دروس في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

الترخيص الظاهري ومدلوله التصديقي هو ابراز عدم اهتمام المولى بالتحفظ على الغرض اللزومي. ومعنى افتراض ترخيصين مشروطين كذلك ان عدم اهتمام المولى بالتحفّظ على الغرض اللزومي في كل طرف منوط بترك الآخر ، وأنّه في حالة الترخيص بتركهما (١) معا لا اهتمام له بالتحفّظ على الغرض اللزومي المعلوم اجمالا ، وكلّ هذا لا محصّل له [فيما نحن فيه] ، لأنّ المعقول إنّما هو ثبوت مرتبة ناقصة من الاهتمام للمولى تقتضي التحفّظ الاحتمالي على الواقع المعلوم بالاجمال ، واستفادة ذلك من الترخيصين المشروطين المراد إثباتهما باطلاق دليل الأصل لا يمكن إلّا بالتأويل وارجاعهما إلى الترخيص فيما عدا الجامع (٢) ، وهذه العناية لا يفي بها اطلاق دليل الأصل (*).

__________________

(إذن) الترخيصان المشروطان اللذان ذكرهما المحقّقان القمّي والعراقي لا يصحّان ، لانك عند تركك لكلا الطرفين سيؤدّيان الى الترخيص بترك الجامع ، واشتراط عدم ترك الجامع لا يفي به اطلاق الاصل المؤمّن لان هذا الاطلاق يفيد الترخيص لا التنجيز.

(١) في النسخة الاصلية قال بدل «الترخيص بتركهما» قال «تركهما» وما اثبتناه هو مراده.

(٢) في النسخة الأصلية قال بدل «فيما عدا الجامع» قال «في الجامع أي في أحدهما» وهو سهو من قلمه الشريف.

__________________

(*) (أقول) من يطالع مسالك واقوال الاصحاب في هذه الابحاث يتيه كما تاه بنو اسرائيل في مصر وفيا فيها أربعين سنة ، ولذلك ساختصر الصحيح في المقام فأقول :

١. إنّ القول بالترخيص المشروط بترك ما عدا مقدار الجامع قول في غاية التفاهة ، وذلك لأنّه بعد ارتكاب أحد الاطراف وخروجه عن محلّ الابتلاء يزول علمنا بوجود فرد

١٨١

__________________

واقعي في البين وتتغيّر الحالة الفعلية عن الحالة السابقة تماما ، بل تصير الحالة الفعلية من الشبهات البدويّة ، ولا يجري فيها استصحاب تنجيز بقية الأطراف ، وذلك لأنّ تنجيز هذه الاطراف إنّما كان ثابتا بحكم العقل لعلمنا بوجود فرد واقعي بينها ، فعند ما زال هذا العلم لا مبرّر لتنجيز الاطراف الباقية ، لان المنجّز سابقا كان إمّا الجامع وقد زال وامّا الفرد الواقعي ولا علم لنا ببقائه ... وعليه يصير ارتكاب الاطراف الباقية اولى من ارتكاب الطرف الاوّل ، (واحتمال) كون الفرد الواقعي موجودا في الاطراف الباقية كاحتمال كون الفرد الأوّل (المرتكب) هو الفرد الواقعي بلا فرق ، (على) ان ارتكاز العقلاء والمتشرّعة لا يحتملونه لشدّة استغرابه مما يجعل انصرافا في أدلّة الاصول المؤمّنة عن هكذا ترخيصات.

إذن لا معنى للترخيص المشروط بترك ما عدا مقدار الجامع ، بل عليك إمّا ان تراعي كل الأطراف او لا تراعي أيّ طرف.

٢. الصحيح ـ كما اوضحنا في الحاشية على الجزء الاوّل وفصّلنا ـ هو جواز الترخيص ثبوتا في كل اطراف العلم الاجمالي ، إلّا أننا نستبعد ذلك في الموارد المهمّة في نظر الشارع وهي موارد الدماء والاعراض والاموال ، ونستبعد ذلك مع قلّة الأطراف أيضا ، لكن إذا زادت الاطراف بحيث لم يعد هناك مانع في نظر المتشرعة من إجراء الاصول المؤمّنة في كل الأطراف ولو بنحو التدريج فحينئذ يعمل المقتضي عمله ، ونقصد من المانع الاستهجان والتناقض الذي يرونه بين حرمة الفرد الواقعي الموجود في الاطراف والترخيص في كل الاطراف إذا كان واضحا يشكل قرينة لبّية على صرف الادلّة الى وجهة معيّنة ، فما لم يعلم بوجود هكذا قرينة نأخذ بظاهر الادلّة اللفظية ، وقد شرّع لنا الشارع المقدّس اصالات مؤمّنة في الشبهات البدويّة وأطلقها ورخّص باجرائها مطلقا. اي حتّى ولو كنا نظنّ بمخالفتها للواقع. ومن البديهي انّ هذه التوسعة في إجراء الاصول المؤمّنة توقع المكلّف في مخالفة الواقع كثيرا في حياته ... وعليه فإذا بلغت الأطراف عشرة فما فوق لا مانع من إجراء الاصول المؤمّنة ـ في أحدها ـ كاصالة الحلّ المستفادة من صحيحة

١٨٢

وفي ضوء ما تقدّم قد يقال : إنّه لا تبقى ثمرة بين القول بالعلّية

__________________

عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ، والمدعومة بعدة روايات ذكرت في حاشية الجزء الأوّل ص ١١١ ، ولا علم لنا بثبوت مرتبة عالية من الاهتمام للمولى تقتضي التحفّظ التام على الواقع المعلوم بالاجمال ، اضافة إلى أنّ هذا الترخيص الذي ادّعيناه يلائم الترخيص المطلق في الشبهات البدوية ، إذ قد يكون احتمال إصابة نجاسة اناء في الشبهة البدوية اقوى بكثير من احتمال اصابتها إناء آخر في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ، ولعلّ هذا هو السرّ في عدم تقييد الشارع لهذه الاصول المؤمّنة بأن تكون في الشبهات البدوية.

وهذه المقالة ليست بشاذّة إذ أنّ هناك من يقول بحلّية كل الاطراف مطلقا ، ولم يقيد بالموارد الغير مهمّة في نظر الشارع وبكثرة الأطراف ، قال السيد المروّج في حاشيته على الكفاية ج ٤ ص ١٦١ : الثالث : أنّه كالشك البدوي ، وهو ظاهر اربعين العلامة المجلسي على ما حكاه المحقّق القمّي عنه في قانون البراءة ، حيث قال فيه : «وقيل يحلّ له الجميع لما ورد في الأخبار الصحيحة إذا اشتبه عليك الحلال والحرام فانت على حلّ حتّى تعرف الحرام بعينه ، وهذا أقوى عقلا ونقلا» والظاهر اختيار العلامة المجلسي له ، انتهى كلام السيد المروّج (حفظه الله).

وقد يقول بذلك صاحب الكفاية أيضا إذ قال : لا يبعد ان يقال (ربما يقال) ان التكليف حيث لم ينكشف بالعلم الاجمالي تمام الانكشاف وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة جاز الاذن من الشارع بمخالفته احتمالا بل قطعا ، ومحذور مناقضته مع المقطوع إجمالا إنّما هو محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الواقعي في الشبهة غير المحصورة بل الشبهة البدوية ضرورة عدم تفاوت في المناقضة بين التكليف الواقعي والاذن بالاقتحام في مخالفته بين الشبهات اصلا ، فما به التفصّي عن المحذور فيهما كان به التفصي عنه في القطع به في الاطراف المحصورة ايضا كما لا يخفى. ويتضح راينا اكثر في الحواشي التالية.

١٨٣

والقول بالاقتضاء (١) ، إذ على كلّ حال لا يجري الاصل المؤمّن في بعض الأطراف ، ولكن سيظهر فيما يأتي تحقّق الثمرة في بعض الحالات.

__________________

(١) إلى حدّ الآن تبين من الجزء الأول والجزء الثاني ان السيد الشهيد (قده) يرى عدم إمكان الترخيص ـ إثباتا ـ في كل الأطراف لأنّ ذلك على خلاف ارتكاز العقلاء ، وهو ما يسمى بعلّية العلم الاجمالي لحرمة المخالفة القطعية ، ويرى عدم وجود دليل على القول بالترخيص المشروط لقصور الأدلّة عن إفادته ، وأمّا إجراء الترخيص في بعض الاطراف مع عدم منع العقلاء عنه ومع عدم كونه من الترخيص المشروط وإنّما مع فرض عدم وجود معارض لجريان الاصل المؤمّن في بعض الأطراف فهل هو ممكن إثباتا أم لا؟ والجواب على ذلك : أنه بما أنّ السيد الشهيد (قده) يرى ان العلم الاجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية ثبوتا ـ أي بنحو الاقتضاء لا بنحو العلّية ـ فمع عدم وجود موانع اثباتية يكون ايضا كذلك اثباتا ، مما يعني جواز جريان الاصول المؤمّنة في بعض الأطراف مع عدم وجود معارض كما سيتّضح بالتفصيل في البحث الآتي. أمّا لو قلنا بالعلّية ـ كما يقول المحقق العراقي ـ فلا يجوز لنا إجراء الاصول المؤمّنة في بعض الاطراف ولو مع عدم معارض ، بل لا بدّ من وجود نكتة في المقام تعطّل العلم الاجمالي عن التنجيز ليتاح للأصل المؤمّن ان يجري ، كما سيتّضح لك إن شاء الله عند البحث في الركن الثالث من اركان منجّزية العلم الاجمالي ، وهذا هو المراد من قول السيد الشهيد «ولكن سيظهر فيما يأتي تحقّق الثمرة في بعض الحالات».

١٨٤

٤ ـ جريان الاصل في بعض الأطراف بلا معارض

اتضح مما سبق ان دليل الأصل (١) لا يفي لاثبات جريان الأصل المؤمّن في بعض الأطراف ، وذلك بسبب المعارضة ، ولكن قد تستثنى من ذلك عدّة حالات :

منها (٢) : ما إذا كان في أحد طرفي العلم الاجمالي اصل واحد مؤمّن وفي الطرف الآخر أصلان طوليّان ، ونقصد بالأصلين الطوليين ان يكون أحدهما حاكما (٣) على الآخر ورافعا لموضوعه تعبّدا ، ومثال ذلك :

__________________

(١) أي اتضح مما سبق عدم جريان الاصول المؤمّنة في بعض الاطراف ، فقاعدة الطهارة مثلا لا تجري في أحد الاناءين المتنجّس أحدهما ، وذلك بسبب المعارضة بين جريان الطهارة في أحدهما وجريانها في الآخر.

(٢) هذه الحالة ذكرها المحقق العراقي رحمه‌الله.

(٣) تقدّم معنى الحكومة وسيأتي لا حقا في محلّه ونختصره هنا لتبيين هذا المطلب فنقول : قد ذكرنا سابقا ان معنى الحكومة إنّما هي ناظرية دليل إلى موضوع دليل آخر بمعنى التصرّف فيه تعبّدا كقوله «لا ربا بين الوالد وولده» فانه يتصرف بموضوع «الربا حرام» فيضيّقه ، وقد يوسّعه كما في قوله «الطواف في البيت صلاة» ... وهذا لا ينطبق على الاستصحاب واصالة الطهارة ، وذلك لأنّ الاستصحاب غير ناظر إلى التصرف في موضوع اصالة الطهارة (الذي هو الشك في نجاسة الشيء) وانما يلغيه من الأساس ، ويلغى بالتالي موضوع اصالة الطهارة ، وهذه لا ينبغي ان

١٨٥

__________________

تسمى حكومة وان ادّعى السيد الخوئي في مصباحه ج ٣ ص ٣٤٩ انها حكومة ، ونعم ما أجابه به السيد الشهيد في بحوثه ج ٧ ص ١٦٩ ـ ١٧٠ بأنّ هذا ايجاد مصداقين للحكومة لا جامع بينهما وكأن الحكومة مشترك لفظي بين معنيين متغايرين تماما كلفظتي عين وقرء ... (فراجع)

ومن هنا تعرف السبب الذي جعل السيد الشهيد (قده) يقول «بناء على ان الاستصحاب حاكم على اصالة الطهارة» ، ولا ادري السبب الذي جعل السيد الخوئي يطلق على الغاء بعض الادلّة لموضوع البعض الآخر اصطلاح الحكومة ، بل هو بنفسه لم يذكر وجها لذلك(*)

__________________

(*) (أقول) لا شك في تقدّم الاستصحاب على اصالة الطهارة عرفا وشرعا ، إنّما الكلام في وجه هذا التقدّم ، فهناك أربع وجوه لهذا التقدّم وهي أن هذا التقدم من باب الورود ومنها انه من باب الحكومة وهي مقالة المحقّق النائيني وتبعه على ذلك تلميذه السيد الخوئي ، ومنها انه من باب الأخصّيّة وهي مقالة السيد الشهيد ومنها انه من باب الكاشفية.

وستعلم في محلّه ان الصحيح هو انّ تقدّم الاستصحاب على اصالة الطهارة انما هو بالاخصّية كما يقول السيد الشهيد رحمه‌الله ، وذلك لما سنقوله فيما بعد من ان اصالة الطهارة والاستصحاب اصلان تنزيليان ولا كاشفية في الاستصحاب ، وان جمعهما يصير كما يلي : إذا كانت الحالة مشكوكة فهي بمنزلة الطاهر إلّا أن يكون لها حالة سابقة فتكون بمنزلتها تعبدا ..

ومن جهة ثانية لنا ان نتساءل هل تجري الاصول المؤمّنة في الاطراف حتى تتعارض وتتساقط؟

الجواب هو لا ، وذلك لما ذكره السيد الشهيد (قده) في الجزء الاوّل من مانعيّة ارتكاز العقلاء من اطلاق ادلة الاصول المؤمّنة لحالات العلم الاجمالي بحيث تنصرف أذهانهم منها الى خصوص حالات الشك البدوي.

(أقول) بل ارتكاز العقلاء يمنع من إجراء الامارات المؤمّنة ايضا كالبيّنة فضلا عن

١٨٦

ان يعلم إجمالا بنجاسة إناء مردّد بين إناءين أحدهما مجرى لاصالة الطهارة فقط (١) ، الآخر مجرى لاستصحاب الطهارة واصالتها معا ـ بناء على ان الاستصحاب حاكم على اصالة الطهارة ـ فقد يقال في مثل ذلك : إنّ اصالة الطهارة في الطرف الأوّل تعارض استصحاب الطهارة في الطرف الثاني ولا تدخل أصالة الطهارة للطرف الثاني في هذا التعارض لانها متأخّرة رتبة عن الاستصحاب ومتوقّفة على عدمه فكيف تقع طرفا للمعارضة في مرتبته؟ وبكلمة اخرى : إن المقتضي لها إثباتا لا يتمّ إلّا بعد سقوط الاصل الحاكم وهو الاستصحاب ، والسقوط نتيجة المعارضة بينه وبين اصالة الطهارة في الطرف الأول ، وإذا كان الاصل متفرّعا في اقتضائه للجريان على المعارضة فكيف يكون طرفا فيها؟ وإذا استحال ان يكون طرفا في تلك المعارضة سقط المتعارضان أوّلا وجرى الأصل الطولي بلا معارض (٢).

__________________

(١) كما إذا تردّد مائع بين الماء الطاهر والبول النجس ، فانه تجري فيه أصالة الطهارة فقط ، وكان في الإناء الآخر ماء طاهر سابقا.

(٢) إذن فهناك ثمرة للفرق بين مسلكي العلّية والاقتضاء وهي أننا لو قلنا بالعليّة ـ أي باستحالة الترخيص ولو في بعض الاطراف ـ لما صحّ.

__________________

الأصول المحرزة كاستصحاب الطهارة ، فلو فرضنا ان بيّنتين ادّعتا طهارة الاناءين كلّ ادّعت طهارة أحدهما ، وكان المكلّف يعلم بنجاسة احدهما اي باشتباه احدى البيّنتين ، ففي هذه الحالة لا تجري الامارات المؤمّنة فضلا عن الاصول المؤمّنة ، ولعلّ هذا هو السبب الذي جعل السيد المصنف يقول «فقد يقال في مثل ذلك» ، نعم هناك حالات ستأتي معنا لا يمانع فيها العقلاء من جريان الامارات والاصول المؤمّنة فيها كما لو كان أحدهما خارجا عن محلّ الابتلاء او كما لو كانت الاطراف كثيرة فانّها تجري لعدم وجود مانع عقلائي من ذلك ، وقد مرّ بيان ذلك وسيأتي.

١٨٧

ومنها : ما إذا كان دليل الأصل شاملا لكلا طرفي العلم الاجمالي بذاته وتوفّر دليل أصل آخر لا يشمل إلّا أحد الطرفين ، ومثال ذلك : ان يكون كلّ من الطرفين موردا للاستصحاب المؤمّن وكان احدهما خاصّة موردا لاصالة الطهارة (١) ، ففي مثل ذلك يتعارض الاستصحابان

__________________

جريان أصل مؤمّن في بعض الاطراف ولو في هكذا حالة ، وذلك للعلّية التامة للعلم الاجمالي في تنجيز أطرافه ، وأما لو قلنا بالاقتضاء لامكن القول بجريان الاصول المؤمّنة في بعض الاطراف ، لان العلم الاجمالي انما ينجّز ان لم يثبت ترخيص في بعض الاطراف ، فاذا ثبت وجود ترخيص فيها لم يعمل العلم الاجمالي عمله. (فقال) المحقق العراقي ناقضا مسلك الاقتضاء الذي قال به المحقق النائيني بأن ارتكاز المتشرعة يأبى عن التسليم بهذا الكلام ، فهم يستنكرون اجراء الطهارة في الاناء الآخر بدعوى انه لم يقع في المعارضة ، وهذا يعني عدم صحّة مسلك النائيني بالاقتضاء وصحّة مسلك العراقي بالعلّية.

(١) اي : ولم يكن الطرف الآخر موردا لاصالة الطهارة كما لو تردّد أمر هذا الطرف الآخر بين الطاهر وبين النجس ذاتا كالخمر ـ بناء على القول الضعيف بنجاسته ـ ولم نؤمن بجريان اصالة الطهارة في محتمل النجاسة ذاتا (بدعوى احتمال ان تكون قراءة «قذر» في «كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر» بنحو الفعل ، أي حتى تعلم انه قذر أي تقذّر وأصابته نجاسة عرضية ، فيقتصر على القدر المتيقّن وهو خصوص النجاسة العرضية) ، ومثال هذه الحالة ما لو علمنا بنجاسة أحد مائعين إما الاوّل الذي كان خلّا وشك الآن في تحوّله الى خمر ، وإمّا الثاني الذي كان ماء طاهرا وشككنا الآن في وقوع قطرة خمر فيه ، فهنا تجري أصالة الطهارة في الثاني بلا معارض.

١٨٨

ويتساقطان وتجري أصالة الطهارة بدون معارض سواء قلنا بالطوليّة بين الاستصحاب واصالة الطهارة او بالعرضيّة (١) ، وذلك لان اصالة الطهارة في طرفها لا يوجد ما يصلح لمعارضتها لا من دليل أصالة الطهارة نفسها ، ولا من دليل الاستصحاب ، أمّا الاوّل فلأنّ دليل اصالة الطهارة لا يشمل الطرف الآخر بحسب الفرض ليتعارض الأصلان ، وأمّا الثاني فلأنّ دليل الاستصحاب مبتلى بالتعارض في داخله بين استصحابين ، والتعارض الداخلي في الدليل يوجب إجماله (٢) ، والمجمل لا يصلح أن يعارض غيره.

__________________

(١) كما لو قلنا بتخصيص الاستصحاب لاصالة الطهارة.

(٢) ملاحظة : اذا كان أحد الإناءين متنجسا وكانت حالتهما السابقة الطهارة ففي هذه الحالة يتعارض استصحابا الطهارة فيتساقطان كما هو معلوم ، وهذا هو مراده من قوله هنا بأن دليل الاستصحاب يكون مبتلى بالتعارض في داخله فلا يمكن له أن يعارض غيره في نفس الوقت. وذلك كما لو فرضنا أن أخوين يتعاركان فانه مع تساوي قوتيهما وانشغالهما ببعضهما لا يمكن أن يعارض أحدهما الغريب. (والمراد) من «يوجب إجماله» هو انه إما انهما يجريان فيتساقطان وإما انهما لا يجريان من الاصل ـ وهو الصحيح ـ فمع هذا الاجمال والتردد في جريان الاستصحابين وعدم جريانهما لا يعود هذان الاستصحابان قادرين على المعارضة (*)

__________________

(*) الصحيح انه لا ابتلاء بالتعارض في داخل دليل الاستصحاب حتى يوجب إجماله ، (نعم) ما ذكره السيد الشهيد (قده) في هاتين الحالتين من حيث النتيجة صحيح ولكن بطريق آخر وهو : بما أنّ جريان الاصول المؤمّنة يعارض العلم بتنجيز احد الاطراف فلا تجري ، إذ أي معنى لجريان الاستصحابان في أطراف العلم الاجمالي ثم يتساقطان؟! (على أي حال) بعد ذلك يأتي دور الاصل الطولي كاصالة الطهارة فيجري بلا معارض ولا

١٨٩

ومنها : ان يكون الأصل المؤمّن في احد الطرفين مبتلى في نفس مورده باصل معارض منجّز دون الأصل في الطرف الآخر ، ومثاله أن يعلم إجمالا بنجاسة أحد إناءين وكلّ منهما مجرى لاستصحاب الطهارة في نفسه ، غير أنّ احدهما مجرى لاستصحاب النجاسة أيضا لتوارد الحالتين عليه مع عدم العلم بالمتقدّم والمتأخّر منهما ، فقد يقال حينئذ بجريان استصحاب الطهارة في الطرف الآخر بلا معارض ، لان استصحاب الطهارة الآخر ساقط بالمعارضة في نفس مورده باستصحاب النجاسة ، وقد يقال في مقابل ذلك بأنّ التعارض يكون ثلاثيا ، فاستصحاب الطهارة المبتلى [باستصحاب النجاسة] يعارض استصحابين في وقت واحد ، وتحقيق الحال متروك إلى مستوى أعمق من هذا البحث (*).

وإذا صحّ جريان الأصل بلا معارض في هذه الحالات كان ذلك تعبيرا عمليا عن الثمرة بين القول بالعلّية والقول بالاقتضاء (١).

__________________

(١) الذي هو قول السيد الشهيد.

__________________

مانع عقلائي ، (والجدير بالذكر) أنّ المانع العقلائي هو الذي يؤدّي الى التناقض في نظر العقلاء ، وإن لم يكن يؤدّي اليه بنظر العقل ، فما لم يؤدّ إلى التناقض في نظر العقلاء كما في هاتين الحالتين فلا مانع عقلائي من جريانها ، وهذا هو مقياسنا في جريان الامارات والاصول المؤمّنة.

(*) يمكن القول في هذه الحالة انه يشترط في قاعدة الاستصحاب وجود يقين بحالة سابقة عند المكلّف لكي يستصحبه ، ومع توارد الحالتين لا يوجد هكذا يقين ، لعدم العلم بالحالة السابقة ، ولذلك لا يجري الاستصحابان المتضادّان المتواردان على مورد واحد من باب السالبة لانتفاء الموضوع ، وح يجري الاستصحاب المنفرد في الطرف الآخر بلا معارض ولا مانع عقلائي.

١٩٠

وقد تلخص ممّا تقدم انّ العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعية ، وأنّه كلما تعارضت الاصول الشرعية المؤمّنة في أطرافه وتساقطت حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية ، لتنجّز الاحتمال في كل شبهة بعد بقائها بلا مؤمّن شرعي وفقا لمسلك حقّ الطّاعة (١) ، وحيث إنّ تعارض الاصول يستند إلى العلم الاجمالي فيعتبر تنجّز جميع الأطراف من آثار نفس العلم الاجمالي.

ولا فرق في منجّزية العلم الاجمالي بين أن يكون المعلوم تكليفا من نوع واحد او تكليفا من نوعين كما إذا علم بوجوب شيء او حرمة الآخر (٢).

كما لا فرق أيضا بين أن يكون المعلوم نفس التكليف (٣) أو موضوع

__________________

(١) إنّما قال «وفقا لمسلك حقّ الطاعة» لعدم تناسب هذا الكلام على مسلك قبح العقاب ، وذلك لانه ينبغي ان يقال على مسلك قبح العقاب ، وأنّه كلما تعارضت الاصول الشرعية المؤمّنة في اطرافه وتساقطت لا يحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية لعدم تنجّز الاحتمال في كل شبهة لحكم العقل بالبراءة مع عدم البيان ، وقد اشار السيد الشهيد لما ذكرناه الآن (ص ١٦٢) وقال «وهكذا يتّضح أنّه على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يمكن تبرير وجوب الموافقة القطعية للعلم الاجمالي وهذا بنفسه من المنبّهات على بطلان القاعدة المذكورة».

(٢) ففي هذه الحالة يحكم العقل بوجوب امتثال الأوّل وترك الآخر.

(٣) كالعلم بحرمة شرب احد اناءين.

١٩١

التكليف (١) ، لأنّ العلم بموضوع التكليف اجمالا يساوق العلم الاجمالي بالتكليف ، ولكن على شرط ان يكون المعلوم بالاجمال تمام (٢) الموضوع للتكليف الشرعي ، وأمّا إذا كان جزء الموضوع للتكليف على كل تقدير (٣) أو على بعض التقادير (٤) فلا يكون العلم منجّزا ، لأنّه لا يساوق حينئذ العلم الاجمالي بالتكليف ، ومن هنا لا يكون العلم الاجمالي بنجاسة إحدى قطعتين من الحديد منجّزا خلافا للعلم الاجمالي بنجاسة أحد ماءين او ثوبين ، امّا الاوّل فلأنّ نجاسة قطعة الحديد ليست تمام الموضوع لتكليف شرعي بل هي جزء الموضوع لوجوب الاجتناب عن الماء مثلا ، والجزء الآخر ملاقاة الماء للقطعة الحديدية والمفروض عدم العلم بالجزء الآخر ، وأمّا الثاني فلأن نجاسة الماء تمام الموضوع لحرمة شربه ، ومثل الأوّل (٥) العلم الاجمالي بنجاسة قطعة حديدية أو نجاسة

__________________

(١) كالعلم بكون احد المائعين خمرا ، فانّه يساوق العلم بحرمة أحدهما.

(٢) ككون المعلوم بالاجمال خمرا فانّه تمام الموضوع لحرمة شربه.

(٣) ككون إحدى حديدتين او حجرين نجسا ، فانه لا أثر شرعي لنجاسة الحديدة أو الحجر على المكلّف حتّى يلامسها الماء فيترتّب حينئذ اثر شرعي على هذا الماء الذي لاقاها.

(٤) ككون احد شيئين ـ إمّا الحديدة وإمّا الماء ـ نجسا ، فانّ النجاسة إذا كانت واقعة على الحديدة فلا اثر شرعي على المكلّف ، وإن كانت واقعة في الماء فهناك اثر شرعي ، إذن يترتّب اثر شرعي على بعض التقادير ، فتكون الحالة هكذا : إمّا انه قد ترتّب علينا اثر شرعي او لا ، فلا يكون ح العلم الاجمالي منجّزا.

(٥) الأوّل هو العلم الاجمالي بنجاسة إحدى حديدتين ، والحالة الثانية هي العلم بنجاسة إمّا قطعة الحديد وإمّا الماء ، فيقول (قده) ان الحالة الثانية كالحالة الاولى في عدم تنجيز العلم الاجمالي.

١٩٢

الماء ، لأنّ المعلوم هنا جزء الموضوع على أحد التقديرين (١).

والضابط العام للتنجيز ان يكون العلم الاجمالي مساوقا للعلم الاجمالي بالتكليف الفعلي ، وكلّما لم يكن العلم الاجمالي كذلك فلا ينجّز وتجري الاصول المؤمّنة في مورده بقدر الحاجة (٢). ففي مثال العلم بنجاسة قطعة الحديد او الماء تجري أصالة الطهارة في الماء ولا تعارضها اصالة الطهارة في الحديد إذ لا أثر عمليّ لنجاسته فعلا (٣).

__________________

(١) اي على تقدير أن يكون النجس هو قطعة الحديد.

(٢) كان الأولى ان يعبّر هكذا «وتجري الاصول المؤمّنة في الموارد التي يترتب عليها آثار شرعية» ، فإنّ الاصول بطبيعتها تجري سواء كان المكلّف بحاجة إليها ام لم يكن.

(٣) ذكر هذا المطلب في البحوث ج ٥ / ص ٣٠٠.

١٩٣
١٩٤

أركان منجّزية

العلم الاجمالي

ـ ٢ ـ

١٩٥
١٩٦

نستطيع ان نستخلص مما تقدم

ان قاعدة منجّزية العلم الاجمالي لها عدّة أركان :

(١)

الرّكن الأوّل : وجود العلم بالجامع ، إذ لو لا العلم بالجامع لكانت الشبهة في كل طرف بدويّة وتجري فيها البراءة الشرعية.

ولا شك في وفاء العلم بالجامع بالتنجيز فيما إذا كان علما وجدانيا ، وأمّا إذا كان ما يعبّر عنه بالعلم التعبّدي فلا بدّ من بحث فيه ، ومثاله ان تقوم البيّنة مثلا على نجاسة احد الاناءين فهل يطبّق على ذلك قاعدة منجّزية العلم الاجمالي أيضا؟ .. وجهان : فقد يقال بالتطبيق على أساس ان دليل الحجيّة يجعل الامارة علما فيترتب عليه آثار العلم الطريقي التي منها منجّزية العلم الاجمالي ، وقد يقال بعدمه على اساس انّ الاصول إنّما تتعارض إذا أدّى جريانها في كل الاطراف إلى الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف الواقعي ، ولا يلزم ذلك في مورد البحث لعدم العلم بمصادفة البيّنة للتكليف الواقعي.

وكلا هذين الوجهين غير صحيح.

وتحقيق الحال في ذلك : أنّ البيّنة تارة يفترض قيامها ابتداء على

١٩٧

الجامع ، واخرى يفترض قيامها على الفرد ثمّ تردّد موردها بين طرفين.

أمّا في الحالة الاولى فنواجه دليلين : أحدهما دليل حجية الامارة الذي ينجّز (١) مؤدّاها ، والآخر دليل الأصل الجاري في كلّ من الطرفين في نفسه ، وهما دليلان متعارضان لعدم إمكان العمل بهما معا ، والوجه الأوّل (٢) يفترض تماميّة الدليل الأوّل ويرتّب على ذلك عدم إمكان إجراء الاصول ، والوجه الثاني لا يفترض الفراغ (٣) عن ذلك فيقول لا محذور في جريانها ، والاتّجاه الصحيح هو حلّ التعارض القائم بين الدليلين.

فان قيل : أليس دليل حجيّة الامارة حاكما على دليل الأصل؟ ..

كان الجواب : أنّ هذه الحكومة إنما هي فيما إذا اتّحد موردهما لا في مثل المقام ، إذ تلغي الأمارة تعبّدا الشكّ بلحاظ الجامع ، وموضوع الاصل في كلّ من الطرفين الشك فيه بالخصوص ، فلا حكومة بل لا بدّ من الاستناد إلى ميزان آخر لتقديم دليل الحجيّة على دليل الاصل من قبيل الأخصيّة (٤) او نحو ذلك ، وبعد افتراض التقديم نرتّب عليه آثار العلم

__________________

(١) اي الدليل الذي ينجّز مؤدّى الأمارة.

(٢) وهو الذي ذكره المصنّف في الصفحة السابقة بقوله «فقد يقال بالتطبيق على أساس ...».

(٣) اي لا يفترض تمامية الدليل الأوّل فلا يرتّب على ذلك عدم إمكان إجراء الاصول ، اي ليس الامر مفروغا منه بل لا محذور في جريان الاصول المؤمّنة.

(٤) لأخصيّة مورد دليل حجيّة الامارة من مورد دليل اصالة الطهارة من جهة رغم انّ بين الموردين عموما وخصوصا من وجه ، وجه الأخصّيّة

١٩٨

الاجمالي.

وامّا في الحالة الثانية فالأصل ساقط في مورد الامارة للتنافي بينهما (١) وحكومة الامارة على الاصل ، ولمّا كان موردها غير معيّن ومردّدا بين طرفين فلا يمكن إجراء الأصل في كلّ من الطرفين للعلم بوجود الحاكم المسقط للأصل في احدهما ، ولا مسوّغ لاجرائه في احدهما خاصّة ، وبهذا يتنجّز الطرفان معا.

(٢)

الرّكن الثاني : وقوف العلم على الجامع وعدم سرايته إلى الفرد ،

__________________

في محل الالتقاء ان المتشرّعة يرون الأخذ باصالة الطهارة في كل حالات الشك بالطهارة والنجاسة إلّا في حالات وجود أمارة في البين ، وكأنّ السبب في ذلك هو كون الامارة فيها جنبة كشف معتبرة شرعا.

ويقصد بقوله «أو نحو ذلك» أي من قبيل الاقوى كاشفية ...

(١) لما ذكره في التقسيم الأوّلي من افتراض قيام الامارة على الفرد ثمّ تردّد موردها بين طرفين ، فأيّ طرف يتصور ان يجري فيه اصل مؤمّن يحتمل ان يكون هو مورد الامارة فلا يجري فيه الأصل لما ذكره السيد المصنّف من الحكومة (*)

__________________

(*) سيأتيك في الجزء الرابع ص ٣٠٢ قول السيد (قده) انّ الامارة ليست مقدّمة على الاصل المؤمّن ـ كاصالة الطهارة ـ من باب الحكومة بل هذا التقديم انما هو من باب" أخصية دليل حجية الخبر والظهور بل كونه نصّا في مورد تواجد الاصول على الخلاف ، للجزم بانعقاد السيرة على تنجيز الواقع بالرواية والظهور ، وعدم الرجوع إلى البراءة ونحوها من الاصول العملية".

١٩٩

إذ لو كان الجامع معلوما في ضمن فرد معيّن لكان علما تفصيليا لا إجماليا ولما كان منجّزا إلّا بالنسبة إلى ذلك الفرد بالخصوص ، وحيثما يحصل علم بالجامع ثم يسري العلم إلى الفرد يسمّى ذلك بانحلال العلم الاجمالي بالعلم بالفرد .. وتعلّق العلم بالفرد له عدّة أنحاء :

أحدها : ان يكون العلم المتعلّق بالفرد معيّنا لنفس المعلوم بالاجمال بمعنى العلم بأنّ هذا الفرد هو نفس المعلوم الاجمالي المردّد ، ولا شك حينئذ في سراية العلم من الجامع إلى الفرد وفي حصول الانحلال (١).

ثانيها : ان لا يكون العلم بالفرد ناظرا إلى تعيين المعلوم الاجمالي مباشرة غير أن المعلوم الاجمالي ليس له اي علامة أو خصوصية يحتمل ان تحول دون انطباقه على هذا الفرد ، كما إذا علم بوجود إنسان في المسجد ثم علم بوجود زيد.

__________________

(١) الحقيقي والذي يعني زوال العلم الاجمالي وجدانا (بحوث السيد الشهيد ج ٥ ص ٢٣٩).

__________________

وقد استدل (رضي الله عنه) على ما ذكر ، نعم هي حاكمة على رأي بعضهم كالمحقّق النائيني والسيد الخوئي (عليهما رحمات الله) وواردة عندنا.

ومن يتذكّر مسلك المحقق العراقي في كون المنجّز في حالات العلم الاجمالي هو الفرد الواقعي ، ولتنجّزه أوجبنا الموافقة القطعية يعلم هنا أننا لا نفرق بين الحالتين اللتين فرضهما السيد المصنف رحمه‌الله ، وذلك لرجوع الأولى إلى الثانية ، فان العلم بنجاسة الجامع أي بنجاسة «أحدهما» مرجعه الى العلم بنجاسة «أحدهما الخارجي الضائع» ...

٢٠٠