دروس في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

ـ ٤ ـ

دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي

ونتكلّم في حكم هذا الدوران على عدّة مبان في تصوير التخيير الشرعي الذي هو أحد طرفي الترديد في المقام [والطرف الآخر التعيين].

فأوّلا : نبدأ بالمبنى القائل بان مرجع التخيير الشرعي إلى وجوبين مشروطين وشرط كل منهما ترك متعلق الآخر ، وهذا يعني ان «العتق» مثلا [الذي علم وجوبه إمّا تعيينا او تخييرا] واجب في حالة ترك «الاطعام» بلا شك ، ويشك في وجوبه حالة وقوع الاطعام فتجري البراءة عن هذا الوجوب [التعييني المحتمل] ، وينتج ذلك : التخيير عمليا (١).

وقد يقال ـ كما في بعض افادات المحقق العراقي (٢) ـ : إن كلّا من الوجوب التعييني للعتق والوجوب التخييري فيه حيثية الزامية يفقدها

__________________

(١) فرض المثال كون الواجب مردّدا بين العتق على نحو التعيين أو احد المذكورين (العتق او الاطعام) على نحو التخيير.

ولا شك في ان كون المتعلّق واجبا على نحو التعيين أشدّ مئونة وكلفة في عالمي الجعل والامتثال من كونه واجبا على نحو التخيير ، فانه ايسر واسهل فيهما.

وانما قال «عمليا» لانّ البراءة إذا اثبتنا بها التخيير ستكون بلا شك اصلا مثبتا ، وهروبا من هذا الإشكال قال ان اجراء البراءة عن الزائد هنا سيؤدّي ـ عمليا وتلقائيا ـ إلى التخيير.

(٢) نهاية الافكار القسم الثاني من الجزء الثالث ص ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

٣٢١

الآخر ، فيكون كل منهما مجرى للأصل النافي ويتعارض الاصلان.

اما الحيثيّة الالزامية في الوجوب التعييني للعتق التي يجري الأصل النافي للتأمين عنها فهي الالزام بالعتق حتّى ممن أطعم ، وهي حيثية لا يشتمل عليها الوجوب التخييري.

وأمّا الحيثية الالزامية في الوجوب التخييري للعتق او الاطعام التي يجري الاصل النافي للوجوب التخييري تأمينا عنها فهي تحريم ضمّ ترك الاطعام إلى ترك العتق ، إذ بهذا الضمّ تتحقق المخالفة ، وهي حيثية لا يشتمل عليها الوجوب التعييني للعتق ، إذ على الوجوب التعييني تكون المخالفة متحقّقة بنفس ترك العتق ، ولا يكون هناك بأس في ضمّ ترك الاطعام إلى ترك العتق ، لأنّه من ضمّ ترك المباح إلى ترك الواجب ، فالبراءة عن وجوب العتق ممّن أطعم (١) معارضة بالبراءة عن حرمة ترك الاطعام ممن ترك العتق.

وهذا البيان ـ وإن كان يثبت علما إجماليا بإحدى حيثيتين إلزاميّتين (*) ـ ولكن هذا العلم غير منجّز بل منحل حكما لجريان البراءة

__________________

(١) اي انّ البراءة عن الخصوصية التعيينية معارضة بالبراءة عن الخصوصيّة التخييريّة التي هي تحريم ضمّ ترك الاطعام إلى ترك العتق.

__________________

(*) الصحيح ان بيان المحقّق العراقي لا يثبت علما إجماليا وانما الذي أوهم بوجود علم إجمالي هو التلاعب بالالفاظ ، وحقيقة الأمر. سواء كان وجوب العتق تخييريا او تعيينيا. لا يحرم ترك الاطعام لوحده ، وايضا سواء كان الوجوب تخييريا أو تعيينيا يحرم ضمّ ترك الاطعام إلى ترك العتق ، لأنّ حرمة هذا الضمّ نشأت مما سيترتب على هذا الضمّ من ترك الطرفين ليس إلّا ، إذن لا خصوصيّة زائدة على فرض التخييرية كي يحصل علم إجمالي.

٣٢٢

الاولى (١) وعدم معارضتها بالبراءة الثانية ، لأنّ فرض جريانها (٢) هو فرض وقوع المخالفة القطعية ، ولا يعقل التأمين مع المخالفة القطعية بخلاف فرض جريان البراءة الاولى ، فانّه فرض المخالفة الاحتمالية.

وثانيا : نأخذ المبنى القائل بان مرجع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي (٣) ، والحكم حينئذ هو الحكم في المسألة السابقة فيما إذا دار الواجب بين اكرام زيد مطلقا وإطعامه خاصّة (٤).

وثالثا : نأخذ المبنى القائل (٥) بأن مرجع الوجوب التخييري إلى

__________________

(١) وهي البراءة عن «وجوب العتق ممّن أطعم» وهي البراءة عن الخصوصيّة التعيينية.

(٢) اي لان فرض جريان البراءة الثانية (التي هي البراءة عن «تحريم ضم ترك الاطعام إلى ترك العتق») هو فرض وقوع المخالفة القطعية.

وهذا اعتراف من السيد المصنّف ان متعلّق التحريم على فرض التخيير هو مجموع التركين ، ومجموع التركين كما تعلم محرّم على كلا الفرضين ، فلم تثبت خصوصية زائدة على فرض التخييرية فلم يحصل علم إجمالي.

(٣) وهو مختار جملة من المحققين ، وقد ذكرنا في محلّه هذا المبنى وبرهنّا عليه ، وقلنا هناك إن مصاديق الإطعام والعتق والصيام ترجع الى جامع واحد وهو مثلا كفارة ذات هذا المستوى المعيّن ، وإلّا لما خيّرنا المولى تعالى بين خصوص هذه الخصال الثلاث.

(٤) وهو أنه في هذه الحالة تجري البراءة ، وذلك لكون الداخل في العهدة إما خصوص العتق وإمّا إحدى الخصال الثلاث ، والأقلّ هو التخيير ، فتجري البراءة عن خصوصيّة التعيين.

(٥) هذا مبنى صاحب الكفاية (راجع تقريرات السيد الهاشمي ج ٥ ص ٣٥٦).

٣٢٣

وجود غرضين لزوميّين للمولى غير انّهما متزاحمان في مقام التحصيل ، بمعنى أنّ استيفاء احدهما يعجّز المكلّف عن استيفاء الآخر (١) ، ومن هنا (٢) يحكم بوجوب كلّ من الفعلين مشروطا بترك الآخر ، والحكم هنا أصالة الاشتغال ، لان مرجع الشك في وجوب العتق تعيينا او تخييرا حينئذ إلى الشك في ان الاطعام هل يعجّز (٣) عن استيفاء الغرض اللزومي من العتق ، فيكون من الشك في القدرة الذي تجري فيه اصالة الاشتغال (*).

__________________

(١) لأنّ الغرض اللزومي قد ارتفع ، كما لو امر المولى عبده بان يطعم الفقير او يعطيه ما لا يكفيه لشراء طعام ، فإنّه باعطائه المال يكون الغرض اللزومي قد ارتفع تكوينا فلا يمكن ادراكه مرّة ثانية بالاطعام ، لأنّ الغرض ـ مثلا ـ كان رفع حاجته وقد ارتفعت بالاعطاء.

(٢) اي بسبب العجز عن تحصيل كلا الملاكين.

(٣) بمعنى ان الاطعام هل رفع الغرض اللزومي بحيث لا يمكن تحصيله بالعتق ، او ان الغرض اللزومي لا يزال باقيا ولا يرتفع إلّا بالعتق؟ ولا شك هنا ان المورد هو من باب الشك في القدرة على تحصيل الغرض اللزومي ، وفي مثل ذلك يحكم العقل بالعتق ليحصل عنده العلم

__________________

(*) وقد أيّد سيّدنا الشهيد رحمه‌الله جريان الاشتغال في هذا المورد بناء على صحّة هذا المبنى ، ولكنه (رضي الله عنه) لا يؤيد هذا المبنى ويخرج بالقول بالانحلال الحكمي على أساس أن البراءة تجري عن خصوصية التعيين بلا معارض.

(سؤال للطالب) في مسألتنا هذه ـ وهي مسألة دوران الامر بين التعيين والتخيير الشرعي ـ وجهان ، وجه يقول بالبراءة عن خصوص التعيين لانه اقل مئونة في عالم الجعل ، ووجه يقول بوجوب الاحتياط لأنّ للمولى تعالى غرضا يريد ان يحصّله ، ولا ندري إذا اطعمنا ولم نعتق هل حقّقنا الغرض الالهي ام لا ، فما رأيك انت بين هذين الوجهين؟

٣٢٤

ـ ٥ ـ

ملاحظات عامّة حول الاقلّ والاكثر

فرغنا من المسائل الاساسيّة في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيّين ، وبقي علينا ان نذكر في ختام مسائل هذا الدوران ملاحظات عامّة حول الأقل والأكثر :

__________________

بالفراغ وحصول الغرض ، أو قل نستصحب بقاء القدرة على تحصيل الغرض الواقعي(* ١).

__________________

(* ١) (ملاحظة) لعلّك لاحظت هنا ان محور كلامهم. على المبنى الثالث. هو حصول الغرض اللزومي ، وهذا يعني انّه هناك غرض واحد يلزم تحصيله ، هذا الغرض الواحد هو. في الحقيقة ـ ملاك الجامع الذي نقول به ، ولهذا الجامع مصاديق وهي الخصال الشرعية ... ولهذا قلنا بأن مرجع التخيير الشرعي الى التخيير العقلي. على ايّ حال كلامهم انه يجب تحصيل الغرض ... هو كلام عجيب فعلا ، فلو اردنا ان نحقّق دائما الغرض الالهي المحتمل لما اجرينا البراءة الشرعية قط ، فنحن علينا كعبيد ان نمشي طبق وظيفتنا الشرعية فقط ، فحينما نشك بين التخيير والتعيين علينا ان نرجع الى قوله تعالى (لا يكلّف الله نفسا إلّا ماءاتاها) و (وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولا) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «رفع عن امتي ما لا يعلمون» ونحن لا نعلم بمطلوبية الزائد وهو خصوص التعيين فتجري البراءة عن هذه المئونة الزائدة المحتملة مع العلم ـ كما قلنا قبل قليل ـ ان مرجع الخصال الشرعية الى جامع واحد ، والتردّد انما هو بين هذا الجامع المريح وبين خصوص العتق. ومن هنا تعرف عدم وجود فرق بين التعيين والتخيير العقلي والتعيين والتخيير الشرعي.

٣٢٥

١ ـ دور الاستصحاب في هذا الدوران :

قد يتمسك بالاستصحاب في موارد هذا الدوران تارة لاثبات وجوب الاحتياط واخرى لاثبات نتيجة البراءة.

أمّا التمسك به على الوجه الأوّل فبدعوى انّا نعلم بجامع وجوب مردّد بين فردين من الوجوب وهما وجوب التسعة ووجوب العشرة ، ووجوب التسعة يسقط بالاتيان بالأقل ووجوب العشرة لا يسقط بذلك ، فإذا أتى المكلّف بالأقل ، شك في سقوط الجامع وجرى استصحابه ، ويكون من استصحاب القسم الثاني من الكلّي (١).

والجواب على ذلك ان استصحاب جامع الوجوب إن اريد به إثبات وجوب العشرة لأنّ ذلك هو لازم بقائه ، فهذا من الاصول المثبتة ، لأنّه لازم عقلي لا يثبت بالاستصحاب ، وإن (٢) أريد به الاقتصار على إثبات

__________________

(١) سيأتي في هذه الحلقة ج ٤ ص ١٨٣ تحت عنوان الحالة الثانية ومثالها ما إذا علم بوجود أحد شخصين ـ زيد أو عمرو ـ في المسجد ثم شك في بقائه سواء كان زيدا أو عمروا فهنا يجري استصحاب الجامع إذا كان الأثر الشرعي مترتبا عليه.

(٢) مراد السيد الشهيد (قده) في هذا الفرض الثاني ان يقول : اننا إذا استصحبنا بقاء الجامع فهذا الاستصحاب لا يزيد على العلم الوجداني بهذا الجامع ، وانت خبير بان المراد بالجامع هو احدهما.

وينبغي ان يلتفت إلى ان السيد (قده) لم يثبت كفاية الأقلّ في المقام ، وذلك لكونه في مقام إبطال استصحاب الجامع فقط ، وإلّا فانه وان ارتفع الجامع وجدانا لكن ليس ارتفاع الجامع هو المناط في ارتفاع التكليف ـ بعد العلم بثبوته ـ فلا بدّ لنا لنرفع التكليف من اثبات الانحلال الحقيقي بلحاظ

٣٢٦

جامع الوجوب ، فهذا لا أثر له ، لأنّه لا يزيد على العلم الوجداني بهذا الجامع ، وقد فرضنا ان العلم به لا ينجّز سوى الأقل ، والأقل حاصل في المقام بحسب الفرض.

وامّا التمسّك به على الوجه الثاني فباستصحاب عدم وجوب الزائد الثابت قبل دخول الوقت أو في صدر عصر التشريع (١) ، ولا يعارض باستصحاب عدم الوجوب الاستقلالي للأقلّ ، إذ لا أثر لهذا الاستصحاب لأنّه إن اريد به اثبات وجوب الزائد بالملازمة فهو مثبت ، وإن اريد به التأمين في حالة ترك الاقلّ فهو غير صحيح (٢) ، لأنّ فرض ترك الاقلّ هو (٣)

__________________

الجامع وقد اثبتناه سابقا ويبقى الزائد مشكوكا فيه فتجري فيه البراءة.

(١) أو قبل البلوغ او قبل الاستطاعة بالنسبة إلى الحج ونحو ذلك.

(٢) قد تكرّر ذكر هذا البرهان اخيرا عدّة مرّات بصيغ مختلفة ، ونعيده رغم وضوحه : ... إذ لا يصحّ استصحاب عدم وجوب الأقلّ لأنه إن أريد به إثبات وجوب الاكثر أو الزائد فهو أصل مثبت (وذلك لأن استصحاب عدم وجوب الاقلّ إنما يفيدنا جواز ترك الاقلّ فقط ، وانما نستفيد عدم وجوب الزائد بالملازمة بين عدم وجوب الاقلّ ووجوب الأكثر إذ أن أحدهما إمّا الاقلّ وإما الاكثر واجب فاذا لم يجب الاقلّ وجب الأكثر لا محالة ، وهذا أصل مثبت بوضوح إذ من قال إنّ الله تعالى إذا تعبّدنا بعدم وجوب الاقلّ قد تعبّدنا بوجوب الأكثر؟! على انّ عدم وجوب الاكثر لم يثبت الّا بتوسط ملازمة عقلية بين عدم وجوب الاقلّ ووجوب الاكثر) ، وإن أريد به التأمين في حالة ترك الاقلّ مطلقا حتى ضمن الاكثر فهي المخالفة القطعية ، إذن لا يجري استصحاب عدم وجوب الاقلّ سواء كان هذا الوجوب استقلاليا أم ضمنيّا ويجري الاستصحاب عن وجوب الزائد بلا معارض.

٣٢٧

فرض المخالفة القطعية ، ولا يصحّ التأمين بالاصل العملي إلّا عن المخالفة الاحتمالية.

٢ ـ الدوران بين الجزئية والمانعية :

إذا تردّد أمر شيء بين كونه جزء من الواجب أو مانعا عنه (١) فمرجع ذلك إلى العلم الاجمالي بوجوب زائد متعلّق إمّا بالتقيد بوجود ذلك الشيء أو بالتقيد بعدمه ، وفي مثل ذلك يكون هذا العلم الاجمالي منجّزا ، وتتعارض أصالة البراءة عن الجزئية مع أصالة البراءة عن المانعيّة ، فيجب على المكلّف الاحتياط بتكرار العمل مرّة مع الاتيان بذلك الشيء ومرّة بدونه ، هذا فيما إذا كان في الوقت متّسع وإلّا جازت المخالفة الاحتمالية بملاك الاضطرار وذلك بالاقتصار على أحد الوجهين.

وقد يقال : إنّ العلم الاجمالي المذكور غير منجّز ولا يمنع عن جريان البراءتين معا ـ بناء على بعض صيغ الركن الرابع لتنجيز العلم الاجمالي [وهي صيغة الميرزا القائلة بانّ تعارض الاصول مرهون بأداء جريانها الى الترخيص عمليا في المخالفة القطعيّة] ـ فانّ جريان الاصول في المقام لا يؤدي الى ذلك ، لأن المكلّف لا تمكنه المخالفة القطعية للعلم الاجمالي المذكور ، إذ في حالة الاتيان بالشيء المردّد بين الجزء والمانع يحتمل الموافقة ، وفي حالة تركه يحتملها ايضا ، فلا يلزم من جريان الاصلين معا ترخيص في المخالفة القطعية (*).

__________________

(١) كالركعتين الاخيرتين في الصلاة إذا شك في جزئيتهما أو في مانعيتهما.

__________________

(*) قد ذكرنا في تعليقتنا في آخر الاركان الاربعة عدم صحّة مبنى الميرزا (قده) وانّ

٣٢٨

فإن قيل : ألا تحصل المخالفة القطعية لو ترك المركّب رأسا؟

قلنا : نعم تحصل ، ولكن هذا مما لا إذن فيه من قبل الأصلين حتّى لو جريا معا.

ولكن يمكن ان يقال على ضوء صيغة الميرزا : ان المخالفة القطعية للعلم الاجمالي المذكور ممكنة أيضا فيما إذا كان الشيء المردّد بين الجزء والمانع متقوّما بقصد القربة على تقدير الجزئية ، فانّ المخالفة القطعية حينئذ تحصل بالاتيان به بدون قصد القربة ، ويكون جريان الأصلين معا مؤدّيا الى الاذن في ذلك ، فيتعارض الاصلان (*) ويتساقطان.

٣ ـ الاقل والاكثر في المحرّمات :

كما قد يعلم اجمالا بواجب مردّد بين التسعة والعشرة كذلك قد يعلم بحرمة شيء مردّد بين الاقل والاكثر ، كما إذا علم بحرمة تصوير رأس الحيوان او تصوير كامل جسده (١) ، ويختلف الدوران المذكور في

__________________

(١) في النسخة الاصلية قال بدل «جسده» حجمه ، وما أثبتناه أولى.

__________________

المناط في جريان الاصول المؤمّنة في الاطراف هو عدم حصول استهجان عقلائي من جريانها كما لو قلّت اطراف الحرام كثيرا بالنسبة الى الاطراف المحلّلة ، وليس المناط عدم القدرة على المخالفة القطعية ، وجريان الاصل المؤمّن في الحالة المفروضة موضع استهجان واستغراب لدى العقلاء ، ولذلك يلزمه الاحتياط بتكرار الصلاة كما ذكر السيد رحمه‌الله في اوّل هذه المسألة.

(*) كان ينبغي ان يقال : فلا تجري الاصول المؤمّنة حينئذ ، لا انها تجري فتتعارض وتتساقط. فانه لا معنى ثبوتا لجريانهما ثم تساقطهما لأنّ جريانهما ح لغو محض.

٣٢٩

باب الحرام عنه في باب الواجب من بعض الجهات :

فأوّلا : وجوب الاكثر هناك كان هو الاشدّ مئونة ، وأمّا حرمة الاكثر (١) هنا فهي الاخفّ مئونة ، إذ يكفي في امتثالها ترك أيّ جزء ، فحرمة الاكثر في باب الحرام تناظر إذن وجوب الاقلّ في باب الواجب.

وثانيا : إنّ دوران الحرام بين الأقلّ والأكثر يشابه دوران امر الواجب بين التعيين والتخيير ، لأن حرمة الاكثر [اي كل الجسد] في قوّة وجوب ترك احد الاجزاء تخييرا ، وحرمة الاقلّ [اي حرمة رسم خصوص الرأس] في قوة وجوب ترك هذا الجزء بالذات تعيينا ، فالأمر دائر بين وجوب ترك احد الاجزاء ووجوب ترك هذا الجزء بالذات [وهو الرأس] ، وهذا يشابه دوران الواجب بين التعيين والتخيير لا الدوران بين الاقلّ والاكثر في الاجزاء أو الشرائط (٢).

__________________

(١) تصوير كامل الجسد (وهو الاكثر) أخفّ مئونة بالنسبة الى الرسّام ، لانه اذا حرم عليه تصوير كامل الجسد فيبقى له مجال واسع لرسم الانسان ولو ثلاثة ارباعه المهمة التي منها الرأس والصدر ، وأمّا تصوير خصوص الرأس (وهو الاقل) فهو الأكثر مئونة فانه اذا حرم رسم الرأس فانه يحرم مطلقا سواء مع البدن أو لوحده وهو تقييد للرسّام بل إلغاء لمهنة رسم الانسان عمليا بالنسبة له لانّ اهم جزء هو الرأس. راجع ان شئت تقريرات السيد الهاشمي ج ٥ ص ٣٦٢.

(٢) بيان المطلب : ان حرمة الاكثر (والتي هي حرمة تصوير مجموع الجسد) في قوّة وجوب ترك أيّ جزء (ولم يقل تعني وجوب .. وذلك لأن النهي عند السيد (قده) «ليس طلبا للترك ولا للكفّ» راجع إن شئت الحلقة الثانية بحث النهي) وحرمة الأقل في قوّة وجوب ترك خصوص تصوير الرأس بنحو التعيين ، ومن هنا تعرف ان هذا الدوران

٣٣٠

والحكم هو جريان البراءة عن حرمة الأقلّ (١) ، ولا تعارضها البراءة عن حرمة الاكثر ، بنفس البيان (٢) الذي جرت بموجبه البراءة عن الوجوب التعييني للعتق بدون أن تعارض بالبراءة عن الوجوب التخييري.

٤ ـ الشبهة الموضوعية للأقل والأكثر :

كما يمكن افتراض الشبهة الحكمية للدوران بين الأقل والأكثر كذلك يمكن افتراض الشبهة الموضوعية ، بأن يكون مردّ الشك إلى الجهل بالحالات الخارجية لا الى الجهل بالجعل ، كما إذا علم المكلّف بأنّ ما لا يؤكل لحمه مانع في الصلاة وشك في انّ هذا اللباس هل هو مما لا يؤكل لحمه أو لا ، فتجري البراءة عن مانعيّته أو (٣) عن وجوب تقيد

__________________

يشابه دوران الواجب بين التعيين والتخيير بلا فرق ، ولا يدخل تحت حالة الدوران بين الأقل والاكثر لانعكاس الأقلّ والاكثر في المحرّمات مقابل الاقل والاكثر في الواجبات.

(١) وهو تصوير خصوص الرأس لانه ذو مئونة زائدة.

(٢) وقد مرّ نظيره سابقا مرّات ونعيده هنا للتذكّر فنقول :

إن جريان البراءة عن الاكثر (إن) كان يراد به اثبات حرمة الاقل (أي اثبات حرمة تصوير خصوص الرأس) فهو اصل مثبت.

(وإن) كان يراد به الترخيص في تصوير مجموع الجسد فهو محال ، لأنّه ترخيص في المخالفة القطعية ، فان القدر المتيقن من التصوير المحرّم هو تصوير مجموع الجسد.

(٣) يصحّ أن يريد من العطف ب «أو» معنى العطف التفسيري ، بمعنى ان وجوب تقيّد الصلاة بعدم هذا اللباس (المشكوك المانعية) ارشاد الى المانعية ، وقد يريد منه معنى عطف الغير على الغير ، فيكون المراد من

٣٣١

الصلاة بعدمه بتعبير آخر.

وقد يقال ـ كما عن الميرزا (قدس‌سره) (١) ـ : إن الشبهة الموضوعية للواجب الضمني لا يمكن تصويرها إلّا إذا كان لهذا الواجب تعلّق بموضوع خارجي كما في هذا المثال (٢).

ولكن الظاهر إمكان تصويرها في غير ذلك أيضا ، وذلك بلحاظ حالات المكلّف نفسه (٣) ، كما إذا فرضنا ان السورة كانت واجبة على غير

__________________

وجوب تقيّد الصلاة بعدم هذا اللباس معنى الوجوب التكليفي ـ لا الوجوب الإرشادي الى المانعية ـ فعلى هذا المعنى الثاني يكون لبس ما لا يؤكل لحمه حراما تكليفا وليس مبطلا للصلاة.

(١) فوائد الاصول ج ٤ ص ٢٠٠

(٢) أي وقد يقال ـ كما عن المحقق النائيني رحمه‌الله ـ ان الشبهة الموضوعيّة للواجب الضمني (كاللباس المشروط بشرائط معيّنة) لا يمكن تصويرها الّا اذا كان لهذا الواجب كالصلاة تعلّق بموضوع خارجي كاللباس وشك في طبيعة هذا اللباس مثلا هل انه مما يؤكل لحمه أم لا؟

(٣) أي ولكن الظاهر إمكان تصوير الشبهة الموضوعيّة للواجب الضمني في غير ما اذا كان الشك في موضوع خارجي (كاللباس والوقت والبلوغ وغيرها من مقدمات الواجب ومقدّمات الوجوب) وذلك كما اذا فرضنا ان السورة بعد الفاتحة ساقطة عن المريض وشك المكلّف في مرضه فانه سيشك لا محالة بنحو الشبهة الموضوعية بين الاقل (وهو الصلاة من دون السورة) والاكثر (وهو الصلاة مع السورة) وتجري البراءة عن الزائد مع ان أجزاء الواجب ليست من قيوده (*)

__________________

(*) (واجاب) استاذنا السيد الهاشمي في تعليقته على هذا الكلام في تقريراته (ج ٥

٣٣٢

المريض في الصلاة وشك المكلّف في مرضه ، فإنّ هذا يعني الشك في جزئية السورة مع أنّها واجب ضمني لا تعلّق له بموضوع خارجي ، والحكم هو البراءة.

__________________

ص ٣٦٥) بجواب جيّد فقال : «لعلّ مقصود الميرزا (قده) تطبيق ما تقدّم منه في بحث «جريان البراءة في الشبهة الموضوعية» من عدم تعقّل الشك بنحو الشبهة الموضوعية من ناحية متعلّق الحكم ، بل لا بد وان يكون منشأ الشك اشتباه متعلّق المتعلّق أو قيود الحكم فلا يرد عليه الاعتراض المذكور كما لا يخفى» انتهى كلامه.

وبيان كلامه (حفظه الله) باختصار انه لا يتعقل ان يأمرنا الشارع المقدس بامر لا نعرفه خارجا ، فمثلا إذا قال صلّ ، صم ، لا تكذب ، لا تسرق ... فمتعلّقات الاحكام هذه يلزم ان تكون واضحة بتفهيم من الشارع وإلّا فما معنى ان يأمرنا بمتعلّق (كالصلاة) لا نعرفه؟! بل لا بد وان يكون منشأ الشك الموضوعي الجهل بمتعلّق المتعلق كالفقير في أطعم فقيرا ، أو بقيود الحكم كالبلوغ ودخول الوقت وحصول الاستطاعة ونحو ذلك ، فالصلاة والصيام ونحوهما وإن كان قد يحصل في بعض حدودهما شك لكن هذا الشك انما يكون شكا في الشبهة الحكمية ، لا في الشبهة الموضوعية ، وأمّا الشك في فقر زيد أو في بلوغه أو في استطاعته ومرضه فهو شك موضوعي ، اي شك في مرحلة الامتثال لا في مرحلة الجعل.

وأمّا المثال الذي طرحه السيد الشهيد فالشك في جزئية السورة فيه منشؤه حالات المكلّف وهي بمثابة الشك في حصول الاستطاعة للحج ، وليس الشك هنا في وجوب السورة مطلقا ، فالشبهة هنا في الواقع انما هي في حالة المكلّف (وهي من قيود الحكم) وهي شبهة موضوعية وليست الشبهة في وجوب السورة عليه إلّا ثانيا وبالعرض ، (فاذا عرفت) ان مراد المحقق النائيني من الموضوع الخارجي ما يشمل حالات المكلّف كالبلوغ والاستطاعة والمرض ونحوها تعرف انه لا يبقى هناك داع لاشكال سيّدنا الشهيد على المحقق النائيني.

٣٣٣

٥ ـ الشك في اطلاق دخالة الجزء او الشرط :

كنا نتكلّم عمّا إذا شك المكلّف في جزئية شيء أو شرطيّته مثلا للواجب ، وقد يتّفق العلم بجزئيّة شيء أو دخالته في الواجب بوجه من الوجوه (١) ولكن يشك في شمول هذه الجزئية لبعض الحالات ، كما إذا علمنا بأن السورة جزء في الصلاة الواجبة وشككنا في إطلاق جزئيّتها لحالة المرض او السفر ، ومرجع ذلك إلى دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر بلحاظ هذه الحالة بالخصوص ، فإذا لم يكن لدليل الجزئية إطلاق لها وانتهى الموقف إلى الاصل العملي جرت البراءة عن وجوب الزائد في هذه الحالة ، وهذا على العموم لا إشكال فيه ، ولكن قد يقع الاشكال في حالتين من هذه الحالات وهما :

. حالة الشك في إطلاق الجزئية (٢) لصورة نسيان الجزء.

. وحالة الشك في اطلاق الجزئية لصورة تعذّره.

ونتناول هاتين الحالتين فيما يلي تباعا :

(أ) الشك في الاطلاق لحالة النسيان :

إذا نسي المكلّف جزء من الواجب فأتى به بدون ذلك الجزء ثم التفت بعد ذلك إلى نقصان ما أتى به ، (فإن) كان لدليل الجزئية اطلاق

__________________

(١) اي وقد يتّفق العلم بجزئية شيء أو شرطيته أو مانعيّته.

(٢) البحث هنا هو في الجزء والشرط ، وذكر الجزئية هنا دون الشرطية إمّا نسيانا وإمّا لوحدة المناط فيهما.

٣٣٤

لحال النسيان (١) اقتضى ذلك بطلان ما أتى به لأنّه فاقد للجزء ، من دون فرق بين افتراض ارتفاع النسيان في اثناء الوقت وافتراض استمراره إلى آخر الوقت ، وهذا هو معنى ان الاصل اللفظي في كلّ جزء يقتضي ركنيّته ، اي بطلان المركب بالاخلال به [حتى] نسيانا.

(وأمّا) إذا لم يكن لدليل الجزئية إطلاق (٢) وانتهى الموقف إلى الأصل العملي ، فقد يقال بجواز اكتفاء النّاسي بما أتى به ، لأنّ المورد من موارد الدوران بين الأقل والأكثر بلحاظ حالة النسيان ، والأقل واقع والزائد منفي بالأصل.

وتوضيح الحال في ذلك : ان النسيان تارة يستوعب الوقت كله ، واخرى يرتفع في اثنائه.

ففي الحالة الاولى لا يكون الواجب بالنسبة إلى النّاسي مردّدا بين الأقل والأكثر ، بل لا يحتمل التكليف بالأكثر بالنسبة إليه ، لأنّ النّاسي لا

__________________

(١) كالركوع والسجود كما في صحيحة زرارة عن ابي جعفر عليه‌السلام انه قال : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود» فان دليل جزئية الركوع مطلق حتى لحال النسيان بحيث اذا نسيه بطلت صلاته.

(٢) كما لو سأل سائل الامام كيف اصلّي فقال تنوي وتكبّر وتقرأ فاتحة الكتاب .. إلخ فإنّ الأمر بفاتحة الكتاب هنا ناظر إلى وجوبها بالعنوان الأوّلي ، وليست في مقام بيان وجوبها مطلقا حتّى في حالة النسيان. مثال آخر : كما لو ثبت وجوب السورة بالاجماع مثلا ، وشككنا في وجود اجماع على وجوبها مطلقا حتى في حال النسيان ، وليس للإجماع اطلاق لكونه دليلا لبّيا.

٣٣٥

يكلّف بما نسيه على أيّ حال ... (١) بل هو يعلم إمّا بصحّة ما أتى به أو بوجوب القضاء عليه ، ومرجع هذا إلى الشك في وجوب استقلالي جديد وهو وجوب القضاء ، فتجري البراءة عنه (٢) حتّى لو منعنا من البراءة في موارد دوران الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

وأمّا في الحالة الثانية فالتكليف فعلي في الوقت ، غير انّه متعلّق إمّا بالجامع الشامل (٣) للصلاة الناقصة الصادرة حال النسيان أو بالصلاة التامّة فقط ، والأوّل معناه اختصاص جزئية المنسي بغير حال النسيان ، والثاني معناه اطلاق الجزئية لحال النسيان ، والدوران بين وجوب الجامع ووجوب الصلاة التامّة تعيينا هو من انحاء الدوران بين الأقل والأكثر ، ويمثّل الجامع فيه الأقلّ ، وتمثّل الصلاة التامّة الاكثر ، وتجري البراءة وفقا للدوران المذكور.

__________________

(١) إمّا منّا لحديث الرفع اذ فيه رفع عن أمتي ... النسيان وإمّا استحقاقا لعدم كونه مقدورا.

(٢) اي فتجري البراءة من وجوب القضاء لانه وجوب استقلالي مشكوك الحدوث ، أو قل : هل تولّد أمر جديد بالقضاء ام لا؟ لا ندري ، لذلك تجري البراءة.

(٣) يقصد : الجامع الذي هو مفهوم إحدى الصلاتين ولك ان تقول ان الجامع هنا هي الصلاة الناقصة لانها هي الجامع المشترك بين التامّة والناقصة ، او قل : صحيح انّ الجامع هو «إحدى الصلاتين» ولكن يمكن تحقيق هذا الجامع بالصلاة الناقصة. على ايّ حال هذا الفرض هو الاقل لانه يكتفى بالصلاة الناقصة ، وقوله «او بالصلاة التامّة فقط» اي الصلاة المعادة هو الطرف الاكثر ، أو قل انه على هذا الفرض تجب الاعادة.

٣٣٦

ولكن قد يقال ـ كما في إفادات الشيخ الانصاري (١) وغيره ـ بأنّ هذا إنّما يصحّ فيما إذا كان بالامكان ان يكلّف الناسي بالاقلّ ، فإنّه يدور عنده امر الواجب حينئذ بين الأقل والأكثر ، ولكن هذا غير ممكن لأنّ التكليف بالأقلّ إن خصّص بالنّاسي فهو محال لأنّ الناسي لا يرى نفسه ناسيا ، فلا يمكن لخطاب موجّه إلى الناسي ان يصل إليه ، وإن جعل على المكلّف عموما شمل المتذكّر أيضا مع أنّ المتذكّر لا يكفي منه الاقلّ بلا إشكال ، وعليه فلا يمكن ان يكون الأقلّ واجبا في حقّ الناسي ، وإنّما المحتمل إجزاؤه عن الواجب ، فالواجب إذن في الأصل هو الأكثر ويشك في سقوطه بالأقلّ ، وفي مثل ذلك لا تجري البراءة.

والجواب : إنّ التكليف بالجامع (٢) يمكن جعله وتوجيهه إلى طبيعي المكلّف ، ولا يلزم منه جواز اقتصار المتذكّر على الأقلّ ، لأنّه جامع بين الصلاة الناقصة المقرونة بالنسيان والصلاة التامّة ، كما لا يلزم منه عدم إمكان الوصول إلى النّاسي ، لأنّ موضوع التكليف هو طبيعي المكلّف ، غاية ما في الأمر أنّ النّاسي يرى نفسه آتيا بأفضل الحصّتين من الجامع مع أنّ ما يقع منه هو (٣) أقلّهما قيمة ، ولا محذور في ذلك.

__________________

(١) راجع فرائد الاصول ص ٤٨٣ ـ ٤٨٤.

(٢) اي بإحدى الصلاتين.

(٣) في النسخة الأصليّة «.. مع أنّه إنّما تقع منه اقلّهما ...» وما اثبتناه أولى.

وعلى اي حال فبيان جواب السيد الشهيد (قده) هو انّ متعلّق التكليف ـ في اللوح المحفوظ ـ هو الجامع بين الصلاة الناقصة لخصوص الناسي والصلاة التامّة للمتذكّر

٣٣٧

__________________

والمراد ب «طبيعي المكلّف» هو المكلّف المطلق من قيديّة المتذكّر والنّاسي ، أي مع غضّ النظر عن هاتين الصفتين ، فكأن الخطاب في اللوح المحفوظ هكذا : المكلّف مطلوب منه احدى الصلاتين : التامّة إن كان متذكرا أو الناقصة إن كان ناسيا(*)

__________________

(*) لم يذكر سيدنا الشهيد رحمه‌الله عبارة الخطاب في هذا الجواب ، وذلك للتسليم بعدم امكان مخاطبة الناسي ، فلا يقال : يا ناسي قراءة السورة أنت مكلّف بالأقلّ ، ولعلّه رحمه‌الله لانه يؤمن بان حكم الناسي ليس بنحو الخطاب وانما هو بنحو الاسقاط كأن يقال مثلا : الانسان مكلّف بما يتذكّره من الصلاة. وسيدنا الشهيد وإن لم يذكر هذا الكلام في هذه الحلقة الّا أنه ذكره في تقريرات السيد الهاشمي ج ٥ ص ٣٦٩ ، قال" أن يجعل على كل مكلف الاتيان بما يتذكر من الاجزاء ، فيتحرّك كلّ مكلّف نحو المقدار الملتفت إليه والذي يختلف من شخص إلى آخر بمقدار تذكّره ، وكلّ مكلّف يتخيل أنه تام التذكّر والالتفات ، وعلى كل حال يكون الانبعاث أيضا من الأمر الواحد المتعلّق بالجامع ، والوجهان يرجعان روحا إلى امر واحد وهو الخطاب بالجامع ، وإنّما يختلفان في كيفية صياغة الجامع المتعلّق به الأمر" انتهى ، وهذا يعني ان هذا الجامع المتصوّر هو ما يتذكّره المكلّف وكأنّ الأمر يكون بالشكل التالي : ائت بما تتذكّره من الصلاة التامّة ، (أقول) وهذا يعني ان الانبعاث سيكون ناتجا عن الأمر بما يتذكره المكلّف وهذا الجواب خير مما ذكره في هذه الحلقة إذ اننا لم نتعقل جامعا بين صلاة المتذكّر وصلاة الناسي الّا الصلاة الناقصة ، وهذه الصلاة الناقصة غيّر كافية من المتذكّر. (فان قلت) الجامع هو «احدهما» بمعنى ان كنت متذكّرا فصل التامّة وان كنت ناسيا فأت بما تتذكّر (قلت) هذا ليس جامعا وانما هذان متعلّقان لمكلّفين.

* * *

(وعند ما وصلت إلى هذا البحث سمعنا بوفاة المرجع الكبير السيد الگلپايگاني الذي استقبله الانبياء والمرسلون غروب ليلة الجمعة الواقعة في ٢٥ جمادى الثانية من عام ١٤١٤ ه‍ ق ، والذي شيّعه الملايين في

٣٣٨

وهذا الجواب افضل ممّا ذكره عدد من المحقّقين (١) في المقام ، من حلّ الاشكال وتصوير تكليف الناسي بالأقلّ بافتراض خطابين : احدهما متكفّل بايجاب الاقل على طبيعي المكلف ، والآخر متكفّل بايجاب الزائد على المتذكّر.

إذ نلاحظ على ذلك : ان الأقل في الخطاب الأوّل هل هو مقيّد بالزائد [مطلقا أي حتى بلحاظ الناسي] ، أو مطلق (٢) من ناحيته ، أو مقيّد

__________________

(١) كصاحب الكفاية والمحقق النائيني قدس‌سرهما ..

(٢) أي ان الاقل غير مقيّد بالزائد (المنسي) أي حتى ولو لم يأت المتذكر بالسورة فصلاته صحيحة. مثال الاطلاق قول الشارع لنا «اذا أفطرت فاعتق رقبة» فان عدم تقييده للرقبة بوصف معيّن هو الاطلاق ، وهنا يقال نتمسّك بالاطلاق لنفي قيد العدالة مثلا ، ومثال الاهمال قوله تعالى «اقيموا الصلاة» فانه في مقام بيان أصل وجوب الصلاة وليس في مقام ذكر عدد الصلوات الواجبة وكيفيّتها ، فهنا يقال الشارع في هذه الآية في مقام الاهمال من ناحية عدد الصلوات وكيفيّتها.

وبيان مراد صاحب الكفاية ومن تبعه : أنّ المتعلّق الواقعي للتكليف مردّد بين الأقلّ والاكثر ، والأقلّ متعلّق بطبيعي المكلّف (الشامل للمتذكّر والناسي) على أن يكون المتذكّر مكلّفا بالزائد في خطاب آخر ، والأكثر هو الصلاة التامّة بلحاظ المتذكّر والنّاسي.

وما ذكره السيد الشهيد أقوى لامكان تشريع الاقل بخطاب واحد ، والامر سهل بعد صحّة جريان البراءة عن الزائد (المنسي) على التصويرين.

__________________

طهران (امس) وقم المقدسة (الیوم ، السبت) تشییعا منقطع النظیر حیث وری الثری ظهر الیوم فی حرم السیدة المعصومة (علیها السلام) ، فالسلام علیه یوم ولد ویوم توفی ویوم یبعث حیّاً).

٣٣٩

بلحاظ المتذكّر ومطلق بلحاظ النّاسي ، أو مهمل ، والاوّل خلف ، إذ معناه عدم كون النّاسي مكلّفا بالأقل ، والثاني كذلك لأنّ معناه كون المتذكّر مكلّفا بالأقلّ وسقوط الخطاب الاوّل بصدور الاقل منه ، والثالث رجوع إلى الخطاب الواحد الذي ذكرناه ، ومعه لا حاجة إلى افتراض خطاب آخر يخصّ المتذكّر ، والرابع غير معقول ، لأنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد في عالم الجعل تقابل السلب والايجاب (١) فلا يمكن انتفاؤهما معا.

وعلى هذا الاساس فالمقام من صغريات دوران الواجب بين الأقل والأكثر ، فيلحقه حكمه من جريان البراءة عن الزائد. بل التدقيق في المقارنة يكشف عن وجود فارق يجعل المقام احقّ بالبراءة من حالات الدوران المذكور ، وهو ان العلم بالواجب المردّد بين الأقلّ والأكثر قد يدّعى كونه في حالات الدوران المذكور علما إجماليا منجّزا ، وهذه الدعوى لئن قبلت في تلك الحالات فهنا سبب خاصّ يقتضي رفضها في المقام وعدم امكان افتراض علم إجمالي منجّز هنا ، وهو انّ التردّد بين الأقل والأكثر في المقام إنّما يحصل للنّاسي بعد ارتفاع النسيان ، والمفروض انّه قد أتى بالاقلّ في حالة النسيان ، وهذا يعني انّه (٢) يحصل بعد امتثال احد طرفيه ، فهو نظير ان تعلم اجمالا بوجوب زيارة أحد

__________________

(١) أي والرابع وهو الاهمال غير معقول ثبوتا ، إذ إمّا ان المولى تعالى قد قيّد الخطاب الأوّل بالزائد بالنسبة الى المتذكّر وإمّا لا ، فالتقييد عبارة عن الايجاب والاطلاق (أي عدم التقييد) عبارة عن السلب فصار التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل المتناقضين ، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان.

(٢) أي الشك.

٣٤٠