دروس في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

١٠ ـ الطولية بين طرفي العلم الاجمالي

قد يكون الطرفان للعلم الاجمالي طوليين بأن كان احد التكليفين مترتبا على عدم الآخر ، من قبيل ان نفرض ان وجوب الحج مترتب على عدم وجوب وفاء الدّين وعلم اجمالا باحد الامرين ، وهذا له صورتان :

الاولى : ان يكون وجوب الحج مترتّبا على مطلق التأمين عن وجوب وفاء الدّين ولو بالاصل.

الثانية : ان يكون وجوب الحج مترتبا على عدم وجوب وفاء الدين واقعا.

أمّا الصورة الاولى فليس العلم الاجمالي منجّزا فيها بلا ريب لانهدام الرّكن الثالث ، لأنّ الاصل المؤمّن عن وجوب وفاء الدّين يجري ولا يعارضه الاصل المؤمّن عن وجوب الحج (١) ، لانّ وجوب الحج

__________________

معك بوجود علم إجمالي بين هذا التكليف الفعلي وبين وجوب حفظ القدرة الى ظرف فعلية التكليف الآخر ، (ولكن) أيها المحقق كلامك هذا انما يفيدنا لزوم مراعاة العلم الإجمالي الآن ـ وهو أوّل الشهر مثلا ـ ولا يفيدنا لزوم مراعاته في وسط الشهر وذلك لزوال فعلية التكليف الاوّل ، (فاذن) لا يمكن القول بلزوم مراعاة التكليف الثاني إلّا بمقالة السيد الشهيد رحمه‌الله وهي الإيمان بوجود علم اجمالي بين تكليفين فعليين وإن تغاير زمانهما.

(١) وخلاصة هذه الصورة أنه يجري الأصل المؤمّن في مورد احتمال وجوب وفاء الدّين بلا معارض.

(وكما رأيت) هذا الجواب يناسب مسلك الاقتضاء وصيغة السيد الشهيد للركن الثالث.

٢٦١

يصبح معلوما بمجرّد اجراء البراءة عن وجوب الوفاء ، فلا موضوع للاصل فيه.

فان قيل : هذا يتمّ بناء على انكار علّية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية واستناد عدم جريان الاصل في بعض الاطراف إلى التعارض (١) ، فما هو الموقف بناء على علّية العلم الاجمالي واستحالة جريان الاصل المؤمّن في بعض الاطراف ولو لم يكن له معارض؟

__________________

(١) كان قد ذكر السيد رحمه‌الله ص ١٦٩ مسلكي الاقتضاء والعلّية ، وأنّه على مسلك الاقتضاء يكون العلم الاجمالي مقتضيا لوجوب الموافقة القطعية بمعنى انه لا مانع من ورود الترخيص في بعض او كل اطراف العلم الاجمالي ، وإنّما تجب الموافقة القطعية للتعارض فيما بين الاصول المؤمّنة (*)

__________________

(*) هذا ، ولكن ما نراه ـ بناء على عدم اعتقادنا بفكرة ترتب تنجيز العلم الاجمالي على تعارض الاصول المؤمّنة ـ هو ان العلم الاجمالي بوجود تكليف ضائع بين طرفين مترتبين على بعضهما البعض لا ينفي حكم العقل بوجوب الاحتياط ، بمعنى أنّه يجب على المكلّف ان يفي بالدّين ، فاذا وفى فلن يكون ح مستطيعا ، وهذا الكلام يجري سواء أكان الحج مترتبا على مطلق التأمين او على عدم وجوب وفاء الدين واقعا ، هذا في مجال الاحكام التكليفية ، وكذلك الامر في مجال الاحكام الوضعية فلو علمنا بنجاسة الماء او التراب ، فانّ الواجب اجتنابهما عقلا ، ولا يصحّ ان يقال نجري أصالة الطهارة في الماء لأنّه متقدّم رتبة على الأصل الجاري في التراب ، ولذلك لا يصحّ التوضّي بهذا الماء ولا التيمّم. فالعبرة في الترتب هو بين الأصول ونحوها كما هو الحال في الترتّب بين الأصل السببي والاصل المسببي لا بين موارد جريانها.

٢٦٢

والجواب (١) : ان هذه الاستحالة انّما هي باعتبار العلم الاجمالي ،

__________________

(١) ذكر السيّد الشهيد (قده) هذا الجواب في بحوثه ناسبا إيّاه للمحقّق العراقي رحمه‌الله ، وبيانه في هذه (الصورة الاولى) بانه لو جرى الاصل في طرف «وجوب الوفاء» فمعناه عدم وجوب الوفاء ويترتب عليه وجوب الحج ، وإن لم يجر فمعناه وجوب الوفاء وعدم وجوب الحج ، ومعنى ذلك انحلال العلم الاجمالي قهرا ، واما في (الصورة الثانية) وهو ان يكون وجوب الحج مترتبا على عدم وجوب وفاء الدين واقعا فكذلك ان كان الاصل محرزا كالاستصحاب .. (راجع البحوث ج ٥ ص ٢٥).

وامّا بيان ما ذكره هنا فهو انه في [الصورة الاولى] يمكن ان يجري الاصل في طرف «وجوب الوفاء» ولا يمنع العلم الاجمالي عن جريانه فيه ، وذلك لان العلم الاجمالي متوقّف على عدم جريانه فيه فهو معلول ل «وجوب الوفاء» و «وجوب الحج» والمعلول ـ أي العلم الاجمالي ـ لا يؤثّر في العلة ولا يقف مانعا عن جريان الاصول المؤمّنة في بعض الاطراف. وعدم جريان الاصول المؤمّنة في وجوب الوفاء ينتج وجوب الوفاء ، والذي ينتج بالتالي عدم وجوب الحج ، والذي يعني عدم وجود علم اجمالي في الحقيقة ، (ثمّ) بما أنّ العلم الاجمالي قائم بين وجوب الوفاء ووجوب الحج فهو متوقّف على عدم جريان الاصل المؤمّن في طرف وجوب الوفاء «حتى يثبت وجوب الوفاء» ، والذي «يتوقّف على عدم شيء يستحيل أن يكون مانعا عنه» ، فلو توقّف احتراق خشبة على عدم رطوبتها ، لكان «عدم الرطوبة» بمثابة جزء العلّة لاحتراقها ، ولكان الاحتراق معلولا ، ومن المعلوم ان المعلول لا يمنع عن العلّة بوجه ، ولا يؤثّر فيها ، بل هو شأن من شئونها وتابع لها كتابعية الخيال لذيه ، وهنا الامر هكذا تماما ، فالعلم الاجمالي بما أنّه معلول جريان الاصل في «وجوب الوفاء» فيستحيل ان يمنع عن جريانه بوجه.

(فخلاصة الجواب) أنه في حالة وجود طولية بين طرفي العلم الإجمالي

٢٦٣

ويستحيل في المقام ان يكون العلم الاجمالي مانعا عن جريان الاصل المؤمّن عن وجوب الوفاء ، لأنّه متوقّف على عدم جريانه ، إذ بجريانه يحصل العلم التفصيلي بوجوب الحج وينحلّ العلم الاجمالي ، وما يتوقّف على عدم شيء يستحيل ان يكون مانعا عنه ، فالاصل يجري إذن حتّى على القول بالعلّية.

وأمّا الصورة الثانية فيجري فيها أيضا الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء ولا يعارض بالاصل المؤمّن عن وجوب الحج (١) ، لأنّ ذلك الأصل (٢) ينقّح بالتعبد موضوع وجوب الحج فيعتبر أصلا سببيّا بالنسبة إلى الاصل المؤمّن عن وجوب الحج ، والاصل السببي مقدّم على الأصل المسبّبي (٣).

__________________

بنحو الصورة الأولى يستحيل ـ على مسلك المحقق العراقي بالعليّة ـ أن يكون العلم الإجمالي مانعا من جريان الأصول المؤمّنة في طرف وجوب الوفاء.

(١) قوله «ولا يعارض ...» اشارة الى اختلال الركن الثالث في هذه الصورة أيضا.

(٢) مراده (قده) من هذا الاصل الاصل التنزيلي ، كاستصحاب عدم وجوب الوفاء بالدّين ، فانه هو الذي يقوم مقام الحكم الواقعي وينزّل منزلته ويحرزه تعبّدا ، فاذا استصحب المكلّف عدم وجوب الوفاء بالدّين تنقّح لديه وجوب الحج وانتفى تعبّدا الشكّ في وجوب الحج فلا يجري الأصل المؤمّن في مورد وجوب الحج.

(٣) يأتي توضيحه في الجزء الرابع ص ٣٠٣ ، ومثاله تقدّم اصالة الطهارة في الماء على استصحاب نجاسة الثوب ، فان اصالة الطهارة عند ما تجري في الماء يصير الماء طاهرا مطهّرا تعبدا فيطهّر الثوب بهذا التعبّد ، فلا مجال حينئذ عرفا لجريان استصحاب نجاسة الثوب لرؤيتهم

٢٦٤

وهكذا نعرف ان حكم الصورتين عمليا واحد (١) ولكنهما يختلفان في ان الاصل في الصورة الاولى بجريانه في وجوب الوفاء يحقق موضوع وجوب الحج وجدانا ويوجب انحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي ، ومن هنا (٢) كان وجود العلم الاجمالي متوقفا على عدم جريانه كما عرفت ، وامّا في الصورة الثانية فلا يحقّق (٣) ذلك لان وجوب الحج مترتب على عدم وجوب الوفاء واقعا وهو غير محرز وجدانا ، وإنّما يثبت تعبّدا بالاصل دون ان ينشأ علم تفصيلي بوجوب الحج ، ولهذا لا يكون جريان الاصل في الصورة الثانية موجبا لانحلال العلم الاجمالي (٤) ، وبالتالي لا

__________________

له انّه متأخّر رتبة عن اصالة الطهارة الجارية في الماء .. وهذا يتضح من خلال السيرة المتشرّعية الواضحة والناشئة من ارتكازهم بكون مراد الشارع من تشريع اصالة الطهارة هو ترتيب آثار الطهارة على ما يطهر بالماء الذي جرت فيه اصالة الطهارة.

(١) وهو جريان الأصل المؤمّن في وجوب الوفاء من غير معارض.

(٢) يريد أن يقول : ولذلك لا يوجد عمليّا علم إجمالي ، إذ لو كان موجودا لكان متوقّفا على عدم جريان الأصل المؤمّن في وجوب الوفاء ، لكن الأصل المؤمّن يجري فيه بلا معارض ، فاذا لا يوجد علم إجمالي ـ عمليا ـ في البين.

(٣) أي فلا يحقّق الأصل المؤمّن موضوع وجوب الحج وجدانا بل يحققه تعبّدا بالاصل التنزيلي.

(٤) انحلالا حقيقيا وذلك لبقائه حقيقة ووجدانا ، فان الأصل المؤمّن رغم جريانه في وجوب الوفاء لا يرفع العلم الإجمالي بوجوب الوفاء أو الحج. وبتعبير آخر : انّه لو جرت الأصول المؤمّنة في وجوب الوفاء ووجوب الحج لتعارضا وتساقطا فيبقى العلم الاجمالي ولا ينحلّ ،

٢٦٥

يكون وجود العلم الاجمالي متوقّفا على عدم جريانه ، ومن أجل ذلك قد يقال هنا بعدم جريان الاصل المؤمّن عن وجوب الوفاء على القول بالعلّية ، لأنّ مانعيّة العلم الاجمالي عن جريانه ممكنة لعدم توقّف العلم الاجمالي على عدم جريانه.

وهناك فارق آخر بين الصورتين وهو أنّه في الصورة الاولى يجري الاصل المؤمّن عن وجوب الحجّ سواء كان تنزيليا أو لا ، ويحقق على أيّ حال موضوع وجوب الحجّ وجدانا ، وامّا في الصورة الثانية فانّما يجري إذا كان تنزيليا بمعنى انّ مفاده التعبّد بعدم التكليف المشكوك واقعا ، وذلك لأنّ الاصل التنزيلي هو الذي يحرز لنا تعبدا موضوع وجوب الحجّ فيكون بمثابة الاصل السببي بالنسبة الى الاصل المؤمّن عن وجوب الحج ، وامّا الاصل العملي البحت فلا يثبت به تعبّدا العدم الواقعي لوجوب الوفاء فلا يكون حاكما على الاصل الجاري في الطرف الآخر بل معارضا (١).

__________________

ولذلك قال السيد الشهيد هنا : «وبالتالي لا يكون وجود العلم الاجمالي متوقّفا على عدم جريانه» بمعنى ان العلم الاجمالي يبقى قائما بين وجوب الوفاء ووجوب الحجّ سواء جرت البراءة في الطرفين ام لم تجر من الأصل ، ولبقاء العلم الاجمالي حقيقة قد يقال بمنع العلم الاجمالي من جريان الاصل المؤمّن عن وجوب الوفاء ـ على القول بالعليّة ـ.

(١) بمعنى ان الاصل العملي البحت كالبراءة الشرعية إن جرت ـ على سبيل الفرض ـ في طرف وجوب الوفاء فانها ـ كما تعلم ـ لا تحقّق موضوع وجوب الحج لا وجدانا كما في الصورة الاولى ولا تعبّدا كما في الصورة الثانية ، وعليه فان جرت البراءة في طرف الحج تتعارض ح البراءتان ، وأما اذا كان الجاري أصلا تنزيليا كالاستصحاب فانه يحقق تعبّدا موضوع وجوب الحج (وهو عدم وجوب وفاء الدّين واقعا).

٢٦٦

تلخيص للقواعد الثلاث :

خرجنا حتى الآن بثلاث قواعد :

. فالقاعدة العملية الاولى قاعدة عقلية وهي اصالة الاشتغال على مسلك حقّ الطاعة ، والبراءة على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

. والقاعدة العمليّة الثانية الحاكمة هي البراءة الشرعية.

. والقاعدة العملية الثالثة هي منجّزية العلم الاجمالي ، اي تنجّز الاحتمال المقرون بالعلم الاجمالي وعدم جريان البراءة عنه (١).

__________________

(١) إلّا في بعض الحالات التي مرّت فانّ البراءة قد تجري في بعض أو كل اطراف العلم الاجمالي.

٢٦٧
٢٦٨

الوظيفة العملية في حالة الشكّ

ـ ٣ ـ

١ ـ الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة

٢ ـ دوران الامر بين المحذورين

٢٦٩
٢٧٠

الوظيفة عند الشك

في

الوجوب والحرمة معا

٢٧١
٢٧٢

حتّى الآن كنّا نتكلّم عن الشك في التكليف وما هي الوظيفة العملية المقرّرة فيه عقلا أو شرعا سواء كان شكا بدويا او مقرونا بالعلم الاجمالي ، إلّا اننا كنا نقصد بالشك في التكليف الشك الذي يستبطن احتمالين فقط ، وهما : احتمال الوجوب واحتمال الترخيص ..

والآن نريد ان نعالج الشك الذي يستبطن احتمال الوجوب واحتمال الحرمة معا ، وهذا الشك تارة يكون بدويا اي مشتملا على احتمال ثالث للترخيص أيضا ، واخرى يكون مقرونا بالعلم الاجمالي بالجامع بين الوجوب والحرمة ، وهذا ما يسمّى بـ

دوران الامر بين المحذورين.

فهنا مبحثان كما يأتي إن شاء الله تعالى :

٢٧٣

١ ـ الشك البدوي في الوجوب والحرمة

الشك البدوي في الوجوب والحرمة هو الشك المشتمل على احتمال الوجوب واحتمال الحرمة واحتمال الترخيص ، وسندرس حكمه بلحاظ الأصل العملي العقلي وبلحاظ الاصل العملي الشرعي :

أمّا باللحاظ الاوّل فعلى مسلك قبح العقاب بلا بيان لا شكّ في جريان البراءة عن كل من الوجوب والحرمة ، وعلى مسلك حقّ الطاعة يكون كلّ من الاحتمالين منجّزا في نفسه ولكنّهما يتزاحمان في التنجيز لاستحالة تنجيزهما معا ، وتنجيز احدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح فتبطل منجّزيتهما معا وتجري البراءة أيضا (١).

وأمّا باللحاظ الثاني فادلّة البراءة الشرعية شاملة للمورد باطلاقها ، وعليه فالفارق بين هذا الشك وما سبق من شك ان هذا مورد للبراءة عقلا وشرعا معا حتّى على مسلك حق الطاعة بخلاف الشك المتقدّم.

__________________

(١) يقصد أنه في هذه الحالة يحكم العقل بالبراءة بمعنى التخيير بين الفعل والترك.

٢٧٤

٢ ـ دوران الأمر بين المحذورين (١)

وهو الشك المقرون بالعلم الاجمالي بجنس الالزام (٢) ، وتوضيح الحال فيه : ان هذا العلم الاجمالي يستحيل ان يكون منجّزا ، لانّ تنجيزه لوجوب الموافقة القطعية غير ممكن لانها غير مقدورة ، وتنجيزه لحرمة المخالفة القطعية ممتنع ايضا لانها غير ممكنة ، وتنجيزه لاحد التكليفين

__________________

(١) البحث هنا ناظر إلى وحدة المتعلّق وكونه توصّليّا كالكذب والسرقة فقد نحتمل وجوبهما لتوقّف واجب عليهما ، وقد نحتمل حرمتهما لاحتمال عدم أهمية هذا الواجب على مفسدة الحرام. أمّا لو كان تعبّديا فالمخالفة القطعية ح تكون ممكنة وذلك بالفعل من دون نية قربة ، وفي هذه الحالة يحكم العقل بحرمة المخالفة القطعية.

(٢) من أمثلة دوران الامر بين المحذورين : إذا شك الوصيّ في كون الولد الفلاني الذي يطالب بالارث ولدا للميّت فقد يكون إعطاؤه واجبا لادّعائه انه ابن الميت وقد يكون محرّما لعدم رضا سائر الورثة بأخذ المدّعي شيئا من التركة ، مثال آخر : لو شك المكلف في وجوب قتل رجل في المعركة أو في حرمة قتله لتردّده في كونه عدوا أو صديقا ، مثال ثالث : لو تردّدنا في وجوب قراءة السورة بعد الفاتحة وفي حرمة قراءتها لضيق الوقت ، مثال رابع : لو تردّدنا في وجوب القيام في الصلاة او في حرمته في بعض الحالات كما لو احتمل المكلف الضرر.

٢٧٥
٢٧٦

المحتملين بالخصوص دون الآخر غير معقول ، لانّ نسبة العلم الاجمالي اليهما نسبة واحدة ، وبهذا يتبرهن عدم كون العلم الاجمالي منجّزا ، ولكن هل تجري البراءة العقلية والشرعية عن الوجوب المشكوك والحرمة المشكوكة أو لا؟ .... سؤال اختلف الاصوليون في الاجابة عليه ، فهناك من قال بجريانها إذ ما دام العلم الاجمالي غير منجّز فلا يمكن ان يكون مانعا عن جريان البراءة عقلا وشرعا ، وهناك من قال بعدم جريان البراءة على الرغم من عدم منجّزية العلم الاجمالي ، وأثيرت عدّة اعتراضات على إجراء البراءة في المقام ، ويختصّ بعض هذه الاعتراضات بالبراءة العقلية وبعضها بالبراءة الشرعية وبعضها ببعض السنة البراءة الشرعية ، ونذكر فيما يلي أهمّ تلك الاعتراضات :

* الاوّل : الاعتراض على البراءة العقليّة والمنع عن جريانها في المقام حتّى على مسلك قبح العقاب بلا بيان.

وتوضيحه على ما أفاده المحقّق العراقي (قدس‌سره) (١) ان العلم الاجمالي هنا وان لم يكن منجّزا وهذا يعني ترخيص العقل في الاقدام على الفعل او الترك ، ولكن ليس كل ترخيص براءة ، فانّ الترخيص تارة يكون بملاك الاضطرار وعدم إمكان إدانة العاجز واخرى يكون بملاك عدم البيان ، والبراءة العقلية هي ما كان بالملاك الثاني.

وعليه فان اريد في المقام ابطال منجّزية العلم الاجمالي بنفس البراءة العقلية فهو مستحيل لانها فرع عدم البيان ، فهي لا تحكم بانّ هذا بيان

__________________

(١) نهاية الافكار : القسم الثاني من الجزء الثالث ص ٢٩٣

٢٧٧

وذاك ليس ببيان لانّها لا تنقّح موضوعها ، فلا بدّ من اثبات عدم البيان في الرتبة السابقة على إجراء البراءة ، وهذا ما يتحقق في موارد الشك وجدانا وتكوينا لان الشك ليس بيانا ، وامّا في مورد العلم الاجمالي بجنس الالزام في المقام فالعلم بيان وجدانا وتكوينا ، فلكي نجرّده من صفة البيانية لا بد من تطبيق قاعدة عقلية تقتضي ذلك ، وهذه القاعدة ليست نفس البراءة العقلية لما عرفت من انّها لا تنقح موضوعها ، وانّما هي قاعدة عدم إمكان إدانة العاجز التي تبرهن على عدم صلاحية العلم الاجمالي المذكور للمنجّزية والحجيّة وبالتالي (١) سقوطه عن البيانية.

وإن اريد إجراء البراءة العقلية بعد إبطال منجزية العلم الاجمالي وبيانيّته بالقاعدة المشار اليها فلا معنى لذلك ، لانّ تلك القاعدة بنفسها تتكفّل الترخيص العقلي (٢) ولا محصّل للترخيص في طول الترخيص.

ونلاحظ على ذلك ان المدّعى إجراء البراءة بعد الفراغ عن عدم منجزية العلم الاجمالي ، وليس الغرض منها إبطال منجزية هذا العلم والترخيص في مخالفته حتى يقال إنّه لا محصّل لذلك ، بل [الغرض]

__________________

(١) أو قل : في حالة دوران الحكم بين محذورين لا ثالث لهما لا يمكنه الامتثال للعجز عنه ، والعاجز لا يدان ، فالعلم الإجمالي هنا إذن لا قيمة له ولا ينجّز التكليف ، وبالتالي لا يبقى عندنا علم إجمالي بتكليف منجّز وهو مراد الماتن رحمه‌الله بقوله «بالتالي سقوطه عن البيانية».

(٢) بمعنى أن قاعدة عدم امكان تكليف العاجز تفيدنا التخيير بين الفعل والترك ، ولا معنى للترخيص بالبراءة العقلية بعد الترخيص بقاعدة عدم إمكان إدانة العاجز.

٢٧٨

إبطال منجّزية كلّ من احتمال الوجوب واحتمال الحرمة في نفسه ، ومن الواضح أن كلّا من الاحتمالين في نفسه ليس بيانا تكوينا ووجدانا فنطبق عليه البراءة العقلية لاثبات التأمين من ناحيته (* ١).

* الثاني : الاعتراض على البراءة الشرعية ، وتوضيحه ـ على ما افاده المحقّق النائيني (قدس‌سره) (١) ـ : ان ما كان منها بلسان اصالة الحلّ لا يشمل المقام لانّ الحلّيّة غير محتملة هنا بل الامر مردّد بين الوجوب والحرمة ، وما كان منها بلسان «رفع ما لا يعلمون» لا يشمل أيضا ، لانّ الرفع يعقل حيث يعقل الوضع ، والرّفع هنا ظاهري يقابله الوضع الظاهري [وهو ايجاب الاحتياط] ، ومن الواضح انّ ايجاب الاحتياط تجاه الوجوب المشكوك والحرمة المشكوكة مستحيل فلا معنى للرفع إذن.

وقد يلاحظ على كلامه :

أوّلا : إنّ إمكان جعل حكم ظاهري بالحلّيّة لا يتوقّف (* ٢) على أن

__________________

(١) فوائد الاصول ج ٣ ص ٤٤٥ ـ ٤٤٨.

__________________

(* ١) (أقول) إنّ مجرّد اثبات عدم التنجيز بالبرهان العقلي البسيط السالف الذكر يعني عدم منجّزية كل من احتمال الوجوب واحتمال الحرمة في نفسه ، ولذلك ليس البحث عن لزوم إجراء البراءة العقلية بعد اثبات عدم التنجيز إلّا لغوا وتضييعا للوقت.

(* ٢) في هذا الكلام نظر ، إذ أنّ دليل الحلية الوارد في الجبن وغيره ظاهر ـ ولو بالانصراف ـ في انّه ناظر الى حالة التردّد بين الحلّية والحرمة ، بمعنى ان الحلّية الواقعية يلزم ان تكون محتملة.

(إلّا) ان يقصد هنا السيد رحمه‌الله ان الفعل حلال وكذلك الترك حلال بمعنى التخيير شرعا.

٢٧٩

تكون الحلّية الواقعية محتملة ، ودعوى ان الحكم الظاهري متقوّم بالشك صحيحة ولكن لا يراد بها تقوّمه باحتمال مماثلة الحكم الواقعي له ، بل تقوّمه بعدم العلم بالحكم الواقعي الذي يراد التأمين عنه او تنجيزه ، إذ مع العلم به لا معنى لجعل شيء (١) مؤمّنا عنه او منجّزا له.

وثانيا : إن الرفع الظاهري في كلّ من الوجوب والحرمة يقابله الوضع في مورده وهو ممكن فيكون الرفع ممكنا أيضا ، ومجموع الوضعين وان كان مستحيلا ولكن كلّا من الرفعين لا يقابل إلّا وضعا واحدا (٢) لا مجموع الوضعين.

*الثالث : الاعتراض على شمول أدلّة البراءة الشرعية عموما (٣) بدعوى انصرافها عن المورد ، لانّ المنساق منها علاج المولى لحالة التزاحم بين الاغراض الالزامية والترخيصية في مقام الحفظ بتقديم الغرض الترخيصي على الالزامي ، لا علاج حالة التزاحم بين غرضين إلزاميين.

__________________

(١) أي لجعل حكم ظاهري.

(٢) وهو إمّا ايجاب الفعل وامّا حرمته ، فاذا احتملنا اثبات الشارع لخصوص أحدهما في هكذا حالة فان الرفع ح يكون ممكنا.

(٣) أي سواء كان لسان البراءة الشرعية لسان «كل شيء لك حلال» أو لسان «رفع .. ما لا يعلمون». (وعلى أي حال) فالسيد المصنّف رحمة الله يؤيّد المحقق النائيني في الاعتراض على جريان البراءة الشرعية حال دوران الحكم بين المحذورين لكن بدليل آخر وهو دليل انصراف أدلّة البراءة الى مورد تردّد الحكم بين الإلزام والترخيص.

٢٨٠