دروس في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

١
٢

٣

٤

الاصول العملية

١ ـ التمهيد

٢ ـ الوظيفة العملية عند الشك

٣ ـ الاستصحاب

٥

الاصول العملية

ـ ١ ـ

١. خصائص الاصول العملية

٢. الاصول العملية الشرعية والعقلية

٣. الاصول التنزيلية والمحرزة

٤. مورد جريان الاصول

٦

التمهيد

(خصائص الاصول العملية) (١)

عرفنا فيما تقدّم أنّ الاصول العملية نوع من الأحكام الظاهرية الطريقية (٢) المجعولة بداعي تنجيز الأحكام الشرعية أو التعذير عنها ، وهو نوع متميّز عن الأحكام الظاهرية [المجعولة] في باب الامارات ، وقد ميّز بينهما بعدّة وجوه :

الأوّل : إنّ الفرق بينهما ينشأ من اختلافهما في سنخ المجعول (٣) في دليل حجية الامارة ودليل الاصل. فالمجعول في الأوّل الطريقية مثلا وفي

__________________

(١) بسمه تعالى وبه نستعين ، لا بدّ أن نذكر بادئ ذي بدء أنّ الاصول العملية منها ما يكون مورد جريانها خاصّا ، ومنها ما يكون عامّا يجري في شتّى الفروع الفقهية.

فالاوّل من قبيل «قاعدة لزوم اتمام شهر رمضان ـ مع العذر الشرعي ـ ثلاثين يوما» ، و «قاعدة البناء على الظن في حالة الشك في عدد ركعات الصلاة» ... وهذه كما هو معلوم ليس من شأنها أن تدخل في علم الاصول لأنّها تجري في موارد خاصّة ، ولذلك تبحث في علم الفقه ، والثاني قواعد البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب.

(٢) قوله (قده) «الطريقية» عطف بيان ، لأنّ كلّ الأحكام الظاهرية هي طريقية أي شرّعت للحفاظ على الملاكات الواقعية الأهمّ.

(٣) بيّنا في الجزء الأوّل مراد المحقق النائيني رحمه‌الله من هذا الكلام.

٧

الثاني الوظيفة العملية أو التنزيل منزلة اليقين بلحاظ الجري العملي بدون تضمّن لجعل الطريقية ، وقد تقدّم الكلام عن ذلك ، ومرّ بنا أنّ هذا ليس هو الفرق الحقيقي. وحاصل فذلكة الموقف أنّه لم يرد عنوانا (الامارة) و (الأصل) في دليل ليتكلّم عن تمييز أحدهما عن الآخر بأيّ نحو اتّفق ، وإنّما نعبّر بالامارة عن تلك الحجّة التي لها آثارها المعهودة بما فيها إثباتها للأحكام الشرعية المترتّبة على اللوازم العقلية لمؤدّاها (١) ، ونعبّر بالأصل

__________________

(١) تقريب ذلك بمثال : لو نذر شخص بأنّ عليه أن يذبح شاة إذا نبتت لحية ابنه ، وصادف أنّ ولده ضاع صغيرا قبل أن تنبت لحيته ، فان رآه شاهدان عادلان بعد ما كبر وصار في عمر تنبت فيه لحيته ، ولكنهما لم يشهدا على نبات اللحية ـ لعدم التفاتهما إليها حينما رأياه مثلا ـ فانّ على الأب أن يذبح شاة ، وذلك لأنّ اخبارهما عن حياته يستلزم إخباره بنبات لحيته ، وحينما يعطي الشارع المقدّس الحجية للبيّنة أو لخبر الثقة فهو إنّما يعتبره مع كلّ لوازمه ـ شرعية كانت أم عقلية ـ حجّة وعلما تعبديا لكاشفية عن الجميع بقوّة واحدة كما ذكرنا ذلك في الجزء الأوّل.

وأمّا إن لم تقم امارة حجّة ، فانّ النذر لا يثبت في حقّه ، وذلك لأنّ استصحاب حياته إنّما يثبت الآثار الشرعية فقط كحرمة توزيع ماله على الورثة ونحو ذلك ، ولا يثبت نبات اللحية ، لأنّ نبات اللحية أثر عادي لا شرعي. ولا يخفى عليك أنّ وجوب الوفاء بالنذر يعتبر أثرا شرعيا مترتبا على الأثر العادي (الذي هو نبات اللحية). وإن شئت التوضيح أكثر فراجع بحث «مقدار ما يثبت الاستصحاب». وأجود التقريرات ج ٢ ص ١٢ ـ ١٦ وص ٧٨ سطر ٦ وص ٨٤ سطر ١٩ ، وقد ذكرها السيد الشهيد (قده) مرّات في بحث الخارج ، راجع مثلا ج ٥ ص ١٦ ـ ١٩ ، وج ٦ ص ١٧٥ من تقريرات السيد الهاشمي حفظه الله

٨

عن ذلك الحكم الظاهري الذي ليس له تلك الآثار. وقد عرفنا سابقا أنّ مجرّد كون المجعول في دليل الحجيّة الطريقية لا يفي باثبات تلك الآثار للامارة (١).

الثاني : إنّ الفرق بينهما ينشأ من أخذ الشكّ موضوعا للأصل العملي وعدم أخذه كذلك في موضوع الحجيّة المجعولة للامارة.

وهذا الفرق ـ مضافا إلى أنّه لا يفي بالمقصود ـ غير معقول في نفسه ، لأنّ الحجية حكم ظاهري ، فان لم يكن الشك مأخوذا في موضوعها عند جعلها لزم إطلاقها لحالة العلم ، وجعل الامارة حجّة على العالم غير معقول. ومن هنا قيل بأنّ الشكّ مأخوذ في حجية الامارة موردا لا موضوعا (٢) ، غير أنّنا لا نتعقّل ـ بحسب عالم الجعل ومقام الثبوت ـ

__________________

(١) توضيح ذلك أن جعل الشارع المقدّس الطريقية والكاشفية لامارة لا يدلّ على جعل الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية حجّة ، فقد يجعلها طريقا وكاشفا تعبدا بلحاظ مدلولها المطابقي دون الالتزامي. لذلك لا بدّ لنا من كشف خصوصية في الامارة بها يثبت لدينا حجية مثبتاتها كالاستدلال بالسيرة العقلائية الممضاة من الشارع المقدّس للأخذ بمثبتات الامارات كما فعل السيد الخوئي ، أو الاستدلال بكاشفية الامارة على مداليلها المطابقية والالتزامية بنفس القوّة بعد القول بأنّ الشارع قد جعل الامارة حجّة من باب قوّة احتمال اصابتها للواقع كما فعل السيد الشهيد.

(٢) قال المحقّق النائيني (قده) في ج ٢ ص ١٠ سطر ١١ من أجود التقريرات «... كيف وحجية الامارات إنّما هي في ظرف الجهل بالواقع ، والاصول أخذ في موضوعها الجهل بالواقع ...».

ثمّ إنّ الفرق بين المورد والموضوع هو أنّ المورد هو المحل والموضع.

٩

نحوين من الأخذ.

الثالث : إنّ الفرق بينهما ينشأ من ناحية أخذ الشكّ في لسان دليل الأصل وعدم أخذه في لسان دليل حجيّة الامارة ، بعد الفراغ عن كونه مأخوذا في موضوعهما ثبوتا معا.

وهذا الفرق لا يفي أيضا بالمقصود ، نعم قد يثمر في تقديم دليل الامارة على دليل الاصل بالحكومة (١). هذا مضافا إلى كونه اتفاقيا ، فقد

__________________

الذي يجري ويساق فيه الدليل ، كحالة الشك التي هي موضع وظرف لجريان الأحكام الظاهرية. ولذلك يعتبر المورد جزء ضمنيا في الموضوع ، ولكن هناك أمور قد يدّعى بأنّها مورد للحكم ليعتبر جزء الموضوع وقد يدّعى عكس ذلك فلا يعتبر في الموضوع ولا يكون موردا بالاصطلاح الصحيح وإن ادّعيت الموردية. مثال ذلك قوله تعالى (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممّآءاتاه الله لا يكلّف الله نفسا إلّا مآءاتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا) (٧) سورة الطلاق / ٧ ، فلقائل أن يقول : صحيح أنّ قوله تعالى (لا يكلّف الله نفسا إلّا ما آتاها) قد ورد في سياق هذه الآية ، لكن لا دليل على أنّ الحالة المالية هي مورد قوله تعالى : (لا يكلّف الله) لتدخل في موضوعها وتحصرها في مورد الانفاق فقط. وقد يدّعى العكس ، للفهم العرفي أيضا ...

أمّا الموضوع فواضح ، وهو كالشرط في الجملة الشرطية ، وكالوصف والموصوف ، واللقب في الجمل الحملية ... (إذن) بناء على الفهم الصحيح لاصطلاح المورد ـ وأنّه يغاير السياق معنى ـ نرى ان المورد يكون جزء ضمنيا من الموضوع وداخلا فيه.

(١) قوله «قد يثمر ..» إشارة إلى وجود تأمّل في هذه الثمرة ، فوجه عدم الحكومة أنّ الحكومة قوامها أن ينظر دليل إلى دليل آخر فيتصرّف به

١٠

يتفق أخذ عدم العلم في موضوع دليل الحجية ، كما لو بني على ثبوت حجية الخبر بقوله تعالى (فسئلوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون)(١) ، فهل يقال بأنّ الخبر يكون أصلا حينئذ؟

الرابع : ما حقّقناه في الجزء السابق من أن الأصل العملي حكم ظاهري لوحظت فيه أهميّة المحتمل عند التزاحم بين الملاكات الواقعية في مقام الحفظ التشريعي عند الاختلاط والاشتباه ، بينما لوحظت في أدلة الحجيّة الأهميّة الناشئة من قوّة الاحتمال محضا (٢).

__________________

موضوعا أو محمولا ، وإذا كان موضوع كلا الدليلين هو الشكّ فانّ عدم ذكره في لسان الدليل لا يقدّم ولا يؤخّر بعد معرفتنا بكونه داخلا في الموضوع ، فاذا تساويا من هذه الناحية ولم يتصرّف أحدهما في الآخر فلا حكومة.

(ووجه وجود الحكومة) هو أنّ عدم وجود الشك في لسان دليل حجية الامارة ـ كما في صحيحة أبي حامد أحمد بن ابراهيم المراغي ... عن صاحب الأمر (عج) «... فانّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنّا ثقاتنا ...» ـ يكشف لنا بالكشف الإنّي ان خبر الثقة ليس مجرّد أصل عملي يفيدنا وظيفة عملية ، بل هو أقوى من ذلك ، فهو ـ بدعم معونات أخرى ـ طريق وعلم تعبّدي حتّى وإن كان بلفظة اتّبع خبر الثقة ، وبالتالي فاذا وجد العلم التعبّدي فانه يلغي تعبدا موضوع الحكم الظاهري المجعول في ظرف الشكّ والذي لسانه لسان إعطاء وظيفة عملية ، وهذه هي الحكومة

(١) النحل : ٤٣

(٢) بيّنا في الجزء الأوّل أنّ مراد السيد الشهيد (قده) من قوّة الاحتمال هو أغلبية مصادفة الامارات للواقع ، وهذا يلازم أغلبيّة مصادفة لوازمها

١١

وقد عرفنا سابقا أنّ هذه النكتة تفي بتفسير ما تتميّز به الامارة عن

__________________

العقلية للواقع (لأنّ بين المفاد اللفظي للامارة واللوازم العقلية ارتباط عقلي) ، فاذا جعل الشارع الامارة حجّة يفهم العقلاء جعلها حجّة بكلّ آثارها ، لأنّ العقلاء يرون كاشفية الامارة عن مدلولها اللفظي ولوازمها العقلية بقوّة واحدة وبنحو واحد ، وبهذا تثبت حجية الآثار الشرعية المترتبة على لوازم الامارة العقلية. راجع إن شئت ما ذكره السيد الشهيد (قده) في أوائل الجزء الخامس من تقريرات السيد الهاشمي ص ١٢.

هذا وسيأتيك ـ إن شاء الله تعالى ـ في بحث" الاستصحاب أصل أو امارة" مزيد تحقيق للفرق بين الأصل والامارة (*)

__________________

(*) الصحيح عندنا انّ الامارة هي ما تكون دالّة بنفسها أوّلا ـ وبغضّ النظر عن اعتبار الشارع لها علما ـ بمدلوليها المطابقي والالتزامي على المعنى المراد وتدّعي الحكاية عن الواقع بما يشمل ذلك الحكاية عن اللوازم ، فعند ما يعتبرها الشارع علما فهو في هذه الحالة يعتبر المدلولين علما وذلك كخبر الثقة ، فانّ الثقة حينما يقول «قطع زيد نصفين» يعني ذلك كمدلول التزامي عادي أنّه قد مات ، وهكذا يفهم الناس ، فعند ما يجعل الشارع المقدّس هذه الامارة حجّة يجعلها على ما نقيد عرفا.

وهذا البيان لا يتم في الاصول العملية كالاستصحاب ، فانه وان نزّل الاحتمال فيه منزلة اليقين إلّا أنّ المرحلة الأولى فيه (وهي أن يدّعي احتمال البقاء إصابة الواقع) غير موجودة ، ويترتب على ذلك إمكان أن يتعبّدنا الشارع المقدّس بالمدلول المطابقي دون الالتزامي ، لأنّ دائرة التعبد تتحدّد بمقدار نظر الشارع المقدّس ، فان علمت حدود دائرة نظره المبارك كما في خبر الثقة فبها وإلّا فيؤخذ بالقدر المتيقّن كما في الاستصحاب ، ومن هنا سرّى إن شاء الله في مسألة «مقدار ما يثبت الاستصحاب» من بحث الاستصحاب أنّنا لا نقول بحجيّة الآثار الشرعية المترتّبة على اللوازم العقلية للمستصحب حتّى وإن كانت الواسطة

١٢

الاصل من حجية مثبتاتها.

__________________

خفيّة عرفا.

وما ذكره السيد الشهيد أعلى الله مقامه من أهمية المحتمل (كالتسهيل على الناس) وقوّة احتمال اصابة الواقع وان كان جيّدا إلّا أنّه في الواقع ذكر لسبب هذين التشريعين لا ذكر للفرق الذاتي بينهما.

والجدير ذكره في هذا المجال أن نذكر أنّ الاصول العملية في مجال الأحكام فيها جنبة امارية ، بمعنى أنّ عدم ايضاح الشارع المقدّس لنا هذه الأحكام المجعولة عندنا أو التي هي موضع خلاف ، مع قدرته على ايصالها لنا بطرق طبيعية كثيرة امارة عدم اهتمام الشارع بها .. وقد أوضحنا هذا المطلب بما لا مزيد عليه في هذا الجزء عند تعليقتنا على مسلك حقّ الطاعة ص ٤٤

١٣
١٤

(الاصول العملية الشرعية والعقليّة)

وتنقسم الاصول العملية إلى شرعية وعقلية. فالشرعية هي ما كنّا نقصده آنفا ، ومردّها إلى أحكام ظاهرية شرعيّة نشأت من ملاحظة أهمية المحتمل ، والعقلية : وظائف عملية عقلية ومردّها في الحقيقة إلى حقّ الطاعة إثباتا ونفيا (١). فحكم العقل مثلا بأنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني مرجعه إلى أنّ حقّ الطاعة للمولى الذي يستقلّ به العقل إنّما هو حقّ الطاعة القطعية (٢) فلا تفي الطاعة الاحتمالية بحقّ المولى. وحكم

__________________

(١) هذه ملاحظة مهمة وهي أن الأحكام العقلية ليست أحكاما شرعية أصلا ، فان مرجع الأحكام العقلية الى حكم العقل ب «وجوب طاعة المولى» وهذا حكم عقلي ـ لا شرعي أمرنا الله تعالى به ـ إذ لا يصح أن يأمرنا المولى باطاعته ـ إن لم يحكم العقل أوّلا بذلك ـ لاننا نسأل : ما الدليل على وجوب إطاعة «الأمر بالاطاعة»؟ فان قلت : الدليل أمر المولى لنا بذلك ، قلت : ما الدليل على وجوب إطاعة هذا الأمر؟ فيبقى السؤال ، فاذن لا يصح أن يقول بان" اطاعة المولى واجبة" حكم شرعي ، وانما هو عقلي. (ثم) ان جميع الاحكام التي ترجع الى هذا الحكم العقلي هي حتما أحكام عقلية كقواعد «الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني» ووجوب مقدمة الواجب وغيرها

(٢) هذا الشغل اليقيني الذي يستدعي الفراغ اليقيني يجري إذا شككنا بانجاز تكليف يقيني ثبت في ذمتنا. مثال ذلك : لو فرضنا أنّ انسانا ثبت في ذمّته

١٥

العقل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ على مسلك المشهور ـ مرجعه إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة في التكاليف المعلومة خاصّة ، بينما يرجع حكم العقل بمنجّزية التكاليف المحتملة عندنا إلى توسعة دائرة حقّ الطاعة وهكذا.

وللقسمين مميّزات يمكن ذكر جملة منها فيما يلي :

أوّلا : إنّ الاصول العملية الشرعية أحكام شرعية ، والاصول العملية العقلية ترجع إلى مدركات العقل العملي (١) فيما يرتبط بحقّ الطاعة.

__________________

كفّارة يمين ، وكان عليه إحدى الخصال الثلاث المعروفة ، والتي من جملتها إطعام عشرة مساكين ، فأعطى مالا بقيمة عشرة أمداد إلى عشرة مساكين لا بنحو التوكيل في شراء الطعام عنه ، ثمّ بعد ذلك شكّ في براءة ذمّته ، ففي مثل هذه الحالة يحكم العقل بوجوب الاحتياط والاعادة ، ويسمّون هذه القاعدة العقلية بقاعدة «الاشتغال» والتي مفادها أنّ الاشتغال اليقيني بالتكليف يستدعي ـ عقلا ـ الفراغ اليقيني.

والمراد من قول المصنّف (قده) «... حقّ الطّاعة القطعية ...» أنّ للمولى تعالى ـ عند الشك في انجاز المكلّف به ـ حقّا على العبد في السعي حتّى يعلم بأنّه قد أدّى ما عليه ، هكذا يحكم العقل لا الشرع.

(١) مدركات العقل العملي هي الاحسان والعدل ، وكفران النعمة والظلم ونحوها ممّا ينبغي أو لا ينبغي أن يعمل ، ومدركات العقل النظري هي التي لا يكون لها علاقة بالعمل مباشرة ، نعم العقل النظري منشأ ومبدأ لادراكات العقل العملي ، فمن مدركات العقل النظري كون الكل أعظم من الجزء ، وكون ما أراه كتابا أو بابا وككون الأمر الفلاني فيه مصلحة أو مفسدة.

١٦

ثانيا : إنّه ليس من الضروري أن يوجد أصل عملي شرعي في كلّ مورد ، وإنّما هو تابع لدليله ، فقد يوكل الشارع أمر تحديد الوظيفة العملية للشاكّ إلى عقله العملي ، وهذا خلافا للأصل العملي العقلي فانّه لا بدّ من افتراضه بوجه (١) في كلّ واقعة من وقائع الشك في حدّ نفسها.

ثالثا : إنّ الاصول العملية العقليّة قد تردّ إلى أصلين ، لأنّ العقل إن

__________________

وقد تقول : إنّ المصلحة والمفسدة ينبغي أن تكونا من مدركات العقل العملي لأنّها محرّكة.

ولكن قد فاتك أنّ المراد من كون المصلحة والمفسدة من مدركات العقل النظري إنّما هو بلحاظ متعلّقه لا بلحاظ فاعله ، فأنت تارة تدرك انّ في دراسة الطب في ذاتها مصلحة ، لكن إذا قستها إلى نفسك وعملك فقد لا تكون حسنة وملائمة بالنسبة لك ، ككونك كثير النسيان مثلا.

نعم إذا أدركت انّ في دراسة الطب بالنسبة إليك مصلحة غالبة على المفسدة ، فستكون حينئذ حسنة وملائمة وينبغي فعلها ويكون هذا الادراك من ادراكات العقل العملي ، لأنّه سيكون حينئذ محرّكا مباشرة.

ومن هنا تعرف لما ذا ترجع الاصول العملية العقلية إلى مدركات العقل العملي في مجال الامتثال وحقّ الطّاعة.

(١) فلا بدّ من وجوده دائما كاصل أعلائي يرجع إليه مع فقد الأدلّة الشرعية ، فانه ما من حالة مجهولة الحكم إلّا وللعقل فيها حكم ، فقبل الفحص في الأدلة يحكم العقل بالاحتياط ، وأما بعد الفحص فالمشهور يرون أن العقل يحكم بالبراءة والسيد الشهيد يرى أن العقل يحكم بالاحتياط ، وفي حالة تردد الحكم بين الحرمة والوجوب المعروف أن العقل يرى لزوم مراعاة احتمال الحرمة لكون دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، وفي حالة العلم الإجمالي يرى العقل لزوم الاحتياط ..

١٧

أدرك شمول حقّ الطاعة للواقعة المشكوكة حكم باصالة الاشتغال ، وإن أدرك عدم الشمول حكم بالبراءة.

ولكن قد يفرض اصل عملي عقلي ثالث وهو أصالة التخيير في موارد دوران الأمر بين المحذورين (١).

وقد يعترض على افتراض هذا الأصل ، بأنّ التخيير إن أريد به دخول التكليف في العهدة واشتغال الذمّة ولكن على وجه التخيير فهو غير معقول (٢) ، لأنّ الجامع بين الفعل والترك في موارد الدوران بين المحذورين ضروري الوقوع (٣) ، وإن أريد به أنّه لا يلزم المكلّف عقلا

__________________

(١) كما لو شك المكلّف أنّ التسبيحتين الأخيرتين (أي سبحان الله) في الركوع والسجود ـ في ضيق الوقت ـ واجبتان أم محرّمتان ، وكما لو شكّ المسافر ـ الذي لم يبيّت النيّة من الليل ـ أنّ الصيام عليه واجب أم محرّم ... وهكذا ، وسيأتي التعرّض لذلك في هذا الجزء في فصل مستقل ، انظر ص ٢٧١.

(٢) أي لا يعقل التخيير في مورد دوران الأمر بين المحذورين لأنك اذا أردت بأنك ملزم بالفعل أو الترك فهذا غير معقول ، فهل يعقل أن تلزم ولدك يوما بالدرس أو عدم الدرس بنحو التخيير ، وبالنوم أو عدم النوم! وإن أردت من قولك بالتخيير في مورد دوران الأمر بين المحذورين أنك غير ملزم بفعل ولا بترك فأنت مخيّر ، قلت : هذا ليس تخييرا وإنما هو براءة.

(٣) الجامع في قوله (قده) «لأنّ الجامع بين الفعل والترك» هو انتزاعي ، والذي هو عبارة عن أحدهما وليس جامعا حقيقيا لأن الفعل والترك متناقضان ، ولهذا لا بدّ لهذا الجامع من أن يقع.

١٨

بفعل ولا ترك ولا يدخل شيء في عهدته فهذا عين البراءة ، وسيأتي تفصيل الكلام حول ذلك في بحث دوران الأمر بين المحذورين إن شاء الله تعالى.

وأمّا الاصول العملية الشرعية فلا حصر عقليّ لها في البراءة أو الاشتغال ، بل هي تابعة لطريقة جعلها ، فقد تكون استصحابا مثلا (١).

رابعا : انّ الاصول العملية العقلية لا يعقل التعارض بينها لا ثبوتا كما هو واضح (٢) ولا اثباتا لأنّ مقام إثباتها هو عين إدراك العقل لها (٣) ، ولا تناقض بين ادراكين عقليين.

__________________

(١) إذ يمكن للشارع المقدّس أن يشرّع اصولا لا حصر لها ، كأصالة وجوب اتباع الظنّ في حالات معيّنة أو أصالة الاستحباب في حالات معيّنة ، أو أصالة النجاسة في حالات معيّنة وهكذا.

(٢) لانّ احكام العقل تابعة لادراكاته ، فهو اما ان يدرك في مورد معين لزوم الاحتياط فيحكم به ، واما ان يدرك عدم الالزام فيحكم بالبراءة ، ولا يعقل ان يدرك في نفس المورد ما يوجب الاحتياط وما يوجب الحكم بالبراءة ، كما لا يعقل أن يدرك فيه مصلحة توجب الفعل ومفسدة توجب الترك.

(٣) قال أوّلا : لا ثبوتا ، اي لا يمكن ـ في عالم التفكير والامكان ـ ان يحكم العقل بحكمين متعارضين لما ذكرناه في الشرح السابق ، وكذلك لا ولم يحكم العقل يوما بحكمين متعارضين ـ اي اثباتا ـ والسبب في ذلك هو عدم الامكان ثبوتا ، وبتعبير السيد المصنف (قده) لان حكم العقل في مقام الاثبات هو عين ادراك العقل لهذا الحكم وليس قولنا بلزوم الاحتياط او البراءة في مورد ما الا كاشفا عن هذا الإدراك ، وقد عرفت في الشرح السابق عدم امكان ان يدرك العقل في نفس القضية ادراكين

١٩

وأمّا الاصول العملية الشرعية فيعقل التعارض بينها إثباتا (١) [أي] بحسب لسان ادلّتها ، ولا بدّ من علاج ذلك وفقا لقواعد باب التعارض بين الأدلّة.

خامسا : إنّه لا يعقل التصادم بين الاصول العملية الشرعية والاصول العملية العقلية ، فاذا كانا مختلفين في التنجيز والتعذير ، فان كان الاصل العملي العقلي معلّقا على عدم ورود اصل عملي شرعي على الخلاف كان هذا واردا (٢) ، وإلّا (٣) امتنع ثبوت الأصل العملي الشرعي في مورده.

__________________

متناقضين لا على مستوى الملاك ولا على مستوى الحكم.

(١) لا ثبوتا وإلّا لتناقضت الأحكام الظاهرية في الواقع وحاشا للمولى تعالى ذلك. أمّا تعارضها إثباتا فستعلم في محلّه إن شاء الله تعالى أنّه يعالج بالحكومة أو غيرها من قواعد باب التعارض غير المستقر.

(٢) كالبراءة العقلية (على مسلك قبح العقاب) والاشتغال العقلي (على مسلك حقّ الطّاعة) فانّ الأصل الشرعي إذا جاء على خلافهما يكون واردا لأنّه يلغي موضوع الأصل العقلي حقيقة ، لأنّ موضوع الأصل العقلي هو عدم وصول دليل شرعي ، فاذا ورد دليل شرعي كأصالة البراءة الشرعية فلا يجوز حينئذ الرّجوع إلى الأصل العقلي.

(٣) قوله (قده) «وإلّا ...» أي وإن كان الأصل العقلي مطلقا من ذاك القيد أو قل ثابتا على كلّ حال ـ كوجوب اطاعة المولى ـ فحينئذ يمتنع أن يوجد حكم شرعي على خلافه ، فان وجد يقطع الانسان أنّ هذا الحكم الشرعي غير موجود في الواقع أو على الأقل في نظر القاطع ، وذلك لأنّ الشرائع السماوية لا يمكن أن تعارض مدركات العقل الصحيحة ، ومن هنا ترى العلماء في موارد العلم الاجمالي بنجاسة أحد إناءين مثلا لا يجرون قاعدة الحليّة مثلا مع انها أصل شرعي ويجرون قاعدة منجزية العلم الاجمالي مع انها عقلية ، ولا يجرون البراءة قبل الفحص وانما يجرون الاحتياط وهكذا.

٢٠