دروس في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

فيتنجّز الوجوب بمقدار اضافته إلى الجامع ، لان هذا هو المقدار الذي تمّ عليه البيان ويؤمّن عنه بما هو مضاف الى الفرد ، وهذا التبعيض في تطبيق البراءة العقلية معقول وصحيح ، بينما لا يطّرد في البراءة الشرعية ، لأنّها مفاد دليل لفظي وتابعة لمقدار ظهوره العرفي ، وظهوره العرفي لا يساعد على ذلك (١).

وإن كان المقصود التعارض بين الاصول المؤمّنة الشرعية خاصّة (*) فهو صحيح ، ولكن كيف يرتّب على ذلك تنجّز التكليف بالاحتمال ، مع أن الاحتمال مؤمّن عنه بالبراءة العقلية على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وصفوة القول انه على هذا المسلك لا موجب لافتراض التعارض

__________________

(١) اي أن ظهور ادلة البراءة الشرعية كحديث الرّفع لا يساعد على هكذا تبعيض ، بأن نجري الاصول الشرعية المؤمّنة في بعض أطراف العلم الاجمالي ، مع حكم العقل بالتنجّز بمقدار الجامع ، لأن العرف يرى أن هذا الشكّ مقترن بالعلم بنجاسة احد الاناءين مثلا فلا يرى ان حالات العلم الاجمالي موردا لادلّة الاصول المؤمّنة بحيث يجوز لنا شرب أحد الإناءين.

__________________

(*) قلنا قبل قليل بانّا نكاد نجزم بأنّ مراد المحقق النائيني (قده) هو هذا الاحتمال الثاني ، فانا لا نرى وجها لحكم العقل بالبراءة في بعض او كل اطراف العلم الاجمالي ، هذا على رأي من يرى البراءة العقلية في الشبهات الموضوعيّة البدوية ، وأمّا على الوجه الآخر وهو لزوم الاحتياط في الشبهات الموضوعية البدوية فالامر أوضح.

(وعليه) فلا إشكال في وجوب الموافقة القطعية على راي المحقق النائيني ايضا لعدم وجود مؤمّن لا شرعي ولا عقلي ... كما ثبت ذلك على رأي المحقّقين العراقي والاصفهاني (رحمهما‌الله).

١٦١

في البراءة العقلية ، بل لا معنى لذلك ، إذ لا يعقل التعارض بين حكمين عقليين ، فان كان ملاك حكم العقل ـ وهو عدم البيان ـ تامّا في كل من الطرفين استحال التصادم بين البراءتين ، وإلّا لم تجر البراءة [العقلية] لعدم المقتضي (١) لا للتعارض.

وهكذا يتّضح أنّه على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يمكن تبرير وجوب الموافقة القطعية للعلم الاجمالي ، وهذا بنفسه من المنبّهات على بطلان القاعدة المذكورة (* ١).

نعم إذا نشأ العلم الاجمالي من شبهة موضوعية تردّد فيها مصداق قيد من القيود المأخوذة في الواجب بين فردين وجبت الموافقة القطعية حتّى على المسلك المذكور ، كما إذا وجب إكرام العالم وتردّد «العالم» بين زيد وخالد ، فإن كون الاكرام اكراما للعالم قيد للواجب ، فيكون تحت الامر وداخلا في العهدة ويشك في تحقّقه خارجا بالاقتصار على اكرام احد الفردين ، ومقتضى قاعدة ان الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني وجوب الاحتياط حينئذ (* ٢). هذا كلّه فيما يتعلّق بالأمر الأوّل.

__________________

(١) أي لانّ العقل لا يحكم بجريان البراءة العقلية في اطراف العلم الاجمالي.

__________________

(* ١) بل هذا يفيد عدم صحة قاعدة البراءة العقلية في موارد العلم الاجمالي فقط لا مطلقا.

(* ٢) ما ذكره السيد الشهيد (قده) يصدق في كل حالات الشكّ في تحقق الامتثال ، كما لو

١٦٢

٢ ـ جريان الاصول في جميع الاطراف وعدمه

وأمّا الأمر الثاني وهو في جريان الاصول الشرعية في جميع أطراف العلم الاجمالي فقد تقدّم الكلام عن ذلك بلحاظ مقام الثبوت ومقام الاثبات معا في مباحث القطع ، واتّضح ان المشهور بين الاصوليين استحالة جريان الاصول في جميع الاطراف لأدائه إلى الترخيص في المعصية للمقدار المعلوم أي في المخالفة القطعية ، وان الصحيح هو إمكان جريانها في جميع الأطراف عقلا غير أن ذلك ليس عقلائيا ، ومن هنا كان الارتكاز العقلائي موجبا لانصراف أدلّة الاصول [المؤمّنة] عن الشمول لجميع الاطراف.

وينبغي ان يعلم ان ذلك انما هو بالنسبة إلى الاصول الشرعية المؤمّنة ، وامّا الاصول الشرعية المنجّزة للتكليف فلا محذور ثبوتا ولا إثباتا في جريانها في كل اطراف العلم الاجمالي بالتكليف إذا كان كل طرف موردا لها في نفسه ، حتى ولو كان المكلّف يعلم بعدم ثبوت اكثر

__________________

شكّ في وجوب إحدى الصلاتين الظهر أو الجمعة .. وذلك لما ذكره السيد رحمه‌الله من ان العقل يحكم بلزوم الاحتياط لقاعدة الاشتغال ، وأوضح من ذكر ذلك بهذا الطريق المختصر ـ على ما رأيت من أصحاب مسلك قبح العقاب ـ هو المحقق العراقي الذي عمّم لزوم الاحتياط لكل حالات العلم الاجمالي ، وذلك للخروج عن عهدة التكليف ، إلّا ما سوف يخرج بدليل آخر يأتيك ان شاء الله ..

١٦٣

من تكليف واحد ، كما إذا علم بوجود نجس واحد فقط في الاناءات المعلومة نجاستها سابقا ، فيجري استصحاب النجاسة في كل واحد منها ، ومنه يعلم انه لو لم تكن النجاسة الفعلية معلومة أصلا أمكن ايضا إجراء استصحاب النجاسة في كل إناء ما دامت اركانه تامّة فيه ، ولا ينافي ذلك العلم إجمالا بطهارة بعض الاواني وارتفاع النجاسة عنها واقعا ، لأنّ المنافاة إمّا أن تكون بلحاظ محذور ثبوتي (١) بدعوى المنافاة بين الاصول المنجّزة للتكليف والحكم الترخيصي المعلوم بالاجمال (٢) ... أو بلحاظ محذور إثباتي وقصور في إطلاق دليل الاصل (٣).

أمّا الاوّل فقد يقرّب بوقوع المنافاة بين الالزامات الظاهرية والترخيص الواقعي الثابت في مورد بعضها على سبيل الاجمال جزما.

والجواب : إنّ المنافاة بينها وبين الترخيص الواقعي إن كانت بملاك التضادّ بين الحكمين فيندفع بعدم التضادّ ما دام احدهما ظاهريا والآخر واقعيا ، وإن كانت بملاك ما يستتبعان من تحرّك او إطلاق عنان فمن الواضح ان الترخيص المعلوم إجمالا لا يستتبع إطلاق العنان الفعلي لعدم

__________________

(١) اي محذور عقلي وبلحاظ الامكان وعدمه ، ويقولون إن كل محذور عقلي لا بدّ أن يرجع إلى استلزامه للتناقض.

(٢) أو قل : ... بين الاصول المنجّزة للتكليف في كل الاطراف والعلم بالترخيص الواقعي في بعض الأطراف.

(٣) المنجّز كاستصحاب النجاسة في جميع الاطراف ، بان يقال مثلا : لا اطلاق في دليل الأصل المنجّز لحالة العلم الاجمالي بالترخيص الواقعي في بعض الأطراف.

١٦٤

تعيّن مورده فلا ينافي الاصول المنجّزة في (١) مقام العمل.

وأما الثاني فقد يقرّب بقصور في دليل الاستصحاب بدعوى أنّه كما ينهى عن نقض اليقين بالشكّ كذلك يأمر بنقض اليقين باليقين ، والأوّل يستدعي اجراء الاستصحاب (٢) في تمام الاطراف ، والثاني يستدعي نفي جريانها جميعا في وقت واحد ، لأنّ رفع اليد عن الحالة السابقة في بعض الاناءات نقض لليقين باليقين (٣).

والجواب أوّلا : انّ هذا (٤) إنّما يوجب الاجمال فيما اشتمل من روايات الاستصحاب على الأمر والنهي معا ، لا فيما اختصّ مفاده بالنهي فقط.

وثانيا : إنّ ظاهر الأمر بنقض اليقين باليقين ان يكون اليقين الناقض متعلقا بعين ما تعلّق به اليقين المنقوض (٥) ، وهذا غير حاصل في المقام ،

__________________

(١) متعلّق ب «لا ينافي».

(٢) اي استصحاب النجاسة ، ومراده من الثاني هو نقض اليقين السابق بالنجاسة باليقين اللاحق بطهارة بعضها.

(٣) المأمورون به في قوله عليه‌السلام «وإنّما تنقضه بيقين آخر» ومقتضى هذا أن نرفع اليد عن الحالة السابقة بالنجاسة بمقدار واحد ، فلا يجري فيه استصحاب النجاسة ، بل تجري فيه الاصول المؤمّنة.

(٤) اي انّ هذا الدليل إنما يوجب هذا الاشكال في الروايات المشتملة على كلتا الجملتين وهي «لا تنقض اليقين بالشك» والايجابية «وانما تنقضه بيقين آخر» ، ولا يرد هذا الاشكال في بعضها الآخر الذي اقتصر على الجملة السلبية فقط ، كرواية زرارة الثانية الآتية في هذا الكتاب إذ ورد فيها مرّتين «وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا».

(٥) فلو كنت على علم بنجاسة إناءك المعيّن فان عليك أن تبني على نجاسته

١٦٥

لأنّ اليقين المدّعى كونه ناقضا هو العلم الاجمالي بالحكم الترخيصي ، ومصبّه ليس متّحدا مع مصبّ أيّ واحد من العلوم التفصيلية المتعلّقة بالحالات السابقة للاناءات (*).

وعليه فالاصول المنجّزة والمثبتة للتكليف لا بأس بجريانها حتى مع العلم إجمالا بمخالفة بعضها للواقع ، وهذا معنى قولهم : إنّ الاصول

__________________

حتى تعلم بتطهيره ، فاليقين الناقض ليقينك السابق (المنقوض) هو علمك بتطهيره ، فمتعلّق اليقين الناقض واليقين المنقوض واحد وهو حالة الإناء من حيث الطهارة والنجاسة ، هذه الوحدة بينهما غير حاصلة في مورد العلم الاجمالي ، لكون العلم بالطهارة متعلّق بالجامع والعلم بالنجاسة السابقة متعلق بكل إناء ، فلا يكون أحدهما ناقضا للآخر. فالعلم الإجمالي بطهارة إحدى الآنية بما أنه لا يقول هذا المعيّن طاهر فهو لا ينقض علمنا بنجاسته سابقا.

__________________

(*) وهذه النتيجة حاصلة حتى على مسلك المحقق العراقي ، فانه يرى ان العلم الاجمالي متعلق بالطاهر الواقعي ، ولكن لكونه غير معلوم بنحو التعيين يصحّ عرفا ان نستصحب حالته السابقة بالنجاسة ، لكون الاستصحاب حكما ظاهريا. وكما تعلم فان متعلّق العلم الإجمالي عند المحقق العراقي هو الفرد الضائع فهو لعدم تعيّنه لا ينقض علمنا بنجاسة سابقا ، فتأمل ، فان المسألة ليست مسلّمة لامكان أن يقال بعدم صحّة جريان الاستصحاب في مورد العلم الاجمالي وذلك لعدم وجود اطلاق لهذه الحالة في دليل الاستصحاب ، وثانيا لعدم تمامية أركانه في مورد العلم الاجمالي وذلك للعلم بطروء الطهارة على أحد الإناءين فلا يجري استصحاب النجاسة فيه ، وأما الإناء الثاني فان احتملنا طروء الطهارة عليه فانه يجري فيه الاستصحاب وإلا فلا يجري أيضا. والصحيح عندنا عدم صحّة جريان الاستصحاب في موارد العلم الاجمالي وانما يجب التجنّب عن كلا الإناءين لحكم العقل بذلك لتجنّب ارتكاب الطرف المتنجّز علينا.

١٦٦

العملية تجري في اطراف العلم الاجمالي إذا لم يلزم من جريانها مخالفة عملية لتكليف معلوم بالاجمال (١).

٣ ـ جريان الاصول في بعض الاطراف وعدمه

وأمّا الأمر الثالث فهو في جريان الاصول الشرعية المؤمّنة في بعض أطراف العلم الإجمالي ، والكلام عن ذلك يقع في مقامين ثبوتي وإثباتي :

امّا الثبوتي فنبحث فيه عن إمكان جريان الاصول المؤمّنة في بعض الأطراف ثبوتا وعدمه ، ومن الواضح انّه على مسلكنا القائل بامكان جريان الاصول في جميع الاطراف لا مجال لهذا البحث ، إذ لا معنى لافتراض محذور ثبوتي في جريانها في بعض الأطراف.

وأمّا على مسلك القائلين باستحالة جريان الاصول في جميع الاطراف فكذلك ينبغي ان نستثني من هذا البحث القائلين بان العلم

__________________

(١) أما إذا لزم من جريان هذه الاصول العملية مخالفة عملية لتكليف معلوم بالاجمال فلا تجري ، مثال ذلك إذا باع زيد لعمرو مثلا كتابا ، ثمّ نسيا عين الكتاب المبيع ، ففي هذه الحالة إذا استصحب زيد ملكية كل الكتب فسنقع في مخالفة عملية لتكليف معلوم بالاجمال وهو ملكية عمرو لاحداها ، فلا يجري ذلك الاستصحاب ، أمّا إذا تردّدا في حصول البيع وعدمه فانّ الاستصحاب يجري بلا ان يلزم من ذلك اي محذور.

١٦٧

الاجمالي لا يستدعي وجوب الموافقة القطعية مباشرة ، فانّه على قولهم هذا لا ينبغي أن يتوهّم امتناع جريان الاصل المؤمّن في بعض الاطراف (١) ، إذ يكون من الواضح عدم منافاته للعلم الاجمالي (٢) ، وأمّا القائلون بان العلم الاجمالي يستدعي بذاته وجوب الموافقة القطعية (٣) فيصحّ البحث على اساس قولهم ، لأنّ جريان الاصل المؤمّن في بعض الاطراف يرخّص في ترك الموافقة القطعية ، فلا بدّ من النظر في إمكان ذلك وامتناعه. ومردّ البحث في ذلك إلى النزاع في ان العلم الاجمالي هل يستدعي عقلا وجوب الموافقة القطعية استدعاء منجّزا على نحو استدعاء العلّة لمعلولها ، او استدعاء معلّقا على عدم ورود الترخيص الشرعي على نحو استدعاء المقتضي لما يقتضيه ، فانّ فعليته (٤) منوطة بعدم وجود

__________________

(١) لو لا مشكلة المعارضة إذ على مقالتهم ـ ومنهم المحقق النائينى كما عرفت سابقا ـ إنّما تحرم المخالفة القطعية فقط ، كتناول كلا الاناءين المعلوم نجاسة احدهما ، ويمكن عقلا اي ثبوتا ارتكاب الآخر ، نعم في مقام الاثبات رأوا لزوم الاحتياط في تمام الاطراف والمعبّر عنها بوجوب الموافقة القطعية وذلك لحصول التعارض الذي ذكرناه سابقا ... وسيأتي الكلام عن هذه النقطة مرّة ثانية عند البحث في المقام الاثباتي

(٢) لان العلم الاجمالي متعلّق بالجامع وهو «احدى الصلاتين» فقط فهو ينجّز بهذا المقدار فلا ينافي ح جريان البراءة الشرعية في الطرف الآخر

(٣) كالشيخ الانصاري والمحقق العراقي

(٤) أي فانّ فعليّة المقتضي ... كاحتراق الورقة ، فانّ فعليّة المقتضي وهو وجود النار متوقّفة على عدم وجود مانع من تأثيره كوجود رطوبة على الورقة او وجود مانع بين النار والورقة.

١٦٨

المانع. فعلى الاوّل يستحيل إجراء الأصل المؤمّن في بعض الاطراف لأنّه ينافي حكم العقل الثابت بوجوب الموافقة القطعية ، وعلى الثاني يمكن إجراؤه (١) ، إذ يكون الاصل مانعا عن فعلية حكم العقل ورافعا لموضوعه.

وعلى هذا الاساس وجد اتجاهان بين القائلين باستدعاء العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية :

أحدهما : القول بالاستدعاء على نحو العلّيّة ، وذهب إليه جماعة منهم المحقّق العراقي (٢).

والآخر : القول بالاستدعاء على نحو الاقتضاء ، وذهب إليه جماعة منهم المحقّق النائيني على ما هو المنقول عنه في فوائد الاصول (٣).

وقد ذكر المحقّق العراقي (قده) في تقريب العلّية : انه لا شكّ في كون العلم منجّزا لمعلومه على نحو العلّية ، فاذا ضممنا الى ذلك أنّ المعلوم بالعلم الاجمالي هو الواقع لا مجرّد الجامع ثبت أنّ الواقع منجّز على نحو العلّية ومعه يستحيل الترخيص في أيّ واحد من الطرفين ،

__________________

(١) اي وعلى القول الثاني يمكن عقلا إجراء الاصل المؤمّن في بعض الاطراف ، فاذا جرى لا يحكم ح العقل بوجوب الموافقة القطعية ، وبتعبير أخر إن العقل إنما يحكم بوجوب الموافقة القطعية إن لم يكن في البين أصل مؤمّن ، فإذا اجراه الشارع فقد ارتفع موضوع حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية.

(٢) نهاية الافكار القسم الثاني من الجزء الثالث ص ٣٠٧.

(٣) الجزء الرابع ص ٢٥.

١٦٩

لاحتمال كونه هو الواقع. وبكلمة اخرى : إنّ المعلوم بالعلم الاجمالي إن كان هو الجامع فلا مقتضي لوجوب الموافقة القطعية أصلا ، وإن كان هو الواقع فلا بد من افتراض تنجّزه على نحو العلّية ، لانّ هذا شأن كل معلوم مع العلم.

واعترض عليه المحقق النائيني رحمه‌الله (١) بأنّ العلم الاجمالي ليس أشدّ تأثيرا من العلم التفصيلي ، والعلم التفصيلي نفسه يعقل الترخيص في المخالفة الاحتمالية لمعلومه ، كما في قاعدتي الفراغ والتجاوز ، وهذا يعني عدم كونه علّة لوجوب الموافقة القطعية فكذلك العلم الاجمالي.

وأجاب المحقّق العراقي على هذا الاعتراض (٢) بأنّ قاعدة الفراغ وأمثالها ليست ترخيصا في ترك الموافقة القطعية لتكون منافية لافتراض علّية العلم لوجوبها ، بل هي إحراز تعبّدي للموافقة ، اي موافقة قطعية تعبّدية ، وافتراض العلّية يعني علّية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية وجدانا أو تعبدا.

وبهذا يظهر الفرق بين إجراء قاعدة الفراغ وإجراء أصالة البراءة في أحد طرفي العلم الاجمالي ، فانّ الاوّل لا ينافي العلّية بخلاف الثاني.

والتحقيق : أن قاعدة الفراغ وأصالة البراءة وإن كانتا مختلفتين في لسانيهما ، إلّا انّ هذا مجرّد اختلاف في اللسان والصياغة ، وأمّا واقعهما وروحهما فواحد ، لانّ كلّا منهما نتيجة لتقديم الاغراض الترخيصية على

__________________

(١) فوائد الاصول ج ٤ ص ٣٤.

(٢) نهاية الافكار القسم الثاني من الجزء الثالث ص ٣٠٩ ـ ٣١٠.

١٧٠

الاغراض اللزومية عند الاختلاط في مقام الحفظ ، غير انّ هذا التقديم تارة يكون بلسان الترخيص واخرى بلسان الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية وافتراضها موافقة كاملة (١). فلا معنى للقول بأنّ احد اللسانين ممتنع دون الآخر (٢).

__________________

(١) كما ورد في صحيحة حمّاد بن عثمان قال قلت لابي عبد الله عليه‌السلام اشك وانا ساجد فلا ادري أركعت أم لا؟ فقال : «قد ركعت ، امضه» ، وفي صحيحة الفضيل بن يسار قال قلت لابي عبد الله عليه‌السلام أستتمّ قائما فلا ادري ركعت أم لا؟ قال : «بلى ، قد ركعت ، فامض في صلاتك ، فانما ذلك من الشيطان» ، وفي صحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال قلت لابي عبد الله عليه‌السلام : رجل اهوى الى السجود ، فلم يدر اركع ام لم يركع؟ قال عليه‌السلام : «قد ركع». (وسائل باب ١٣ من أبواب الركوع ج ٤ ص ٩٣٦ ـ ٩٣٧ / ح ٢ ، ٣ ، ٦).

(٢) وبيان الجواب : ان قول المحقّق العراقي بان العلم الاجمالي علّة لوجوب الموافقة القطعية كالعلم التفصيلي يلزم منه انه لا يمكن الترخيص ولو في بعض الاطراف ، فاجابه المحقق النائيني : كيف لا يمكن الترخيص في موارد العلم الاجمالي وقد رخّص المولى بقاعدة الفراغ في موارد العلم التفصيلي ، فبطريق أولى يمكن الترخيص في موارد العلم الاجمالي ، فاجابه المحقق العراقي بأن المولى تعالى لم يرخّص في موارد العلم التفصيلي بقاعدة الفراغ وانما اعتبر العمل بعد الفراغ منه والشك في صحّته كاملا ، فاجابه السيد الشهيد بأنّ تشريع قواعد الفراغ او الطهارة او الحلّية أو البراءة في بعض الاطراف لا ينافي علم المولى وعبيده بأنّ العبيد سوف يخالفون الواقع ويستعملون النجس فيما لا يجوز في الكثير من الاحيان ، وذلك لأنّ المولى لا يرخّص إلّا لاهمية ملاكات الترخيص على ملاكات الالزام ، فان وجد المولى

١٧١

والصحيح هو عدم علّية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، لأنّ الترخيص الظاهري في بعض الأطراف له نفس الحيثيّات المصحّحة (١) لجعل الحكم الظاهري في سائر الموارد.

هذا كلّه بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الاثبات فقد يقال : إنّ أدلّة الاصول (٢) قاصرة عن

__________________

في الترخيص في كل او بعض اطراف العلم الاجمالي مصلحة غالبة رخّص.

ومن هنا تعلم ان الحيثيات التي امكنت الشارع المقدّس أن يرخّص من أجلها في موارد قاعدتي الفراغ والتجاوز هي نفسها الحيثيات التي تمكّن الشارع ان يرخّص من اجلها في موارد العلم الاجمالي.

نعم للترخيص صور وملاكات متعدّدة ، فتارة يرخّص الشارع في الصلاة إن شكّ المكلّف في صحتها بعد الفراغ منها ، وينزّلها منزلة الواقع ، لانّه ـ مثلا ـ حين العمل أذكر منه حين الفراغ ، وتارة يرخّص للتسهيل على النّاس ... ولا استحالة عقلية في هكذا ترخيصات ، بمعنى ان هذه الترخيصات لا تعتبر ترخيصا في القبيح.

(١) وهو محبّة الله تعالى ان يشرّع في حال الشك البدوي الترخيص للتسهيل على الناس ، وكذلك الأمر في العلم الاجمالي ، فانه يمكن لله تعالى ان يرخّص في موارد العلم الاجمالي لو رأى مصلحة في ذلك ولكنه لم يرخّص ، فاذن العلم الاجمالي ليس علّة لوجوب الموافقة القطعية.

(٢) الشرعيّة المؤمّنة. والمراد في هذا المقام دراسة إمكان إجراء الاصول المؤمّنة فعلا ـ بعد افتراض إمكان ذلك ثبوتا وعقلا كما هو الصحيح ـ بحيث نعتبر ان الاصول المؤمّنة تجري في بعض اطراف العلم

١٧٢

إثبات جريان الأصل في بعض الاطراف ، لأنّ جريانه في البعض ضمن جريانه في كل الاطراف باطل ، لأنّنا فرغنا عن عدم جواز الترخيص في المخالفة القطعية ، وجريانه في البعض المعيّن دون البعض الآخر ترجيح بلا مرجّح ، لأنّ نسبة دليل الاصل الى كلّ من الطرفين على نحو واحد ، وجريانه في البعض المردّد غير معقول إذ لا معنى للمردّد.

وبكلمة اخرى : إنّه بعد العلم بعدم جريان الاصل في كل الاطراف في وقت واحد يحصل تعارض بين اطلاق دليل الاصل لكل طرف واطلاقه لسائر الاطراف ، ومقتضى التعارض التساقط.

وهناك اعتراض مشهور (١) يوجّه الى هذا البرهان وحاصله : أن المحذور الناجم عن جريان الاصول في كل الاطراف هو الترخيص في المخالفة القطعية ، وهذا المحذور إنّما ينشأ من إجراء الاصل في كلّ من الطرفين مطلقا ، اي سواء ارتكب المكلّف الطرف الآخر أو اجتنبه ، وإذا ألغينا اطلاق الاصل في كلّ منهما لحالة ارتكاب الآخر انتج إثبات

__________________

الاجمالي بلا أيّ مانع إثباتي كقصور في نفس الاصول المؤمّنة او كوجود استبعاد عقلائي او كوجود تعارض بين اطلاقات هذه الأصول.

(١) هذه مقالة المحقق القمّي في قوانينه إذ صرّح بجواز جريان الاصول المؤمنة فيما عدا مقدار الجامع ، وقالها من بعده المحقق العراقي (قده) لكن قالها بناء على قول مخالفيه بأنّ العلم الاجمالي ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية ، وانّما هو مقتض لذلك بحيث يمكن الترخيص ثبوتا في كل الأطراف أو بعضها ، راجع إن شئت تقريرات السيد الهاشمي ج ٥ ص ١٨٨ ، ومصباح السيد الخوئي ج ٢ ص ٣٥٢ ـ ٣٥٣. (على ايّ حال) فمراد المحقق القمّي رحمه‌الله انّ الجامع يفيدنا

١٧٣

ترخيصين مشروطين وكلّ منهما منوط بترك الآخر ، ومثل هذا لا يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية ، ويعني ذلك ان المحذور يندفع برفع اليد عن إطلاق الأصل في كل طرف ، ولا يتوقّف دفعه على إلغاء الاصل رأسا ، ولا شك في ان رفع اليد عن شيء من مفاد الدليل لا يجوز إلّا لضرورة ، والضرورة تقدّر بقدرها فلما ذا لا نجري الأصل في كلّ من الطرفين ولكن مقيّدا بترك الآخر.

وقد أجيب على هذا الاعتراض بوجوه :

الأوّل : ما ذكره السيد الاستاذ (١) من انّ الجمع بين الترخيصين المشروطين المذكورين وإن كان لا يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية ولكنّه يؤدّي إلى الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية وذلك فيما إذا ترك الطرفين معا (٢) ، وهو مستحيل.

ويرد عليه : ان الحكم الظاهري في نفسه ليس مستحيلا (٣) وإنما

__________________

حرمة ارتكاب كلا الاناءين ، بمعنى إذا ارتكبت هذا الطرف فلا ترتكب الآخر وإذا لم ترتكب هذا الطرف فلك ان ترتكب الطرف الآخر لجريان قاعدة الحل فيما عدا مقدار الجامع.

(١) مصباح الاصول ج ٢ ص ٣٥٥.

(٢) فانه اذا ترك شرب كلا الإناءين فانهما سيحلّان له ، وهذا مستحيل لانه يعني الترخيص في المخالفة الواقعية ، (والظاهر) من هذه العبارة ان مراده ان يقول هكذا : ... في المخالفة القطعية مع عدم البناء على الترك ، ولكنّه يؤدي اليها مع البناء على تركهما.

(٣) أي ليس جريان الاصول المؤمّنة في كل اطراف العلم الإجمالي مستحيلا.

١٧٤

يمتنع إذا كان منافيا للحكم الواقعي ، والمفروض عدم المنافاة بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي ، لا بلحاظ نفسه ولا بلحاظ مبادئه ، فلم يبق إلّا التنافي بلحاظ عالم الامتثال ، وقد فرضنا هنا أن حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية (١) قابل للرفع بالترخيص الشرعي على خلافه ، فلم يبق هناك تناف بين الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية والتكليف المعلوم بالاجمال في أيّ مرحلة من المراحل.

__________________

(١) قال السيد الخوئي في ردّه على المحقّق العراقي (قدس سرّهما) إنّ الجمع بين الترخيصين المشروطين سوف يوقعنا في الترخيص في المخالفة الواقعية ـ وذلك فيما إذا تركنا الطرفين معا ـ وهذا «الترخيص في المخالفة الواقعية» ينافي علمنا الاجمالي بوجود نجس بين الاطراف.

فأجابه السيد الشهيد بأنّه لا إشكال في أن يرخّصنا الشارع في المخالفة الواقعية نظريا ، وذلك فيما لو ترك كلا الاناءين ، وأيّ استحالة في ذلك ح؟! إذ لا منافاة بين هذين الترخيصين والحكم الواقعي لا بلحاظ أنفسهما ، إذ أنّ الأوّلين ظاهريّان موضوعهما الشك في الحكم الواقعي ، والثالث واقعي ، ولا منافاة بين مبادئهما ، إذ أنّ مبادئ الاوّلين هي مثلا التسهيل على الناس الأهم من مفسدة نجاسة أحد الأطراف ... ولا منافاة بينها في مرحلة الامتثال أيضا إذ ليس له أن يرتكب الاناءين معا كما هو المفروض ، ولا إشكال في إمكان الترخيص ـ ثبوتا وعقلا كما اسلفنا ـ في احد الطرفين ، إذ ان حكم العقل بوجوب تركهما معا قابل للرفع عقلا بالترخيص الشرعي في ارتكاب ما عدا مقدار الجامع ، وبعد هذا لا إشكال إذا أدّى هذان الترخيصان إلى الترخيص في المخالفة الواقعية نظريا لا عمليا ، إذ لا منافاة ح بين هذا الترخيص النظري وبين التكليف المعلوم بالاجمال.

١٧٥

هذا على أنّ بالامكان تصوير الترخيصات المشروطة على نحو لا يمكن أن تصبح كلّها فعليّة في وقت واحد ليلزم الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية ، وذلك بان تفترض أطراف العلم الاجمالي ثلاثيّة ويفترض أنّ الترخيص في كل طرف مقيّد بترك احد بديليه و [جواز] ارتكاب الآخر (١).

الثاني : ما ذكره السيد الاستاذ أيضا من أنّه إذا اريد إجراء الأصل مقيّدا في كل طرف فهناك أوجه عديدة للتقييد ، فقد يجري الاصل في كلّ طرف مقيدا بترك الآخر (٢) أو بأن يكون قبل الآخر أو بأن يكون بعد الآخر ، فأيّ مرجّح لتقييد على تقييد؟

ويرد عليه (٣) أنّ التقييد إنّما يراد لالغاء الحالة التي لها حالة

__________________

(١) اي الطرف الثالث وذلك لأنّه مع ترك الاطراف الثلاثة سيكون أحدها واجب الترك ، فلا يلزم الترخيص في المخالفة الواقعيّة.

(٢) مراد السيد الخوئي (قده) هو أنّ الترخيص المشروط الذي ذكره المحقّق العراقي له ثلاث صور :

ـ فقد يكون بنحو : لك إجراء الترخيص في أحدهما ولكن بشرط عدم ارتكاب الآخر.

ـ وقد يكون بنحو : لك إجراء الترخيص في أحدهما بشرط أن يكون قبل ارتكاب الطرف الآخر ، أي قبل شرب أحد الاناءين مثلا.

ـ وقد يكون بنحو : لك إجراء الترخيص في أحدهما ولكن بعد ارتكاب الطرف الآخر.

فأيّ مرجّح جعلك ترجّح الاول على الأخيرين؟

(٣) خلاصة البحث الى حدّ الآن : قال السيد المصنّف رحمه‌الله انه لا يمكن في مرحلة الاثبات اجراء الاصول المؤمّنة في بعض الأطراف ، فمثلا لا تجري

١٧٦

معارضة في دليل الأصل وإبقاء الحالة التي لا معارض لها من حالات الطرف الآخر ، والحالة التي لا معارض لها كذلك هي حالة ترك الطرف الآخر ، وأمّا حالة كونه قبل الآخر مثلا فجريان الأصل فيها يعارض جريانه في الآخر حالة كونه بعد صاحبه.

الثالث : ما ذكره أيضا من أنّ لدليل الأصل اطلاقا أفراديا (١) لهذا

__________________

قاعدة الطهارة الشرعية في أحد الإناءين المعلوم نجاسة أحدهما. (ثم) قال : وهناك اعتراض مشهور يوجّه الى هذا الكلام وهو امكان الترخيص في أي طرف لكن بشرط عدم ارتكاب الآخر ، فلا نقع في محذور الترخيص في المخالفة القطعية. (فاجابه) السيد الخوئي (رضي الله عنه) بجوابين : الاوّل بأن هذا تقييد سيوقعنا بالترخيص في المخالفة القطعية عند ترك كلا الطرفين وهو محال ، والثاني انه كما يمكن التقييد بالنحو المذكور يمكن بأنحاء أخرى ولا ترجيح لواحد على الآخر فتتساقط هذه التقييدات ، فردّ عليه هنا سيّدنا المصنّف (قده) بقوله : ان المحققين القمّي والعراقي (قدس‌سرهما) حينما قيّدا اطلاق الاصول المؤمّنة في بعض الأطراف فانما قيّداه لالغاء الحالة التي توقعنا في معارضة جريان الاصول المؤمّنة في سائر الأطراف ، فمع هكذا تقييد لا نقع في التعارض ، وأما ذانك التقييدان فهما متعارضان. (فمراده) اذن : ان التقييد إنّما يراد لالغاء الحالة من الأصل المؤمّن (التي هي الاطلاق) التي لها حالة معارضة في دليل الاصل الجاري في سائر الاطراف (وهذه الحالة المعارضة هي أيضا الاطلاق) وابقاء الحالة التي لا معارض لها من حالات الطرف الآخر ، أي وابقاء (قدر) من الاصل لا يعارضه شيء من خصمائه (وهو) القدر المقيّد بترك سائر الاطراف الاخرى ، فهذا هو المرجّح الذي أنكره السيد الخوئي رحمه‌الله.

(١) نذكّر أن المراد بالاطلاق الأفرادي هو إطلاق لفظ بلحاظ افراده نحو

١٧٧

الطرف ولذاك وإطلاقا أحواليا في كلّ من الفردين لحالة ترك الآخر وفعله ، والمحذور كما يندفع برفع اليد عن الاطلاقين الاحواليين معا كذلك يندفع برفع اليد عن الاطلاق الأفرادي والأحوالي في أحد الطرفين خاصّة ، فأيّ مرجّح لأحد الدّفعين على الآخر؟

ويرد عليه (١) : ان المرجّح هو أنّ ما يبقى تحت دليل الأصل بموجب الدفع الأوّل للمحذور ليس له معارض اصلا ، وما يبقى تحته بموجب الدفع الآخر الذي يقترحه [السيد الخوئي] له معارض.

الرابع : إنّ الحكم الظاهري يجب أن يكون محتمل المطابقة للحكم

__________________

«اكرم عالما» أي ايّ فرد يصدق عليه انه عالم ، وان المراد بالاطلاق الاحوالي هو إطلاق لفظ بلحاظ احواله ، وذلك كالاطلاق الجاري في المثال السابق بلحاظ احوال العالم ، أي سواء كان قائما ام قاعدا أم غير ذلك.

ح نقول : قال المحقّق العراقي برفع اليد عن الاطلاق الأحوالي لدليل الأصل المؤمّن في كلّ طرف ، بمعنى انه ليس لنا اجراء الأصل المؤمّن في كل طرف على كلّ حال ـ اي سواء ارتكبنا الآخر أم تركناه ـ فاجابه السيد الخوئي بقوله : كما ان محذور التعارض يندفع بتقييد الاطلاق الاحوالي المذكور كذلك يندفع بتقييد الاطلاق الأفرادي للاصول المؤمّنة ، فيمكن لنا ان لا نجري أصالة الطهارة مثلا الّا في بعض الآنية ، فلما ذا تقيّدون الاطلاق الاحوالي دون الاطلاق الأفرادي؟! (فان قلت) نقيّدهما معا (كان الجواب) انه لا شك في بطلان أحد التقييدين للغويّته ، فأيهما الباطل يا ترى؟

(١) بيانه ان تقييد الاطلاق الأحوالي يلغي التعارض ، بينما تقييد الاطلاق الافرادي بأن تجري قاعدة الطهارة مثلا في بعض الآنية دون سائر الآنية فهذا ترجيح بلا مرجّح ولا يدفع التعارض.

١٧٨

الواقعي ، والترخيص المشروط ليس كذلك ، لأنّ ما هو ثابت في الواقع إما الحرمة المطلقة واما الترخيص المطلق (١).

ويرد عليه : أنّه لا برهان على اشتراط ذلك (٢) في الحكم الظاهري وإنما يشترط فيه أمران : أحدهما ان يكون الحكم الواقعي مشكوكا ، والآخر ان يكون الحكم الظاهري صالحا لتنجيزه (٣) أو التعذير عنه.

__________________

(١) ولتوضيح كلام السيد الخوئي (قده) ننقل كلامه من مصباحه ج ٢ ص ٣٥٥ يقول : إنّ هذا التقييد (اي الترخيص المشروط الذي ذكره المحقّق العراقي) لا يرفع قبح الترخيص في المعصية ، فلو فرض ان الخمر موجود في الخارج وقد علم المكلّف به وبحرمته ، واشتبه بين مائعين مثلا ، فكيف يعقل الحكم باباحته والترخيص في شربه ولو مشروطا بترك الطرف الآخر (المباح) ، بل حرمة الخمر غير مقيّدة بترك المباح يقينا ، كما أنّ الاباحة غير مقيّدة بترك الحرام قطعا ، فالترخيص بكل منهما مشروطا بترك الآخر غير مطابق للواقع ، ومن الواضح أنّه يعتبر في الحكم الظاهري احتمال المطابقة للواقع.

(٢) أي لا برهان على اشتراط احتمال مطابقة الواقع.

(٣) اي صالحا لتنجيز الحكم الواقعي كاستصحاب النجاسة ، او صالحا للتعذير عنه كاستصحاب الطهارة.

ومراد السيد الشهيد (قده) أنّه لا مانع من الترخيص بطرف بشرط ترك الطرف الآخر ، وذلك لانّ الخمر ـ مثلا ـ ضائع بينهما ، نعم لو كان الخمر مميّزا لكانت حرمته مطلقة بلا إشكال ، وكذلك المائع المباح فانه لو كان مميّزا لكان مباحا بشكل مطلق ، لكن فرض كلامنا عدم تمييز الحلال عن الحرام ، فقياس حالة العلم الاجمالي على العلم التفصيلي قياس مع الفارق ، (خاصّة) على مسلك السيد الخوئي من كون تشريع الاصول المؤمّنة إنما هو

١٧٩

الخامس : وهو التحقيق في الجواب ، وحاصله (١) ان مفاد دليل

__________________

للتسهيل على النّاس ، لا لاحتمال مطابقتها للاحكام الواقعية ، فأيّ مانع عقلي من أن نتمسّك بالاطلاق الاحوالي لقاعدة الحلّية مثلا بأن نجريها في بعض الآنية دون الكل ـ لعلمنا بعدم جواز شرب جميع الآنية ـ؟ أليس الاطلاق دليلا محرزا وحجّة شرعيّة؟!

(١) حاصل هذا التحقيق أن مفاد الترخيص هو ابراز عدم اهتمام المولى بالتحفّظ على الغرض ، ومفاد الترخيصين المشروطين هو ابراز عدم اهتمام المولى إلا بأحد الطرفين. (أما) الترخيص الاوّل فلا نتعقّله في موارد العلم الاجمالي لعدم امكان الترخيص في المخالفة الواقعية ، وما نتعقّله هو على الاقل ثبوت مرتبة ناقصة من الاهتمام تقتضي التحفظ الاحتمالي على التكليف الواقعي المعلوم بالاجمال ، هذا الاهتمام الناقص لا يفيده الترخيصان المشروطان ، لان الترخيصين المشروطين يؤديان ـ عند ترك كلا الطرفين ـ الى الترخيص في المخالفة الواقعية ، وهذا الترخيص في المخالفة الواقعية لا يمكننا القول به لانه خلاف علمنا بالجامع (أي بنجاسة أحد الإناءين مثلا). (فان قلت للسيد الشهيد) يمكن لنا ان نأخذ بالترخيصين المشروطين لكن باضافة شرط آخر وهو أن لا يجري ـ عند ترك كلا الطرفين ـ الترخيص في كلا الطرفين ، وبالتالي لن نخالف علمنا بالجامع. (لاجابك) بقوله : هذا الشرط الاضافي وارجاع الترخيصين المشروطين الى الترخيص فيما عدا الجامع لا يفي به اطلاق الاصل المؤمّن بمعنى أنه لا يستفاد من اطلاق ادلّة الاصول المؤمّنة كحديث الرفع مثلا الترخيص فيما عدا الجامع ، وذلك لان قيد «ما عدا الجامع» هو قيد تنجيزي يحكم به العقل ـ لعلمنا بالجامع ـ ولا يستفاد من اطلاق الدليل المؤمّن فان الدليل المؤمّن ينتج الترخيص لا التنجيز

١٨٠