بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٧
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

ومعرفة بل لهم تكاليف يعاقبون على ترك بعضها في الدنيا وعلى ترك بعضها في الآخرة لا على الدوام بل في مدة يحصل فيها التقاص بين مظلومها وظالمها وقد اختلف الحكماء والمتكلمون من الخاص والعام في ذلك فالحكماء ذهبوا إلى تجرد النفوس الناطقة الإنسانية وإلى أنه لا يتأتى إدراك الكلي إلا من المجرد فلذا خصوا إدراكه بالإنسان وأما سائر الحيوانات فتدرك بالقوى الدراكة البدنية الأمور الجزئية كإدراك الشاة معنى جزئيا في الذئب يوجب نفورها عنه وأكثر المتكلمين أيضا نفوا عنها الفهم والشعور والعقل التي هي مناط التكليف وأولوا الآيات والأخبار الواردة في ذلك كما عرفت سابقا وسيأتي والحق أنه لم يدل دليل قاطع على نفي العقل والتكليف عنها مطلقا بل إنما يدل على أنها ليست في درجة الإنسان في إدراك المعاني الدقيقة والتكاليف العظيمة التي كلف بها الإنسان والوعد بالنعيم الدائم والوعيد بالعذاب المخلد فيحتمل أن تكون مدركة لبعض الأمور الكلية والمصالح الجلية المتعلقة ببقاء نوعها وغذائها ونموها وملهمة بمعرفة صانعها وطاعة إمام الزمان وسائر الأمور الواردة في الأخبار المعتبرة ولا استحالة في ذلك ولا يلزم من ذلك أن تكون كسائر المكلفين مكلفة بجميع التكاليف معاقبة على ترك كلها وأيضا نفي التكليف لا يدل على سلب العقول والشعور مطلقا فإن المراهقين غير مكلفين قد يكون لهم من إدراك العلوم وتحقيق المطالب ما لم يحصل لكثير من المكلفين على أنه يمكن حمل بعض الآيات والأخبار على أنه تعالى لإظهار المعجز لنبي أو وصي أو الكرامة لولي أعطاها في ذلك الوقت عقلا وشعورا بها يصدر منها بعض أقوال العقلاء وأفعالهم كما مر أو أوجد فيها كلاما أو فعلا بحيث لا تشعر لما ذكروا وإن كان بعيدا وأما القول بأن صدور الأعمال الوثيقة والصنائع الدقيقة منها إنما هي من طبع طبعت عليها من غير شعور بها وفائدتها ففي غاية البعد ويمكن تأويل ما يوهم ذلك في حديث المفضل على أن المعنى أن الله تعالى يلهمها عند حاجة إلى أمر من الأمور ومصلحة من المصالح ذلك من غير أن يحصل لها ذلك العلم بالأخذ من معلم أو بتحصيل تجربة أو الرجوع إلى كتاب كما

٨١

تتفق تلك الأمور لأكثر أفراد البشر العاقلين كما أن الطفل عند الولادة يلقى عليه شهوة الغذاء والبكاء لتحصيله ويلهم كيفية مص الثدي وأمثال ذلك مما مر شرحه وتفصيله.

ولنذكر هنا بعض ما ذكره محققو أصحابنا وغيرهم في ذلك فمنها ما ذكره السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه في كتاب الغرر حيث سئل ما القول في الأخبار الواردة في عمدة كتب من الأصول والفروع بمدح أجناس من الطير والبهائم والمأكولات والأرضين وذم أجناس منها كمدح الحمام والبلبل والقنبر والحجل والدراج وما شاكل ذلك من فصيحات الطير وذم الفواخت والرخم وما يحكى من أن كل جنس من هذه الأجناس المحمودة ينطق بثناء على الله تعالى وعلى أوليائه ودعاء لهم ودعاء على أعدائهم وأن كل جنس من هذه الأجناس المذمومة ينطق بضد ذلك من ذم الأولياء عليه‌السلام وكذم الجري وما شاكله من السمك وما نطق به الجري من أنه مسخ بجحده الولاية وورود الآثار بتحريمه لذلك وكذم الدب والقرد والفيل وسائر المسوخ المحرمة وكذم البطيخة التي كسرها أمير المؤمنين عليه‌السلام فصادفها مرة فقال من النار إلى النار (١) ودحا بها من يده ففار من الموضع الذي سقطت فيه دخان وكذم الأرضين السبخة والقول بأنها جحدت الولاية أيضا وقد جاء في هذا المعنى ما يطول شرحه وظاهره مناف لما تدل العقول عليه من كون هذه الأجناس مفارقة لقبيل ما يجوز تكليفه ويسوغ أمره ونهيه وفي هذه الأخبار التي أشرنا إليها أن بعض هذه الأجناس يعتقد الحق ويدين به وبعضها يخالفه وهذا كله مناف لظاهر ما العقلاء عليه.

ومنها ما يشهد أن لهذه الأجناس منطقا مفهوما وألفاظا تفيد أغراضها وأنها بمنزلة الأعجمي والعربي اللذين لا يفهم أحدهما صاحبه وأن شاهد ذلك من قول الله سبحانه فيما حكاه عن سليمان عليه‌السلام : « يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ

__________________

(١) في نسخة : والى النار.

٨٢

وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ » (١) وكلام النملة أيضا مما حكاه الله سبحانه وكلام الهدهد واحتجاجه وفهمه وجوابه فلينعم بذكر ما عنده مثابا إن شاء الله وبالله التوفيق.

وأجاب رضي‌الله‌عنه اعلم أن المعول فيما نعتقد على (٢) ما تدل الأدلة عليه من نفي وإثبات فإذا دلت الأدلة على أمر من الأمور وجب أن نبني كل وارد من الأخبار إذا كان ظاهره بخلافه عليه ونسوقه إليه ونطابق بينه وبينه ونخلي ظاهرا إن كان له ونشرط إن كان مطلقا ونخصه إن كان عاما ونفضله إن كان مجملا ونوفق بينه وبين الأدلة من كل طريق اقتضى الموافقة وآل إلى المطابقة وإذا كنا نفعل ذلك ولا نحتشمه في ظواهر القرآن المقطوع على صحته المعلوم وروده فكيف نتوقف عن ذلك في أخبار آحاد لا توجب علما ولا تثمر يقينا فمتى وردت عليك أخبار فأعرضها على هذه الجملة وابنها عليها وافعل فيها ما حكمت به الأدلة وأوجبته الحجج العقلية وإن تعذر فيها بناء وتأويل وتخريج وتنزيل فليس غير الإطراح لها وترك التعريج عليها ولو اقتصرنا على هذه الجملة لاكتفينا فيمن يتدبر ويتفكر وقد يجوز أن يكون المراد بذم هذه الأجناس من الطير أنها ناطقة بضد الثناء على الله وبذم أوليائه ونقص أصفيائه ذم متخذيها (٣) ومرتبطيها وأن هؤلاء المغرين بمحبة هذه الأجناس واتخاذها هم الذين ينطقون بضد الثناء على الله تعالى ويذمون أولياءه وأحباءه فأضاف النطق إلى هذه الأجناس وهو لمتخذيها أو مرتبطيها للتجاور والتقارب وعلى سبيل التجوز والاستعارة كما أضاف الله تعالى السؤال في القرآن إلى القرية وإنما هو لأهل القرية وكما قال تعالى : « وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَ

__________________

(١) النمل : ١٦.

(٢) لعل كلمة ( على ) زائدة.

(٣) في المصدر : معناه ذم متخذيها.

٨٣

عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً » (١) وفي هذا كله حذوف وقد أضيف في الظاهر الفعل إلى من هو في الحقيقة متعلق بغيره والقول في مدح أجناس من الطير والوصف لها بأنها تنطق بالثناء على الله والمدح لأوليائه يجري على هذا المنهاج الذي نهجناه.

فإن قيل كيف يستحق مرتبط هذه الأجناس مدحا بارتباطها ومرتبط بعض آخر ذما بارتباطه حتى علقتم المدح والذم بذلك.

قلنا ما جعلنا لارتباط هذه الأجناس حظا في استحقاق مرتبطيها مدحا ولا ذما وإنما قلنا إنه غير ممتنع أن تجري عادة المؤمنين الموالين لأولياء الله تعالى والمعادين لأعدائه بأن بالغوا (٢) ارتباط أجناس من الطير وكذلك تجري عادة بعض أعداء الله تعالى باتخاذ بعض أجناس الطير فيكون متخذ بعضها ممدوحا لا من أجل اتخاذه لكن لما هو عليه من الاتخاذ الصحيح فيضاف المدح إلى هذه الأجناس وهو لمرتبطها والنطق بالتسبيح والدعاء الصحيح إليها وهو لمتخذها تجوزا واتساعا وكذلك القول في الذم المقابل للمدح. فإن قيل فلم نهي عن اتخاذ بعض هذه الأجناس إذا كان الذم لا يتعلق باتخاذها وإنما يتعلق ببعض متخذيها لكفرهم وضلالهم.

قلنا يجوز أن يكون في اتخاذ هذه البهائم المنهي عن اتخاذها وارتباطها مفسدة وليس يقبح خلقها في الأصل لهذا الوجه لأنها خلقت لينتفع بها من سائر وجوه الانتفاع سوى الارتباط والاتخاذ الذي لا يمتنع تعلق المفسدة به ويجوز أيضا أن يكون في اتخاذ هذه الأجناس المنهي عنها شؤم وطيرة فللعرب في ذلك مذهب معروف ويصح هذا النهي أيضا على مذهب من نفى الطيرة على التحقيق لأن الطيرة والتشؤم وإن كان لا تأثير لهما على التحقيق فإن النفوس تستشعر ذلك ويسبق

__________________

(١) الطلاق : ٨ و ٩.

(٢) في المصدر : بأن يألفوا.

٨٤

إليها ما يجب على كل حال تجنبه والتوقي عنه (١) وعلى هذا يحمل معنى قوله عليه‌السلام لا يورد ذو عاهة على مصح وأما تحريم السمك الجري وما أشبهه فغير ممتنع لشيء يتعلق بالمفسدة في تناوله كما نقول في سائر المحرمات فأما القول بأن الجري نطق بأنه مسخ لجحده الولاية فهو مما يضحك منه ويتعجب من قائله والملتفت إلى مثله فأما تحريم الدب والقرد والفيل فكتحريم كل محرم في الشريعة والوجه في التحريم لا يختلف والقول بأنها ممسوخة إذا تكلفنا حملناه على أنها كانت على خلق حميدة غير منفور عنها ثم جعلت على هذه الصور الشنية على سبيل التنفير عنها والزيادة عن الصد (٢) في الانتفاع بها لأن بعض الأحياء لا يجوز أن يكون غيره على الحقيقة والفرق بين كل حيين معلوم ضرورة فكيف يجوز أن يصير حي حيا آخر غيره وإذا أريد بالمسخ هذا فهو باطل وإن أريد غيره نظرنا فيه وأما البطيخة فقد يجوز أن يكون أمير المؤمنين عليه‌السلام لما ذاقها ونفر عن طعمها وزادت كراهيته له قال من النار وإلى النار أي هذا من طعام أهل النار وما يليق بعذاب أهل النار كما يقول أحدنا ذلك فيما يستوبيه ويكرهه ويجوز أن يكون فوران الدخان عند الإلقاء لها على سبيل التصديق لقوله عليه‌السلام من النار وإلى النار وإظهار المعجز له وأما ذم الأرضين السبخة والقول بأنها جحدت الولاية فمتى لم يكن محمولا معناه على ما قدمناه من جحد هذه الأرض وسكانها الولاية لم يكن معقولا ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : « وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ » (٣) وأما إضافة اعتقاد الحق إلى بعض البهائم واعتقاد الباطل والكفر إلى بعض آخر فمما تخالفه العقول والضرورات لأن هذه البهائم غير عاقلة ولا كاملة ولا مكلفة فكيف تعتقد حقا أو باطلا وإذا ورد أثر في ظاهره شيء من هذه المحالات فالوجه فيه إما إطراح أو تأول على المعنى الصحيح وقد نهجنا

__________________

(١) في نسخة من الكتاب ومصدره : والتوقى منه.

(٢) في المصدر : فى الصد عن الانتفاع بها.

(٣) الطلاق : ٨.

٨٥

طريق التأويل وبينا كيف التوصل إليه فأما حكايته تعالى عن سليمان عليه‌السلام : « يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ » (١) فالمراد به أنه علم ما يفهم به ما تنطق به الطير وتتداعى في أصواتها وأغراضها ومقاصدها بما يقع منها من صياح على سبيل المعجزة لسليمان عليه‌السلام وأما الحكاية عن النملة بأنها قالت : « يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ » (٢) فقد يجوز أن يكون المراد به أنه ظهر منها دلالة القول على هذا المعنى وأشعرت باقي النمل وخوفتهم من الضرر بالمقام وأن النجاة في الهرب إلى مساكنها فتكون إضافة القول إليه مجازا أو استعارة كما قال الشاعر

وشكا إلى بعيرة وتحمحم (٣)

وكما قال الآخر

وقالت له العينان سمعا وطاعة

ويجوز أن يكون وقع من النملة كلام ذو حروف منظومة كما يتكلم أحدنا يتضمن المعاني المذكورة ويكون ذلك معجزة لسليمان عليه‌السلام لأن الله تعالى سخر له الطير وأفهمه معاني أصواتها على سبيل المعجز له وليس هذا بمنكر فإن النطق بمثل هذا الكلام المسموع منا لا يمتنع وقوعه ممن ليس بمكلف (٤) ولا كامل العقل ألا ترى أن المجنون ومن لم يبلغ الكمال من الصبيان قد يتكلمون بالكلام المتضمن للأغراض وإن كان التكليف والكمال عنهم زائلين والقول فيما حكي عن الهدهد يجري على الوجهين اللذين ذكرناهما في النملة فلا حاجة بنا إلى إعادتهما وأما حكاية أنه قال : « لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ » (٥)

__________________

(١) النمل : ١٦.

(٢) النمل : ١٨.

(٣) في المصدر : وشكا الى بعبرة وتحمحم.

(٤) في المصدر : مما ليس بمكلف.

(٥) النمل : ٢١.

٨٦

وكيف يجوز أن يكون ذلك في الهدهد وهو غير مكلف ولا يستحق مثله العذاب فالجواب عنه أن العذاب اسم للضرر الواقع وإن لم يكن مستحقا فليس يجري مجرى العقاب الذي لا يكون إلا جزاء على أمر تقدم فليس يمتنع أن يكون معنى لأعذبنه أي لأؤلمنه ويكون الله تعالى قد أباحه الإيلام له كما أباحه الذبح له لضرب من المصلحة كما سخر له الطير يصرفها في منافعه وأغراضه وكل هذا لا ينكر في نبي مرسل تخرق له العادات وتظهر على يده المعجزات وإنما يشتبه على قوم يظنون أن هذه الحكايات تقتضي كون النملة والهدهد مكلفين وقد بينا أن الأمر بخلاف ذلك (١).

وقال قدس الله روحه أيضا في جواب المسائل الطرابلسيات فأما الاستبعاد في النملة أن تنذر باقي النمل بالانصراف عن الموضع والتعجب من فهم النملة عن الأخرى ومن أن يخبر عنها بما نطق القرآن به من قوله : « يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا » الآية فهو في غير موضعه لأن البهيمة قد تفهم عن الأخرى بصوت يقع منها أو فعل كثيرا من أغراضها ولهذا نجد الطيور وكثيرا من البهائم يدعو الذكر منها الأنثى بضرب من الصوت يفرق بينه وبين غيره من الأصوات التي لا تقتضي الدعاء والأمر في ضروب الحيوانات وفهم بعضها عن بعض مرادها وأغراضها بفعل يظهر أو صوت يقع أظهر من أن يخفى والتغابي عن ذلك مكابرة فما المنكر على هذا أن يفهم باقي النمل من تلك النملة التي حكي عنها ما حكي الإنذار والتخويف فقد نرى مرارا نملة تستقبل أخرى وهي متوجهة إلى جهة فإذا حاذتها وباشرها عادت عن جهتها ورجعت معها وتلك الحكاية البليغة الطويلة لا يجب أن تكون النملة قائلة لها ولا ذاهبة إليها وإنها لما خوفت من الضرر الذي أشرف النمل عليه جاز أن يقول الحاكي لهذه الحال تلك الحكاية البليغة المرتبة لأنها لو كانت قائلة ناطقة ومخوفة بلسان وبيان لما قالت إلا مثل ذلك وقد يحكي العربي عن الفارسي كلاما مرتبا مهذبا

__________________

(١) غرر الفوائد : ٣٩٥ ـ ٣٩٧.

٨٧

ما نطق به الفارسي وإنما أشار إلى معناه فقد زال التعجب من الموضعين معا وأي شيء أحسن وأبلغ وأدل على قوة البلاغة وحسن التصرف في الفصاحة من أن تشعر نملة لباقي النمل بالضرر لسليمان وجنده بما يفهم به أمثالها عنها فيحكي هذا المعنى الذي هو التخويف والتنفير بهذه الألفاظ المونقة والترتيب الرائق الصادق وإنما يضل عن فهم هذه الأمور وسرعة الهجوم عليها من لا يعرف مواقع الكلام الفصيح ومراتبه ومذاهبه (١).

وقال شارح المقاصد ذهب جمهور الفلاسفة إلى أنه ليست لغير الإنسان من الحيوانات نفوس مجردة مدركة للكليات وبعضهم إلى أننا لا نعرف وجود النفس لها لعدم الدليل ولا نقطع بالانتفاء لقيام الاحتمال وما يتوهم من أنه لو كانت لها نفوس لكانت إنسانا لأن حقيقته النفس والبدن لا غير ليس بشيء لجواز اختلاف النفسين بالحقيقة وجواز التميز بفصول آخر لا نطلع على حقيقتها وذهب جمع من أهل النظر إلى ثبوت ذلك تمسكا بالمعقول والمنقول أما المعقول فهو أنا نشاهد منها أفعالا غريبة تدل على أن لها إدراكات عقلية كالنحل في بناء بيوته المسدسة والانقياد لرئيس والنمل في إعداد الذخيرة والإبل والبغل والخيل والحمار في الاهتداء إلى الطريق في الليالي المظلمة والفيل في غرائب أحوال تشاهد منه وكثير من الطيور والحشرات في علاج أمراض تعرض لها إلى غير ذلك من الحيل العجيبة التي يعجز عنها كثير من العقلاء وأما المنقول فكقوله تعالى : « وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ » (٢) الآية وقوله تعالى : « وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ » (٣) الآية وقوله تعالى : « يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ » (٤) وقوله تعالى حكاية عن الهدهد : « أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ

__________________

(١) جواب المسائل الطرابلسيات : لم يطبع.

(٢) النور : ٤١.

(٣) النمل : ٦٨.

(٤) السبأ : ١٠.

٨٨

بِهِ » (١) وحكاية عن النملة : « يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا » (٢) : « مَساكِنَكُمْ » الآية (٣).

وقال الرازي في المطالب العالية في البحث عن نفوس سائر الحيوانات أما الفلاسفة المتأخرون فقد اتفقوا على أن لها قوى جسمانية وأنه يمتنع أن تكون لها نفوس مجردة ولم يذكروا في تقريره حجة ولا شبهة وليس لأحد أن يقول لو كانت نفوسها نفوسا مجردة لوجب كونها مساوية للنفوس البشرية في تمام الماهية فيلزم وقوع الاستواء في العلوم والأخلاق وذلك محال فإنا نقول الاستواء في التجرد استواء في قيد سلبي وقد عرفت أن الاستواء في القيود السلبية لا يوجب الاستواء في تمام الماهية وأما سائر الناس فقد اختلفوا في أنه هل لها نفوس مجردة وهل لها شيء من القوة العقلية أم لا فزعم طائفة من أهل النظر ومن أهل الأثر أن ذلك ثابت واحتجوا على صحته بالمعقول والمنقول أما المعقول فهو أنهم قالوا إنا نشاهد من هذه الحيوانات أفعالا لا يصدر إلا من أفاضل العقلاء وذلك يدل على أن لها قدرا من العقل وبينوا ذلك بوجوه.

الأول : أن الفأرة تدخل ذنبها في قارورة الدهن ثم تلحسه وهذا الفعل لا يصدر عنها إلا لعلمها بمجموع مقدمات فأحدها أنها محتاجة إلى الدهن وثانيها أن رأسها لا تدخل في القارورة وثالثها أن ذنبها تدخل ورابعها أن المقصود حاصل بهذا الطريق فوجب الإقدام عليه.

الثاني : أن النحل يبني البيوت المسدسة وهذا الشكل فيه منفعتان لا يحصلان إلا من المسدس وتقريره أن الأشكال على قسمين منها أشكال متى ضم بعضها إلى بعض امتلأت العرصة منها إلا أن زواياها ضيقة فتبقى معطلة ومنها أشكال ليست كذلك فالقسم الأول كالمثلثات والمربعات فإنهما وإن امتلأت العرصة منها إلا أن زواياها ضيقة فيبقى معطلة وأما المسبع والمثمن وغيرهما فزواياها وإن كانت واسعة إلا أنه لا تمتلأ العرصة

__________________

(١) النمل : ٢٢.

(٢) النمل : ١٨.

(٣) شرح المقاصد : نسخته ليست موجودة عندي.

٨٩

منها بل يبقى بينها فضاء فأما الشكل المستجمع لكلتا المنفعتين فليس إلا المسدس وذلك لأن زواياها واسعة فلا يبقى شيء من الجوانب فيه معطلا وإذا ضمت المسدسات بعضها إلى بعض لم يبق فيما بينها فرجة ضائعة فإذا ثبت أن الشكل الموصوف بهاتين الصفتين هذا المسدس لا جرم اختار النحل بناء بيوتها على هذا الشكل ولو لا أنه تعالى أعطاها من الإلهام والذكاء لما حصل هذا الأمر وفيه أعجوبة ثانية وهي أن البشر لا يقدر على بناء البيت المسدس إلا بالمسطر والبركار والنحل يبني تلك البيوت من غير حاجة إلى شيء من الآلات والأدوات. واعلم أن عجائب أحوال النحل في رئاسته وفي تدبيره لأحوال الرعية وفي كيفية خدمة الرعية لذلك الرئيس كثيرة مذكورة في كتاب الحيوان.

الثالث : أن النمل يسعى في إعداد الذخيرة لنفسها وما ذاك إلا لعلمها بأنها قد تحتاج في الأزمنة المستقبلة إلى الغذاء ولا تكون قادرة على تحصيله في تلك الأوقات فوجب السعي في تحصيله في هذا الوقت الذي حصلت فيه القدرة على تحصيل الذخيرة ومن عجائب أحوالها أمور ثلاثة أحدها أنها إذا أحست بنداوة المكان فإنها تشق الحبة بنصفين لعلمها بأن الحبة لو بقيت سالمة ووصلت النداوة إليها لنبت منها وتفسد الحبة على النملة أما إذا صارت مشقوقة بنصفين لم تنبت وثانيها إذا وصلت النداوة إلى تلك الأشياء ثم طلعت الشمس فإنها تخرج تلك الأشياء من جحرها وتضعها حتى تجف وثالثها أن النملة إذا أخذت في نقل متاعها إلى داخل الجحر أنذر ذلك بنزول الأمطار وهبوب الرياح وهذه الأحوال تدل على حصول ذكاء عظيم لهذا الحيوان الصغير.

الرابع : أن العنكبوت تبني بيوتها على وجه عجيب وذلك لأنها ما نسجت الشبكة التي هي مصيدتها إلا بعد أن تفكرت أنه كيف ينبغي وضعها حتى يصلح لاصطياد الذباب بها وهذه الأفعال فكرية ليست أقل من الأفكار الإنسانية.

الخامس أن الجمل والحمار إذا سلكا طريقا في الليلة الظلماء ففي المرة الثانية يقدر على سلوك ذلك الطريق من غير إرشاد مرشد ولا تعليم معلم حتى أن

٩٠

الناس إذا اختلفوا في ذلك الطريق وقدموا الجمل وتبعوه وجدوا الطريق المستقيم عند متابعته.

وأيضا إن الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلد إلى بلد إلا عند الاستدلال بالعلامات المخصوصة إما الأرضية كالجبال والرياح أو السماوية كأحوال الشمس والقمر وأما القطا فإنه يطير في الهواء من بلد إلى بلد طيرانا سويا من غير غلط ولا خطاء وكذلك الكراكي تنتقل من طرف من أطراف العالم إلى طرف آخر لطلب الهواء الموافق من غير غلط البتة فهذا فعل يعجز عنه أفضل البشر وهذا النوع من الحيوان قادر عليه.

السادس أن الدب إذا أراد أن يفترس الثور علم أنه لا يمكنه أن يقصده ظاهرا فيقال إنه يستلقي في ممر ذلك الثور فإذا قرب الثور وأراد نطحه جعل قرنيه فيما بين ذراعيه ولا يزال ينهش ما بين ذراعيه حتى يثخنه وأيضا أنه يأخذ العصا ويضرب الإنسان حتى يتوهم أنه مات فيتركه وربما عاد يشمه ويتجسس نفسه (١) وأيضا يصعد الشجر أخف صعود ويأخذ الجوز بين كفيه ويضرب ما في أحد كفيه على ما في الكف الآخر ثم ينفخ فيه ويزيل القشور ويأكل اللب.

السابع : أن الثعلب إذا اجتمع البق الكثير والبعوض الكثير على جلده أخذ بفيه قطعة من جلد حيوان ميت ثم إنه يضع يده ورجليه في الماء ولا يزال يغوص فيه قليلا قليلا فإذا أحس البق والبعوض بالماء أخذت تصعد إلى المواضع الخارجة من الثعلب من الماء ثم إن الثعلب لا يزال يغوص قليلا قليلا وتلك الحيوانات ترتفع قليلا قليلا فإذا غاص كل بدنه في الماء وبقي رأسه خارج الماء تصاعد كل تلك الحيوانات إلى الرأس ثم إنه يغوص رأسه في الماء قليلا قليلا فتلك الحيوانات تنتقل إلى تلك الجلدة الميتة وتجتمع فيها فإذا أحس الثعلب بانتقالها إلى تلك الجلدة رماها في الماء وخرج من الماء سليما فارغا عن تلك الحيوانات الموذية ولا شك أنها حيلة عجيبة في دفع الموذيات.

__________________

(١) في النسخة المخطوطة : ويتحس نفسه.

٩١

الثامن : يقال إن من خواص الفرس أن كل واحد منها يعرف صوت الفرس الذي قاتله والكلاب تتعالج بالعشبة المعروفة لها والفهد إذا سقي الدواء المعروف بخانق الفهد (١) طلب زبل الإنسان فأكله والتمساح تفتح فاها لطائر مخصوص يدخل في فمها وينظف ما بين أسنانها وعلى رأس ذلك الطير شيء كالشوك فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطير تأذى من ذلك الشوك ففتح فاه فخرج ذلك الطير والسلحفاة تتناول بعد أكل الحية صعترا جبليا ثم تعود قد شوهد ذلك وحكى بعض الثقات المحبين للصيد أنه شاهد الحبارى تقاتل الأفعى وتنهزم عنه إلى بقلة تتناول منها ثم تعود ولا تزال تفعل ذلك وكان ذلك الشيخ قاعدا في كن غائر كما تفعله الصيادون وكانت البقلة قريبة في ذلك الموضع فلما اشتغل الحبارى بالأفعى قلع الرجل تلك البقلة فعادت الحبارى إلى منبتها فأخذت تدور حول منبتها دورانا متتابعا ثم سقطت وماتت فعلم ذلك الرجل أنها كانت تتعالج بأكلها من لسعة الأفعى وتلك البقلة هي الخس البري (٢) وأما ابن عرس فإنه يستظهر في قتال الحية بأكل السداب فإن النكهة السدابية مما يكرهها الأفعى والكلاب إذا تدود بطنها أكلت سنبل الحية وإذا جرحت اللقالق بعضها بعضا عالجت تلك الجراحات بالصعتر الجبلي فتأمل من أين حصلت لهذه الحيوانات هذا الطب وهذا العلاج.

التاسع : أن القنافذ قد تحس بريح الشمال والجنوب قبل الهبوب فتغير المدخل إلى حجرتها يحكى أنه كان بالقسطنطنية رجل قد جمع مالا كثيرا بسبب أنه كان ينذر بالرياح قبل هبوبها وينتفع الناس بذلك الإنذار وكان السبب فيه قنفذ في داره يفعل الفعل المذكور.

العاشر : أن الخطاف صناع حسن في اتخاذ العش لنفسه من الطين وقطع الخشب فإذا أعوزه الطين ابتل وتمرغ في التراب ليحمل جناحاه قدرا من الطين وإذا أفرخ بالغ في تعهد الفراخ ويأخذ زرقها بمنقارها ويرميها عن العش ثم

__________________

(١) خانق الفهد : حشيش.

(٢) في نسخة : الجرجير البرى.

٩٢

تعلمها إلقاء الزرق بالتولية نحو طرف العش.

الحادي عشر إذا قرب الصائد من مكان فرخ القبجة ظهرت له القبجة وقربت منه مطيعة لأجل أن يتبعها ثم تذهب إلى جانب آخر سوى جانب فراخها.

الثاني : عشر ناقر الخشب قلما يجلس على الأرض بل يجلس على الشجر وينقر الموضع الذي يعلم أن فيه دودا.

الثالث : عشر الغرانيق (١) تصعد في الجو جدا عند الطيران فإن حصل عباب (٢) أو سحاب يحجب بعضها عن بعض أحدثت عن أجنحتها حفيفا مسموعا ويصير ذلك الصوت سببا لاجتماعها وعدم تفرقها وإذا نامت نامت على فرد رجل قد اضطبعت (٣) الرءوس إلا القائد فإنه ينام مكشوف الرأس فيسرع انتباهه وإذا أحس بأحد أو صوت صاح تنبيها للباقين.

الرابع : عشر النعامة إذا اجتمع لها من بيضها عشرون أو ثلاثون قسمتها ثلاثة أثلاث فتدفن ثلثا منها في التراب وثلثا تتركها في الشمس وثلثا تحتضنه فإذا خرجت الفراريخ كسرت ما كان في الشمس وسقت تلك الفراريخ ما فيها من الرطوبات التي ذوبتها الشمس ورققتها فإذا قويت تلك الفراريخ أخرجت الثلث الثاني الذي دفنته في الأرض وثقبتها وقد اجتمع فيها النمل والذباب والديدان والحشرات فتجعل تلك الأشياء طعمة لتلك الفراريخ فإذا تم ذلك فقد صارت تلك الفراريخ قادرة على الرعي والطلب ولا شك أن هذا الطريق حيلة عجيبة في تربية الأولاد.

ولنكتف من هذا النوع بهذا القدر الذي ذكرناه فإن الاستقصاء فيه مذكور في كتاب الحيوان وقد ظهر منها أن هذه الحيوانات قد تأتي بأفعال يعجز أكثر

__________________

(١) جمع الغرنيق بضم الغين وفتح النون : طائر ابيض طويل العنق من طير الماء وقيل : إنه الذكر من طير الماء وقيل : هو الكراكى ، وقيل : طير سوداء في قدر البط.

(٢) في النسخة المخطوطة : ضباب.

(٣) اضطبع الشيء : أدخله تحت ضبعيه.

٩٣

الأذكياء من الناس عنها ولو لا كونها عاقلة فاهمة لما صح شيء من ذلك فهذا ما يتعلق بالعقل وأما النقل فقد تمسكوا في إثبات قولهم بآيات فإحداها قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه‌السلام : « يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ » (١) والثانية (٢) قوله تعالى : « حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ » (٣) والثالثة (٤) : « وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ » (٥) وهذا التهديد لا يعقل إلا مع العاقل.

والرابعة (٦) قوله تعالى حكاية عن الهدهد : « أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ » (٧) إلى آخر الآية.

والخامسة (٨) قوله : « وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ » (٩) قيل معناه كل من الطير قد علم صلاته وتسبيحه.

قال بعضهم كنت جالسا عند أبي جعفر الباقر عليه‌السلام فقال لي أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها قلت لا قال إنها تقدس ربها وتسأله قوت يومها ..

__________________

(١) النمل : ١٦.

(٢) في النسخة المطبوعة : الحجة الثانية.

(٣) النمل : ١٨.

(٤) في النسخة المطبوعة : الحجة الثالثة.

(٥) النمل : ٢٠.

(٦) في النسخة المطبوعة : الحجة الرابعة.

(٧) النمل : ٢٢.

(٨) في النسخة المطبوعة : الحجة الخامسة.

(٩) النور : ٤١.

٩٤

وأقول رأيت في بعض الكتب أن في بعض الأوقات اشتد القحط وعظم حر الصيف والناس خرجوا إلى الاستسقاء فلما أبلحوا (١) قال خرجت إلى بعض الجبال فرأيت ظبية جاءت إلى موضع كان في الماضي من الزمان مملوا من الماء ولعل تلك الظبية كانت تشرب منه فلما وصلت الظبية إليه ما وجدت فيه شيئا من الماء وكان أثر العطش الشديد ظاهرا على تلك الظبية فوقفت وحركت رأسها إلى جانب السماء فأطبق الغيم وجاء الغيث الكثير.

ثم إن أنصار هذا القول قالوا لما بينا بالدليل أن هذه الحيوانات تهدي إلى الحيل اللطيفة فأي استبعاد في أن يقال إنها تعرف أن لها ربا ومدبرا وخالقا وهذا تمام القول في دلائل هذه الطائفة.

واحتج المنكرون لكونها عاقلة عارفة بأن قالوا لو كانت عاقلة لوجب أن تكون آثار العقل ظاهرة في حقها لأن حصول العقل لها مع أنه لا يمكنها الانتفاع البتة بذلك العقل عبث وذلك لا يليق بالفاعل الحكيم إلا أن آثار العقل غير ظاهرة فيها لأنها لا تحترز عن الأفعال القبيحة ولا تميز بين ما ينفعها وبين ما يضرها فوجب القطع بأنها غير عاقلة.

ولمجيب أن يجيب فيقول إن درجات العلوم والمعارف كثيرة واختلاف النفوس في ماهيتها محتمل فلعل خصوصية نفس كل واحد منها لا تقتضي إلا النوع المعين من العقل وإلا القسم المخصوص من المعرفة فإن كان المراد بالعقل جميع العلوم الحاصلة للإنسان فحق أنها ليست عاقلة وإن كان المراد بالعقل معرفة نوع من هذه الأنواع فظاهر أنها موصوفة بهذه المعرفة وبالجملة فالحكم عليها بالثبوت والعدم حكم على الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله وليكن هاهنا آخر كلامنا في النفوس الحيوانية والله أعلم انتهى كلامه.

__________________

(١) في النسخة المطبوعة : « فلما افلحوا » ولعل كلاهما مصحفان والصحيح : « فلما بلحوا » أي اعيوا وعجزوا يقال : بلح وبلح على اي لم اجد عنده شيئا ، أو الصحيح :

فما أفلحوا.

٩٥

وقال الدميري الغرنيق بضم الغين وفتح النون قال الجوهري والزمخشري إنه طائر أبيض من طير الماء طويل العنق (١) وقال في النهاية إنه الذكر من طير الماء ويقال غرنيق وغرنوق وقيل هو الكركي وقيل الغرانيق والغرانقة طير أسود في حد البط (٢) وقال القزويني الغرنيق (٣) من الطيور القواطع وهي إذا أحست بتغير الزمان عزمت على الرجوع إلى بلادها فعند ذلك تتخذ قائدا حارسا ثم تنهض معا فإذا طارت ترتفع في الهواء حتى لا يعرض لها شيء من السباع فإذا رأت غيما أو غشيها الليل أو سقطت للطعم أمسكت عن الصياح كيلا يحس بها العدو وإذا أرادت النوم أدخل كل واحد منها رأسه تحت جناحه لعلمه بأن الجناح أحمل للصدمة من الرأس لما فيه من العين التي هي أشرف الأعضاء والدماغ الذي هو ملاك البدن وينام كل واحد منها قائما على إحدى رجليه حتى لا يكون نومها (٤) ثقيلا وأما قائدها وحارسها فلا ينام ولا يدخل رأسه في جناحه ولا يزال ينظر في جميع الجوانب فإذا أحس بأحد صاح بأعلى صوته (٥) انتهى.

قوله قد اضطبعت أي أدخلت رأسها في ضبعها.

__________________

(١) في المصدر : طائر ابيض طويل العنق من طير الماء.

(٢) في المصدر : طيور سود في قدر البط.

(٣) في المصدر : الغرنوق.

(٤) في المصدر : نومه.

(٥) حياة الحيوان ٢ : ١٢٥ و ١٢٦.

٩٦

٢

(باب)

*( أحوال الأنعام ومنافعها ومضارها واتخاذها)*

الآيات المائدة : « أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ » الأنعام : « وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً » إلى قوله : « ساءَ ما يَحْكُمُونَ » وقال سبحانه : « وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ » إلى قوله : « ما كانُوا مُهْتَدِينَ » وقال تعالى : « وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً » إلى آخر الآية النحل : « وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ » وقال سبحانه : « وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ » الحج : « وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ » إلى قوله تعالى : « وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ » إلى قوله تعالى : « وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ » إلى قوله عز وجل : « كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » المؤمنون : « وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ » فاطر : « وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ » يس : « وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ »

٩٧

وقال عز وجل : « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ » الزمر : « وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ » المؤمن : « اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ » حمعسق : « جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ » الزخرف : « وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ » الغاشية : « أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ » تفسير : « بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ » ذهب أكثر المفسرين إلى أنها إضافة بيان أو إضافة الصفة إلى الموصوف أريد بها الأزواج الثمانية والمستفاد من أكثر الأخبار أن بيان حل الأنعام في آيات أخر والمراد هنا بيان الأجنة التي في بطونها

وروي في الكافي في الحسن كالصحيح عن محمد بن مسلم قال : سألت أحدهما عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ » فقال الجنين في بطن أمه إذا أشعر وأوبر فذكاته ذكاة أمه فذلك الذي عنى الله عز وجل (١).

فعلى هذا الإضافة بتقدير من أو اللام ويمكن حمل الخبر على أن المراد أن الجنين أيضا داخل في الآية فيكون الغرض بيان الفرد الأخفى أو يكون تحديدا لأول تسميتها بالبهيمة وحلها فلا ينافي التعميم قال الطبرسي رحمه‌الله اختلف في تأويله على أقوال أحدها أن المراد به الأنعام وإنما ذكر البهيمة للتأكيد فمعناه أحلت لكم الأنعام الإبل والبقر والغنم.

وثانيها أن المراد بذلك أجنة الأنعام التي توجد في بطون أمهاتها إذا أشعرت وقد ذكيت الأمهات وهي ميتة فذكاتها ذكاة أمهاتها وهو المروي عن أبي جعفر

__________________

(١) فروع الكافي ٦ : ٢٣٤.

٩٨

وأبي عبد الله عليه‌السلام. وثالثها أن بهيمة الأنعام وحشيها كالظبي (١) والبقر الوحشي وحمر الوحش والأولى حمل الآية على الجميع انتهى (٢) والآية تدل على حل أكل لحوم البهائم بل سائر أجزائها بل جميع الانتفاعات منها إلا ما أخرجه الدليل : « وَجَعَلُوا » أي مشركو العرب : « لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ » أي خلق : « مِنَ الْحَرْثِ » أي الزرع : « وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ » من غير أن يؤمروا به : « وَهذا لِشُرَكائِنا » يعني الأوثان : « فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ » وروي أنهم كانوا يعينون شيئا من حرث ونتاج لله ويصرفونه في الضيفان والمساكين وشيئا منهما لآلهتهم وينفقون على سدنتها (٣) ويذبحون عندها ثم إن رأوا ما عينوا لله أزكى بدلوه بما لآلهتهم وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حبا لها واعتلوا لذلك بأن الله أغنى وروي في المجمع عن أئمتنا عليه‌السلام أنه كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل لله ردوه وإذا اختلط ما جعل الله بما جعلوه للأصنام تركوه وقالوا الله أغنى وإذا انخرق الماء (٤) من الذي لله في الذي للأصنام لم يسدوه وإذا انخرق (٥) من الذي للأصنام في الذي لله سدوه وقالوا الله غني (٦) : « ساءَ ما يَحْكُمُونَ » أي ساء الحكم حكمهم هذا (٧) : « وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ » أي حرام : « لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ » (٨) يعنون خدمة الأوثان والرجال دون النساء : « بِزَعْمِهِمْ » أي بغير حجة : « وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها » (٩) يعني البحائر والسوائب والحوامي : « وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ

__________________

(١) في المصدر : كالظباء وبقر الوحش.

(٢) مجمع البيان ٣ : ١٥٢.

(٣) أي خدمها وبوابها.

(٤) في المصدر : وإذا تخرق الماء.

(٥) في المصدر : وإذا تخرق الماء.

(٦) في المصدر : الله اغنى.

(٧) مجمع البيان ٤ : ٣٧٠.

(٨) أي الا من نشاء أن نأذن له أكلها.

(٩) يعني الانعام التي حرموا الركوب والحمل عليها.

٩٩

اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا » في الذبح بل يسمون آلهتهم وقيل لا يحجون على ظهورها : « افْتِراءً عَلَيْهِ » نصب على المصدر : « سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ » يعنون أجنة البحائر والسوائب : « خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا » أي إن ولد حيا : « وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ » أي الذكور والإناث فيه سواء : « سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ » أي جزاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم : « إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ » أي بناتهم : « سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ » من البحائر ونحوها : « افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ » إلى الحق والصواب : « وَمِنَ الْأَنْعامِ » أي وأنشأ من الأنعام.

« حَمُولَةً وَفَرْشاً » قيل فيه وجوه الأول أن الحمولة كبار الإبل أو الأعم والفرش صغارها الدانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها الثاني أن الحمولة ما يحمل عليه من الإبل والبقر والفرش الغنم الثالث أن الحمولة كل ما حمل من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير والفرش الغنم روي ذلك عن ابن عباس فكأنه ذهب إلى أنه يدخل في الأنعام الحافر على وجه التبع.

والرابع أن معناه ما ينتفعون به في الحمل وما يفترشونه في الذبح فمعنى الافتراش الاضطجاع للذبح.

والخامس أن الفرش ما يفرش من أصوافها وأوبارها أي من الأنعام ما يحمل عليه ومنها ما يتخذ من أوبارها وأصوافها ما يفرش ويبسط وقيل أي ما يفرش المنسوج من شعره وصوفه ووبره ويدل على جواز حمل ما يقبل الحمل منها وذبح ما يستحق الذبح منها أو افتراش أصوافها وأوبارها وأشعارها (١).

« كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ » قال الطبرسي رحمه‌الله أي استحلوا الأكل مما أعطاكم الله ولا تحرموا شيئا منها كما فعله أهل الجاهلية في الحرث والأنعام وعلى هذا يكون الأمر على ظاهره ويمكن أن يكون المراد نفس الأكل فيكون بمعنى

__________________

(١) ذكر الطبرسي تلك الوجوه في مجمع البيان ٤ : ٣٧٦.

١٠٠