دروس في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

وعليه فالبراءة الشرعية لا تجري (١) ولكن العلم الاجمالي المذكور غير منجّز لما عرفت (٢).

وينبغي أن يعلم ان دوران الامر بين المحذورين قد يكون في واقعة واحدة وقد يكون في أكثر من واقعة بأن يعلم إجمالا بانّ عملا معيّنا إمّا محرّم في كل أيام الشهر او واجب فيها جميعا ، وما ذكرناه كان يختصّ بافتراض الدوران في واقعة واحدة ، وامّا مع افتراض كونه في اكثر من واقعة (٣) فنلاحظ ان المخالفة القطعية تكون ممكنة حينئذ ، وذلك بأن يفعل في يوم وبترك في يوم ، فلا بدّ من ملاحظة مدى تأثير ذلك على الموقف وهذا ما نتركه لدراسة أعلى (*).

__________________

(١) لا تبعد صحّة هذا الوجه على ما ذكرناه سابقا في هذا الجزء ص ١٦١ وص ١٨٦.

(٢) من عدم إمكان تنجيزه وذلك لعدم إمكان الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية.

(٣) كما لو حلف على لبس أحد الثوبين وترك لبس الآخر ثم نسي أيّ الثوبين حلف على لبسه وأيّهما حلف على عدم لبسه ، فهنا يمكن المخالفة القطعية بأن يلبسهما يوما وينزعهما يوما.

__________________

(*) ويقول السيد الخوئي (قده) في مصباحه ج ٢ ص ٣٣٩ ـ ٣٤٠ بانّ على المكلّف ح أن يتجنّب المخالفة القطعية ويأتي بما فيه الموافقة الاحتمالية ، وذلك بأن يختار اما الفعل طوال أيّام الشهر وإمّا الترك (انتهى بتصرف يسير).

(أقول) إن هاهنا فرضين :

١. فامّا ان يلبسهما يوما ويتركهما آخر وهنا نعلم بالمخالفة الواقعية ، ولكن بنحو نصف

٢٨١

__________________

المحتمل.

٢. وإمّا ان يلبسهما كل ايّام الشهر او يتركهما كلّها فهنا يحتمل ٥٠% مثلا انه قد وافق الموافقة التامّة ويحتمل أيضا ٥٠% أنّه قد خالف مخالفة تامّة ، وفي هذه الحالة فهل نقدّم نصف الاحتمال على نصف المحتمل ام العكس؟ وبتعبير آخر أيّه الأهمّ والذي يحكم العقل بمراعاته وتقديمه على الآخر؟

والجواب أنّه إن علمنا بأهميّة احدهما على الآخر قدّمناه بلا إشكال عند أحد وليس هذا محلّ خلاف وكلام ، إنّما الكلام مع عدم علمنا بأهمية احدهما بخصوصه ، وفي هذه الحالة لا نرى للعقل حكما وإنّما يتوقّف فيتعيّن علينا التخيير ، فان شاء فعل وإن شاء ترك.

فان قلت : نقدّم جانب الترك لانّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، وذلك كما إذا تردّدنا بين ان نتوضّأ بالماء المغصوب (الذي لا يوجد لدينا غيره) وان نتيمّم ، فهنا يقدّم جانب الحرمة على جانب الوجوب ، وهذا حكم العقل والعقلاء ، بل يستفاد من بعض موارد اشتباه الواجب بالحرام تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب.

ولعلّه لما ذكرنا قال المحقّق الآشتياني (قده) في حاشيته على الرّسائل ان الاصل في هذه الحالة تقديم جانب الحرمة وذلك لانّ هذا المورد مصداق لحالة دوران الامر بين التعيين والتخيير ، وفي هذه الحالة يحكم العقل بمراعاة الطرف المعيّن (انتهى كلامه بتصرّف يسير).

قلت : إنّ تقديم حكم على آخر إنّما يتمّ بناء على أهمية الملاكات ، فان كان ملاك الحرمة أهمّ كما في مثال الوضوء والماء المغصوب السالف الذكر قدّم ، وإن كان جانب الوجوب أهم قدّم ، مثال الثاني إذا تزاحم وجوب حفظ نفس مع حرمة التصرّف بالمغصوب ، او وجوب قتل أعداء الدّين في المعركة مع حرمة قتل المسلم ، فانّ هناك حالات يجب فيها تقديم جانب وجوب قتل أعداء الدّين على جانب حرمة قتل المؤمّن ، كما إذا تترّس الكفّار بالمؤمن وتوقّف انتصار المسلمين على قتل هذا المؤمّن أو كما في تقديم جانب وجوب انقاذ النفس او الغير من المؤمنين على حرمة إعانة الحاكم الظالم

٢٨٢

__________________

فالمسألة إذن تتوقّف على أهمية الملاكات ولا خصوصية للحرمة.

ولذلك لو التفت أحد الى ما ذكرنا قد لا يحكم بتقديم جانب الحرمة بدعوى أن العقل لا يرى مع التردّد في الأهمية تقديم جانب الحرمة.

ولعلّه لما ذكرنا لم يتعرّض السيد الشهيد (قده) الى ذكر هذا الامر.

ولكن رغم ذلك لا ينبغي التردد في لزوم مراعات جانب الحرمة ـ وهو أن يترك كلا الثوبين ـ لوضوح كون دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، ولذلك ترى التاجر إن تردّدت تجارته بين ربح الف الف درهم وبين خسارة الف الف درهم أيضا فانه لا يقدم على هذه التجارة الخطرة ، وكذلك المريض فانه ان تردّد عنده دواء بين النفع والضرر بنحو التساوي فانه لا يستعمله.

٢٨٣
٢٨٤

الوظيفة عند الشك

في

الأقلّ والأكثر

٢٨٥
٢٨٦

الوظيفة العملية في حالة الشك

ـ ٤ ـ

١. التقسيم الرئيسي للاقلّ والاكثر

٢. الاقلّ والاكثر في الأجزاء

٣. الاقلّ والاكثر في الشرائط

٤. الدوران بين «التعيين» و «التخيير العقلي»

٥. الدوران بين «التعيين» و «التخيير الشرعي»

٦. ملاحظات عامّة حول الاقلّ والاكثر

٢٨٧
٢٨٨

١ ـ التقسيم الرئيسي للأقل والاكثر

درسنا فيما سبق حالة الشك في اصل الوجوب وحالة العلم بالوجوب وتردّد متعلّقه بين امرين متباينين ، فالاولى هي حالة الشك البدوي التي تجري فيها البراءة الشرعية ، والثانية هي حالة الشك المقرون بالعلم الاجمالي التي تجري فيها اصالة الاشتغال.

والآن ندرس حالة العلم بالوجوب وتردّد الواجب بين الاقلّ والاكثر ، وهي على قسمين :

الاوّل : دوران الامر بين الاقلّ والاكثر الاستقلاليين ، وهو يعني ان ما يتميّز به الاكثر على الاقلّ من الزيادة ـ على تقدير وجوبه ـ يكون واجبا مستقلا عن وجوب الاقلّ ، كما إذا علم المكلّف بأنّه مدين لغيره بدرهم او بدرهمين.

الثاني : دوران الامر بين الاقلّ والاكثر الارتباطيين ، وهو يعني انّ هناك وجوبا واحدا له امتثال واحد وعصيان واحد وهو إمّا متعلّق بالاقل او بالاكثر ، كما إذا علم المكلّف بوجوب الصلاة وتردّدت الصلاة عنده بين تسعة أجزاء وعشرة.

أمّا القسم الاوّل فلا شك في أن وجوب الاقلّ فيه منجّز بالعلم وان

٢٨٩

وجوب الزائد مشكوك بشك بدوي فتجري فيه البراءة عقلا وشرعا (١) او شرعا فقط (٢) على الخلاف بين المسلكين.

وأمّا القسم الثاني فتندرج فيه عدّة مسائل نذكرها تباعا :

__________________

(١) على مسلك قبح العقاب.

(٢) على مسلك حقّ الطاعة.

٢٩٠

ـ ١ ـ

الدوران بين الاقلّ والاكثر في الأجزاء

وفي مثل ذلك قد يقال بانّ حاله حال القسم الاوّل (١) ، فانّ وجوب الاقلّ منجّز بالعلم ووجوب الزيادة ـ أي ما يشكّ في كونه جزء ـ مشكوك بدوي فتجري عنه البراءة ، لانّ هذا هو ما يقتضيه الدوران بين الاقلّ والاكثر بطبعه ، فانّ كل دوران من هذا القبيل يتعيّن في علم بالاقلّ وشك في الزائد.

ولكن قد يعترض على إجراء البراءة عن وجوب الزائد في المقام (٢)

__________________

(١) وهو ما ذكره في الصفحة الماضية من «دوران الواجب بين الاقل والاكثر الاستقلاليين».

وعلى أيّ حال فما وجدناه من الاقوال فيما نحن فيه ـ وهو القسم الثاني ـ ثلاثة :

١ ـ ان الزائد المشكوك مجرى للبراءتين العقلية والنقلية ، قال بذلك جماعة كالشيخ الانصاري في فرائده والسيد الخوئي في مصباحه.

٢ ـ انّه مجرى للبراءة النقلية دون العقلية ، وهو مختار صاحب الكفاية في كفايته وتبعه على ذلك المحقّق النائيني ، وهي مقالة السيد الشهيد (قده) أيضا على اختلاف في المباني بينهم.

٣ ـ انّه لا تجري فيه البراءة أصلا وهو مختار الآخوند الخراساني أيضا في حاشيته على الكفاية.

(٢) يحاول المعترضون على «اجراء البراءة في الزائد المشكوك» ان يخرجوا هذه المسألة او بعض حالاتها عن «الشك في التكليف الزائد»

٢٩١

ويبرهن على عدم جريانها بعدّة براهين :

البرهان الاوّل (١)

وهو يقوم على أساس دعوى وجود العلم الاجمالي المانع عن إجراء البراءة ، وليس هو العلم الاجمالي بوجوب الأقلّ أو وجوب الزائد لينفى ذلك بان وجوب الزائد لا يحتمل كونه بديلا عن الاقل فكيف يجعل طرفا مقابلا له في العلم الاجمالي ... بل هو العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو وجوب الأكثر (المشتمل على الزائد) ، ومعه لا يمكن إجراء الاصل لنفي وجوب الزائد لكونه جزء من أحد طرفي العلم الاجمالي.

وقد اجيب على هذا البرهان بوجوه :

منها : ان العلم الاجمالي المذكور منحلّ بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل على كل تقدير ، لأنّ الواجب إن كان هو الأقل فهو واجب نفسي

__________________

وادخالها في الشك في حصول المكلف به بعد معرفة التكليف أو تحويل الدوران إلى دوران بين متباينين بالتباين الكلّي او التباين الجزئي.

وسنشير الى ذلك في البراهين الآتية إن شاء الله ، فان ثبت انه شكّ في حصول المكلّف به او ان بينهما علما اجماليا بنحو التباين الكلي او الجزئي فيثبت مدّعاهم وإلّا فلا.

(١) يحاول هذا البرهان اثبات انّ هذه المسألة من دوران الامر بين المتباينين فيجري فيه ما يجري في العلم الاجمالي من وجوب الاحتياط عقلا وذلك بتحصيل الاكثر.

٢٩٢

وإن كان الواجب هو الاكثر فالاقلّ واجب غيري (١) لأنّه جزء الواجب وجزء الواجب مقدّمة له.

ونلاحظ على هذا الوجه : أنّه إن اريد به هدم الركن الثاني (٢)

__________________

(١) هذا كلام الشيخ الانصاري (قده) في الرسائل ، إذ تارة وصف وجوب الاقل بالغيري وتارة وصفه بالضمني ، بيان الغيرية ان السورة في الصلاة ـ مثلا ـ حال كونها جزء ومنظورا اليها كمقدّمة داخلية يراد منها فعلا الوصول الى تحقيق الواجب المركّب ، ولذلك فهي من هذه الجهة كالمقدّمة الخارجية أي كالسير إلى الحج بلا فرق ، ولذلك ترانا نقول عادة بانّ الشارع المقدّس تصوّر الموضوع بتمامه ـ باجزائه وشرائطه وموانعه ـ ثم ترتبا يصبّ حكمه في هذا القالب ، فالجزء في نفسه لم يصبّ عليه الحكم ، وإنّما انصبّ الحكم على المركّب بما هو مجموع. (وعلى أي حال) فالأقلّ واجب والزائد مشكوك فتجري فيه البراءة

(٢) الركن الثاني هو وقوف العلم الاجمالي على الجامع. (والمراد) انه إن أريد بهذا البرهان تحليل المسألة الى العلم بالأقلّ وشك بدوي في الزائد فالجواب عليه عدم معلومية مصداقية الأقلّ للمعلوم بالإجمال ، إذ لعلّ الواجب واقعا هو المركب الأكثر فيكون وجوب التسعة غيريا ، بينما لو كان الواجب هو الأقلّ لكان وجوب التسعة نفسيا ، فيتغايران ، فلا ينحل العلم الإجمالي الى الأقلّ والشك في الزائد (*).

__________________

(*) (أقول) وفي هذا الكلام نظر ، إذ ان المعلوم بالعلم الاجمالي هو وجوب التسعة لكن لا نعلم هل ان هذا الوجوب نفسي ام غيري ، وما نريد ان نأتي به هو التسعة بلا عنوان النفسية او الغيرية ، (إذ انك ستعرف في الصفحات الآتية عدم دخول عناوين النفسية والغيرية ونحوها في عهدة المكلّف ، ولذلك لا يجب نيّتهما ...) والتطابق حاصل بين هذه

٢٩٣

من أركان تنجيز العلم الاجمالي .. فالجواب عليه : ان الانحلال إنّما يحصل إذا كان المعلوم التفصيلي مصداقا للجامع المعلوم بالاجمال ، كما تقدّم (١) ، وليس الامر في المقام كذلك لأنّ الجامع المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسي والمعلوم التفصيلي هنا هو وجوب الأقلّ ولو كان غيريا ، وإن اريد به هدم الركن الثالث بدعوى انّ وجوب الاقلّ منجّز على اي حال ولا تجري البراءة عنه ، فتجري البراءة عن الآخر بلا معارض .. فالجواب عليه : (٢) انّ الوجوب الغيري لا يساهم في التنجيز كما تقدّم في

__________________

(١) في النحو الثالث من أنحاء انحلال الركن الثاني

(٢) أي فالجواب عليه عدم صحّة قولك بأنّ «وجوب الأقل منجّز على كل حال» لانه على فرض كون وجوب الأقل غيريا ـ كوجوب السير الى الحج ـ فانه لا يكون واجبا شرعا إلّا في ضمن العشرة ولا يستحق المكلّف العقاب على ترك الواجب الغيري ، وعليه فالتسعة في ضمن العشرة أي مجموع العشرة هي طرف للعلم الإجمالي لا مطلق التسعة وإن كانت بنحو الواجب الغيري فان التسعة ان كانت بنحو الواجب الغيري لا تكون واجبة شرعا ولا تقع طرفا في علم إجمالي ، وبالتالي لا يبقى هناك مورد لقولنا بان الاقلّ منجّز على كل حال والزائد تجري فيه البراءة ، فافهم (*).

__________________

التسعة الماتی بها والتسعة المعلومة في ذمّة ، یبقی المقدار الزائد المشکوک الثبوت من الاصل في الذمة ، وهو معنی حصول الانحلال في المقام والذی یرتّب علیه صحة جریان الراءة في الزائد المشکوک.

(*) (أقول) قوله رحمة الله : «.. لا يساهم في التنجيز» فيه نظر ، فإنّ الذي لا يساهم في التنجيز من الواجب الغيري هي المقدّمة الخارجية (كالسير إلى الحج) ، وأمّا تسرية هذا الكلام

٢٩٤

مباحث المقدّمة.

ومنها : ان العلم الاجمالي المذكور منحلّ بالعلم التفصيلي بالوجوب النفسي للأقلّ ، لأنّه واجب نفسيا إمّا وحده او في ضمن الأكثر ، وهذا المعلوم التفصيلي [وهو الاقلّ] مصداق للجامع المعلوم بالاجمال [وهو احدهما] فينحل العلم الاجمالي به.

وقد يجاب على هذا الانحلال بأجوبة نذكر فيما يلي مهمّها :

الجواب الأوّل : ان الجامع المعلوم إجمالا هو الوجوب النفسي الاستقلالي امّا للاقلّ أو للاكثر [فهما إذن متباينان] ، وما هو معلوم بالتفصيل في الأقلّ الوجوب النفسي ولو ضمنا فلا انحلال (١).

ويلاحظ ان الاستقلالية معنى منتزع من حدّ الوجوب و (٢) عدم

__________________

(١) ويكون المورد ح مورد اصالة الاشتغال.

(٢) هذا العطف تفسيري ، اي ان «عدم شموله ..» معطوفة على «حدّ ..» وتفسير لها.

ولا ينبغي ان تغفل عن كون مرادهم من المركّب هنا ما هو أعمّ من العبادي والتوصلي ، مثال الاوّل كالصلاة والحج ، ومثال الثاني تطهير الثوب

__________________

إلى المقدّمة الداخلية فهو أوّل الكلام ، إذ ان الاجزاء بنظر المتشرّعة واجبة بتمام معنى الوجوب حتّى وإن قلنا. كما هو الصحيح. بان الامر بجزء او شرط او النهي عن شيء انما هي ارشاد إلى الجزئية والشرطية والمانعية وليست مولوية ، وعليه فإذا صدق بنظر المتشرعة مسمّى الصلاة مثلا تجري البراءة في الزائد المشكوك الوجوب من الاصل بلا اي مانع عقلائي ـ على مبنانا ـ وبلا معارض ـ على مبنى السيد الشهيد (قده) ـ

٢٩٥

شموله لغير ما تعلّق به ، والحدّ (١) لا يقبل التنجّز ولا يدخل في العهدة ، وإنّما يدخل فيها ويتنجّز ذات الوجوب المحدود ، فالعلم الاجمالي

__________________

المتنجّس بالبول مرّتين بالماء القليل وعمل الاجير المركّب من اجزاء ، كمن عامل بنّاء او خيّاطا ونحوهما على عمل ما ثمّ شكّ في دخول عمل ما ـ كجزء ـ ضمن العمل المستأجر عليه ...

ثمّ الأولى ان يحاول الباحث ان يلتفت حين بحثه هنا إلى حالة الشك في الشرط الزائد فيعطي جوابا هنا يصلح تطبيقه على الشك في الشرط أيضا.

(١) الحدّ هو ماهيّة الشيء التي يتخصّص ويتعيّن بها ، فحدّ الانسان مثلا هو الحيوان الناطق ، وأجزاء الحدّ ـ من الجنس والفصل القريب ـ هي امور انتزاعية ينتزعها الذهن من الوجود الخاص للممكن ، فالموجود في الخارج هو وجود الانسان ليس إلّا ، ووجوده هو منشأ آثاره كأكله وشربه ...

وحدّ «الوجوب» هو «الحكم الالزامي» ، وهذا الحدّ أمر ذهني لا يمكن أن يدخل في عهدة الانسان ، ومثله حد «الوجوب الاستقلالي» فانه «الحكم الالزامي المتعلّق بفعل دون غيره» فالاستقلالية إذن صفة ذهنية منتزعة من حدّ الوجوب الاستقلالي او قل هذا العنوان هو مجرد مفهوم انتزاعي ولذلك فهو لا يدخل في عهدة المكلّف. هذا ولكن بما أن مراد السيد (قده) ان يقول بأنّ صفتي «الاستقلالية» و «الضمنية» ليستا داخلتين في عهدة المكلّف (للاطلاق المقامي ولذلك لا يجب قصدهما حين الامتثال ..) فكان ينبغي ان يقول بدل قوله «والحدّ لا يقبل التنجّز» «وصفة الوجوب ـ من الاستقلالية ونحوها ـ ليست داخلة في العهدة لانها امر ذهني انتزاعي محض لا مصداق لها في الخارج ..» فانه أقرب طريقا لتوضيح المراد.

وعلى أي حال لا شك في صحّة ملاحظة السيد الشهيد رحمه‌الله.

٢٩٦

بالوجوب النفسي الاستقلالي وإن لم يكن منحلا (١) ولكن معلوم (٢) هذا العلم لا يصلح للدخول في العهدة لعدم قابلية حدّ الوجوب للتنجّز ، والعلم الاجمالي بذات الوجوب المحدود ـ بقطع النظر عن حدّ (٣) الاستقلالية ـ هو الذي ينجّز معلومه ويدخله في العهدة ، وهذا العلم منحلّ بالعلم التفصيلي (٤) المشار إليه.

الجواب الثاني : إنّ وجوب الاقلّ إذا كان استقلاليا فمتعلّقه الاقلّ مطلقا (٥) من حيث انضمام الزائد وعدمه ، وإذا كان ضمنيّا فمتعلّقه الاقل المقيّد بانضمام الزائد ، وهذا يعني أنّا نعلم إجمالا [بمتباينين] إمّا بوجوب التسعة المطلقة أو التسعة المقيّدة ، والمقيّد يباين المطلق ، والعلم التفصيلي بوجوب التسعة على الاجمال ليس إلّا نفس ذلك العلم

__________________

(١) بكون الاقلّ واجبا استقلاليا على كل حال والزائد مشكوكا.

(٢) وهو ـ بحسب ظاهر اللفظ ـ الوجوب النفسي الاستقلالي ، ولكن نظره إلى خصوص صفة الاستقلاليّة ، وعلى ايّ فكلاهما كما عرفت لا يدخلان في العهدة ، والذي يدخل في العهدة هو خصوص الواجب.

(٣) يقصد بكلمة «حد» هنا صفة.

(٤) بالاقل الواجب على كل حال والزائد المشكوك كما اشار إليه عند قوله : «ومنها ان العلم الاجمالي المذكور منحلّ بالعلم التفصيلي بالوجوب النفسي للاقلّ ..» ، وهذا الانحلال ـ كما تلاحظ ـ عبارة عن هدم الرّكن الثاني ، لأنّه عيّن المقدار الواجب بالاقلّ وجعل الزائد مشكوكا فيه بالشك البدوي.

(٥) اي سواء انضمّ إليه الزائد أم لا ـ مع غضّ النظر عن احتمال مبطلية الزائد ـ

٢٩٧

الاجمالي بعبارة موجزة ، فلا معنى لانحلاله به.

ويلاحظ هنا أيضا ان الاطلاق سواء كان عبارة عن عدم لحاظ القيد (١) أو لحاظ عدم دخل القيد لا يدخل في العهدة ، لانه يقوّم الصورة الذهنيّة وليس له محكي ومرئي يراد ايجابه زائدا على ذات الطبيعة بخلاف التقييد (٢). فان اريد اثبات التنجيز للعلم الاجمالي بالاطلاق او التقييد فهو غير ممكن لانّ الاطلاق لا يقبل التنجّز ، وإن اريد اثبات التنجيز للعلم الاجمالي بالوجوب بالقدر الذي يقبل التنجّز ويدخل في العهدة فهو منحل ، ولكن سيظهر ممّا يلي (٣) ان دعوى الانحلال غير صحيحة.

ومنها : انه إن لوحظ العلم بالوجوب بخصوصياته التي لا تصلح للتنجّز ـ من قبيل حدّ الاستقلالية والاطلاق ـ فهناك علم إجمالي ولكنه لا يصلح للتنجيز ، وإن لوحظ العلم بالوجوب بالقدر الصالح للتنجّز فلا علم إجمالي أصلا بل هناك علم تفصيلي بوجوب التسعة وشك بدوي في وجوب الزائد ، فالبرهان الأوّل ساقط إذن ، كما ان دعوى الانحلال ساقطة

__________________

(١) وهو قول السيد المصنف رحمة الله ، كما انّ لحاظ عدم القيد هو قول السيد الخوئي رحمة الله.

(٢) كالصلاة عن طهارة ، فانّه يمكن طلب الصلاة بنحو مطلق من حيث الطهارة وعدمها ويمكن طلب الصلاة المقيّدة بالطهارة فالمطلوب في الفرض الثاني الصلاة مع تقيدها بالطهارة ، فان التقيد ـ وان كان نسبة والنسب روابط ولا وجود لها في الخارج بنحو الاستقلال ـ يمكن إيجابه وادخاله في الذمّة ولكن ضمن متعلّقه كما يمكن ايجاد السواد ضمن الأسود ونحو ذلك.

(٣) في الفقرة التالية.

٢٩٨

أيضا لأنّها تستبطن الاعتراف بوجود علمين (١) لو لا الانحلال ، مع أنه لا يوجد إلّا ما عرفت.

ومنها : دعوى انهدام الركن الثالث لأن الاصل يجري عن وجوب الأكثر أو الزائد ولا يعارضه الاصل عن وجوب الأقلّ ، لأنّه إن اريد به التأمين في حالة ترك الاقلّ (٢) مع الاتيان بالاكثر فهو غير معقول ، إذ لا يعقل ترك الاقلّ مع الاتيان بالاكثر ، وإن اريد به التأمين (٣) في حالة ترك الأقلّ وترك الاكثر بتركه (٤) رأسا فهو غير ممكن أيضا لان هذه الحالة هي حالة المخالفة القطعية ولا يمكن التأمين بلحاظها. وهكذا نعرف ان الاصل [المؤمّن] عن وجوب الاقلّ ليس له دور معقول ، فلا يعارض الاصل الآخر.

__________________

(١) علم بكون الوجوب امّا بنحو الاستقلال واما بنحو التضمّن ، أو العلم بكون وجوب الاقلّ اما بنحو الاطلاق واما بنحو التقييد ، فهذان علمان إجماليان .. (هذا) ولكن لا يستبعد كون هذه التثنية من سهو قلمه الشريف ، والأولى استعمال صيغة الإفراد ، لان الباحث يكتفي بعلم إجمالي واحد ، بل مرجع وجه الاطلاق والتقييد المذكور إلى وجه الاستقلال والتضمّن

(٢) اي لانه إن اريد باجراء عن الاقلّ لنترك الاقل ونأتي بالاكثر ...

(٣) اي وإن اريد باجراء البراءة عن الاقل ان نترك الاقل ونترك الاكثر ...

(٤) اي بترك الاكثر ، ومراده من مجموع كلامه هذا ان البراءة تجري عن المقدار الزائد او عن الاكثر ـ كمجموع ـ بلا ان تجري البراءة عن الاقلّ إذ ان الاقلّ واجب على كلّ حال ولا يمكن تركه بحال فكيف تجري فيه البراءة؟!

٢٩٩

وهذا بيان صحيح في نفسه ولكنه يستبطن الاعتراف بالركنين الاوّل والثاني ومحاولة التخلّص بهدم الركن الثالث ، مع انّك عرفت انّ الركن الثاني غير تام في نفسه.

البرهان الثاني (١)

والبرهان الثاني يقوم على دعوى ان المورد من موارد الشك في

__________________

(١) يمكن بيان هذا البرهان المهم بنحوين :

الاوّل : ان يكون المحصّل مركبا غايته ذهنية وهي تحصيل أمر ذهني بسيط كتحصيل اعتبار شرعي كالطهارة ، فان المطلوب شرعا الصلاة عن طهارة ، والوضوء ما هو إلّا مقدّمة عقلية خارجية لتحصيلها ، فإذا تردّدنا في اجزاء الوضوء بين الاقلّ والاكثر فسوف نشك لا محالة بحصول الطهارة وعدمه ، ولذلك قال صاحب الكفاية (في آخر مسألة تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة من بحث الصحيح والأعم صفحة ٥٨ ـ ٦٠ من حقائق الاصول) بأن البراءة لا تجري هنا.

والثاني : ان يكون الشكّ في امر مركّب كالصلاة ، والغرض منها خارجي وذلك كالنهي عن الفحشاء والمنكر والعروج إلى الله عزوجل ونحو ذلك ، فالمطلوب اوّلا وبالذات هو هذا الغرض ، والصلاة طريق لتحصيله ، وعليه فإذا شككنا في هذا المركّب بين الاقلّ والاكثر وأتينا بالأقلّ فسوف نشك لا محالة في حصول الغرض.

ونظر السيد الشهيد (قده) في جوابه الثاني ـ الآتي بقوله وثانيا ـ إلى هذا الغرض الخارجي ، فانّه ليس من المعلوم لزوم تحصيل الغرض إلّا إذا ثبت لدينا تصدّي المولى لتحصيله وارادته الغرض.

٣٠٠