دروس في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

(الاصول التنزيلية والمحرزة)

الاصول العملية الشرعية تارة تكون مجرّد وظائف عملية بلسان إنشاء حكم تكليفي ترخيصي أو الزامي بدون نظر بوجه إلى الأحكام الواقعية ، وهذه اصول عملية بحتة .. وأخرى تبذل فيها عناية إضافية إذ تطعم بالنظر إلى الأحكام الواقعية ، وهذه العناية يمكن تصويرها بوجهين :

أحدهما : (١) أن يجعل الحكم الظاهري بلسان تنزيله منزلة الحكم الواقعي ، كما قد يقال في أصالة الحلّ وأصالة الطهارة ، إذ يستظهر أنّ قوله «كلّ شيء لك حلال» أو «كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم ...» يتكفّل تنزيل مشكوك الحلّيّة ومشكوك الطهارة منزلة الحلال الواقعي ومنزلة الطاهر الواقعي ، خلافا لمن يقول : إنّ دليل هذين الأصلين ليس ناظرا إلى الواقع بل ينشئ بنفسه حليّة أو طهارة بصورة مستقلة (٢).

__________________

(١) تقدّم بيان هذا الوجه في الجزء الأوّل من هذه الحلقة ص ٨٢ (مفصلا) ، وج ٢ ص ٢٨١ (بنحو الاشارة) وتجده في تقريرات السيد الهاشمي حفظه الله ج ٢ ص ١٥٧ مفصّلا أيضا وفي ج ٥ ص ١٧ ، وفي أجود التقريرات بحث الإجزاء وفي ج ٢ منه ص ٣٧٣ سطر ٢٠ فما بعد

(٢) أي ينشئ حليّة أو طهارة ظاهريّتين لا تنزيل فيهما منزلة الحكم

٢١

ويسمّى الأصل في حالة بذل هذه العناية التنزيلية بالأصل التنزيلي ، وقد تترتّب على هذه التنزيلة فوائد ، فمثلا إذا قيل بأنّ أصل الإباحة (١) تنزيلي ترتّب عليه حين تطبيقه على الحيوان مثلا طهارة مدفوعه ظاهرا ، لأنّها مترتبة على الحلية الواقعية ، وهي ثابتة تنزيلا فكذلك حكمها. وأمّا إذا قيل بأنّ أصل الإباحة ليس تنزيليا بل انشاء لحلية مستقلة فلا يمكن أن ننقّح بها طهارة المدفوع (٢) ، وهكذا ...

__________________

الواقعي ولا نظر فيهما إلى الواقع ، وإنّما هي انشاءات تفيدنا حكم الأشياء من حيث انّها مجهولة الحكم.

ملاحظتان : الاولى : قد يرد التنزيل بألسنة تغاير هذا الاسلوب المعروف ، كما ورد مثلا في تنزيل مقدار الخمس في المال المختلط بالحرام منزلة مقدار الحرام ، كما جاء في الروايات بأن أخرج الخمس من ذلك المال ، فانّ الله عزوجل قد رضي من ذلك المال بالخمس وسائر المال لك حلال.

والثانية : انّ التنزيل يحصل في احدى مرحلتين ، فإمّا أن يكون في مرحلة الواقع كما في «الطواف في البيت صلاة» ، وإمّا أن يحصل في مرحلة الظاهر كما في» كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم انّه قذر ، فاذا علمت فقد قذر ، وإن لم تعلم فليس عليك شيء» الذي يعني توسعة الشارع المقدّس لمفهوم الطهارة والذي يعني بالتالي حكومة هذا الدليل على دليل اشتراط الصلاة بالطهارة ، والذي يعني أيضا أنّه إن علم بالنجاسة بعد الصلاة فانّه لم يخالف تكليفه الواقعي ، فلا يجب عليه إعادة الصلاة واقعا ، وهذا وإن كان تصويبا ولكنّه لا مشكلة منه لكون المجمع على بطلانه هو التصويب في الأحكام الواقعية والطهارة من الموضوعات.

(١) أي أصالة الحليّة

(٢) وحينئذ ـ اي بعد عدم إمكان تنقيح موضوع الطهارة ـ نحتاج لاثبات

٢٢

والآخر : أن ينزّل الأصل أو الاحتمال المقوّم له منزلة اليقين بأن تجعل الطريقية في مورد الاصل ، كما ادّعي ذلك في الاستصحاب من قبل المحقق النائيني (١) والسيد الاستاذ (٢) على فرق بينهما ، حيث انّ الاوّل اختار ان المجعول هو العلم بلحاظ مرحلة الجري العملي فقط ، والثاني اختار ان المجعول هو العلم بلحاظ الكاشفية ، فلم يبق على مسلك جعل الطريقية فرق بين الاستصحاب والامارات في المجعول على رأي السيد الاستاذ (٣).

__________________

طهارة المدفوع إلى قاعدة الطهارة.

(١) فوائد الاصول ج ٤ ص ٤٨٦

(٢) مصباح الاصول ج ٢ ص ٣٨ وج ٣ ص ١٥٤

(٣) لا بأس بنقل ما ذكره السيد الخوئي (رضي الله عنه) في المصباح ج ٣ ص ١٥٤. قال : «وذكر المحقق النائيني (قده) وجها ثالثا وهو أنّ المجعول في باب الامارات هي الطريقية واعتبارها علما بالتعبّد ، كما يظهر ذلك من الاخبار المعبّرة ـ عمّن قامت عنده الامارة ـ بالعارف ، كقوله عليه‌السلام «من نظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا» فيكون من قامت عدة الامارة عارفا تعبّديا بالاحكام ، فكما أنّ العلم الوجداني بالشيء يقتضي ترتب آثاره وآثار لوازمه ، فكذلك العلم التعبدي الجعلي ، بخلاف الاستصحاب ، فان المجعول فيه هو الجري العملي (*) على طبق اليقين السابق ، وحيث ان اللازم لم يكن متيقّنا ،

__________________

(*) وهذا هو الصحيح ولكن ببيان سيأتيك في شرحنا للوجه الثالث من الوجوه المذكورة في مسألة «اليقين بالحدوث» من بحث الاستصحاب ، وان العلم الوارد في شرعنا الحنيف سواء في الاستصحاب او غيره انما المراد منه اليقين الطريقي ، وانّ الاستصحاب

٢٣

ويسمّى الاصل في حالة بذل هذه العناية بالاصل المحرز ، وهذه المحرزية قد يترتّب عليها بعض الفوائد في تقديم الاصل المحرز على غيره باعتباره علما وحاكما على دليل الاصل العملي البحت على ما يأتي (١) في محلّه ان شاء الله تعالى.

وهناك معنى آخر للاصول العملية المحرزة ينسجم مع طريقتنا في التمييز بين الامارات والاصول ، وهو أنّه كلما لوحظ في جعل الحكم الظاهري ثبوتا أهمية المحتمل فهو اصل عملي ، فان لوحظ منضما اليه قوّة الاحتمال أيضا فهو اصل عملي محرز كما في قاعدة. الفراغ ، وإلّا فلا. والمحرزية بهذا المعنى في قاعدة الفراغ لا تجعلها حجّة في مثبتاتها إلّا أن استظهارها من دليل القاعدة (٢) يترتب عليه بعض الآثار ايضا ، من قبيل عدم شمول دليل القاعدة لموارد انعدام الامارية والكشف نهائيا.

__________________

فلا وجه للتعبد به ، فالفرق بين الامارة والاصل من ناحية المجعول».

(١) فى الجزء الرابع ص ٣٠٥. ومن هنا عرفت أن الأصل التنزيلي كان ناظرا الى تنزيل مؤدّاه منزلة الواقع ، وان الأصل المحرز. أي الأصل الذي شرّع لوجود كاشفية فيه ولو بنسبة ضئيلة ولانه يحرز الواقع تعبّدا. ناظر الى تنزيل الاحراز والكاشفية واحتمال الاصابة فيه منزلة العلم

(٢) كمضمرة بكير بن أعين قال قلت له الرجل يشك بعد ما يتوضّأ ، قال : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشك» ، والمظنون قويّا ان المسئول منه هو احد الصادقين عليهم‌السلام واحتمال كونه زرارة ضعيف للغاية ، إذا لم نر

__________________

ما هو إلّا اصل عملي بحت ، ولا وجه لما يقوله السيد الخوئي رحمه‌الله ردّا على المحقّق النائيني (قده) من اماريّة الاستصحاب.

٢٤

ومن هنا يقال بعدم جريان قاعدة الفراغ في موارد العلم بعدم التذكر حين العمل.

مورد جريان الاصول العملية

لا شك في جريان الاصول العملية الشرعية عند الشك في الحكم التكليفي الواقعي لتنجيزه كما في اصالة الاحتياط أو للتعذير عنه كما في اصالة البراءة ، ولكن قد يشك في التكليف الواقعي ويشك في قيام الحجّة الشرعية عليه بنحو الشبهة الموضوعية ـ كالشك في صدور الحديث ـ أو بنحو الشبهة الحكمية ـ كالشك في حجية الامارة المعلوم وجودها ـ فهل يوجد في هذه الحالة موردان للاصل العملي ، فنجري البراءة عن التكليف الواقعي المشكوك ونجري براءة اخرى عن الحجية أي الحكم الظاهري المشكوك ... أو تكفي البراءة الاولى؟

وبكلمة اخرى إنّ الاصول العملية هل يختص موردها بالشك في الاحكام الواقعية أو يشمل مورد الشك في الاحكام الظاهرية نفسها؟

قد يقال باننا في المثال المذكور نحتاج الى براءتين اذ يوجد احتمالان صالحان للتنجيز فنحتاج الى مؤمّن عن كلّ منهما :

احدهما : احتمال التكليف الواقعي ولنسمّه بالاحتمال البسيط ،

والآخر : احتمال قيام الحجّة عليه.

__________________

رواية لزرارة عن الامام تشبه هذه الرواية ، اضافة الى قرائن اخرى معلومة قد تجعل الانسان يطمئن بصدورها

٢٥

وحيث ان الحجية معناها ابراز شدّة اهتمام المولى بالتكليف الواقعي المشكوك ، كما عرفنا سابقا عند البحث في حقيقة الاحكام الظاهرية ... فاحتمال الحجّة على الواقع المشكوك يعني احتمال تكليف واقعي متعلق لاهتمام المولى الشديد وعدم رضائه بتفويته ، ولنسمّ هذا [الاحتمال] ب «الاحتمال المركّب» (١).

وعليه فالبراءة عن الاحتمال البسيط لا تكفي بل لا بد من التأمين من ناحية الاحتمال المركّب ايضا ببراءة ثانية.

وقد يعترض على ذلك بأنّ الاحكام الظاهرية كما تقدّم في الجزء السابق متنافية بوجوداتها الواقعية ، فاذا جرت البراءة عن الحجّية المشكوكة (٢) وفرض انها (٣) كانت ثابتة يلزم اجتماع حكمين

__________________

(١) وجه هذه التسمية انه عند ما يحتمل وجود أمارة حجّة يتولّد احتمال آخر ـ تبعا للاوّل ـ وهو احتمال وجود تكليف واقعي على طبقه قد اهتمّ المولى بشأنه.

(٢) سواء كان الشك في صدور حديث معتبر شرعا او كان الشك في حجية الحديث الصادر كخبر الثقة غير الامامي او وكيل الامام الذي لم يوثّق بصراحة.

(٣) أي فاذا جرت البراءة عن «الحجيّة المشكوكة» وجودا أو حكما ـ اي عن احتمال وجود امارة حجّة ملزمة للتكليف او عن حجيّتها بعد فرض وجودها ـ وفرض ان هذه الحجيّة كانت ثابتة في الواقع يلزم اجتماع براءة ظاهرية معذّرة وامارة منجّزة ، وهو محال ، وذلك لعدم امكان أن يكون المكلّف بريء الذمّة عن حجيّة مشكوكة ومشغول الذمّة بها في نفس الوقت.

٢٦

ظاهريين متنافيين.

وجواب الاعتراض أنّ البراءة هنا نسبتها إلى الحجيّة المشكوكة نسبة الحكم الظاهري إلى الحكم الواقعي ، لأنّها (١) مترتبة على الشك فيها. فكما لا منافاة بين الحكم الظاهري والواقعي كذلك لا منافاة بين حكمين ظاهريين طوليين من هذا القبيل. وما تقدّم سابقا من التنافي بين الأحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية ينبغي أن يفهم في حدود الأحكام الظاهرية العرضية ، أي التي يكون الموضوع فيها نحوا واحدا من الشك.

وقد يعترض على إجراء براءة ثانية بأنّها لغو ، إذ بدون إجراء البراءة عن نفس الحكم الواقعي المشكوك لا تنفع البراءة المؤمّنة عن الحجية المشكوكة ، ومع إجرائها لا حاجة إلى البراءة الثانية ، إذ لا يحتمل العقاب إلّا من ناحية التكليف الواقعي ، وقد أمّن عنه (٢).

والجواب على ذلك : انّ احتمال ذات التكليف الواقعي شيء واحتمال تكليف واقعي واصل إلى مرتبة من الاهتمام المولوي التي تعبّر

__________________

(١) أي لأنّ البراءة مترتبة ومشروطة بالشكّ في حجيّة الامارة.

(٢) لو يتمّم هذا الاعتراض لصحّ ، ويمكن بيانه متمّما بالبيان التالي : .. ومع إجرائها لا حاجة إلى إجراء البراءة الثانية ، لأنّ جريان البراءة عن الحكم الواقعي يكشف عن عدم تحفّظ المولى على ملاكات الأحكام الواقعية (إذ لو كان مهتمّا بحفظها لشرّع فيها الاحتياط) ، فمع ذلك كيف يمكن للمولى تعالى أن يشرّع الاحتياط عند احتمالنا لوجود امارة حجّة ، أليس قد قلنا سابقا أنّ تشريع الاحتياط كاشف عن اهتمام المولى بملاكات الأحكام الواقعية؟! إذن تشريع البراءة عن الحكم الواقعي المشكوك كاشف عن الترخيص في الطرق الحجّة المحتملة.

٢٧

عنها الحجية المشكوكة شيء آخر ، والتأمين عن الأوّل لا يلازم التأمين عن الثاني. ألا ترى أنّ بامكان المولى أن يقول للمكلّف : كلّما احتملت تكليفا وأنت تعلم بعدم قيام الحجّة عليه فأنت في سعة منه ، وكلّما احتملت تكليفا واحتملت قيام الحجّة عليه فاحتط بشأنه؟ (١)

ولكن التحقيق مع ذلك : انّ اجراء البراءة عن التكليف الواقعي المشكوك يغني عن إجراء البراءة عن الحجية المشكوكة ، وذلك بتوضيح ما يلي :

أوّلا : انّ (٢) البراءة عن التكليف الواقعي والحجيّة المشكوكة حكمان ظاهريّان عرضيّان لأنّ موضوعهما معا الشك في الواقع ، خلافا للبراءة عن الحجية المشكوكة فانّها ليست في درجتهما كما عرفت.

__________________

(١) فعلى هذا الاساس يجب اجراء البراءة عن وجوب الاحتياط المحتمل ، فنصل الى نتيجة هي لزوم اجراء براءتين في هكذا حالة.

(٢) أي : انّ البراءة (ككاشفة عن عدم اهتمام المولى بالأحكام الواقعية) في عرض الحجية (ككاشفة عن اهتمام المولى بها فيما لو كانت الامارة منجّزة) ، فالبراءة تعذّر عن التكليف الواقعي وتلك قد تنجزه ، وهذا خلافا للبراءة عن الامارة (المشكوكة وجودا أو حجية) ، فانّ البراءة الأولى (الناظرة إلى الحكم الواقعي) ليست في عرض البراءة الثانية (الناظرة إلى الحكم الظاهري).

وغرض السيد الشهيد (قده) من هذه المقدمة أن يقول : إنّ الشارع المقدّس لا يعقل أن يشرّع البراءة عن التكليف الواقعي ويقول لك في نفس الوقت احتط بشأن الحجية المشكوكة ، فانّهما يؤولان إلى التناقض المستحيل لأنّهما في عرض واحد.

(وفي) النسخة الأصلية قال بدل «درجتهما» «درجتها» ، وهو سهو.

٢٨

ثانيا : إنّ الحكمين الظاهريين المختلفين (١) متنافيان بوجوديهما الواقعيين سواء وصلا أو لا ، كما تقدّم في محله.

ثالثا : إنّ البراءة عن التكليف الواقعي منافية ثبوتا للحجية المشكوكة على ضوء ما تقدّم (٢).

رابعا : إنّ مقتضى المنافاة أنّها تستلزم عدم الحجية واقعا (٣) ونفيها.

خامسا : إنّ الدليل الدّال على البراءة عن التكليف الواقعي يدلّ بالالتزام (٤) على نفي الحجية المشكوكة.

وهذا يعني انّنا باجراء البراءة عن التكليف الواقعي سنثبت بالدليل

__________________

(١) كقاعدتي البراءة والاحتياط ، كما تقدم في الجزء الأوّل ص ٧٧.

(٢) لان الاولى تكشف عن عدم الاهتمام بالملاكات الواقعية والثانية تكشف عن الاهتمام بها.

(٣) أي انّ جريان البراءة عن التكليف الواقعي (ككاشفة لنا عن عدم اهتمام المولى بالملاكات الواقعية) كاشف لنا عن عدم حجية الامارة (المشكوك بها وجودا أو حكما) واقعا ، وإلّا يتناقضان ، لأنّهما في عرض واحد (كما قال في المقدّمة الأولى).

(٤) وهذه عين سابقتها من وجه ، إلّا أنّ الاولى ناظرة إلى عالم الثبوت والثانية إلى عالم الاثبات.

ويمكن اختصار ما ذكره السيد الشهيد (قده) بأن نقول : إنّ جريان البراءة الشرعية عن التكليف الواقعي كاشف عن عدم اهتمام المولى بالملاكات الواقعية (وإلّا لما شرّع البراءة بل كان يشرّع الاحتياط) ، الكاشف لنا بالتالي عن ترخيص الشارع باحتمال حجيّة الامارات المشكوكة (إذا شككنا بوجودها أو بحجيتها) ، لأنّ تشريع هذه الامارات إنّما هو من أجل الحفاظ على الملاكات الواقعية ليس إلّا.

٢٩

نفي الحجية المشكوكة ، فلا حاجة إلى أصل البراءة عنها ، وإن كان لا محذور فيه أيضا (١).

ويمكن (٢) تصوير وقوع الأحكام الظاهرية موردا للاصول العملية في الاستصحاب ، إذ قد يجري استصحاب الحكم الظاهري لتمامية أركان الاستصحاب فيه وعدم تماميتها في الحكم الواقعي ، كما إذا علم بالحجية وشك في نسخها فانّ المستصحب هنا نفس الحجية لا الحكم الواقعي.

__________________

(١) ان احتملت لزوم جريانها.

(٢) خلاصة البحث لحدّ الآن : انه يكفي ان تجري البراءة عن الحكم الواقعي المشكوك ، وليس بالضرورة ان نجري براءة ثانية عن الحجية المشكوكة ، إذن مورد جريان البراءة هو الحكم الواقعي المشكوك ، وهنا يريد ان يقول إنّ مورد الاستصحاب قد يكون الحكم الظاهري المشكوك ، ولا يجري الاستصحاب في الحكم الواقعي المشكوك ، لما ذكرناه مرّات من ان الاستصحاب لا يجري في عالم الجعل. وببيان آخر : يريد هنا التعرّض للاستصحاب ، بعد التعرّض للبراءة ، ولذلك كان الأولى أن يغيّر كلّ العبارة بأن يقول مثلا : وأمّا تصوير وقوع الأحكام الظاهرية موردا للاستصحاب فتقريبه أنّه قد يجري الاستصحاب في الحكم الظاهري كما اذا علمنا بحجية قول المفتي حال حياته فنستصحبها بعد وفاته ، وكما اذا علمنا بحجية خبر الثقة في عصر الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشككنا في نسخها فاننا نستصحب حجيته ، وكما اذا كانت وظيفتنا في مورد العلم الاجمالي لزوم الاحتياط وترك كلا الإناءين ، وبعد ما اهريق احد الاناءين شككنا في بقاء منجزيّة العلم الاجمالي فاننا نستصحب المنجزية وهكذا ... (إذن) مورد جريان الاصول العملية قد يكون الحكم الواقعي المشكوك وقد يكون الحكم الظاهري المشكوك.

٣٠

الوظيفة العملية

في

حالة الشك

٣١
٣٢

الاصول العملية

ـ ٢ ـ

١ ـ الوظيفة في حالة الشك البدوي

٢ ـ الوظيفة في حالة العلم الاجمالي

٣ ـ الوظيفة عند الشك في الوجوب والحرمة معا

٤ ـ الوظيفة عند الشك في الأقلّ والأكثر

٣٣
٣٤

الوظيفة العملية

في حالة الشك

ـ ١ ـ

الوظيفة في حالة الشك البدوي

١. الوظيفة الأوّلية في حالة الشك

٢. الوظيفة الثانوية في حالة الشك

٣٥
٣٦

الوظيفة الأوّلية في حالة الشكّ

كلّما شك المكلّف في تكليف شرعي ولم يتأتّ له اقامة الدليل عليه إثباتا أو نفيا فلا بدّ له من تحديد الوظيفة العملية تجاهه. ويقع الكلام أوّلا في تحديد الوظيفة العملية تجاه التكليف المشكوك بقطع النظر عن أيّ تدخّل من الشارع في تحديدها ، وهذا يعني التوجّه إلى تعيين الأصل الجاري في الواقعة بحدّ ذاتها وليس هو إلّا الأصل العملي العقلي. ويوجد بصدد تحديد هذا الأصل العقلي مسلكان :

١ ـ مسلك قبح العقاب بلا بيان

إنّ مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو المسلك المشهور (١).

__________________

(١) نظرة في تاريخ هذه المسألة :

كان هناك بحث في زمن الشيخ المفيد والشيخ الطوسي رحمهما‌الله تعالى وهو أنّه : ما هو حكم العقل في الأشياء المجهولة الحكم ، هل هو الحظر أم الاباحة ـ فيما إذا لم يستقلّ العقل فيه بالقبح أو الحسن ـ فانّه يستشم من كلام الشيخ المفيد (قده) اصالة الحظر ، لأنّه ـ مع الاقدام ـ لا يؤمن من الوقوع في المفسدة ، وقال الشيخ الطوسي رحمه‌الله في العدّة بأصالة الوقف ، والتي تنتج في مقام العمل والافتاء الاحتياط.

وجاء بعدهما ـ بحوالي القرن من الزمان ـ السيد أبو المكارم حمزة بن

٣٧

وقد يستدلّ عليه بعدّة وجوه :

الأوّل : ما ذكره المحقق النائيني (رحمه‌الله) (١) من أنّه لا مقتضي للتحرّك مع عدم وصول التكليف ، فالعقاب حينئذ عقاب على ترك ما لا مقتضي لايجاده وهو قبيح (٢). وقد عرفت في الحلقة السابقة انّ هذا الكلام مصادرة ، لأنّ عدم المقتضي فرع ضيق دائرة حقّ الطاعة وعدم شمولها عقلا للتكاليف المشكوكة ، لوضوح أنّه مع الشمول يكون

__________________

علي بن زهرة الحلبي (٥١١ ـ ٥٨٥ ه‍) فقال : «بقبح التكليف مع عدم العلم لأنّه من التكليف بغير المقدور». ويرد عليه أنّه قد يمكن الاحتياط فكيف تقول بأنّ التكليف بالمجهول غير مقدور؟! وأجيب عنه بأنّ مراده عدم امكانية الامتثال التفصيلي!

وجاء بعده المحقق الحلّي (٦٠٢ ـ ٦٧٦) فقال : إنّ التكليف بشيء مع عدم نصب دليل عليه قبيح ، وعدم وصول الدليل دليل على عدم وجوده.

وقد آمن صاحب المعالم (الشيخ حسن بن الشهيد الثاني ٩٥٩ ـ ١٠١١) بتقريب المحقق.

ونقل ذلك عن القوانين ..

ثمّ آمن الشيخ الأعظم الأنصاري بها فقال : «الثالث من الأدلّة حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف ، ويشهد له حكم العقلاء كافّة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريم».

ومن زمانه (رضي الله عنه) تبلورت فكرة «قبح العقاب بلا بيان» ، وبدأ الكلام في حدود جريانها ، فهل تجري في الشبهتين المفهومية والموضوعية أم لا؟ ... راجع ـ مثلا ـ تقريرات السيد الهاشمي ج ٥ ص ٢٥ فما بعد.

(١) فوائد الاصول ج ٣ ص ٣٦٥

(٢) راجع أجود التقريرات ج ٢ ص ١٨٦

٣٨

المقتضي للتحرّك (١) موجودا ، فينتهي البحث إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة.

الثاني : الاستشهاد بالاعراف العقلائية ، وقد تقدّم أيضا (٢) الجواب بالتمييز بين المولوية المجعولة والمولوية الحقيقية.

الثالث : ما ذكره المحقق الاصفهاني رحمه‌الله (٣) من أنّ كلّ أحكام العقل العملي مردّها إلى حكمه الرئيسي الأوّلي بقبح الظلم وحسن العدل. ومخالفة (*) ما قامت عليه الحجّة خروج عن رسم العبودية ، وهو ظلم من العبد لمولاه ، فيستحق منه الذمّ والعقاب ، وانّ مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة ليست من أفراد الظلم ، إذ ليس من زيّ العبوديّة أن لا يخالف العبد مولاه في الواقع وفي نفس الأمر ، فلا يكون ذلك ظلما للمولى ، وعليه فلا موجب للعقاب بل يقبح ، وبذلك يثبت قبح العقاب بلا بيان.

والتحقيق انّ ادّعاء كون حكم العقل بقبح الظلم هو الأساس لأحكام العقل العملي بالقبح عموما وانّها كلّها تطبيقات له ... وإن كان

__________________

(١) وهو حقّ الطاعة في موارد الظن والاحتمال أيضا ، أو قل حكم العقل بلزوم اطاعة المولى في هكذا موارد.

(٢) في الحلقة الثانية بحث «القاعدة العملية الاولية في حالة الشك» عند قوله «واما الوجه الثاني فهو قياس لحق الطاعة الثابت للمولى سبحانه وتعالى على حق الطاعة الثابت للآمر العقلائي ...».

(٣) نهاية الدراية ج ٢ ص ١٩٠.

__________________

(*) في النسخة الأصلية «ونحن نلاحظ أن مخالفة ...» وهي توهم ابتداء ان هذه ملاحظة السيد الشهيد (رضي الله عنه) فحذفناها ليتّضح المراد.

٣٩

هو المشهور والمتداول في كلماته وكلمات غيره من المحقّقين إلّا أنّه لا محصّل له ، لأنّنا (١) إذا حلّلنا نفس مفهوم الظلم وجدنا أنّه عبارة عن

__________________

(١) بيان عدم المحصّلية لقاعدة «الظلم قبيح» : انّ العقل إنّما يدرك القبح للظلم إذا كان الظلم مما لا ينبغي أن يفعل ، وإلّا فان الكذب ـ مثلا ـ قد يحسن أحيانا إذا توقّف إنقاذ مؤمن عليه. إذن الظلم ـ بشرط كونه لا ينبغي فعله ـ قبيح ، وما لا ينبغي فعله يعني بمفهومه أنّه قبيح ، فتصير القضية هكذا : الظلم بشرط كونه قبيحا قبيح ، وهذا لا محصّل له. هكذا أفاد رحمه‌الله في تقريرات السيد الهاشمي ج ٤ ص ١٣٧.

وأمّا هنا فنظر إلى موضوع القضيّة وقال : الظلم هو الاعتداء وسلب الآخرين حقوقهم ، وفيما نحن فيه نقول : ما الدليل على كون «التكاليف المحتملة واجبة» من الاعتداء والتجاوز على الناس وأنّها سلب لحقوقهم حتّى يكون ظلما ، وممّا لا ينبغي فعله ، وبالتالي قبيحا؟! ...

فالنقاش إذن ينبغي أن يتوجّه أولا إلى الصغرى وهو اثبات الظلم ، ثمّ يحكم عليه بأنّه قبيح.

ومن هنا رأيت أنّ هذا النقاش الثاني مترتّب على التسليم بأصل هذه القاعدة ، وإلّا فأصل القاعدة لا محصّل لها عند السيد (رضي الله عنه) (*)

__________________

(*) (أقول) لا نسلّم بالنقاش الأوّل للسيد المصنّف (قده) القائل بأنّ «الظلم هو الخروج عن الحدّ الذي يضبطه العقل ويحدّده بأنّه ينبغي أو لا ينبغي أن يتعدّاه الانسان ، وهو عبارة أخرى عن القبيح ...» ، إذ هناك فرق مفهومي واضح بين الظلم (الذي هو عبارة عن سلب الحق) والقبيح ، ولذلك قد يحصل اختلاف في كون العمل الفلاني ظلما أو لا ، ولكن بعد وضوح كونه ظلما لا يشك إنسان في كونه قبيحا ولا ينبغي أن يفعل. فالكذب مثلا قد لا يكون ظلما أحيانا بل يكون عدلا كما لو كان هو الطريق لانقاذ نفس أو مال أو نحو ذلك ، فطريق العدل عدل ، ولا يمكن ان يكون الظلم بحال حسنا ، فيلغو شرط الحمل وهو

٤٠