمر لم يؤخذ وجود الخمر خارجا قيدا فيها على نحو كانت الحرمة فعلية حتّى قبل وجود الخمر خارجا .. صحّ مع ذلك اجراء البراءة عند الشك في الموضوع الخارجي ، لأنّ اطلاق التكليف بالنسبة إلى المشكوك شمولي.

ولكن بتدقيق أعمق نستطيع ان نردّ الشكّ في خمرية المائع إلى الشك في قيد التكليف ، لا عن طريق افتراض تقيّد الحرمة بوجود الخمر خارجا ، بل بتقريب ان خطاب «لا تشرب الخمر» مرجعه (١) إلى قضيّة شرطيّة مفادها : كلما كان مائع ما خمرا فلا تشربه ، فحرمة الشرب مقيّدة بأن يكون المائع خمرا سواء وجد خارجا أو لا (٢) ، فإذا شك في ان الفقّاع خمر أو لا مثلا جرت البراءة عن الحرمة فيه ، وبهذا صحّ القول بأنّ البراءة

__________________

الخمر ، وأما الأعمال المشكوكة الانتاج فانها قدر زائد تجري فيه البراءة ، وهذا يعني أن السبب في جريان البراءة هنا هو كون متعلّق المتعلّق ـ كالخمر ـ شموليا ، إذ لو كان بدليا كما في «أكرم عالما» وشككنا في عالمية زيد ومع ذلك اكرمناه لما جرت البراءة ، وانما تجري أصالة الاشتغال.

(١) يقال في اللغة مرجع بفتح الجيم وكسرها.

(٢) وهذه نتيجة تخالف مقولة المحقق النائيني ، اذ أن المحقق كان يقول بانّ مردّ «لا تشرب الخمر» الى : اذا كان خمر في الخارج ـ أي بنحو مفاد كان التامّة ـ فلا تشربه ، أما السيد المصنف (قده) فانه أرجعها الى : اذا كان المائع خمرا ـ أي بنحو مفاد كان الناقصة أي بنحو الاتصاف لا الوجود ـ فلا تشربه ، فيشمل الحالة التي ذكرها المحقق والحالة التي لم يذكرها وهي حالة ما لو كان النهي عن أصل ايجاد الخمر في الخارج.

١٢٩

تجري كلّما كان الشك في قيود التكليف ، وان قيود التكليف تارة تكون على وزان مفاد كان التامّة (١) ، بمعنى إناطته بوجود شيء خارجا ، فيكون الوجود الخارجي قيدا (٢) ، واخرى يكون على وزان مفاد كان الناقصة ، بمعنى إناطته باتصاف شيء بعنوان فيكون الاتصاف قيدا فإذا شك في الوجود الخارجي على الأوّل او في الاتصاف على الثاني جرت البراءة وإلّا فلا.

وعلى هذا الضوء نستطيع ان نعمّم فكرة قيود التكليف التي هي على وزان مفاد كان الناقصة على عنوان الموضوع وعنوان المتعلّق معا ، فكما ان حرمة الشرب مقيّدة بأن يكون المائع خمرا ، كذلك الحال في حرمة الكذب ، فإنّ ثبوتها لكلام مقيّد بأن يكون الكلام كذبا ، فاذا شك في كون كلام ما كذبا كان ذلك شكا في قيد التكليف.

وهكذا نستخلص : أن الميزان الاساسي لجريان البراءة هو الشك

__________________

(١) «كان» التامّة هي التي تفيد معنى الوجود ، وبالتالي لا تحتاج إلى خبر.

كقوله تعالى : (إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) ، (وكان) الناقصة هي التي تفيد معنى الاتصاف.

(٢) نحو وجود البلوغ والعقل والزوال والاستطاعة للحج في الخارج.

ومراد السيد من هذه الفقرة القائلة «ولكن بتدقيق أعمق ...» انه لا بأس بما افاده المحقق النائيني (قده) من تقيد التكليف بالخمر والفقر ، ولكن على ان يكون التقيد بنحو الاتصاف اي بنحو مفاد كان الناقصة ـ لا بنحو مفاد كان التامّة ـ اي كلما كان مائع ما متصفا بالخمرية ـ سواء وجد في الخارج ام لم يوجد ـ فحرمة شربه فعلية على المكلّف. فاذا شك في خمرية الموجود أو في انّ الفعل الفلاني يؤدّي الى الخمر فانها تجري البراءة.

١٣٠

في قيود التكليف ، وهي تارة على وزان مفاد كان التامّة كالشك في وقوع الزلزلة التي هي قيد لوجوب صلاة الآيات ، واخرى على وزان مفاد كان الناقصة بالنسبة إلى عنوان الموضوع ، كالشك في خمرية المائع ، وثالثة على وزان كان الناقصة بالنّسبة إلى عنوان المتعلّق ، كالشك في كون الكلام الفلاني كذبا (١).

__________________

(١) فانها تجري البراءة مع انها ليست من باب «إذا وجد كذب أو سرقة في الخارج فهو حرام» اي بنحو مفاد «كان التامّة» كما كان يدّعي المحقّق النائيني ، وانما تجري فيه البراءة من باب «إذا شك في عمل ما انه سرقة فانه لا يترتّب عليه أحكام السرقة من القطع ونحو ذلك» اي بنحو مفاد «كان الناقصة» أي اذا اتصف عمل ما بالسرقة او بالكذب فهو حرام ، فمع الشك تجري البراءة فلا يقطع ولا يعزّر.

١٣١

(استحباب الاحتياط)

عرفنا سابقا عدم وجوب الاحتياط ، ولكن ذلك لا يحول دون القول بمطلوبيّته شرعا واستحبابه لما ورد في الروايات من الترغيب فيه ، والكلام في ذلك يقع في نقطتين :

* الاولى : في امكان جعل الاستحباب المولوي على الاحتياط ثبوتا ، إذ قد يقال بعدم إمكانه فيتعين حمل الأمر بالاحتياط على الارشاد إلى حسنه عقلا (١) ، وذلك لوجهين :

ـ الأول : انه لغو ، لأنّه إن اريد باستحباب الاحتياط الالزام به فهو غير معقول ، وإن اريد ايجاد محرّك غير إلزامي نحوه فهذا حاصل بدون جعل الاستحباب ، إذ يكفي فيه نفس التكليف الواقعي المشكوك بضمّ استقلال العقل بحسن الاحتياط (٢) واستحقاق الثواب عليه ، فانّه محرّك بمرتبة غير إلزاميّة.

ـ الثاني (٣) : إنّ حسن الاحتياط كحسن الطاعة وقبح المعصية

__________________

(١) وهي مقالة المحقق النائيني رحمه‌الله ، راجع إن شئت بحوث السيد الهاشمي ج ٥ ص ١١٧ ـ ١١٨.

(٢) للحفاظ على ملاكات الحكم الواقعي.

(٣) مراد المحقّق النائيني (قده) من هذا الوجه هو ان ما يترتّب على الحكم الشرعي هو حكم العقل بوجوب امتثاله وقبح معصيته ، بل يحكم

١٣٢

واقع في مرحلة متأخّرة عن الحكم الشرعي ، وقد تقدّم (١) المسلك القائل بأنّ الحسن والقبح الواقعين في هذه المرحلة (٢) لا يستتبعان حكما شرعيا.

وكلا الوجهين غير صحيح ،

أمّا الأوّل : فلأنّ الاستحباب المولوي للاحتياط إمّا ان يكون نفسيّا (٣)

__________________

بحسن الاحتياط فيه لادراك الاغراض الواقعية من هذا الحكم الشرعي .. وحسن الاحتياط هذا طريقي محض لا ملاك نفسيا له ، فلو فرضنا ترتّب استحباب شرعي مولوي بالاحتياط على حسن الاحتياط عقلا لحكم العقل بحسن اطاعة هذا الاحتياط الشرعي المولوى ، ثم يحكم الشرع باستحباب هذا الاحتياط فيحكم العقل بحسن اطاعة هذا الاحتياط الشرعي ... وهكذا فيتسلسل.

(١) في الحلقة الثانية بحث «الملازمة بين الحسن والقبح والامر والنهي».

(٢) اي الواقعين بعد تشريع الاحكام الشرعية ، فانهما لا يستتبعان احتياطا شرعيا ، وإلّا فان العقل ح يحكم بحسن اطاعة هذا الاحتياط الشرعي ، وهكذا فيتسلسل.

(٣) كأن يريد الشارع المقدّس أن يربينا على احترام الشريعة والترفّع عن الشبهات وإن كانت مجرى للبراءة وذلك لتقوية ملكة التقوى والورع في الانسان ، وليس للحفاظ على ملاك الحكم الواقعي المجهول. وقد يصحّ التمثيل لهذا الأمر (بما ورد) في نهج البلاغة في كتابه عليه‌السلام إلى عثمان بن حنيف الانصاري وهو عامله على البصرة من قوله عليه‌السلام «أما بعد يا بن حنيف فقد بلغني ان رجلا من فتية اهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الالوان وتنقل إليك الجفان ، وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيّهم مدعو ، فانظر إلى ما تقضمه

١٣٣

لملاك وراء (١) ملاكات الأحكام [الواقعية] المحتاط بلحاظها ، وإمّا ان يكون طريقيا بملاك التحفّظ على تلك الاحكام ، وعلى كلا التقديرين لا لغويّة ، أما على النفسيّة فلأنّ محرّكيّته مغايرة سنخا لمحرّكية الواقع المشكوك فتتأكّد إحداهما بالأخرى (٢) ، وأمّا على الطريقية فلأنّ مرجعه حينئذ إلى إبراز مرتبة من اهتمام المولى بالتحفظ على الملاكات الواقعية

__________________

من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجهه فنل منه ... الخ ،» جامع احاديث الشيعة ج ١ باب ٨ من أبواب المقدّمات ح ٣١ ص ٣٩٦.

(وبما ورد) مرسلا عن عنوان البصري عن ابي عبد الله عليه‌السلام يقول «... سل العلماء ما جهلت وإيّاك ان تسألهم تعنّتا أو تجربة ، وإياك ان تعمل برأيك شيئا ، وخذ بالاحتياط في جميع امورك ما تجد إليه سبيلا ، واهرب من الفتيا هربك من الاسد ...» جامع احاديث الشيعة ـ ج ١ باب ١ من أبواب المقدمات ح ٥٢ ص ١٤٨ ، فانّه قد يكون المراد منهما استحباب الاحتياط استحبابا نفسيا مولويا(*)

(١) اي بلا علاقة لهذا الاستحباب بالحفاظ على الاغراض الواقعية.

(٢) اي فتتأكد المصلحة النفسية المولوية في الاحتياط مع مصلحة الأحكام الواقعية ، ويتأكّد الداعي للاحتياط.

__________________

(*) (أقول) إنّ كلام السيد المصنّف وإن كان نظريا صحيحا إلّا أننا لم نجد له مثالا ظاهرا فيه ، وأظهر ما وجدناه هو ما ذكرناه ، وهما لا تخلوان ـ ولو بقرينة السياق ـ من ارادة الاحتياط كطريق للحفاظ على ملاكات الواقع ، بل من يقرأ روايات الاحتياط الكثيرة في جامع احاديث الشيعة ينصرف ذهنه فيها إلى ارادته كطريق للحفاظ على الاحكام الواقعية ولو بقرينة سياقها.

١٣٤

في مقابل إبراز نفي هذه المرتبة من الاهتمام أيضا ، ومن الواضح انّ درجة محركية الواقع المشكوك تابعة لما يحتمل أو يحرز من مراتب اهتمام المولى به (١).

__________________

(١) بمعنى أن العقل إنما يحتاط بالقدر الذي يدركه من درجة اهتمام الشارع ، وقد يختلف هذا القدر مع قدر اهتمام الشارع كما يظهر ذلك مما ورد في مدى اهتمام الشارع بموارد الفروج ، فقد ورد في رواية ابن سيّابة قوله عليه‌السلام «سبحان الله ما أجور هذا الحكم وأفسده ، إنّ النكاح احرى واحرى أن يحتاط فيه ، وهو فرج ومنه يكون الولد» ،

ـ وفي رواية مسعدة بن زياد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة» ،

ـ وفي رواية الجعفريات قوله عليه‌السلام «لا تجمعوا النكاح عند الشبهة ، وفرّقوا عند الشبهة.

ـ وفي رواية ميسرة قوله عليه‌السلام لمن تزوّج بالخنثى المشكل «لأنت اجرأ من خاص الأسد» وفي رواية ابن قيس قوله عليه‌السلام «لانت اجرأ من راكب الأسد ...» ،

(وقد) يبرز الشارع المقدّس عدم اهتمامه بالاحتياط في بعض الموارد ، كما في مورد الطهارة فقال لنا ابنوا على الطهارة ، ولم يقل لنا احتاطوا ، فقال السيد الشهيد ـ وهو على حقّ فيما قال ـ انه على احتمال الطريقية في تفسير استحباب الاحتياط إذا حدّد الشارع المقدّس درجة اهتمامه ببعض الامور يكون ح مولويا لا إرشاديا ، مثال ذلك اننا نعلم ان عبادة الله تعالى مطلوبة وان الاحسان إلى الفقراء مطلوب شرعا وعقلا ، إلّا ان الشارع المقدّس حدّد لنا درجة المطلوبية وماهية المطلوب ، فقال مثلا الصلاة الفلانية واجبة والصلاة الفلانية مستحبة ، واعطاء الفقراء بعضه واجب وحدّد قدره وبعضه مستحب وهكذا .... فإذا تدخّل الشارع المقدّس في هذه التحديدات

١٣٥

وأما الوجه الثاني : فلو سلّم المسلك المشار إليه فهو لا ينفع في المقام ، إذ ليس المقصود استكشاف الاستحباب الشرعي بقانون الملازمة (١) واستتباع (٢) الحسن العقلي للطلب الشرعي ليرد ما قيل (٣) بل هو (٤) ثابت بدليله. وإنّما الكلام عن المحذور المانع عن ثبوته ، ولهذا فان متعلّق الاستحباب [الشرعي] عبارة عن تجنّب مخالفة الواقع المشكوك ولو لم يكن بقصد قربي ، والعقل إنما يستقل بحسن التجنّب الانقيادي والقربي (٥) خاصّة.

__________________

تكون الاحكام ح مولوية ، وإن كانت بنحو اجمالي معلومة للعقل ، وهكذا ما نحن فيه تماما.

فالمقياس في المولوية والارشادية انه في المولوية يتدخّل الشارع في تحديد المطلوب وتحديد الحكم ، وفي الارشادية يؤيّد استكشاف العقل لا أكثر.

(إذن) يمكن ان تكون بعض ادلّة الاحتياط مولوية بلا لغوية في ذلك ، وإن كان اكثرها ارشادية إلى حكم العقل بحسن الاحتياط للتحفظ على ملاكات الاحكام الواقعية.

(١) بأنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، الذي ينكره المحقّق النائيني للغويّته.

(٢) أي ولا بقانون استتباع طلب شرعي بعد إدراك العقل للحسن ، فالعطف في قوله «واستتباع» عطف تفسيري.

(٣) من التسلسل المذكور في الحلقة الثانية بحث «الملازمة بين الحسن والقبح والامر والنهي» بالتفصيل.

(٤) اي استحباب الاحتياط شرعا ثابت بدليل مستقل ، كالروايات الآمرة بالاحتياط في مورد النكاح.

(٥) يريد رحمه‌الله ان يقول : إن المحقق النائيني (قده) ذهب إلى انّ الاخبار الآمرة.

١٣٦

* النقطة الثانية : إنّ الاحتياط متى ما أمكن فهو مستحب كما عرفت ، ولكن قد يقع البحث في إمكانه في بعض الموارد ، وتوضيح ذلك :

__________________

بالاحتياط لا بدّ وان تحمل على الارشاد إلى حكم العقل بحسن الاحتياط ولا يعقل ان يكون الامر بالاحتياط فيها مولويا (أي شرعيا) ، وإلّا يلزم اللغوية والتسلسل ... وهنا يردّ السيد على محذور التسلسل فيقول : إنّما نقع في محذور التسلسل ان قلنا بترتّب الاحتياط المولوي على الاحتياط العقلي ، ولا نقول به ، وإنّما الاحتياط المولوي مترتّب على نفس الحكم الواقعي الاوّلي ، فلا تسلسل.

وببيان اكثر تفصيلا نقول : إن مراد السيد الشهيد (قده) هنا هو أن الذي يقع في سلسلة معلولات الحكم الشرعي الواقعي الأوّلي هو حكم العقل بلزوم امتثال الحكم الواقعي المجهول لأجل إطاعة المولى ، ولذلك قال السيد هنا" والعقل إنّما يستقلّ بحسن التجنّب الانقيادي والقربي خاصّة" ، والذي ورد في ادلة الاحتياط هو مجرد الاحتياط واجتناب الوقوع في الشبهة وهو أعم من التجنّب الانقيادي والقربي ، بمعنى ان الاحتياط الشرعي يفيدنا استحباب الاحتياط ولو من دون نيّة الانقياد والقربة وادراك الواقع ، فاختلف الاحتياط الشرعي من هذه الجهة عن الاحتياط العقلي ، فالاحتياط الشرعي غير متوقّف على الاحتياط العقلي ، بل هما في عرض واحد ، فلا تسلسل(*)

__________________

(*) هذا لا نوافق عليه ، لأنّ المتأمّل في كل روايات الاحتياط يعرف ان الهدف من هذا الاحتياط هو نفس الهدف الذي من اجله يستقل العقل بحسن الاحتياط وهو. كما تعلم. ادراك الاغراض الواقعية وعدم الوقوع في مخالفتها أو مخالفة الوظيفة العملية.

(نعم) لا تسلسل بين الاحتياطين الشرعي والعقلي ، لعدم توقّف الشرعي على العقلي ، (وكون) الشرعي مرشدا الى الاحتياط العقلي لا يعني انه متوقّف عليه ، بل يعني انه مؤيّد له ومذكّر به لا غير.

١٣٧

إنّه إذا احتمل كون فعل ما واجبا عباديا ، فإن كانت اصل مطلوبيّته معلومة أمكن الاحتياط بالاتيان به بقصد الامر المعلوم تعلقه به (١) حتى وان لم يعلم كونه وجوبا أو استحبابا فان هذا يكفي في وقوع الفعل عباديا وقربيا ، وامّا إذا كانت اصل مطلوبيّته غير معلومة فقد يستشكل في امكان الاحتياط حينئذ ، لأنّه إن أتى به بلا قصد قربي فهو لغو جزما ، وإن أتى به بقصد امتثال الامر فهذا يستبطن افتراض الامر والبناء على وجوده ، مع أن المكلّف شاك فيه وهو تشريع محرّم ، فلا يقع الفعل عبادة لتحصل به موافقة التكليف الواقعي المشكوك.

وقد يجاب على ذلك بوجود أمر معلوم وهو نفس الامر الشرعي الاستحبابي بالاحتياط فيقصد المكلّف امتثال هذا الأمر ، وكون الأمر بالاحتياط توصليا لا تتوقف (٢) موافقته على قصد امتثاله لا ينافي (٣) ذلك (٤) ، لأن ضرورة قصد امتثاله في باب العبادات لم تنشأ من

__________________

(١) أي أمكن الاحتياط بداعي امتثال الأمر الشرعي المتعلق بالفعل حتى وإن لم يعلم ..

(٢) عطف بيان ل «توصليا».

(٣) خبر ل «كون».

(٤) اي لا ينافي صحّة قصد امتثال الامر الشرعي الاستحبابي بالاحتياط ، ولا داعي لكون هذا الامر بالاحتياط عباديّا ليصحّ قصد الامتثال ، ويكفي في عبادية العمل كون نفس متعلّق الاحتياط عباديا ككونه صلاة مثلا.

ولا يفوتنّك ان محلّ الكلام في إمكان الاحتياط هنا هو فيما إذا كان المأتي به محتمل العبادية لا توصليا ، إذ لا اشكال في إمكان الاحتياط في التوصّلي

١٣٨

ناحية عباديّة نفس الامر بالاحتياط ، بل من عباديّة ما يحتاط فيه.

ولكن التحقيق عدم الحاجة الى هذا الجواب (١) ، لأنّ التحرّك عن احتمال الامر بنفسه قربي (٢) كالتحرك عن الامر المعلوم ، فلا يتوقّف وقوع

__________________

لعدم لزوم قصد امتثال الأمر فيه ، ولأنّ المطلوب في التوصّلي هو صرف وجوده بأيّ وجه اتّفق ولو بالتكرار.

(١) بل لأنه قد يرد على هذا الجواب اننا من الاصل نشكّ في عباديّة ما نحتاط فيه ـ لاننا فرضنا ان اصل المطلوبية غير معلومة ـ ، وان الامر بالاحتياط توصّلي كما مرّ قبل قليل فكيف يمكن قصد القربة؟!

(٢) ولك أن تعبّر كما يلي : لانّ التحرّك عن احتمال كون متعلق الامر قربيا وعباديا قربي وعبادي.

وهذا الجواب صحيح بلا ريب لان عباديّة عمل ما تتقوم بان يأتي المكلّف به لله بأيّ نحو كان ، وهذا القصد يتحقق ولو أتى المكلّف بالعمل برجاء الامر به او برجاء العباديّة.

(فإن قلت) كيف يصح هذا فاننا لا يمكن لنا أن نقصد الوجوب ولا الاستحباب. العمل الاحتياطي مع عدم امكان قصد امتثال الامر المعلوم بالتفصيل؟

(٣) (قلت) لا دليل على لزوم قصد الامتثال بالتفصيل ، وح يندفع بالاطلاق المقامي إذ لم يرد في الشرع لزوم قصد الوجوب أو الاستحباب في العبادات ، فلا تصل النوبة ـ بعد هذا ـ لاجراء البراءة عن لزوم قصد الوجوب او الاستحباب ، لان الاطلاق أمارة ، فاذا جرت لا يجرى الاصل العملي.

والحمد لله رب العالمين

وبعد الوصول الى نهاية قاعدة البراءة وشئونها ـ وذلك في ١٥ جمادى الآخرة من عام ١٤١٣ ، الواقع في ١٠ كانون الاول من عام ١٩٩٢ ، أرى.

١٣٩

الفعل عبادة على افتراض امر معلوم بل يكفي الاتيان به رجاء.

__________________

لزاما عليّ ان اشير الى حوادث في غاية الايلام تحدث في هذه الايام ضد المسلمين في كل بقاع العالم تقريبا ، ففي الهند مثلا هدم الهندوس قبل ثلاثة ايّام مسجد بابري وبنوا مكانه معبدا لآلهتهم واعقب ذلك قيام المسلمين في باكستان وافغانستان وبنغلادش فهدموا عشرات المعابد للهندوس ، وحصلت اشتباكات بين المسلمين والهندوس قتل على اثرها المئات من الطرفين ...

وفي افغانستان لا تزال المعارك جارية حتى يومنا هذا بين الفصائل الاسلامية هناك منذ اكثر من سنة ...

وفي مصر والجزائر الاعتقالات في صفوف الاسلاميين وقتلهم بالمئات على قدم وساق ..

وفي البوسنة والهرسك التصفية للشعب المسلم الاعزل لا تزال مستمرة بكل وحشية ضد هذا الشعب المعزول مع سكوت المحافل الدولية وقتل وتشريد واعتقال اكثر من ميليون ونصف من المسلمين هناك ، وآخرا وليس أخيرا دخول الحلفاء وعلى رأسهم الولايات المتّحدة الامريكية أمس الى الصومال الدولة الاسلامية الفقيرة واحتلالهم لها بإذن من الامم المتّحدة وتحت شعار «إعادة الأمل» وهذا غيض من فيض ودمعة من دموع ، عسى الله ان يوحّد امتنا الاسلامية ويصلح ما فسد من امور المسلمين بالنبي وآله الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين).

١٤٠