إلزام النّاصب في إثبات الحجّة الغائب عجّل فرجه - ج ١

الشيخ علي اليزدي الحائري

إلزام النّاصب في إثبات الحجّة الغائب عجّل فرجه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي اليزدي الحائري


المحقق: السيد علي عاشور
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

الفرع الثاني

في ذكر جمع من المعمّرين

قال محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي في كتابه البيان في أخبار صاحب الزمان : من الدلالة على كون المهدي عجل الله فرجه حيّا باقيا منذ غيبته وإلى الآن أنّه لا امتناع في بقائه كبقاء عيسى ابن مريم والخضر وإلياس من أولياء الله ، وبقاء الأعور الدجّال وإبليس اللعين من أعداء الله ، وقد ثبت بقاؤهم بالكتاب والسنّة (١).

أمّا عيسى فالدليل على بقائه قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) (٢) ولم يؤمن منذ نزول هذه وإلى يومنا هذا أحد ، فلا بدّ أن يكون هذا في آخر الزمان.

وأمّا السنّة : كما رواه مسلم وغيره في قصّة الدجّال فينزل عيسى ابن مريم عليه‌السلام عند المنارة البيضاء بين مهرودتين واضعا كفّيه على أجنحة ملكين (٣). وأيضا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم (٤).

وأمّا الخضر عليه‌السلام وإلياس فعن ابن جرير الطبري : الخضر وإلياس باقيان يسيران في الأرض (٥). وما روي في صحيح مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري : حدّثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حديثا طويلا عن الدجّال وكان فيما حدّثنا أنّه قال : يأتي وهو محرّم عليه أن يدخل بقباب (٦) المدينة فينتهي إلى بعض السباخ (٧) التي تلي المدينة ، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس ـ أو من خير الناس ـ فيقول الدجّال : إن قتلت هذا ثمّ أحييته أتشكّون في الأمر؟ فيقولون : لا ، قال : فيقتله ثمّ يحييه فيقول حين يحييه : والله ما كنت فيك قط أشدّ بصيرة منّي الآن ، فيريد الدجّال أن يقتله فلن يسلّط عليه. وقال إبراهيم بن سعد : يقال إنّ الرجل هو

__________________

(١) البيان في أخبار صاحب الزمان : ١٤٨ الباب الخامس والعشرون.

(٢) النساء : ١٥٩.

(٣) كشف الغمة : ٣ / ٢٩١.

(٤) العمدة : ٤٣١ ح ٩٠٣.

(٥) كشف الغمّة : ٣ / ٢٩١.

(٦) في صحيح مسلم : نقاب.

(٧) واحدتها سبخة بكسر الباء ، وهي أرض ذات نز وملح.

٢٦١

الخضر. هذا لفظ مسلم في صحيحه كما سقناه سواء (١). والدليل على بقاء إبليس اللعين (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٢).

وأمّا بقاء المهدي عجل الله فرجه فقد جاء في الكتاب والسنّة : أمّا الكتاب فقد قال سعيد ابن جبير في تفسير قوله تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣) قال : هو المهدي عليه‌السلام من ولد فاطمة عليها‌السلام (٤). وأمّا من قال إنّه عيسى ، فلا تنافي بين القولين إذ هو مساعد للمهدي عجل الله فرجه على ما تقدّم. وعن مقاتل بن سليمان ومن تابعه من المفسّرين في تفسير قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) (٥) قال : هو المهدي يكون في آخر الزمان وبعد خروجه يكون أمارات ودلالات الساعة وقيامها (٦).

وفي الينابيع عن سدير الصير في قال : دخلت أنا والمفضل بن عمر وأبو بصير وأبان بن تغلب على مولانا أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما‌السلام فرأيناه جالسا على التراب وهو يبكي بكاء شديدا ويقول : سيّدي غيبتك نفت رقادي وابتزّت منّي راحة فؤادي. قال سدير : تصدّعت قلوبنا جزعا فقلنا : لا أبكى الله ـ يا ابن خير الورى ـ عينيك ، فزفر زفرة انتفخ منها جوفه قال : نظرت في كتاب الجفر الجامع صبيحة هذا اليوم ـ وهو الكتاب المشتمل على علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وهو الذي خصّ الله به محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة من بعده صلوات الله عليه وعليهم ـ وتأمّلت فيه مولد قائمنا المهدي عجل الله فرجه فطول غيبته وطول عمره وبلوى المؤمنين في زمان غيبته وتولّد الشكوك في قلوبهم من إبطاء ظهوره وخلعهم ربقة الإسلام عن أعناقهم ، قال الله عزوجل (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (٧) يعني ولاية الإمام ؛ فأخذتني الرقّة واستعلت علي الأحزان. وقال : قدّر الله مولده تقدير مولد موسى وقدّر غيبته تقدير غيبة عيسى ، وأبطأ كإبطاء نوح وجعل عمر العبد الصالح الخضر دليلا على عمره.

وأمّا مولد موسى فإنّ فرعون لمّا وقف على أنّ زوال ملكه بيد مولود من بني إسرائيل أمر

__________________

(١) صحيح مسلم : ٨ / ١٩٩ ح ٢٩٣٨ صفة الدجّال. ط. دار الفكر.

(٢) الحجر : ٣٨.

(٣) التوبة : ٣٣.

(٤) مناقب آل أبي طالب : ١ / ٢٤٨ ، وينابيع المودّة : ٢ / ٨٣.

(٥) الزخرف : ٦١.

(٦) تأويل الآيات : ٢ / ٥٧٠.

(٧) الإسراء : ١٣.

٢٦٢

بقتل كلّ مولود ذكر من بني إسرائيل حتّى قتل نيفا وعشرين ألف مولود فحفظ الله موسى ، كذلك بنو امية وبنو العبّاس لما وقفوا على أنّ زوال الجبابرة على يد القائم منّا قصدوا قتله ، ويأبى الله أن يكشف أمره لواحد من الظلمة إلّا أن يتمّ نوره.

وأمّا غيبته كغيبة عيسى فإنّ اليهود والنصارى اتّفقت على أنّه قتل فكذّبهم الله عزوجل ذكره بقوله (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (١) كذلك غيبة القائم فإنّ الناس استنكروها لطولها ؛ فمن قائل بغير هدى بأنّه لم يولد ، وقائل يقول : إنّه ولد ومات ، وقائل يقول : إنّ حادي عشرنا كان عقيما ، وقائل يقول : يتعدّى إلى ثالث عشر وما عدا ، وقائل : إنّ روح القائم ينطق في هيكل غيره ، وكلّها باطل.

وأمّا إبطاؤه كإبطاء نوح عليه‌السلام فإنّه لما استنزل العقوبة على قومه بعث الله الروح الأمين فقال : يا نبي الله إنّ الله يقول لك : إنّ هؤلاء خلائقي وعبادي لست اهلكهم إلّا بعد تأكيد الدعوة وإلزام الحجّة ، فاغرس النوى واصبر واجتهد ، وأخبر بذلك الذين آمنوا به فارتدّ منهم ثلاثمائة رجل ، ثمّ إنّ الله يأمر عند ثمرها كلّ مرّة بأن يغرسها مرّة بعد اخرى إلى أن غرسها سبع مرّات ، فما زال منهم يرتدّ إلى أن بقي بالايمان نيف وسبعون رجلا فأوحى الله إليه : الآن صفى الحقّ عن الكدر بارتداد من كانت طينته خبيثة ، فكذلك القائم ـ عجل الله فرجه ـ منّا فإنّه تمتدّ غيبته ثمّ تلا (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) (٢).

وأمّا الخضر ما طوّل الله عمره لنبوّة قدرها له ، ولا لكتاب ينزل عليه ولا لشريعة ينسخ بها شريعة من كان قبله ، ولا لامّة يلزم اقتداؤهم به ولا لطاعة يعرضها له ، بل طوّل عمره للاستدلال به على طول عمر القائم عجل الله فرجه ولتنقطع بذلك حجّة المعاندين ؛ لئلّا يكون للناس على الله حجّة (٣).

زهرة : في القاموس في باب الدال وفصل العين عن حديث مفصل : إنّ أوّل الناس دخولا الجنّة عبد أسود يقال له عبود ، وذلك أنّ الله تعالى بعث نبيّا إلى أهل قرية فلم يؤمن به أحد إلّا ذلك الأسود ، وإنّ قومه احتفروا له بئرا فصيّروه فيها وأطبقوا عليه صخرة عظيمة ، وكان ذلك الأسود يخرج فيحتطب فيبيع الحطب ويشتري به طعاما وشرابا ثمّ يأتي تلك

__________________

(١) النساء : ١٥٧.

(٢) سورة يوسف : ١١٠.

(٣) بطوله في كمال الدين : ٣٥٣ ، وينابيع المودّة : ٣ / ٣١٠ باب ٨٠.

٢٦٣

الحفرة فيعينه الله عزوجل على تلك الصخرة فيرفعها ويدلي إليه ذلك الطعام والشراب ، وإنّ الأسود احتطب يوما ثمّ جلس ليستريح ، فضرب بنفسه شقّه الأيسر فنام سبع سنين ، ثمّ هبّ من نومته وهو لا يرى إلّا أنّه نام ساعة من نهار فاحتمل حزمته فأتى القرية فباع حطبه ، ثمّ أتى الحفرة فلم يجد النبي فيها ، وقد كان بدا للقوم فيه فأخرجوه ، فكان يسأل عن الأسود فيقولون : لا ندري أين هو ، فضرب به المثل لمن نام طويلا.

وهذه الحكاية جواب لاستبعاداتهم بقاء الحجّة في طول الزمان ؛ لأنّ بقاء أسود سبع سنين بلا ماء ولا طعام في الشمس والمطر وسائر الحوادث في معبر الدواب والحيوانات ، أعجب من بقاء من يأكل ويشرب ويسير كما هو مذهب الإمامية ، وأعجب من هذا أيضا خفاء هذا الأسود على أهالي تلك القرية في تلك المدّة مع أنّه نام في مكان مخصوص ، كيف يمكن عدم عبور أحد في تلك المدّة من ذلك المكان وما احتاجوا إلى الحطب ، وأعجب من هذا نوم أصحاب الكهف ثلاثمائة وتسع سنين فافهم وتأمّل.

يستدلّون مخالفونا (١) على بقاء عيسى بالآيات والأخبار ولا يستبعدون ، وينكرون بقاء المهدي عجل الله فرجه. ومن أعجب العجب أنّهم يروون أن عيسى ابن مريم مرّ بأرض كربلاء فرأى عدّة من الظباء هناك مجتمعة فأقبلت إليه وهي تبكي ، وأنّه جلس وجلس الحواريون فبكى وبكى الحواريون وهم لا يدرون لم جلس ولم بكى فقالوا : يا روح الله وكلمته ما يبكيك؟ قال عليه‌السلام : أتعلمون أي أرض هذه؟ قالوا : لا ، قال : هذه أرض يقتل فيها فرخ الرسول أحمد وفرخ الخيرة الطاهرة البتول شبيهة أمّي ، ويلحد فيها وهي أطيب من المسك لأنّها طينة الفرخ المستشهد ، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء ، وهذه الظباء كلّمتني وتقول إنّها ترعى في هذه الأرض شوقا إلى تربة الفرخ المبارك ، وزعمت أنّها آمنة في هذه الأرض ، ثمّ ضرب بيده إلى بعر تلك الظباء فشمّها وقال : اللهمّ أبقها أبدا حتّى يشمّها أبوه عليه‌السلام فتكون له عزاء وسلوة ، وإنّها بقيت إلى أيّام أمير المؤمنين عليه‌السلام حتّى شمّها وبكى وأبكى وأخبر بقصّتها لمّا مرّ بكربلاء (٢).

فهم يصدقون بأن بعر تلك الظباء تبقى زيادة على خمسمائة سنة ، لم تغيّرها الأمطار

__________________

(١) هذا على لغة أكلوني البراغيث ، والأولى أن يقال : يستدل مخالفونا ، وقد تكرر هذا في أكثر من موضع.

(٢) كمال الدين : ٥٣٢ ، والخرائج : ٣ / ١١٤٣ ح ٥٥.

٢٦٤

والرياح ومرور الأيّام والليالي والسنين ، ولا يصدّقون بأنّ القائم عليه‌السلام من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يبقى حتّى يخرج بالسيف فيبيد أعداء الله ويظهر دين الله ، مع الأخبار الواردة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة بالنصّ عليه باسمه ونسبه وغيبته المدّة الطويلة وجري سنن الأوّلين فيه ، هل هذا إلّا عناد وجحود الحقّ؟

ولمّا كان بناء هذا الفرع على ذكر بعض المعمّرين ينبغي ذكرهم هنا ، وإن ذكرهم علماء السلف في كتبهم (١) ، والصدوق عليه الرحمة في كتاب كمال الدين (٢) ، والمحقّق المجلسي (٣) طاب ثراه ، ولذلك تركنا كثيرا منهم خوفا من الإطالة.

من المعمّرين : أوّل الناس : آدم عمره تسعمائة وثلاثون سنة.

الثاني : شيث وعمره تسعمائة واثنتا عشرة سنة.

الثالث : نوح وعمره ألفان وخمسمائة سنة.

الرابع : إدريس وعمره تسعمائة وخمس وستّون سنة.

الخامس : سليمان بن داود وعمره سبعمائة واثنتا عشرة سنة.

السادس : عوج بن عنقا وعمره ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة ، وعمر أمّه عنق بنت آدم أزيد من ثلاثة آلاف سنة.

في غيبة الطوسي (٤) : أفريدون العادل عاش فوق ألف سنة ، ويقولون : إنّ الملك الذي أحدث المهرجان عاش ألفي سنة وخمسمائة سنة استتر منها عن قومه ستمائة سنة ، ومنهم عمرو بن عامر مزيقيا عاش ثمانمائة سنة أربعمائة سنة في حياة أبيه وأربعمائة سنة ملكا ، وكان في سني ملكه يلبس في كل يوم حلتين ، فإذا كان بالعشيّ مزّقت الحلّتان عنه لئلّا يلبسها غيره فسمّي مزيقيا.

السابع : أصحاب الكهف بعمرهم الله أعلم. (٥)

الثامن : الخضر عليه‌السلام وبعمره الله أعلم.

__________________

(١) راجع كتاب المعمّرين للمبرّد ، وكتاب المعمّرين لأبي حاتم السجستاني.

(٢) كمال الدين : ٥٣٢ ح باب ٤٧.

(٣) البحار : ٥١ / ٢٢٥ باب ١٤ ذكر المعمّرين.

(٤) غيبة الشيخ : ١٢٣ الكلام على الواقفة.

(٥) فإنّ القرآن وإن أخبر عن مقدار نومهم لكنه لم يخبرنا عن مقدار عمرهم قبل نومهم.

٢٦٥

التاسع : إلياس وبعمره الله أعلم.

العاشر : سلمان الفارسي عمره على المشهور أربعمائة سنة. وفي رواية العوالم لقي عيسى ابن مريم (١).

الحادي عشر : ذو القرنين وبعمره الله أعلم.

الثاني عشر : ضحاك وعمره ألف سنة.

الثالث عشر : كرشاسب وعمره خمس وسبعمائة سنة.

الرابع عشر : رستم وعمره ستمائة سنة.

الخامس عشر : زال وعمره خمسون وستمائة سنة.

السادس عشر : حبيب الذي استدعى من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معجزة شق القمر وعمره .....

السابع عشر : رئيس نصارى نجران .....

الثامن عشر : دقيانوس .....

التاسع عشر : فرعون .....

العشرون : شداد بن عاد وعمره سبعمائة سنة.

الحادي والعشرون : لقمان بن عاد وعمره ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة.

الثاني والعشرون : عزيز مصر وعمره سبعمائة سنة.

الثالث والعشرون : ريان بن دومغ والد عزيز مصر وعمره ألف وسبعمائة سنة.

الرابع والعشرون : دومغ والد ريان وعمره ثلاثة آلاف سنة.

عن الصدوق : أنّ أبا الحسن حمّادويه بن أحمد بن طولون كان قد فتح عليه من كنوز مصر ما لم يرزق أحد قبله ، فأغري بالهرمين ، فأشار إليه ثقاته وحاشيته وبطانته أن لا يتعرّض لهدم الأهرام فإنّه ما تعرض أحد لها فطال عمره ، فلجّ في ذلك وأمر ألفا من الفعلة أن يطلبوا الباب ، وكانوا يعملون سنة حواليه حتّى ضجروا وكلّوا ، فلمّا همّوا بالانصراف بعد الإياس منه وترك العمل وجدوا سربا فقدروا أنّه الباب الذي يطلبونه ، فلمّا بلغوا آخره وجدوا بلاطة قائمة من مرمر فقدروا أنّها الباب فاحتالوا فيها إلى أن قلعوها وأخرجوها فإذا عليها كتابة يونانية ، فجمعوا حكماء مصر وعلماءها فلم يهتدوا لها ، وكان في القوم رجل يعرف بأبي

__________________

(١) بحار الأنوار : ٥١ / ٢٠٥.

٢٦٦

عبد الله المديني أحد حفّاظ الدنيا وعلمائها فقال لأبي الحسن حمّادويه بن أحمد : أعرف في بلد الحبشة أسقفا قد عمّر وأتى عليه ثلاثمائة وستّون سنة يعرف هذا الخط ، وقد كان عزم على أن يعلّمنيه فلحرصي على علم العرب لم أقم عليه وهو باق ، فكتب أبو الحسن إلى ملك الحبشة يسأله أن يحمل هذا الأسقف إليه فأجابه أنّ هذا قد طعن في السن وحطمه الزمان ، وإنّما يحفظه هذا الهواء ، ويخاف عليه إن نقل إلى هواء آخر وإقليم آخر ولحقته حركة وتعب ومشقّة السفر أن يتلف ، وفي بقائه لنا شرف وفرج وسكينة ، فإن كان لكم شيء يقرأه ويفسّره ومسألة تسألونه كاتبوه بذلك ، فحملت البلاطة في قارب إلى بلد أسوان من الصعيد الأعلى ، وحملت من أسوان على العجلة إلى بلاد الحبشة وهي قرية من أسوان ، فلمّا وصلت قرأها الأسقف وفسّر ما فيها بالحبشية ثمّ نقلت إلى العربية فإذا فيها مكتوب : أنا الريان بن دومغ ـ فسأله أبو عبد الله عن الريان من هو كان.

قال : هو والد العزيز ملك يوسف واسمه الريان بن دومغ وقد كان عمر العزيز سبعمائة سنة والريان والده ألف وسبعمائة سنة ، وعمر دومغ ثلاثة آلاف سنة فإذا فيها : أنا الريان بن دومغ خرجت في طلب علم النيل لأعلم فيضه ومنبعه إذ كنت أرى مفيضه ومنبعه فخرجت ومعي ممّن صحبت أربعة آلاف ألف رجل فسرت ثمانين سنة إلى أن انتهيت إلى الظلمات والبحر المحيط بالدنيا ، فرأيت النيل يقطع البحر المحيط ويعبر فيه ولم يكن له منفذ ، وتماوت أصحابي وبقيت في أربعة آلاف رجل فخشيت على ملكي ، فرجعت إلى مصر وبنيت الأهرام والبرابي وبنيت الهرمين وأودعتهما كنوزي وذخائري (١) وقلت في ذلك شعرا :

وأدرك علمي بعض ما هو كائن

ولا علم لي بالغيب والله أعلم

وأتقنت ما حاولت إتقان صنعه

وأحكمته والله أقوى وأحكم

وحاولت علم النيل من بدء فيضه

فأعجزني والمرء بالعجز ملجم

ثمانين شاهورا قطعت مسايحا

وحولي بنو حجر وجيش عرمرم

إلى أن قطعت الجن والإنس كلّهم

وعارضني لج من البحر مظلم

فأيقنت أن لا منفذا بعد منزلي

لدى هيبة بعدي ولا متقدّم

__________________

(١) كمال الدين : ٥٦٤ ، وبحار الأنوار : ٥١ / ٢٤٤.

٢٦٧

فأبت (١) إلى ملكي وأرسيت ناديا

بمصر وللأيّام بؤس وأنعم

أنا صاحب الأهرام في المصر كلّها

وباني برابيها بها والمقدم

تركت بها آثار كفي وحكمتي

على الدهر لا تبلى ولا تتهدم

وفيها كنوز جمّة وعجائب

وللدهر أمر مرّة وتهجّم

سيفتح أقفالي ويبدي عجائبي

ولي ولربّي آخر الدهر ينجم

بأكناف بيت الله تبدو اموره

ولا بدّ أن يعلو ويسمو به السم

ثمان وتسع واثنتان وأربع

وتسعون اخرى من قتيل وملجم

ومن بعد هذا كر تسعون تسعة

وتلك البرابي تستخر وتهدم

وتبدي كنوزي كلّها غير أنني

أرى كلّ هذا أن يفرقها الدم

رمزت مقالي في صخور قطعتها

ستبقى وأفنى بعدها ثمّ اعدم

قال أبو الحسن حمّادويه بن أحمد : هذا شيء ليس لأحد فيها حيلة إلّا للقائم عجل الله فرجه من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وردت البلاطة كما كانت مكانها ، ثمّ إنّ أبا الحسن بعد ذلك بسنة قتله طاهر الخادم على فراشه وهو سكران ، ومن ذلك الوقت عرف خبر الهرمين ومن بناهما ، فهذا أصحّ ما يقال في خبر النيل والهرمين ومن بناهما (٢).

الخامس والعشرون : عبيد بن شريد الجرهمي (٣) ، في الإكمال أنّه معروف وعاش ثلاثمائة وخمسين سنة فأدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسن إسلامه وعمّر بعد ما قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قدم على معاوية في أيام تغلبه وملكه فقال معاوية : أخبرني يا عبيد عمّا رأيت وسمعت وأدركت وكيف رأيت الدهر؟ فقال : أمّا الدهر فرأيت ليلا يشبه ليلا ، ونهارا يشبه نهارا ، ومولودا يولد وميتا يموت ولم أدرك أهل زمان إلّا وهم يذمّون زمانهم ، وأدركت من قد عاش ألف سنة وحدّثني عمّن كان قبله عاش ألفي سنة.

وأمّا ما سمعت فإنّه حدّثني ملك من ملوك حمير أنّ بعض الملوك السابقة ممّن قد دانت له البلاد وكان يقال له ذو سرح ، اعطي الملك في عنفوان شبابه ، وكان حسن السيرة في أهل مملكته ، سخيا فيهم مطاعا وملكهم سبعمائة سنة وكان كثيرا [ما] يخرج في خاصّته إلى

__________________

(١) أي : رجعت.

(٢) المصدر السابق.

(٣) هكذا في بعض النسخ ، وهو تصحيف والصحيح عبيد بن شرية.

٢٦٨

الصيد والنزهة ، فخرج يوما في بعض نزهه فأتى على حيّتين : إحداهما بيضاء كأنها سبيكة فضة والاخرى سوداء كأنّها فحمة ، وهما يقتتلان وقد غلبت السوداء على البيضاء فكادت تأتي على نفسها فأمر الملك بالسوداء فقتلت وأمر بالبيضاء فاحتملت حتى انتهى بها إلى عين من ماء تفيء عليها شجرة فأمر بصب الماء عليها وسقيت حتى رجعت إليها نفسها فقامت فخلّى سبيلها فانسابت الحية ومضت لسبيلها ، ومكث الملك يومئذ في تصيّد ونزهة ، فلما أمسى ورجع إلى منزله فجلس على سريره في موضع لا يصل إليه حاجب ولا أحد ، فبينا هو كذلك إذ رأى شابا أخذ بعضادتي الباب وبه من الشباب والجمال شيء لا يوصف ، فسلم عليه فذعر منه الملك فقال له : من أنت؟ ومن أذن لك في الدخول إليّ في هذا الموضع الذي لا يصل إليّ فيه حاجب ولا غيره؟

فقال له الفتى : لا ترع أيّها الملك إنّي لست بإنسي ولكن فتى من الجن أتيتك لاجازيك ببلائك الحسن الجميل عندي. قال الملك : وما بلائي عندك؟ قال : أنا الحية التي أحييتني في يومك هذا ، والأسود الذي قتلته وخلّصتني منه كان غلاما لنا تمرّد علينا ، وقد قتل من أهل بيتي عدّة ، كان إذا خلي بواحد منّا قتله ، فقتلت عدوّي وأحييتني وجئتك لاكافيك ببلائك عندي ، ونحن أيّها الملك الجن لا الجن. قال له الملك : وما الفرق بين الجن والجنّ. إلى هنا مذكور ثمّ بعد هذا الخبر مقطوع (١).

السادس والعشرون من المعمّرين ربيع بن ضبيع الفراوي ، في الإكمال : لمّا وفد الناس على عبد الملك بن مروان قدم في من قدم عليه الربيع بن ضبيع الفراوي ، وكان أحد المعمّرين ومعه ابن ابنه وهب بن عبد الله بن الربيع شيخا فانيا ، قد سقطت حاجباه على عينيه وقد عصبهما فلمّا رآه الآذن يأذنون الناس على أصنافهم قال له : ادخل أيّها الشيخ ، فدخل يدق على العصا يقيم بها صلبه وكشحه ، ولحيته على ركبتيه ، فلمّا رآه عبد الملك رقّ له وقال له : اجلس أيّها الشيخ ، فقال : يا أمير المؤمنين أيجلس الشيخ وجدّه على الباب. قال : فأنت إذن من ولد الربيع بن ضبيع؟ قال : نعم أنا وهب بن عبد الله بن الربيع. قال للآذن : ارجع ، فأدخل الربيع ، فخرج الآذن فلم يعرفه حتّى نادى : أين الربيع؟ قال : ها أنا ذا فقام يتطرق في مشيته ، فلما دخل على عبد الملك سلّم فقال عبد الملك لجلسائه : ويلكم إنّه لأشيب

__________________

(١) كمال الدين : ٥٤٧ ح ١ باب ٥١.

٢٦٩

الرجلين ، يا ربيع أخبرني عمّا أدركت من العمر ، والذي رأيت من الخطوب الماضية؟ قال : أنا الذي قلت الشعر هذا :

أنا ذا آمل الخلود وقد

أدرك عمري مولدي حجرا

أنا امرأ القيس قد سمعت به

هيهات هيهات طال ذا عمرا

فقال عبد الملك : قد رويت هذا من شعرك وأنا صبي. قال : وأنا أقول شعرا :

إذا عاش الفتى مائتين عاما

فقد ذهب اللذاذة والبهاء

قال عبد الملك : وقد رويت هذا أيضا وأنا غلام ، يا ربيع لقد طلبك جد غير عاثر (١) ففصّل لي عمرك؟ فقال : عشت مائتين سنة في الفترة بين عيسى ومحمّد ومائة وعشرين في الجاهلية ، وستّين في الإسلام. قال : أخبرني عن الفترة في القريش المتواطي الأسماء؟ قال : سل عن أيّهم شئت؟ قال : أخبرني عن عبد الله بن عبّاس؟ قال : فهم وعلم وعطاء وحلم ومقرئ ضخم. قال : فأخبرني عن عبد الله بن عمر؟ قال : حلم وعلم وطول وكظم وبعد من الظلم. قال : فأخبرني عن عبد الله بن جعفر؟ قال : ريحانة طيّب ريحها ، ليّن مسّها ، قليل على المسلمين ضرّها. قال : فأخبرني عن عبد الله بن زبير؟ قال : جبل وعر ينحدر منه الصخرة.

قال : لله درك ما أخبرك بهم؟ قال : قرب جواري وكثرة استخباري (٢).

السابع والعشرون من المعمّرين : علي بن عثمان بن خطاب بن مرّة بن مؤيّد المعروف بأبي الدنيا ، في الإكمال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب بن نصر السجزيّ قال : حدّثنا أبو بكر محمد بن الفتح المزكّى وأبو الحسن علي بن حسن بن حمكا الملاشكي ختن أبي بكر قالا : لقينا بمكّة رجلا من أهل المغرب فدخلنا عليه مع جماعة من أصحاب الحديث ممّن كان حضر الموسم في تلك السنة ، وهي سنة تسع وثلاثمائة ، فرأيناه رجلا أسود الرأس واللحية كأنه شن باب ، وحوله جماعة من أولاده وأولاد أولاده ومشايخ من أهل بلده ذكروا أنّهم من أقصى بلاد المغرب تعرف باهرة العليا ، وشهد هؤلاء المشايخ أنّهم سمعوا آباءهم حكوا عن آبائهم وأجدادهم أنّهم عهدوا هذا الشيخ المعروف بأبي الدنيا معمرا واسمه علي بن عثمان بن خطاب بن مرّة بن مؤيّد ، وذكر أنّه همداني وأنّ أصله من

__________________

(١) الجد : الحظ والغناء يريد : طلبك حظ عظيم لم يعثر بك.

(٢) كمال الدين : ٥٤٩ ـ ٥٥١ ح ١ باب ٥٢.

٢٧٠

صنعاء اليمن. فقلت له : أنت رأيت علي بن أبي طالب عليه‌السلام؟ فقال بيده : نعم ، ففتح عينيه ، وقد كان وقعت حاجباه على عينيه ففتحهما كأنّهما سراجان فقال : رأيته بعيني هاتين ، وكنت خادما له وكنت معه في وقعة صفّين ، وهذه الشجة من دابة علي عليه‌السلام ، وأرانا أثره على حاجبه الأيمن.

وشهد الجماعة الذين كانوا حوله من المشايخ ومن حفدته وأسباطه بطول العمر ، وأنّهم منذ ولدوا عهدوه على هذه الحالة ، وكذا سمعنا من آبائنا وأجدادنا ، ثمّ إنّا فاتحناه وسألناه عن قصّته وحاله وسبب طول عمره فوجدناه ثابت العقل ، يفهم ما يقال له ويجيب عنه بلبّ وعقل ، فذكر أنّه كان له والد قد نظر في كتب الأوائل وقرأها وقد كان وجد فيها ذكر نهر الحيوان ، وأنّها تجري في الظلمات ، وأنّه من شرب منها طال عمره فحمله الحرص على دخول الظلمات ، وتزود وحمل حسب ما قدّر أنّه يكتفي في مسيره به ، وأخرجني معه وأخرج معنا خادمين بازلين وعدّة جمال لبون وروايا وزادا ، وأنا يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة ، فسار بنا إلى أن وافانا طرف الظلمات.

ثمّ دخلنا الظلمات فسرنا فيها نحو ستّة أيّام بلياليها وكنّا نميز بين الليل والنهار بأنّ النهار كان يكون أضوأ قليلا وأقل ظلمة من الليل. فنزلنا بين جبال وأودية وربوات ، وقد كان والدي يطوف في تلك البقعة في طلب النهر ؛ لأنّه وجد في الكتب التي قرأها أنّ مجرى نهر الحيوان في ذلك الموضع ، فأقمنا في تلك البقعة أيّاما حتّى فني الماء الذي كان معنا وأسقيناه جمالنا ، ولو لا أنّ جمالنا كانت لبونا لهلكنا وتلفنا عطشا ، وكان والدي يطوف في تلك البقعة في طلب النهر ويأمرنا أن نوقد نارا ليهتدي بضوئها إذا أراد الرجوع إلينا ، فكنّا في تلك البقعة نحو خمسة أيّام ووالدي يطلب النهر فلم يجده ، وبعد الإياس عزم على الانصراف حذرا من التلف لفناء الزاد والماء والخدم الذين كانوا معنا ، فأوجسوا في أنفسهم خيفة من التلف فألحّوا على والدي بالخروج من الظلمات ، فقمت يوما من الرحل لحاجتي فتباعدت من الرحل قدر رمية سهم فعثرت بنهر ماء أبيض اللون عذب لذيذ ، لا بالصغير من الأنهار ولا بالكبير ، يجري جريا ليّنا فدنوت منه وغرفت منه بيدي غرفتين أو ثلاثا فوجدته عذبا باردا لذيذ فبادرت مسرعا إلى الرحل فبشّرت الخدم بأنّي قد وجدت الماء ، فحملوا ما كان معنا من القرب والأدوات لنملأها ولما أتى والدي في طلب النهر ، فلم نهتد إليه حتّى

٢٧١

أنّ الخدم كذّبوني وقالوا لم تصدق.

فلمّا انصرف الرجل وانصرف والدي أخبرته بالقصّة فقال لي : يا بني ، الذي أخرجني إلى ذلك المكان وتحمّل الخطر كان لذلك النهر ولم ارزق أنا ، وأنت رزقته وسوف يطول عمرك حتّى تملّ الحياة ، ورحلنا منصرفين وعدنا إلى أوطاننا وبلادنا وعاش والدي بعد ذلك سنيّا ثمّ مات رحمه‌الله ، فلمّا بلغ سنّي قريبا من ثلاثين سنة ، وكان قد اتصل بنا وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفاة الخليفتين بعده خرجت حاجّا فلحقت آخر أيّام عثمان ، فمال قلبي من بين جماعة أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام فأقمت معه أخدمه وشهدت معه وقائع ، وفي وقعة صفّين أصابتني هذه الشجة من دابته ، فما زلت مقيما معه إلى أن مضى لسبيله فألحّ عليّ أولاده وحرمه أن اقيم معهم فلم أقم ، وانصرفت إلى بلدي وخرجت أيام بني مروان حاجّا وانصرفت مع أهل بلدي إلى هذه الغاية ، وما خرجت إلّا ما كان الملوك في بلاد المغرب يبلغهم خبري وطول عمري فشخصوني إلى حضرتهم ليروني ويسألوني عن سبب طول عمري وعمّا شاهدت ، وكنت أتمنّى واشتهي أن أحجّ حجّة اخرى فحملني هؤلاء حفدتي وأسباطي الذين ترونهم حولي. وذكر أن أسنانه سقطت مرّتين أو ثلاثة.

فسألناه أن يحدّثنا بما سمع من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فذكر أنّه لم يكن حرص ولا همّ في طلب العلم وقت صحبته لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، والصحابة أيضا كانوا متوافرين ، فمن فرط ميلي إلى علي عليه‌السلام ومحبّتي له لم أشتغل بشيء سوى خدمته وصحبته ، والذي كنت أتذكّره ممّا كنت سمعت منه قد سمعه منّي عالم كثير من الناس ببلاد المغرب ومصر والحجاز وقد انقرضوا وتفانوا ، وهؤلاء أهل بلدي وحفدتي قد دوّنوه ، فأخرجوا إلينا النسخة وأخذ يملي علينا من خطّه : حدّثنا علي بن عثمان بن خطاب بن مرّة بن مؤيّد الهمداني المعروف بأبي الدنيا المعمّر المغربي رضي‌الله‌عنه حيّا وميّتا قال : حدّثنا علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أحبّ أهل اليمن فقد أحبّني ومن أبغض أهل اليمن فقد أبغضني».

وحدّثنا أبو الدنيا المعمر قال : حدّثني علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :من أعان ملهوفا كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيّئات ، ورفع له عشر درجات ثمّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من سعى في حاجة أخيه المسلم ولله فيها رضا وله فيها صلاح

٢٧٢

فكأنّما خدم الله ألف سنة ولم يقع في معصيته طرفة عين.

حدّثنا أبو الدنيا المعمّر المغربي قال : سمعت علي بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : أصاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جوع شديد وهو في منزل فاطمة عليها‌السلام قال علي : فقال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي هات المائدة ، فقدمت المائدة فإذا عليها خبز ولحم مشوي.

حدّثنا أبو الدنيا المعمّر قال : سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : جرحت في وقعة خيبر خمسا وعشرين جراحة ، فجئت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا رأى ما بي بكى وأخذ من دموع عينيه فجعلها على الجراحات ، فاسترحت من ساعتي.

وحدّثنا أبو الدنيا قال : حدّثني علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فكأنّما قرأ ثلث القرآن ، ومن قرأها مرّتين فكأنّما قرأ ثلثي القرآن ، ومن قرأها ثلاث مرّات فكأنّما قرأ القرآن كلّه.

وحدّثنا أبو الدنيا : قال : سمعت علي بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كنت أرعى الغنم فإذا أنا بذئب على قارعة الطريق ، فقلت ما تصنع هاهنا؟ فقال لي : وأنت ما تصنع هاهنا؟ قلت : أرعى الغنم. قال : مرّ أو قال : ذا الطريق. قال : فسقت الغنم فلمّا توسّط الذئب الغنم إذا أنا به قد شدّ على شاة ، قال : فجئت حتّى أخذت بقفاه فذبحته وجعلته على يدي ، وجعلت أسوق الغنم ، فلمّا سرت غير بعيد وإذا أنا بثلاثة أملاك جبرئيل وميكائيل وملك الموت فلمّا رأوني قالوا هذا محمّد بارك الله فيه ، فاحتملوني وأضجعوني وشقّوا جوفي بسكين كان معهم وأخرجوا قلبي من موضعه وغسلوا جوفي بماء بارد كان معهم في قارورة حتّى نقى من الدم ، ثمّ ردّوا قلبي إلى موضعه وأمرّوا أيديهم على جوفي فالتحم الشقّ بإذن الله تعالى فما أحسست بسكين ولا وجع. قال : وخرجت أغدو إلى أمّي ـ يعني حليمة داية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقالت لي : أين الغنم؟ فخبرتها بالخبر فقالت : سوف تكون لك في الجنّة منزلة عظيمة (١).

أقول : ذكروا حال المعمر أبي الدنيا المغربي بطريق آخر يطول الكلام ، ومقصودنا ذكر

__________________

(١) كمال الدين : ٥٤٢ ح ٧ باب ٥٠ ، وقصّة شق الصدر من الأمور التي اختلف العلماء في صحّتها ؛ فمنهم من أثبتها لروايات ، ومنهم من أنكرها لأنّها تنافي طهارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الطهارة التي كانت تلازمه منذ عالم الأنوار كما دلّت عليه كثير من الروايات فصلناها في كتابنا : آل محمد بين قوسي النزول والصعود.

٢٧٣

المعمّرين ، يكفينا هذا المقدار.

وقال الفاضل المحدّث الجزائري رحمه‌الله في كتابه الأنوار النعمانية : حدّثني أوثق مشايخي السيّد هاشم الأحسائي في شيراز في مدرسة الأمير محمد ، عن شيخنا العادل الثقة الورع الشيخ محمد الحرفوشي أعلى الله مقامه في دار المقامة ، أنّه دخل يوما مسجدا من مساجد الشام وكان مسجدا عتيقا مهجورا فرأى رجلا حسن الهيئة في ذلك المسجد فأخذ الشيخ في المطالعة في كتاب الحديث ، ثمّ إنّ ذلك الرجل سأل الشيخ عن أحواله وعمّن نقل الحديث فأخبره الشيخ ، ثمّ إنّ الشيخ سأله عن أحواله وعن مشايخه ، فقال ذلك الرجل : أنا المعمر أبو الدنيا وأخذت العلم عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام وعن الأئمّة الطاهرين ، وأخذت فنون العلم عن أربابها وسمعت وكتبت من مصنّفيها ، فاستجازه الشيخ في كتب الأحاديث والاصول وغيرها وفي كتب العربية والاصول فأجازه ، وقرأ عليه الشيخ بعض الأخبار في ذلك المسجد توثيقا للإجازة.

فمن ثم كان شيخنا الثقة قدّس الله روحه يقول لي : يا بني إن سندي إلى المحدثين الثلاثة وغيرهم من أهل الكتب قصير ، فإنّي أروي عن الفاضل الحرفوشي عن المعمّر أبي الدنيا عن الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكذا إلى الصادق والكاظم إلى آخر الأئمّة ، وكذلك روايتي لكتب الاصول مثل الكافي والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه ، وأجزتك أن تروي عنّي بهذه الإجازة ، فنحن نروي الكتب الأربعة عن مصنّفيها بهذا الطريق (١).

الثامن والعشرون في كنز الفوائد للكراجكي وفي البحار : وكذلك حال المعمر الآخر المشرقي ووجوده بمدينة من أرض المشرق يقال لها سهرورد إلى الآن ، ورأينا جماعة رأوه وحدّثوا حديثه ، وأنّه كان أيضا خادما لأمير المؤمنين ، والشيعة تقول أنّهما يجتمعان عند ظهور الإمام المهدي عليه وعلى آبائه أفضل السلام. وقال : هذا رجل مقيم ببلاد العجم من أرض الجبل ، يذكر أنّه رأى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، يعرفه الناس بذلك على مرّ السنين والأعوام ، ويقول أنّه لحقه ما لحق المغربي من الشجة في وجهه ، وأنّه صحب أمير المؤمنين عليه‌السلام وخدمه.

وحدّثني جماعة مختلفو المذاهب بحديثه ، وأنّهم رأوه وسمعوا كلامه : منهم أبو العبّاس

__________________

(١) الأنوار النعمانية : ، وبحار الأنوار : ٥٣ / ٢٧٩.

٢٧٤

أحمد بن نوح بن محمد الحنبلي الشافعي ، فحدّثني بمدينة الرملة في سنة إحدى عشرة وأربعمائة قال: كنت متوجّها إلى العراق للتفقّه فعبرت بمدينة يقال لها شهرود من أعمال الجبل ، قريبة من زنجان ، وذلك في سنة خمسة وأربعمائة فقيل لي : إنّ هاهنا شيخا يزعم أنّه رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فلو صرت إليه فرأيته لكان في ذلك فائدة عظيمة. قال : فدخلنا عليه فإذا هو في بيته يعمل النوار ، وإذا هو شيخ نحيف الجسم مدوّر اللحية كبيرها وله ولد صغير ولد له منذ سنة فقيل له : إنّ هؤلاء قوم من أهل العلم متوجّهون إلى العراق يحبّون أن يسمعوا من الشيخ ما قد لقي من أمير المؤمنين. فقال : نعم ، كان السبب في لقائي له أنّي كنت قائما في موضع من المواضع فإذا أنا بفارس مجتاز فرفعت رأسي فجعل الفارس يمرّ يده على رأسي ويدعو لي ، فلمّا أن غبر أخبرت بأنّه علي بن أبي طالب عليه‌السلام فهرولت حتّى لحقته وصاحبته ، وذكر أنّه كان معه في تكريت وموضع من العراق يقال له : تل فلان بعد ذلك ، وكان بين يديه يخدمه إلى أن قبض عليه‌السلام فخدم أولاده.

قال لي أحمد بن نوح : رأيت جماعة من أهل البلد ذكروا ذلك عنه قالوا : إنّا سمعنا آباءنا يخبرون عن أجدادنا بحال هذا الرجل وأنّه على هذه الصفة ، وكان قد مضى فأقام بالأهواز ثمّ انتقل إليها لأذية الديلم له وهو مقيم بشهرود ، وحدّثني بحديثه أيضا قوم من أهل شهرود ووصفوا الوصفة وقالوا هو يعمل الزنانير. انتهى (١).

التاسع والعشرون من المعمّرين : وفي البحار عن مكي بن أحمد قال : سمعت إسحاق بن إبراهيم الطوسي يقول : وقد أتى عليه سبع وتسعون سنة على باب يحيى بن منصور قال : رأيت سربايك ملك الهند في بلاد تسمّى صوح ، فسألناه : كم أتى عليك من السنين؟ قال : تسعمائة سنة وخمس وعشرون سنة ، وهو مسلم فزعم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنفذ إليه عشرة من أصحابه منهم حذيفة بن اليمان وعمرو بن العاص واسامة بن زيد وأبو موسى الأشعري وصهيب الرومي وسفينة وغيرهم يدعونه إلى الإسلام فأجاب وأسلم ، وقبّل كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقلت له : كيف تصلّي مع هذا الضعف؟ فقال لي : قال الله عزوجل (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ

__________________

(١) كنز الفوائد : ٢٦٧ ، والبحار : ٥١ / ٢٦٠ ح ٥.

٢٧٥

قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) (١) الآية ، فقلت له : ما طعامك؟ فقال لي : آكل ماء اللحم والكرّاث ، وسألته : هل يخرج منك شيء؟ فقال : في كل اسبوع مرّة شيء يسير ، وسألته عن أسنانه فقال : أبدلتها عشرين مرّة ، ورأيت له في اسطبله شيئا من الدواب أكبر من الفيل يقال له زند فيل فقلت له : ما تصنع بهذا؟

قال : يحمل ثياب الخدم إلى القصار ومملكته مسيرة أربع سنين في مثلها ، ومدينته طولها خمسون فرسخا في مثلها ، وعلى كلّ باب منها عسكر مائة ألف وعشرين ألفا ، إذا وقع في أحد الأبواب حدث خرجت تلك الفرقة إلى الحرب لا تستعين بغيرها وهو في وسط المدينة. وسمعته يقول : دخلت العرب فبلغت إلى الرمل ، رمل عالج ، وصرت إلى قوم موسى فرأيت سطوح بيوتهم مستوية وبيدر الطعام خارج القرية ، يأخذون منه القوت والباقي يتركونه هناك ، وقبورهم في دورهم وبساتينهم من المدينة على فرسخين ليس فيهم شيخ ولا شيخة ، ولم أر فيهم علّة ولا يعتلون إلى أن يموتوا ، ولهم أسواق إذا أراد الإنسان منهم شراء شيء صار إلى السوق فوزن لنفسه وأخذ ما يصيبه وصاحبه غير حاضر ، وإذا أراد الصلاة حضروا فصلّوا وانصرفوا ، لا يكون بينهم خصومة ولا كلام يكره إلّا ذكر الله عزوجل والصلاة وذكر الموت (٢).

قال الصدوق رحمه‌الله : إذا كان عند مخالفينا مثل هذا الحال لسربايك ملك الهند فينبغي أن يحيلوا مثل ذلك في حجّة الله من التعمير ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم (٣).

الثلاثون من المعمّرين : في الدمعة عن كنز الكراجكيّ عن معاوية بن فضلة : كنت في الوفد الذين وجّههم عمر بن الخطاب وفتحنا مدينة حلوان ، وطلبنا المشركين في الشعب فلم نقدر (٤) عليهم ، فحضرت الصلاة فانتهيت إلى ماء فنزلت عن فرسي ، وأخذت بعنانه وتوضّأت وأذّنت فقلت : الله أكبر ، فأجابني شيء من الجبل وهو يقول : كبرت تكبيرا ، ففزعت لذلك فزعا شديدا ونظرت يمينا وشمالا فلم أر شيئا فقلت : أشهد أن لا إله إلّا الله ، فأجابني وهو يقول : الآن حين أخلصت ، فقلت : أشهد أنّ محمّدا رسول الله ، فقال : نبي بعث ، فقلت : حي على الصلاة ، فقال : فريضة افترضت ، فقلت : حي على الفلاح ، فقال : قد أفلح من أجابها

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٩١.

(٢) كمال الدين : ٦٤٢ ، والبحار : ١٤ / ٥٢٠ ح ٥.

(٣) كمال الدين : ٦٤٢ ح ١ باب ٥٤.

(٤) في نسخة : يردوا.

٢٧٦

واستجاب لها ، فقلت : قد قامت الصلاة ، فقال : البقاء لامّة محمّد وعلى رأسها تقوم الساعة. فلمّا فرغت من أذاني ناديت بأعلى صوتي حتّى أسمعت ما بين لابتي الجبل فقلت : إنسي أم جنّي؟

قال : فأطلع رأسه من كهف الجبل فقال : ما أنا بجنّي ولكنّي إنسي ، فقلت له : من أنت يرحمك الله؟ قال : أنا رزيب بن ثملا من حواريي عيسى ابن مريم ، أشهد أنّ صاحبكم نبيّ وهو الذي بشّر به عيسى ابن مريم ، ولقد أردت الوصول إليه فحالت فيما بيني وبينه فارس وكسرى وأصحابه ، ثمّ أدخل رأسه في كهف الجبل فركبت دابتي ولحقت بالناس وسعد بن أبي وقاص أميرنا فأخبرته بالخبر فكتب بذلك إلى عمر بن الخطّاب فجاء كتاب عمر يقول : الحق الرجل ، فركب سعد وركبت معه حتّى انتهينا إلى الجبل فلم نترك كهفا ولا شعبا ولا واديا إلّا التمسناه فيه ولم نقدر عليه ، وحضرت الصلاة.

فلمّا فرغت من صلاتي ناديت : يا صاحب الصوت الحسن والوجه الجميل قد سمعنا منك كلاما حسنا فأخبرنا من أنت يرحمك الله ، أقررت بالله تعالى ووحدانيته فأنا عبد الله ووفد نبيّه. قال : فأطلع رأسه من كهف الجبل فإذا شيخ أبيض الرأس واللحية ، له هامة كأنّه رحى فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قلت : وعليك السلام ورحمة الله ، من أنت يرحمك الله؟ قال : أنا رزيب بن ثملا وصي العبد الصالح عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، كان سأل ربّه لي البقاء إلى نزوله من السماء ، وقراري في هذا الجبل ، وأنا موصيكم ، سددوا وقاربوا ، وإيّاكم وخصال لا تظهر في أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فإن ظهرت فالهرب الهرب ، ليقوم أحدكم على نار جهنّم حتّى يطفأ عنه خير من البقاء في ذلك الزمان. الخبر (١).

الحادي والثلاثون رجل معمّر ذو قلاقل ، ذكر السيّد النسابة العلّامة علي بن عبد الحميد الحسيني النجفي قدّس الله روحه في كتابه المسمّى بالأنوار المضيئة في الحكمة الشرعية : روى الجدّ السعيد عبد الحميد يرفعه إلى الرئيس أبي الحسن الكاتب البصري وكان من الأشدّاء الأدباء قال : سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة أشنت (٢) البرّ سنين عدّة وبعثت السماء درّها في أكناف البصرة وتسامع العرب بذلك ، فوردوها من الأقطار البعيدة والبلاد النائية

__________________

(١) كنز الفوائد : ٥٩ ، ومستدرك الوسائل : ١٢ / ٣٣٢.

(٢) أشنت : هجمت وأغارت وحمشت.

٢٧٧

على اختلاف لغاتهم وتباين فطرهم ، فخرجت مع جماعة من الكبار ووجوه التجار نتصفّح أحوالهم ولغاتهم ونلتمس فائدة ربّما وجدناها عند أحدهم ، فارتفع لنا بيت عال فقصدناه فوجدنا في كسره شيخا جالسا قد سقطت حاجباه على عينيه كبرا ، وحوله جماعة من عبيده وأصحابه فسلمنا عليه فردّ التحية وأحسن التلقية فقال له رجل منّا : هذا السيد ـ وأشار إليّ ـ هو الناظر في معاملة الدرب ، وهو من الفصحاء وأولاد العرب وكذلك الجماعة ، ما منهم إلا من ينتسب إلى قبيلة ويختص بسداد وفصاحة ، وقد خرج وخرجنا معه حين ورد ثمّ نلتمس الفائدة المستطرفة من أحدكم ، وحين شاهدناك رجونا ما نبغيه عندك لعلوّ سنك. فقال الشيخ : والله يا بني أخي : حيّاكم الله ، إنّ الدنيا شغلتنا عمّا تبغونه منّي فإن أردتم الفائدة فاطلبوها عند أبي وهابيته ، وأشار إلى بيت كبير بإزائه ، فقلنا النظر إلى مثل والد هذا الشيخ أهم فائدة فلنتعجّل ، فقصدنا ذلك البيت فوجدنا خباء في كسره شيخ مضطجع وحوله من الخدم والأمراء.

وفي ما شاهدناه أوّلا ورأينا عليه من آثار السن ما يجوز أن يكون والد ذلك الشيخ ، فدنونا منه وسلّمنا عليه وأحسن الردّ وأكرم الجواب ، فقلنا له مثل ما قلنا لابنه وما كان من جوابه ، وأنّه دلّنا عليك فعرجنا بالقصد إليك فقال : يا بني أخي حيّاكم الله إنّ الذي شغل ابني عمّا التمستموه هو الذي شغلني عمّا هذه سبيلي ، ولكن الفائدة تجدونها عند والدي وها هو بيته ، وأشار إلى بيت منيف بنحوه منه ، فقلنا فيما بيننا : حسبنا من الفوائد مشاهدة والد هذا الشيخ الفاني فإن كانت منه فائدة بعد ذلك فهي ربح لم تحتسب ، فقصدنا ذلك الخباء فوجدنا حوله عددا كثيرا من الإماء والعبيد ، فحين رأونا تسرعوا إلينا وبدءوا بالسلام علينا فقالوا : ما تبغون حيّاكم الله؟ فقلنا : نبغي السلام على سيّدكم وطلب الفائدة من عنده ببركتكم.

فقالوا : الفوائد كلّها عند سيّدنا ودخل منهم من يستأذن ثمّ خرج بالإذن لنا فدخلنا فإذا سرير في صدر البيت وعليه مخاد من جانبيه ووسادة في أوّله ، على الوسادة رأس شيخ قد بلي وطار شعره ، والإزار على المخاد التي من جانبي السرير لتستره ولا شغل منها عليه ، فجهرنا بالسلام فأحسن الرد ، وقال قائلنا مثل ما قال لولد ولده وأعلمناه أنّه أرشدنا إلى أبيه فحجنا بما احتج به وأنّ أباه أرشدنا إليك وبشّرنا بالفائدة منك ، ففتح الشيخ عينين قد غارتا

٢٧٨

في أمّ رأسه وقال للخدم : أجلسوني ، فلم تزل أيديهم تتهاداه بلطف إلى أن جلس وستر بالأزر التي طرحت على المخاد.

ثمّ قال لنا : يا بني أخي لاحدّثنّكم بخبر تحفظونه عنّي وتفيدون منه ما يكون فيه ثواب لي : كان والدي لا يعيش له ولد ويحب أن يكون له عاقبة ، فولدت له على كبر ففرح بي وابتهج بمولدي ثمّ قضى ولي سبع سنين ، فكفلني عمّي بعده وكان مثله في الحذر علي ، فدخل بي يوما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : يا رسول الله إنّ هذا ابن أخي وقد مضى أبوه لسبيله وأنا كفيل بتربيته ، وإنّني أنفس به على الموت فعلّمني عوذة أعوذه بها ليسلم ببركتها.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أين أنت عن ذات القلاقل. فقال : يا رسول الله وما ذات القلاقل؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن تعوذه فتقرأ عليه سورة الجحد (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) إلى آخرها ، وسورة الاخلاص (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) الخ ، وسورة الفلق (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) الخ ، وسورة الناس (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) الخ.

وأنا إلى اليوم أتعوّذ بها كل غداة فما أصبت بولد ولا اصيب لي مال ولا مرضت ولا افتقرت ، وقد انتهى بي السن إلى ما ترون فحافظوا عليها واستكثروا من التعوّذ بها ، فسمعنا ذلك منه وانصرفنا من عنده.

وإذا كان شخص من بعض أمّة محمّد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولع على التعوّذ بأربع سور من قصيرات أحد أجزاء القرآن فعمّر هذا العمر الطويل وبلغ ببركتها ما بلغ كما قيل ، فما ظنّك بولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي قد انتهى هذا القرآن وحكمه وفهمه وفوائده وعلمه إليه وهو القائم بإيضاحه وبيانه ، أليس هو ولي المسلمين والإسلام وصاحب زمانه؟ فما المانع أن يكون قد أعطاه الله تعالى من الخاصية وجعل له من المزية طول التعمير والبقاء على مرّ الدهور والأعوام ، ليقوم بما وجب في القرآن على المكلّفين من شرائع الإسلام وملّة جدّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ وهل يجحد ذلك إلّا من طبع على قلبه فكان من أصحاب الشيطان وحزبه ، اولئك الذين طبع الله على قلوبهم فأصمّهم وأعمى أبصارهم (١). (٢)؟

الثاني والثلاثون ، في العوالم عن عوالي اللئالي عن الشيخ جمال الدين حسن بن يوسف

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) سورة محمد : الآية ٢٣.

(٢) مستدرك الوسائل : ٤ / ٣٨٩ ، والبحار : ٥١ / ٢٥٨.

٢٧٩

ابن مطهر قال : رويت عن مولانا شرف الدين إسحاق بن محمود اليماني القاضي بقم عن خاله مولانا عماد الدين محمد بن محمد بن فتحان القمي عن الشيخ صدر الدين السلوي قال : دخلت على الشيخ بابارتن وقد سقطت حاجباه على عينيه من الكبر فرفعهما عن عينيه فنظر إليّ وقال : ترى عينيّ هاتين ، طال ما نظرتا إلى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد رأيته يوم حفر الخندق وكان يحمل على ظهره التراب مع الناس وسمعته يقول في ذلك اليوم : اللهمّ إنّي أسألك عيشة هنيئة وميتة سوية ومردّا غير مخز ولا فاضح (١).

وعن السيد الجليل صدر الدين السيد علي في صنوة الغريب (٢) عن قاضي القضاة نور الدين علي بن شريف محمد بن الحسين الحسيني الأثري الحنفي قال : حكى لي جدّي حسين بن محمد الحسيني في سنة إحدى وسبعمائة من الهجرة ما ترجمته بالعربية : إنّه مضى من عمري سبع أو ثماني عشرة سنة ، فسافرت مع أبي وعمّي من خراسان إلى بلاد الهند للتجارة ، فلمّا وصلنا إلى أوائل ملك هند وردنا مزرعة فقيل : إنّ هذه المزرعة للشيخ رتن بن كزبال بن رتن المترندي ، فحططنا رحالنا عند شجرة يكفي ظلّها لأن يستظلّ فيه جماعة كثيرة ، فاجتمع أهل المزرعة كلّهم عندنا وسلّمنا عليهم فردوا علينا السلام ، فنظرنا بالفروع وأغصان هذه الشجرة فإذا بغصن من أغصانها زنفيل كبير معلّق فسألتهم عن الزنفيل وعمّا فيه وكيفيّته ، قالوا : هذا مسكن الشيخ رتن وهو الذي أدرك زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتشرّف بخدمته ودعا صلى‌الله‌عليه‌وآله له بطول العمر ست مرّات ، فالتمسنا منهم أن ينزلوا الزنفيل فأنزله من بينهم رجل هرم فرأيناه مملوءا من القطن ، وفي وسطه الشيخ رتن قاعد مثل الدجاجة ، فجعل هذا الرجل الهرم فمه عند اذنه وقال : يا جدّ إن جمعا من أهل خراسان وفيهم الشرفاء وولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يسألونك كيف رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وما قال لك ، ثمّ تأوه وتكلّم بالفارسية وصوته كصوت النحل ونحن نسمع كلامه ونتميزه وترجمته بالعربية :

قال : سافرت مع أبي من هذه البلاد إلى الحجاز للتجارة ، فلمّا وصلنا بواد من أودية مكّة وفيها ماء السبيل الكثير الغزير فرأينا شابّا وجيها كأنّ وجهه فلقة القمر وهو أسمر اللون ، عمره

__________________

(١) عوالي اللئالي : ١ / ٢٩.

(٢) طبع الكتاب باسم سلوة الغريب واسوة الأديب ، وله اسم آخر : رحلة ابن معصوم المدني. ط. عالم الكتب ، بيروت ١٤٠٨ ه‍.

٢٨٠