دروس في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

ذلك يتكوّن مما يلي :

أوّلا : إنّ العلم الاجمالي بالتكليف علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية.

ثانيا : إنّ المعلول هنا ساقط.

ثالثا : يستحيل سقوط المعلول بدون سقوط العلّة.

فينتج أنه لا بد من الالتزام بسقوط العلم الاجمالي بالتكليف [الفعلي] ، وذلك بارتفاع التكليف ، فلا تكليف مع الاضطرار المفروض ، وبعد ارتفاعه وان كان التكليف محتملا في الطرف الآخر ولكنه حينئذ احتمال بدويّ مؤمّن عنه بالاصل.

والجواب عن ذلك :

أولا : بمنع عليّة العلم الاجمالي بالتكليف لوجوب الموافقة القطعيّة (١).

ثانيا : بانّ ارتفاع وجوب الموافقة القطعية النّاشئ من العجز والاضطرار لا ينافي العلّيّة المذكورة (٢) ، لأنّ المقصود منها عدم امكان جعل الشكّ مؤمّنا ، لأنّ الوصول بالعلم تامّ ولا ينافي ذلك وجود مؤمّن آخر وهو العجز كما هو المفروض في حالة الاضطرار.

__________________

(١) وانما العلم الاجمالي مقتض لوجوب الموافقة القطعية.

(٢) يريد السيد المصنّف (قده) ان يقول للمحقق الخراساني هنا بان جواز ارتكاب احد الطرفين لا يستدعي رفع اليد عن العلّية ، بمعنى انّ عليك ان تبقى عليها وتاخذ بمقتضاها فيما بقي من الاطراف ، وح لا يصحّ ان تجري الاصل المؤمّن في غير المضطر إليه.

٢٢١

ثالثا : لو سلّمنا بفقرات البرهان الثلاث فهي إنّما تنتج لزوم التصرّف في التكليف المعلوم (١) على نحو لا يكون الترخيص في تناول احد الطعامين لدفع الاضطرار إذنا في ترك الموافقة القطعية (٢) له ، وذلك يحصل برفع اليد عن اطلاق التكليف لحالة واحدة (٣) وهي حالة تناول الطعام المحرّم وحده من قبل المكلّف المضطر (* ١) مع ثبوته في حالة تناول كلا الطعامين معا ، فمع هذا الافتراض إذا تناول المكلّف المضطر العالم اجمالا أحد الطعامين فقط لم يكن قد ارتكب مخالفة احتمالية على الاطلاق ، وإذا تناول كلا الطعامين فقد ارتكب مخالفة قطعية (* ٢) للتكليف المعلوم فلا يجوز.

__________________

(١) وهو «وجوب اجتنابهما».

(٢) لم يتّضح لدينا وجه قوله : «... في ترك الموافقة القطعية له» ، والصحيح ان يقول «إذنا في جواز المخالفة القطعية» أي ... إذنا في شرب الإناء الآخر (غير المضطر اليه) ، بل هو بنفسه رحمه‌الله سيصرّح بهذا بعد اربعة اسطر.

(٣) أي وذلك يحصل برفع اليد عن اطلاق «يجب اجتنابهما» فيصير هذا الحكم هكذا «يجب اجتنابهما إلّا الفرد المضطرّ إليه فيجوز ارتكابه» ومعنى هذا بقاء ارتكاب الفرد الآخر على الحرمة او قل بقاء حرمة تناول كلا الطعامين معا (* ٣).

__________________

(* ١) الأولى أن يقول «... وهي حالة تناول الطعام المضطرّ اليه وحده من قبل المكلّف مع ثبوته ....».

(* ٢) أقول : لو ارتكبهما بالترتيب يكون قد تناول الاوّل حلالا للاضطرار اليه ويكون الثاني مخالفة احتمالية ـ لا قطعية ـ

(* ٣) (أقول) لكن الصحيح شمول اطلاق ادلّة الحلّ لما نحن فيه ايضا ، وذلك لاحتمال ان

٢٢٢

٣ ـ انحلال العلم الاجمالي بالتفصيلي (١)

لكلّ علم اجمالي سبب ، والسبب تارة يكون مختصا في الواقع بطرف معيّن من اطراف العلم الاجمالي ، واخرى تكون نسبته إلى الطرفين او الاطراف على نحو واحد.

ومثال الأوّل : ان ترى قطرة دم تقع في أحد الاناءين ولا تميّز الاناء بالضبط فتعلم اجمالا بنجاسة احد الاناءين ، والسبب هو قطرة الدم وهي في الواقع مختصّة باحد الطرفين ، ويمكن أن تؤخذ قيدا في المعلوم بأن تقول : إني اعلم اجمالا بنجاسة ناشئة من قطرة الدم التي رأيتها لا بنجاسة كيفما اتّفقت ، ويترتّب على ذلك أنّه إذا حصل علم تفصيلي بنجاسة إناء معيّن من الاناءين فان كان هذا العلم التفصيلي بنفس سبب العلم الاجمالي بان علمت تفصيلا بان القطرة قد سقطت هنا انحل العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي وانهدم الركن الثاني إذ يكون من النحو الاوّل من الانحاء الاربعة المتقدّمة (عند الحديث عن ذلك الركن) ، وإن كان هذا

__________________

(١) الوجداني ، وهذا الانحلال يكون حقيقيّا ان كان المعلوم التفصيلي مصداقا للمعلوم الاجمالي.

__________________

يكون الطرف المختار هو الحرام الواقعي والثاني هو الحلال الواقعي ، ولا استهجان واضح في نظر المتشرّعة من جريان الاصول المؤمّنة ، وهذا الكلام جار سواء تقدّم العلم الاجمالي على الاضطرار ام تأخّر عنه أم عاصره في الوقت.

وكنتيجة لما ذكرنا نقول انه لا فرق بين الصورة الاولى والثانية ، ولا بين تقدّم العلم على الاضطرار او العكس او التعاصر بينهما ، بل المرجع في كل الحالات ـ مع عدم وجود استهجان واضح او قل تناقض في نظر المتشرّعة ـ هو اطلاق الاصول المؤمّنة.

٢٢٣

العلم التفصيلي بسبب آخر كما إذا رأيت قطرة اخرى من الدم تسقط في الاناء المعيّن لم ينحلّ العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي ، لأنّ المعلوم التفصيلي ليس مصداقا للمعلوم الاجمالي لينطبق عليه ويسري العلم من الجامع إلى الفرد بخصوصه.

وكذلك الامر إذا شك في أنّ سبب المعلوم التفصيلي هو نفس تلك القطرة او غيرها ، حيث لا يحرز حينئذ كون المعلوم التفصيلي مصداقا للمعلوم الاجمالي ، ويدخل في النحو الثالث من الانحاء الاربعة المتقدّمة (عند الحديث عن الرّكن الثاني) (*).

ومثال الثاني : ـ أي ما كانت نسبة سبب العلم الاجمالي فيه الى الاطراف متساوية ـ ان يحصل علم إجمالي بنجاسة احد الاناءات التي هي في معرض استعمال الكافر او الكلب لمجرّد استبعاد ان يمرّ زمان طويل بدون أن يستعمل بعضها ، فانّ هذا الاستبعاد نسبته الى الاطراف على نحو واحد ، ويترتّب على ذلك أنّه لا يصلح ان يكون قيدا مخصّصا للمعلوم الاجمالي (١) ، وعليه فاذا حصل علم تفصيلي بنجاسة إناء معيّن انحلّ العلم

__________________

(١) النجاسة الخاصّة ـ كالدّم ـ قيد مخصّص للمعلوم الاجمالي ، فاذا كان المعلوم الاوّل هو الدم والثاني هو مطلق النجاسة لا ينحل العلم الاجمالي عند السيد الشهيد لكون المعلوم الاجمالي [الاوّل] فيه قيد

__________________

(*) وتقدّم قولنا هناك انّ الصحيح هو الانحلال ، وذلك لوحدة المناط بين النحوين الثاني والثالث المتقدّمين عند الحديث عن الرّكن الثاني ... (فراجع)

٢٢٤

الاجمالي حتما (١) لانهدام الركن الثاني ، وذلك لأن المعلوم التفصيلي مصداق للمعلوم الإجمالي جزما حيث لم يتخصّص المعلوم الاجمالي بقيد زائد ، ومعه يسري العلم من الجامع الى الفرد ويدخل في النحو الثاني من الانحاء الاربعة المتقدّمة ـ عند الحديث عن الرّكن الثاني ـ (*).

وفي كل حالة يثبت فيها الانحلال يجب ان يكون المعلوم التفصيلي والمعلوم الاجمالي متّحدين في الزمان (٢) ، وأمّا إذا كان المعلوم التفصيلي متأخّرا زمانا فلا انحلال للعلم الاجمالي حقيقة ، لعدم كون المعلوم التفصيلي حينئذ مصداقا للمعلوم الاجمالي. ولا يشترط في الانحلال

__________________

زائد وهو الدّمية ، أمّا فيما نحن فيه فليس الأمر كذلك إذ لا يوجد في المعلوم الاوّل خصوصيّة او قل قيد زائد يخصّصه ، بل المعلوم الثاني [التفصيلي] يصلح للانطباق على المعلوم الاوّل [الاجمالي] ، ولذلك قال عنه السيد المصنّف (رضي الله عنه بانّه) «يدخل في النحو الثاني من الانحاء الاربعة المتقدّمة».

(١) انحلالا حقيقيا وذلك لأنّ علمنا بمساورته لاناء معيّن يعدم علمنا بمساورته للآخر ، فتجري في الآخر البراءة

(٢) إذ لو تغايرا زمانا فقد علم تعدّدهما وتغايرهما ، فلا يحصل الانحلال كما هو واضح ، مثال التغاير ما لو علمت إجمالا بوقوع نجاسة في أحد الإناءين ثم بعد ذلك علمت تفصيلا بوقوع نجاسة أخرى في أحدهما المعيّن ، فهنا لا ينحل العلم الاجمالي بلا شك.

__________________

(*) لم نروجها للتفرقة بين المثالين ، راجع تقريرات السيد الهاشمي ج ٥ ص ٢٤٧.

٢٢٥

الحقيقي وانهدام الرّكن الثاني التعاصر بين نفس العلمين ، فإنّ العلم التفصيلي المتأخّر زمانا يوجب الانحلال أيضا إذا احرز كون معلومه مصداقا للمعلوم بالاجمال ، لانّ مجرّد تأخّر العلم التفصيلي مع احراز المصداقية لا يمنع عن سراية العلم قهرا من الجامع الى الخصوصيّة (١) وهو معنى الانحلال.

٤ ـ الانحلال الحكمي بالامارات والاصول

إذا جرت في حقّ المكلّف امارات او اصول شرعيّة منجّزة للتكليف في بعض اطراف العلم الاجمالي فلا انحلال حقيقيّ ولا تعبّدي كما تقدّم (٢) ، ولكن ينهدم الرّكن الثالث بإحدى (*) صيغتيه المتقدّمتين إذا توفّرت شروط :

احدها : ان لا يقلّ البعض المنجّز بالامارة او الاصل الشرعي عن عدد المعلوم بالاجمال من التكاليف (٣).

__________________

(١) اي إلى الفرد الخاص وهو معنى الانحلال الحقيقي.

(٢) ص ٢٠٢.

(٣) فانه لو قلّ عنه لا ينهدم الركن الثالث ، وذلك كما لو كنّا نعلم بنجاسة إناءين من ثلاثة آنية ثم أخبرتنا بيّنة بأن هذا الإناء المعيّن هو أحد المتنجّسين فهنا حتما لا ينحل العلم الإجمالي لبقاء علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين الآخرين.

__________________

(*) بل «بكلا صيغتيه» كما يظهر لك بقوله بعد قليل «.. وفقا للصيغة الاولى ...» وقوله بعده «... وفقا للصيغة الثانية» ، ولا شكّ ان هذا من سهو قلمه الشريف.

٢٢٦

ثانيها : ان لا يكون المنجّز الشرعي من امارة او أصل ناظرا إلى تكليف مغاير لما هو المعلوم إجمالا ، كما إذا علم إجمالا بحرمة أحد الاناءين بسبب نجاسته وقامت البيّنة على حرمة احدهما المعيّن بسبب الغصب.

ثالثها : ان لا يكون وجود المنجّز الشرعي متأخّرا عن حدوث العلم الاجمالي (١).

فكلّما توفّرت هذه الشروط الثلاثة انهدم الرّكن الثالث لجريان الاصل المؤمّن في غير مورد المنجّز الشرعي بلا معارض وفقا للصيغة الاولى ، ولعدم صلاحية العلم الاجمالي للاستقلال في تنجيز معلومه على كل تقدير وفقا للصيغة الثانية.

ويسمّى السقوط عن المنجّزية في هذه الحالة بالانحلال الحكمي (٢) تمييزا له عن الانحلال الحقيقي والانحلال التعبّدي.

__________________

(١) سيأتيك شرحه في الصفحة التالية

(٢) يفترق الانحلال الحكمي عن الحقيقي بانّ الحقيقي يعني زوال العلم الاجمالي حقيقة ووجدانا ، وهو الذي يحصل عند اختلال الرّكن الثاني من اركان منجزية العلم الاجمالي ، ولكن بشرط عدم تأخّر المعلوم التفصيلي عن زمان المعلوم الاجمالي كما سيقول السيد المصنف بعد صفحتين ، وسيأتي بيان ذلك ، المهم أنّه يشترط ـ في نظر السيد (قده) ـ مصداقية المعلوم التفصيلي فيه للمعلوم الاجمالي ... واما إذا بقي العلم الإجمالي وجدانا ولكن اختلّ الرّكن الثالث وذلك فيما إذا لم يكن احد الطرفين مجرى للاصل المؤمّن ، فحينئذ يجري الاصل المؤمّن في الطرف الآخر بلا معارض ..

٢٢٧

وأمّا إذا اختلّ الشرط الأوّل (١) فالعلم الاجمالي منجّز للعدد الزائد ، والاصول بلحاظه متعارضة. وإذا اختلّ الشرط الثاني فالأمر كذلك لأنّ ما ينجّزه العلم الاجمالي في مورد الامارة غير ما تنجّزه الامارة نفسها ، وإذا اختلّ الشرط الثالث (٢) كان العلم الاجمالي منجّزا والرّكن

__________________

ويسمّى ذلك ح بالانحلال الحكمي ... واما الانحلال التعبدي فقد مرّ شرحه. وبيانه أنه اذا كنّا نعلم بنجاسة أحد إناءين ثم أخبرتنا أمارة معتبرة بكون النّجس هو هذا الإناء المعيّن فهنا إذا قلنا بانحلال العلم الإجمالي تعبّدا ـ ولا يقول به سيّدنا المصنّف ـ فهذا الانحلال يسمى بالانحلال التعبّدي.

[نعم] يحصل انحلال حكمي عند سيّدنا الشهيد وذلك لجريان الأصل المؤمّن في غير مورد الأمارة بلا معارض.

(١) بان كان المعلوم النجاسة بين الاطراف الخمسة مثلا طرفين ، ثم جاءتنا امارة افادت بنجاسة احدها المعيّن ، ففي هذه الحالة يبقى العلم الاجمالي قائما بين الاطراف الاربعة الباقية.

(٢) بأن تأخّر زمان وصول الامارة أو تأخّر علمنا بجريان الاصل المنجّز عن زمان العلم الاجمالي ، فحينئذ يحصل تعارض بين الأصل المؤمّن الجاري في مورد المنجّز الشرعي (وهو الطرف القصير) والاصل المؤمّن الجاري في الطرف الآخر (الطويل). مثال ذلك ما لو علمت في الساعة الأولى بنجاسة أحد إناءين بنحو العلم الإجمالي ففي هذه الحالة أنت تعلم أنه يجب الاجتناب عنهما ، ثم علمت في الساعة الثانية بأن الإناء (أ) كان سابقا متنجّسا فلا يجري فيه إذن الأصل المؤمّن ، فهل في هذه الحالة يجري الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بلا معارض؟! يقول السيد الشهيد رحمه‌الله بعدم جريانه في الطرف الآخر وذلك لوجود معارضة بين جريان الأصل المؤمّن في الطرف الآخر الى الآن وبين جريانه في طرف.

(أ) الى نهاية الساعة الاولى ، فانّ الأصل المؤمّن كان يجري في هذا الطرف الاوّل الى حين علمك بنجاسته سابقا.

٢٢٨

الثالث محفوظا ، لأنّ الاصول المؤمّنة في غير مورد الامارة والاصل الشرعي المنجّز معارضة بالاصول المؤمّنة التي كانت تجري في موردهما قبل ثبوتهما ، وبكلمة اخرى إذا اخذنا من مورد المنجّز الشرعي فترة ما قبل ثبوت هذا المنجّز ومن غيره الفترة الزمنية على امتدادها حصلنا على علم اجمالي تامّ الاركان فينجّز. ومن هنا يعرف ان انهدام الرّكن الثالث بالمنجّز الشرعي مرهون (١) بعدم تأخّر نفس المنجّز عن العلم. ولا يكفي (٢) عدم تأخّر مؤدّى الامارة مثلا مع تأخّر قيامها ، وذلك لانّ سقوط

__________________

(١) اي متوقّف .. فإذا تأخّر المنجز الشرعي بقي الرّكن الثالث محفوظا لبقاء التعارض بين الأصول المؤمّنة في الأطراف ، أو قل لبقاء التعارض عقلا بين الأصل المؤمّن الذي كان يجري في مورد الأصل المنجّز (وهذا المورد هو الطرف القصير)! وبين الأصل المؤمّن الذي لا يزال جاريا في الطرف الآخر (وهو الطويل). وهذا تكرار ثالث لنفس المعنى السابق إنّما باسلوب آخر

(٢) في انهدام الركن الثالث وانحلال العلم الاجمالي ... ولا شك أنك تعلم أن تنجيز العلم الاجمالي يتوقّف على أربعة أركان ، الركن الثالث منها أن يكون كل طرف من أطراف العلم الاجمالي موردا للأصل المؤمّن ، فإذا انهدم الركن الثالث لا يبقى العلم الإجمالي منجّزا ... ومعنى قول سيّدنا الشهيد «ولا يكفي ... الخ» أنه قد يدّعي شخص انحلال العلم الاجمالي في حال تنجيز احد اطراف العلم الاجمالي مطلقا فيجري الاصل المؤمّن في غير مورد المنجّز الشرعي ، فيقول المدّعي صحيح ان الامارة ـ مثلا ـ جاءتنا متأخّرة عن حصول العلم الاجمالي ، كما لو وردت الامارة عصرا والعلم الاجمالي ظهرا ، لكن الامارة افادتنا حصول النجاسة عند الصباح ، فهلّا جعلتم هذه الحالة

٢٢٩

العلم الاجمالي عن التنجيز في حالات قيام المنجّز الشرعي في بعض اطرافه انّما هو بسبب المنجّزية الشرعية (١) بإحدى الصيغتين السابقتين (٢) ، والمنجّزية لا تبدأ إلّا من حين قيام الامارة او جريان الاصل (٣) سواء كان المؤدّى مقارنا لقيامها او سابقا على ذلك.

وبالمقارنة بين الانحلال الحكمي كما شرحناه هنا والانحلال الحقيقي كما شرحناه آنفا (٤) يظهر أنهما يختلفان في هذه النقطة ، فبينما

__________________

كحالة تقدّم ورود الامارة على العلم الاجمالي وصحّحتم إجراء الاصل المؤمّن في غير مورد الامارة المنجّزة؟!

فيجيب السيد المصنّف (قده) على هذا الكلام بانّ العبرة فيما نحن فيه وهو حالة الانحلال الحكمي بعدم تأخّر زمان ورود المنجّز الشرعي عن العلم الاجمالي ، فلو تأخر لتحوّل إلى العلم الاجمالي بين الطويل والقصير كما اسلفنا.

(١) او قل : انما هو بسبب تقدّم زمان الامارة المنجّزة على زمان حصول العلم الاجمالي او تعاصرهما.

(٢) للركن الثالث ، وهما صيغة السيد الماتن وصيغة المحقق العراقي ، وقد ذكرتا في الركن الثالث فراجع.

(٣) اذا فهمت هذه الجملة الصغيرة «والمنجّزية لا تبدأ ... جريان الاصل» تفهم سر كلام السيد رحمه‌الله ، فان المنجّزية وحرمة الاناء لا تبدأ إلّا من حين قيام الأمارة على نجاسته سواء أخبرتنا الامارة بان النجاسة حصلت الآن أو قبل حصول العلم الاجمالي ، فاذا حرم علينا الاناء بسبب إخبار الامارة بنجاسته فحينئذ لا يعود مجرى للاصل المؤمّن.

(٤) أنف الانسان معروف ، لكنه استعير لمقدّمة بعض الامور ، فعبّروا عن اوّل البرد بأنف البرد ، وعن اوّل ما أنبت المطر بأنف المطر ، وقالوا هذا

٢٣٠

العبرة في الانحلال الحكمي (١) بعدم تأخّر نفس المنجّز الشرعي عن العلم

__________________

أنف العمل ... وفي الحديث : لكلّ شيء أنفة ، وأنفة الصلاة تكبيرة الاحرام .. وبكلمة موجزة قالوا أنف الشيء أوّله ، وجاءوا آنفا اي قبل قليل بل في اوّل اوقات القرب ، ومن هنا تعرف أنّ آنفا ظرف زمان منصوبة ، ثمّ إنّه قد مرّ شرح الانحلال الحقيقي قبل وريقات تحت عنوان «انحلال العلم الاجمالي بالتفصيلي» وذلك عند قوله «إنّه إذا حصل علم تفصيلي بنجاسة إناء معيّن من الاناءين فان كان هذا العلم التفصيلي بنفس سبب العلم الاجمالي .. انحلّ العلم الاجمالي ...» وعند قوله بعد ذلك «وعليه فاذا حصل العلم التفصيلي بنجاسة إناء معيّن انحلّ العلم الاجمالي حتما ...».

وقوله بعده «وفي كل حالة يثبت فيها الانحلال .. ولا يشترط في الانحلال الحقيقي ...» وفي الحلقة الثانية بحث «تحديد أركان هذه القاعدة» عند قوله «ويختلّ الركن الثاني ... ويختل الركن الثالث ...».

(١) مرّ شرحه ونعيده هنا باختصار فنقول :

إن تقدّم المنجّز الشرعي ـ أمارة كان او أصلا ـ على العلم الاجمالي فحينئذ لا يجري الاصل المؤمّن في الطرف المنجّز فيجري في الطرف الآخر بلا معارض ، هذا بناء على الصيغة الاولى للرّكن الثالث ، وامّا بناء على الصيغة الثانية ، وهي المبنيّة على قول المحقّق العراقي بالعلّية فنقول بان العلم الاجمالي لا يكون منجّزا إلّا للطرف الغير منجّز بالمنجّز الشرعي ، فهو إذن غير منجّز على كل حال ، فلا يكون ح منجّزا [راجع إن شئت الركن الثالث] وان عاصره في الزّمان فكذلك ، ويجري ح الاصل المؤمّن في غير مورد المنجّز الشرعي ، وهو المراد بالانحلال عمليا او حكما.

وأمّا الانحلال الحقيقي فالشرط الوحيد فيه هو حصول انطباق بين المعلوم الاجمالي والمعلوم التفصيلي ، أي اذا علمنا أن النّجس الواقعي هو هذا الإناء الفلاني حصل انحلال واقعي.

٢٣١

الاجمالي نلاحظ ان العبرة في الانحلال الحقيقي كانت بملاحظة جانب المعلوم التفصيلي وعدم تأخّره عن زمان المعلوم الاجمالي ، وذلك لأنّ ميزانه سراية العلم من الجامع إلى الفرد وهي لازم قهري لانطباق المعلوم الاجمالي على المعلوم التفصيلي ومصداقية هذا لذاك ، ولا دخل لتاريخ العلمين في ذلك ، فمتى ما اجتمع العلمان ولو بقاء وحصل الانطباق المذكور حصل الانحلال الحقيقي.

٥ ـ اشتراك علمين اجماليين في طرف

قد يفترض ان احد طرفي العلم الاجمالي طرف في علم اجمالي آخر ، فان كان العلمان متعاصرين فلا شك في تنجيزهما معا وتلقّي الطرف المشترك التنجّز منهما معا ، لأن مرجع العلمين إلى العلم بثبوت تكليف واحد في الطرف المشترك او تكليفين في الطرفين الآخرين ، وامّا إذا كان احدهما سابقا على الآخر فقد يقال (١) :

__________________

ثمّ إنّ قوله (قده) «فمتى ما اجتمع العلمان ولو بقاء» لا مفهوم [سلبي] له ، وانّما ينبغي ان يفهم على ضوء ما ذكره في فصل «انحلال العلم الاجمالي بالتفصيلي» من قوله «ولا يشترط في الانحلال الحقيقي ...» ، أي فمتى اجتمع العلمان على مصبّ واحد حصل الانحلال الحقيقي حتى ولو تغاير زمان حصول العلمين ، فانه يكفي بقاء العلم المتقدّم الى زمان حصول العلم المتأخّر بحيث إنك عند حصول العلم المتأخّر في الساعة الثانية أنت تعلم علما إجماليا بنجاسة أحد الإناءين وعلما تفصيليا بالنجس الواقعي فيحصل انحلال حقيقي.

(١) هذه مقالة السيد الخوئي رحمه‌الله على ما في بحوث السيد الهاشمي ج ٥ ص ٢٥٥ النظرية الثانية.

٢٣٢

إنّ العلم المتأخّر يسقط عن المنجّزية لاختلال الرّكن الثالث إمّا بصيغته الاولى ، وذلك بتقريب ان الطرف المشترك قد سقط عنه الاصل المؤمّن سابقا بتعارض الاصول الناشئ من العلم الاجمالي السابق ، فالاصل في الطرف المختص بالعلم الاجمالي المتأخّر يجري بلا معارض ، وامّا بصيغته الثانية ، وذلك بتقريب ان الطرف المشترك قد تنجّز بالعلم السابق فلا يكون العلم المتأخّر صالحا لمنجّزيته فهو إذن لا يصلح لمنجّزية معلومه على كل تقدير.

ولكن الصحيح عدم السقوط عن المنجّزية وبطلان التقريبين السابقين ، وذلك (١) لأنّ العلم الاجمالي الاوّل لا يوجب التنجيز في كل زمان وتعارض الاصول في الاطراف كذلك إلّا بوجوده الفعلي في ذلك الزّمان لا بمجرّد حدوثه ولو في زمان سابق ، وعليه فتنجّز الطرف المشترك بالعلم الاجمالي السابق في زمان حدوث العلم المتأخّر إنّما يكون بسبب بقاء ذلك العلم السابق الى ذلك الحين لا بمجرد حدوثه ، وهذا يعني ان تنجّز الطرف المشترك فعلا له سببان :

أحدهما : بقاء العلم السابق.

__________________

(١) الاولى بيان الردّ بالأسلوب الذي ذكره في البحوث ج ٥ ص ٢٥٦ بأن يقول : «وفيه ان العلم الاجمالي لا يوجب التنجيز او تعارض الاصول في الاطراف في أيّ زمان إلّا بوجوده الفعلي في ذلك الزمان».

(ثمّ) إننا قد ذكرنا سابقا ص ١٨٦ عدم جريان الاصول المؤمّنة في اطراف العلم الاجمالي وذلك قبل ان نصل الى مرحلة تساقطهما ، او على الاقلّ نستبعد ذلك كثيرا ، فراجع.

٢٣٣

والآخر : حدوث العلم المتأخّر.

واختصاص أحد السببين بالتأثير دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فينجّزان معا ، وبذلك يبطل التقريب الثاني (١).

كما انّ الاصل المؤمّن في الطرف المشترك يقتضي الجريان في كلّ آن ، وهذا الاقتضاء يؤثّر مع عدم المعارض ، ومن الواضح أنّ جريان الاصل المؤمّن في الطرف المشترك في الفترة الزمنية السابقة على حدوث العلم الاجمالي المتأخّر كان معارضا باصل واحد ـ وهو الاصل في الطرف المختصّ بالعلم السابق ـ ، غير ان جريانه في الفترة الزمنية اللاحقة يوجد له معارضان وهما الاصلان الجاريان في الطرفين المختصّين معا ، وبذلك يبطل التقريب الاوّل ، فالعلمان الاجماليان منجّزان معا.

__________________

(١) كان الكلام أنه اذا تأخر أحد العلمين الاجماليين فالعلم الإجمالي المتأخر لا ينجّز ح الطرف المشترك ، وقرّب ذلك بتقريبين ، التقريب الثاني منهما كان انّ هذا الطرف المشترك قد تنجّز بالعلم السابق فلا يكون العلم المتأخر صالحا لتنجيز هذا الطرف المشترك على كل تقدير ، وذلك لتنجّز هذا الطرف المشترك بمنجّز آخر ، والمنجّز يستحيل أن ينجّز بمنجّز آخر لاستحالة اجتماع علّتين على معلول واحد ، فلا يكون العلم الإجمالي منجّزا وتجري البراءة في الطرف المختص بالعلم الإجمالي المتأخّر. (فيقول) سيدنا المصنف رحمه‌الله هنا ولكن الصحيح عدم سقوط العلم الإجمالي المتأخر عن المنجّزية وبطلان التقريبين السابقين وذلك لأنه رغم تقدّم العلم الإجمالي الأوّل فان تأثيره انما يكون ببقائه الى زمان حصول العلم الاجمالي الثاني فيصير العلمان متعاصرين بقاء ويصير العلم الإجمالي الثاني منجّزا على كل تقدير.

٢٣٤

٦ ـ حكم ملاقي احد الاطراف

إذا علم المكلّف اجمالا بنجاسة احد المائعين ولاقى الثوب احدهما المعيّن حصل علم اجمالي آخر بنجاسة الثوب او المائع الآخر ، وهذا ما يسمّى بملاقي احد اطراف الشبهة ، وفي مثل ذلك قد يقال بعدم تنجيز العلم الاجمالي الآخر ، فلا يجب الاجتناب عن الثوب وإن وجب الاجتناب عن المائعين ، وذلك لأحد تقريبين :

الأوّل : تطبيق فرضيّة العلمين الاجماليين المتقدم والمتأخّر في المقام بأن يقال إنّه يوجد لدى المكلّف علمان اجماليان بينهما طرف مشترك وهو المائع الآخر ، فينجّز [العلم الاجمالي] السابق منهما دون المتأخّر.

وهذا التقريب (١) ـ إذا تمّ ـ يختصّ بفرض تأخّر الملاقاة (٢) او [تأخّر] العلم بها على الأقل (٣) عن العلم بنجاسة احد المائعين ، ولكنه

__________________

(١) ذكر ذلك في البحوث ج ٥ ص ٣٠٥ ، المقام الثاني.

(٢) هذا هو الوجه الثاني في المصدر السابق ذكره ص ٣٠٨ بقوله : «إن اصالة الطهارة في الملاقي (وهو الثوب) تكون في طول اصالة الطهارة في الملاقى (وهو الإناء) ، فاصالة الطهارة في الملاقى تتعارض في المرتبة السابقة مع اصالة الطهارة في طرفه الآخر ، ويسقط الأصلان ، وتصل النوبة إلى اصالة الطهارة في الملاقي ، وهو اصل طولي لا معارض له».

(٣) هذا هو الوجه الاوّل في المصدر السابق ذكره ص ٣٠٥ بقوله :

«ما ذكره السيد الاستاذ من التفصيل بين تأخّر العلم بالملاقات عن العلم الاجمالي الاوّل وعدمه ، فلا منجّزية في الاوّل دون الثاني».

٢٣٥

غير تامّ كما تقدّم (١).

الثاني : انّ الرّكن الثالث منهدم لأنّ اصل الطهارة يجري في الثوب بدون معارض ، وذلك لانّه اصل طولي بالنسبة إلى أصل الطهارة في المائع الذي لاقاه الثوب ، ولنسمّه المائع الاوّل ، فأصالة الطهارة في المائع الاوّل تعارض اصالة الطهارة في المائع الآخر ولا تدخل اصالة الطهارة للثوب في هذا التعارض لطوليّتها ، وبعد ذلك تصل النوبة إليها بدون معارض وفقا لما تقدّم (٢) في الحالة الأولى من حالات الاستثناء من تعارض الاصول وتساقطها.

وهذا التقريب ـ إذا تمّ ـ يجري سواء اقترن العلم بالملاقاة مع العلم بنجاسة احد المائعين او تأخّر عنه (٣) ، فالتقريب الثاني إذن اوسع جريانا

__________________

(١) ويكفي أن نقول بأنّ الملاقي يأخذ حكم الملاقى ويتشكّل عندنا علم اجمالي آخر طرفاه الثوب الملاقي والطرف غير الملاقى ، ولا شكّ في أنّ تعارض الاصول المؤمّنة وتساقطها لا يعني انعدام آثارها تماما بهذا التساقط ، بل معنى تساقطها عدم جريانها في احد الاطراف ـ لعدم الترجيح بلا مرجّح ـ ولا في كلّ الاطراف ـ لتعارض جريانها مع العلم الاجمالي ـ ومن هنا تعرف انّ التعبير الادقّ والارجح من تعبير «يتساقطان» هو يتوقّفان عن العمل لكون كلّ أصل مانعا من جريان الاصل الآخر ، وإلّا فمقتضى جريانه لا يزال موجودا.

ولذلك ترى العقلاء يؤمنون بوضوح بمنجّزية العلم الاجمالي الجديد ويجتنبون لبس الثوب الملاقي في الصلاة.

(٢) ص ١٨٥.

(٣) أمّا إذا تأخّر زمانا فالطولية فيها واضحة ، وأمّا إذا اقترنا في الزّمان

٢٣٦

من التقريب الاوّل.

وقد يقال : إنّ هناك بعض الحالات لا يجري فيها كلا التقريبين ، وذلك فيما إذا حصل العلم الاجمالي بنجاسة أحد المائعين بعد تلف المائع الاوّل ثم علم بانّ الثوب كان قد لاقى المائع الاوّل ، ففي هذه الحالة لا يجري التقريب الاوّل لأنّ العلم الاجمالي المتقدّم ليس منجّزا لاختلال الرّكن الثالث فيه كما تقدّم (١) ، فلا يمكن ان يحول دون تنجيز العلم الاجمالي المتأخّر بنجاسة الثوب او المائع الآخر الموجود فعلا ، ولا يجري التقريب الثاني لانّ الاصل المؤمّن في المائع الأوّل لا معنى له بعد تلفه ، وهذا يعني أن الاصل في المائع الآخر له معارض واحد وهو الاصل المؤمّن في الثوب فيسقطان بالتعارض.

ولكن الصحيح ان التقريب الثاني يجري في هذه الحالة أيضا لانّ تلف المائع الأوّل لا يمنع عن استحقاقه لجريان اصل الطهارة فيه ما دام لطهارته اثر فعلا وهو طهارة الثوب ، فاصل الطهارة في المائع الاوّل ثابت

__________________

فلتقدم الاصل الجاري في الملاقى رتبة على الاصل الجاري في الملاقي ، إذ أنّ الاصل الجاري في الملاقى في رتبة الاصل الجاري في غير الملاقى.

وأمّا في التقريب الاوّل فانّ التأخّر كان بلحاظ الزّمان فقط ، ولذلك كان التقريب الثاني اوسع جريانا من التقريب الأوّل.

(١) وبتعبير آخر : ... ليس منجّزا لعدم جريان الأصل المؤمّن في المائع الأوّل لتلفه ، فيجري الأصل المؤمّن الجاري في المائع الثاني والاصل المؤمّن الجاري في الثوب ويتعارضان ويتساقطان ، والنتيجة منجّزية العلم الإجمالي.

٢٣٧

في نفسه ويتولّى المعارضة مع الاصل في المائع الآخر في المرتبة السابقة ويجري الاصل في الثوب بعد ذلك بلا معارض (١).

٧ ـ الشبهة غير المحصورة

إذا كثرت أطراف العلم الاجمالي بدرجة كبيرة سمّيت بالشبهة غير المحصورة (٢) ، والمشهور بين الأصوليين سقوطه عن المنجّزيّة لوجوب الموافقة القطعية ، وهناك من ذهب إلى عدم حرمة المخالفة القطعية.

ويجب ان نفترض عامل الكثرة فقط وما قد ينجم عنه من تأثير في اسقاط العلم الاجمالي عن المنجّزيّة ، دون أن ندخل في الحساب ما قد يقارن افتراض الكثرة من امور اخرى كخروج بعض الاطراف عن محلّ الابتلاء.

وعلى هذا الاساس يمكن ان نقرّب عدم وجوب الموافقة القطعية وجواز اقتحام بعض الأطراف بتقريبين :

__________________

(١) راجع في ذلك البحوث ج ٥ ص ٣١٥ ، الامر الاوّل ، تجد انّ السيد (قده) يرى وجوب الاجتناب عن الطرف الملاقي والطرف غير الملاقى ، وهو الصحيح ، فانّ المتنجس الواقعي يكون مردّدا بين الملاقي (الثوب مثلا) والطرف غير الملاقى ، والعقلاء يرون التنجّز في مثل هذه الحالة ، ويستهجنون من جريان الاصول المؤمّنة في الثوب الملاقي للمائع التالف.

(٢) لا بأس بمراجعة ما في المصباح ج ٢ ص ٣٧٢ لتتعرّف على أهم ما قيل في تعريف الشبهة غير المحصورة ...

٢٣٨

التقريب الأوّل : ان هذا الاقتحام مستند إلى المؤمّن وهو الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالاجمال على الطرف المقتحم ، إذ كلّما زادت اطراف العلم الاجمالي تضاءلت القيمة الاحتمالية للانطباق في كلّ طرف حتى تصل إلى درجة يوجد على خلافها اطمئنان فعلي.

وقد استشكل المحقّق العراقي (١) وغيره باستشكالين على هذا التقريب :

احدهما : محاولة البرهنة على عدم وجود اطمئنان فعلي بهذا النحو ، لأنّ الاطراف كلّها متساوية في استحقاقها لهذا الاطمئنان الفعلي بعدم الانطباق ، ولو وجدت اطمئنانات فعلية بهذا النحو في كل الاطراف لكان ذلك مناقضا للعلم الاجمالي بوجود النجس مثلا في بعضها ، لأنّ السالبة الكليّة التي تتحصّل من مجموع الاطمئنانات مناقضة للموجبة الجزئية التي يكشفها العلم الاجمالي.

والجواب على ذلك (٢) ان الاطمئنانات المذكورة إذا ادّت بمجموعها إلى الاطمئنان الفعلي بالسالبة الكلية فالمناقضة واضحة ولكن الصحيح

__________________

(١) نهاية الافكار القسم الثاني من الجزء الثالث ص ٣٣٠.

(٢) أي والجواب على ذلك أن اطمئناننا بعدم نجاسة هذا الإناء بالذات من بين الألف إناء الذي نعلم بنجاسة واحد منه واطمئناننا بعدم نجاسة الإناء الثاني وعدم نجاسة الثالث ... الخ إذا أدى الى الاطمئنان بعدم نجاسة شيء من الآنية فهو تناقض واضح ، ولكننا حينما ندّعي عدم نجاسة هذا الإناء المعيّن انما ننظر الى خصوص هذا الإناء لا الى مجموع الآنية كي يستشكل علينا بالتناقض والخلف.

٢٣٩

أنّها لا تؤدّي إلى ذلك فلا مناقضة.

وقد تقول : كيف لا تؤدّي إلى ذلك ، أليس الاطمئنان ب (ألف) والاطمئنان ب (باء) يؤدّيان حتما الى الاطمئنان بمجموع «الالف والباء»؟! وكقاعدة عامّة انّ كل مجموعة من الاحرازات (١) تؤدّي إلى احراز مجموعة المتعلقات ووجودها جميعا بنفس تلك الدرجة من الاحراز؟!

ونجيب على ذلك :

أولا : بالنقض ، وتوضيحه انّ من الواضح وجود احتمالات لعدم انطباق المعلوم الاجمالي بعدد اطراف العلم الاجمالي (٢) ، وهذه الاحتمالات والشكوك فعليه بالوجدان ولكنها مع هذا لا تؤدّي بمجموعها إلى احتمال مجموع محتملاتها بنفس الدرجة. فإذا صحّ أن (ألف) محتمل فعلا و (باء) محتمل فعلا ، ومع هذا لا يحتمل بنفس الدرجة مجموع

__________________

(١) هذه الجملة مجرّد إعادة لسابقتها لكن بطريقة كلّية ، فقد قال هنا إن كل مجموعة من الاحرازات ـ ظنا كانت أو اطمئنانا ـ تؤدّي إلى احراز متعلقاتها بنفس تلك الدرجة من الاحراز إن ظنا فظن وإن اطمئنانا فمثله.

(٢) فاذا كان المعلوم النجاسة هو إناء واحد من بين ألف إناء كان احتمال عدم انطباق النجس الواقعي على الإناء (أ) هو ١٠٠٠ / ٩٩٩ ، فالالف هو عدد أطراف العلم الإجمالي. (وعلى أي حال) فلو كان النجس هو واحد من ألف إناء مثلا ، فاحتمال الطهارة في كلّ إناء هو ٩٩٩ / ١٠٠٠ ، ولكن احتمال الطهارة في الاناءين هو ٩٩٨ / ١٠٠٠ واحتمال الطهارة في الأربعمائة ٤٠٠ هو ٦٠٠ / ١٠٠٠ وهكذا ترى انّ احتمال الطهارة يقلّ واحتمال النجاسة ـ في المقابل ـ يزيد حتّى يزول الاطمئنان في البين.

٢٤٠